تكوين
يبدو أن القيم الفكرية والثقافية الاجتماعية والسياسية أصبحت صناعة، بفعل التطور الهائل الذي أصاب وسائل التواصل والترجمة المكتوبة والمدبلجة وآخرها الذكاء الاصطناعي. وأصبحت هذه القيم شأنها شأن السلع الاستهلاكية خاضعة لوجوه الترويج والتعميم بالدعاية والإعلان والإعلام المدروسة بعناية من قبل اختصاصيين حاذقين بأساليب التمرير، باعتمادهم على آخر وأدق تفاصيل منازع النفس البشرية: الفردية والجماعية. يساعدهم في ذلك معرفتهم بمعطيات علم النفس وعلم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي، وامتلاكهم لقدرات التحويل ووسائل الترويج والقبول الطوعي أو القسري من الأفراد والجماعات.
والملاحظ أن قدرات التحويل والقولبة تنمو يوماً بعد يوم، من خلال التحكم بالمفاهيم ومصطلحاتها، والتوجيه المسلكي ومكوناته العفوية والإرادية الواعية وتعميمه تحت عناوين مختلفة كالعولمة، والعلمانية، وقبول الآخر المختلف، وحوار الحضارات والأديان، والتسامح، والإرادة الدولية، مع تعمية أبعاد كل هذه العناوين السياسية والمصلحية. متناسين بالكامل حقيقة أن العالم وخيراته ملك لكل ناسه، وأن أفضل سلوكيات كائناته قائمة على العفوية والتلقائية المتطورة في كل أشكال تكوناتها الحضارية والاقتصادية والسياسية- الاجتماعية. والخطر الذي يهدد الكينونات والهويات القومية والوطنية متمثل حالياً في تنصيب القاتل الحي مجاهداً بطلاً، والمقتول شهيداً مظلوماً، والقبول الطوعي لعبثية الحروب المدمرة على أنها قدر محتوم لموت مخروم.
والتسليم بمجمل هذه الفرضيات يدعونا إلى السؤال عن الموقع المتبقي للتراث، كقيمة جمعية، في تراكمه التاريخي، في حياة الشعوب (ونحن منها) كمكون أساسي من مكونات هوياتها الوجودية والثقافية المهددة بالتلاعب بالاستنساخ الفكري، وبهندسة الجنات القيمية والثقافات الاجتماعية.
والممكن هو الذهاب إلى ما هو أبعد من مظاهر وتجليات الموروث التاريخي الشعبي وبيان قيمة كل واحدة من هذه التجليات على الصعد الشخصية والاجتماعية المحلية والوطنية والقومية للعبور إلى رسوخها في عمومها الإنساني.
وقد يكون من المفيد التعويل على معطيات وطرائق علم النفس ومناهج بحثه، وبشكل خاص مدرسة التحليل النفسي، ممثلة بواحد من أعلامها وهو العالم النفساني كارل غوستاف يونغ، (ولد في 26 تموز من العام 1875 في كِسْفِل بسويسرا، ت في 6 حزيران 1961).الذي طوّر نظرية أستاذه فرويد في التحليل النفسي. وعُرف عن يونغ أنه صاحب نظريتي اللاوعي الجمعي، والمنطلقات أو الأنماط الأولية. ففي كتابه “النماذج الأصلية واللاوعي الجمعي” تناول يونغ في فصوله: النماذج الأصلية لللاوعي الجمعي، والنماذج الأصلية ومفهوم الانيما، والجوانب الأصلية لنموذج الأم الأصلي، وسيكولوجيا النموذج الأصلي للطفل، والوعي واللاوعي وبناء الشخصية الفردية وغيرها.
اللاوعي الجمعي نظرية يونغ
يوضح يونغ مفهوم اللاوعي الجمعي في قوله: ” اللاوعي الجمعي هو جزء من النفس الذي يمكن أن يُميَز على نحو سلبي عن اللاوعي الشخصي ويختلف عنه، فهو لا يدين في وجوده للتجربة الشخصية وهو غير مكتسب شخصي”، فـ “اللاوعي الشخصي ممنوع أساساً من المضامين التي كانت في وقت من الأوقات واعية، ولكنها اختفت من الوعي وصارت منسية ومكبوتة”. “فاللاوعي الجمعي لا يُكتسب على نحو شخصي، ولكنه يدين في وجوده بشكل خاص للوراثة”. وإذا كان اللاوعي الفردي محلاً للعقد (وهو هنا يتفق مع فرويد) فإن اللاوعي الجمعي “مصنوع جوهرياً من النماذج الأصلية” المغروسة قبلياً في النفس (قبل أي تجربة) وليس مكتسباً.
لقد أخذ يونغ بثلاثية فرويد المشهورة في تحديد ثلاث طبقات للنفس: “الأنا الأعلى” (وهو جملة الأعراف والتقاليد والسلطتين: الأبوية والقانونية، الضاغطة). و”الأنا” الواعية المتجلية في السلوك الفردي، و “ألهو” الموسوم باللاشعور أو اللاوعي، وهو جملة المكبوتات المقموعة من ألأنا الأعلى والجنسية بشكل خاص، والتي تجد متنفساً لها في الأحلام والابداعيات الأدبية والفنية). يحافظ يونغ على هذه القسمة ويأخذ بنظرية فرويد الجنسية، إلا أنه يجعل اللاوعي في مستويين: اللاوعي الشخصي الفردي وهو الإناء النفسي الذي تجتمع فيه نتائج خبرة الفرد النفسية الداخلية، و”اللاوعي الجمعي” وهو القسم الذي يشترك فيه الشخص مع الجماعة، يشبه يونغ العقل البشري بجبل جليدي، حيث يمثّل الجزء العلوي الظاهر من الجبل العقل الواعي، في حين يمثّل الجزء الذي يقبع تحت الماء مباشرة والذي لا يزال ظاهرًا للعيان العقل اللاواعي الشخصي، أمّا الجزء الأكبر الذي يقبع في الأعماق، والمختفي عن الأنظار يمثّل اللاوعي الجمعي. أما الوعي فهو جملة ما ندركه ونتصوره ونقرره ونفعله، يشتمل اللاوعي الشخصي على جملة الذكريات وحاصل التجارب الشخصية المنسية ولكنها قابلة للاستعادة إلى الوعي وفيه جملة العقد النفسية الشخصية التي تتجلى في أنماط المشاعر والذكريات المحددة لأنماط سلوكية معينة عند الأفراد، وأما اللاوعي الجمعي، في أعماقه، واحد عند جميع البشر، وخزان تجارب الجنس البشري والمؤسس لشخصية عالمية موحدة لأنه يشتمل على نماذج أو أنماط ورموز وتصورات وأفكار، وهي في الغالب غير مدركة، وتكون سائدة في جميع الثقافات. والنماذج الأصلية الأربعة الأساسية التي يحددها هي ، باختصار شديد: الذات (تجمع ما بين الوعي واللاوعي ، وهو يربط بين الروحي والمادي في الإنسان ومن تجلياته تأكيد الذات وتقيمها والرغبة في القيادة والرئاسة)، والظل ( وهو مجموع الرغبات الدفينة التي نرغب بقمعها كمشاعر الخوف)، والانميا عند الذكور، والانيموس عند الاناث (المحيطين بالسمات الذكورية التي تبعد الرجل عن التعاطف والرقة في التعامل، والانوثية التي تشعر المرأة بعدم الأمان وقصورها في التقرير، وأما الشخصية فتمثل القناع الذي يواجه فيه الانسان العالم المحيط أو يرغب في أن يكونه في مجتمعه)
وأما الأنماط الأولية المغروسة في اللاوعي الجمعي منها: الله، الأب، الأم، الطفل، الشيطان، الميلاد، الموت، وغيرها. فما من إنسان، في أي زمان أو مكانٍ كان إلا ويحن إلى خبز أمه، ويخجل من دمعتها إذا مات؛ وما من إنسان إلا ويرغب التشبه بأبيه لأن من شابَه أباه فما ظلم؛ وما من بشري إلا ويخاف من غضب إلهه، ويحاول مرضاته بأنواع الأضحية والنذور والصلوات؛ والاستعاذة بمطلقه من الشيطان وقوى الشر التي يتصورها، ويخشى الموت كحق مكروه. ويعرّف يونغ النمط بانه: “شكل فكري مشاع وعام يتضمن قدر كبير من الانفعال به، وكلما كان التوازن بين النمط الأولي وصورته الفعلية بالواقع كبير كلما كان هناك استقرار في البناء النفسي ، كصورة الأم مثلا كلما كانت الأم الفعلية مطابقة في حقيقتها للموروث المصاحب لثقافة أو نمط الأم كلما كان الاستقرار في بناء الفرد الواقع تحت سلطة تلك الأم ..”. فالأفراد وإن بدوا متمايزين ومتباعدين في أشخاصهم ولا وعيهم الفردي إلا أن اللاوعي الجمعي يصلهم ببعضهم البعض، ويشبههم بالجُزر التي تبدو متباعدة في السطح إلا أن قاعدتهم تحت السطح تكون متصلة.
وانتهى يونغ إلى نظرياته هذه من خلال معايناته لمرضاه الشخصيين ومعايشته، عن قرب، لحضارات شعوب، متفاوتة في التقدم الثقافي والعلمي والتقني، وعاين عاداتها وتقاليدها، وموزعة في جميع القارات. وفي سبيل تنمية معارفه الفلسفية والدينية قام بأسفار عديدة إلى مواطنها الأصلية فزار شمالي أفريقيا(الجزائر وتونس والصحراء الكبرى) ودرس تأثير البيئة على سلوك أهل هذه البلدان وعاداتهم، ودرس عادات وتقاليد قبيلة “بويبلو” التي تعيش في المكسيك، أثناء زيارته للولايات المتحدة والقارة الأمريكية، وزار الهند وسيرلنكا وتعرّف على الديانات والفلسفات الهندو- صينية وتعاليمها وعادات معتنقيها عن كسب. وقد أثرت زياراته هذه، ومطالعاته حول ثقافات هذه الشعوب في تكوّن آرائه حول الأنماط الأولية واللاوعي الجمعي.
شاهد أيضاً: التراث وكيفية وجوب التعامل معه
ويعطي يونغ دوراً مهماً للأسطورة في سياق كلامه عن الأنماط الأولية. يقول: “لم أكد أفرغ من المخطوط حتى أتضح لي معنى أن تكون لإنسان أسطورة ومعنى ألا تكون له أسطورة. فالأسطورة كما يقول أحد آباء الكنيسة هي “ما يؤمن به كل شخص في كل زمان وفي كل مكان”. فالإنسان لا يستطيع أن يعيش من دون أسطورة، والذي يستطيع أن يعيش من دون أسطورة، أو خارجها، هو حالة استثنائية. وهو كمن أستؤصل من جذوره، لا شيء يربطه بالماضي أو بحياة أسلافه المستمرة فيه، بل وحتى بالمجتمع المعاصر … فالنفس ليست بنت اليوم، بل يرجع نسبها إلى ملايين السنين. والشخص بقوته الواعية الفردية ليس سوى زهرة أو ثمرة موسمية لنبتة مغروسة في الأرض. ومن يأخذ بالحسبان هذه الحقيقة، يعي أن الجذور (أو الجذمور)* هي أم الأشياء في كل أطوارها”. وانكب يونغ على البحث عن محتويات أسطورته الشخصية الخفية، اللا واعية أو ما قبل الواعية، التي تشكله والتي يحياها.
ويتوسع يونغ في توطيد مفهومه لدور الأسطورة البدائية لأن من أهم سماتها أنها مشتركة بين جميع أفراد النوع البشري وإن تنوعت تشظياتها في أحلام الأفراد، وهي غير محكومة بظرف محلي أو أجتماعي أو خبرة فردية، لأنها تعبر عن حاجات وغرائز بشرية وإمكانات مشتركة، وأن خروج أي إنسان عن نهجها يكون مدعاة لحالات مرضية نفسية كفقدان التوازن والعصاب وغيرها مما يجد متنفسه في الأحلام والتصرفات العفوية الغير مقصودة (هنا يختلف مع فرويد).
لسنا نريد التوغل أكثر في مذهب يونغ في التحليل النفسي وطرائقه في العلاج، ولكننا نتوقف عند ملاحظتين أشار إليهما في كتاباته:
الأولى يبين فيها أنه عند دراسة تقاليد شعب ما، فإن فهم الظرف المحلي، والأخيلة التي تتجلى في فنونه وآدابه تساعد على تقريبها من أساطير الشعوب الأخرى المشابهة.
والثانية إشارته إلى أن تفسير الأحلام لا يكون فقط بإعادتها واختزالها بذكريات مرحلة الطفولة وما خلفته من مكبوتات بل بتوسعة نطاقها بمقارنتها مع الصور الأسطورية المشابهة لها. وانطلاقاً من فهمه الخاص للأحلام يجد فيها لمعات تشير إلى الأمان وإلى توازن وصحة نفسية مستقبلية وليس مجرد رجع ودليل لأزمات مضت.
ثم أن الكثير من الأعمال الأدبية والفنية، والمعالم الأثرية المتبقية، تقوم على رموز تعبر عن دفائن النفس الإنسية، ويكفي أن نذكر المسلات والأهرام وأبو الهول والمآذن والقباب والمعابد، والقناطر،والقلاع وغيرها من التراث المادي للشعوب، والأمثال والأغاني والرقصات الشعبية والفنون على أنواعها والمنجزات العلمية المتنوعة وغيرها مما يدخل في أصناف التراث اللامادي، وكلها أدوات راقية للتعبير عن الذات وتمايزها، لتعذُر التصريح المباشر عن الرغبات والغرائز. فالتراث، بما فيه من ترميزات، خزان خبرات الماضين وسلوكياتهم، وطموحاتهم المنتظرة من الأولاد والأحفاد. ويشير يونغ إلى ذلك في قوله:”إن مغزى الرمز ليس في أنه إشارة مقنعة إلى شيء ما معروف بصفة عامة، بل أنه محاولة لإبراز ما هو مجهول حتى الآن أو رهن التكوين”. وهنا تكمن عظمة الترميز، وعليه التعويل في التحويل والخداع.
وهو بذلك يكون قد أكد مقولته الشهيرة بأنه “لمعرفة الجانب المنير، لكوكب ما، علينا أن نعرف، معرفة جيدة، جانبه المظلم”.
وبغض النظر عن الملاحظات والانتقادات التي يمكن توجيهها إلى نظرية يونغ حول اللاوعي الجمعي والنماذج أو المنطلقات الأولى وتجلياتها في رموز متقاربة في دلالاتها وأصولها، والتنوع في الرموز يرجع إلى تنوع موادها التي توفرها الطبيعة أو البيئة المحيطة (كما في العمارة والمواعين لتحصيل السكون والحماية : الطين والحجارة والمعادن ..). وهو في ذلك يتحلل من الاعتقادات الصارمة بتمايز الأعراق وانتسابها إلى جهات (شرق وغرب) أو مناطق (حارة وباردة ومتوسطة) أو اعتقادات دينية (وثنية أو وضعية أو سماوية) وسواها. فالبشر يتساوون بالقوى والأصول والغايات، ويمتازون باليد والفكر عن سائر الحيوان الذي زودته الطبيعة بالأدوات (مخالب وقرون وأنياب وسرة الجري..) التي توفر له التغذية والنمو والتوالد والمدافعة والحماية لحفظ الوجود. فبالفكر واليد يصنع الإنسان أدواته ويحوّل خيرات الأرض وجمالاتها وبحارها وسمواتها لما فيه سلامته ورفاهيته وارتقاءه. وكل جديد تبلغه البشرية في إي مجال تستفيد منه شعوب المعمورة وإن بدرجات. والحضارات تهاجر وتتعاقب وهي غير منفصلة عن بعضها البعض، وكل متقدم مؤثر باللاحق وهكذا، ولا فضل لسابق إلا في التوريث وتمهيد السبل إلى المزيد من الارتقاء. وكل موروث لأي شعب هو حاصل ما أنتجته البشرية، وتلبية لمتطلبات اقتضتها العصور والأزمنة، ومبنية على أسس عقلية ونفسية عامة مشتركة.
ويبدو أن معرفة خبراء الاقتصاد والسياسة بالجانب الخفي والمظلم للشعوب أتاحت لهم إمكانية التلاعب بوجهها الطافي على سطح الحاضر، وتوجيه طموحاتهم المستقبلية، بما يتناسب مع المصالح المادية الضيقة، من طريق تعديل أساطيرهم وذاكرتهم الجامعة واستبدالها بصور واهية لذواتهم وهوياتهم، وتأجيج الصراعات وتعميم الفوضى، بقصد إحكام السيطرة، كأقصر وأرخص الطرق والأثمان للسيادة والتفرد والاستئثار بالخيرات والإنجازات التي منَت عليهم بها الطبيعة الحيّة(جبال وغابات ونبات..) وحضارات، وما أنجزوه من تراث ثقافي فكري وأدبي وعلمي، وما شيدوه من معالم عمرانية عبر تاريخهم.
وبالعود إلى واقعنا العربي والشرقي، والتحولات التي طالته منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى، نلاحظ عفوية وتلقائية صادقة جمعت الشعوب العربية تحت لواء القومية العربية، والذي سرعان ما حُوّل عن مقاصده الجامعة، وحصر مهمته في إضعاف السلطنة العثمانية. وأخذ التلاعب مداه في التركيز على الخصوصيات الظاهرة العرقية والحضارية لبناء أوطان ووطنيات متنافرة على مقاس مسطرتي سايكس (الانكليزي) وبيكو (الفرنسي) في توزيع تركة السلطنة على الأمراء تحت عنوان “دول الانتداب” الذي كان في حقيقته استعمار واحتلال صريح، وركبّت الدول. واليوم، وقد صارت الدول (المفترض أن تكون في منزلة الوعي الفردي في الجماعة) معيقة لنمو شركات المال المتعدد الجنسية، وتوجهت الأنظار إلى البحث عن أشكال مقنعة لإدارة الفوضى والصراعات. فالتلاعب بذاكرة الشعوب الجامعة وتفريدها يجري بخطى سريعة تتجاوز إمكانات وعي الشعوب والأفراد.
التراث المادي
فهاهنا عمليات التفاف شرسة تمارس بحق التراث المادي الثابت المتمثل بدور العبادة والقداسة كالمساجد والمدافن والآثار الحربية كالقلاع والحصون والأبراج، ومراكز الحكم والتشريع كالقصور، والخدمات كالحمامات والسدود والقناطر والأقنية. والأدوات المتحركة التي استعملت في المحترفات الصناعية والعلوم الطبية والفلكية والزراعية وغيرها. وقد مورس هذا الالتفاف المدمر غب احتلال العراق فنهبت المتاحف ودمرت الكنائس والمساجد والمدافن، وفي سوريا، في قلعة حلب وفنادقها وأسواق الصاغة والنجارين والحدادين والخياطين القديمة، وفي تدمر وخرائبها الرومانية والعربية ومتحفها، وتحويل كثبان الرمل وأشجار النخيل في الخليج العربي إلى أبراج وناطحات سحاب زجاجية هشة. وفي لبنان تداس حرمة المحميات الطبيعية والتراثية المقررة دولياً، وتتغير معالم أسواق بيروت ومدن الساحل الفينيقي القديمة وقرى ومدافن الجبل. ونشهد الإطاحة بتيجان الجبل اللبناني الخضراء ليحل محلها الباطون المسلح، وتحويل القمم إلى مدارج مسطحة تصلح كمدارج لهبوط وإقلاع الطائرات بفعل التفجير والتكسير، وترتفع جبال النفايات على شواطئ صيدا وصور وبيروت وطرابلس، التي كانت قديماً مرافئ للسفن في إبحارها إلى موانئ البحر المتوسط وغيرها من أرجاء العالم العربي والعالم.
ولعل المسؤولية تكبر أمام الأجيال القادمة، لحفظ تراثنا الطبيعي، الذي نشارك به شعوب العالم، وإبعاده عن بؤر الفساد والصراعات المحلية والدولية المفتعلة، فهو جزء من ذاكرتنا الجامعة المحفوظة في الأذهان وصفحات تاريخنا الإنساني. فالتراث خط دفاعنا الأخير، وهو القيمة المثلى، والعروة الوثقى، التي قد تثبت الأقدام في أرضها، وتوسع الصدور للحفاظ على إرث الجدود كرافد لحاضر كريم، وترفع الأيدي لتداعب سماواتها وأقمارها الطبيعية والصناعية.
والغريب، الذي لا يسمح بالاستغراب، أن الاستراتيجية التي صرحت بها الأمم المتحدة لحفظ التراث العالمي، لكونه يشكل ذاكرة الشعوب الجامعة لعناصر هوياتها القومية والوطنية، تضرب عرض الحائط من قبل القوى الدولية الفاعلة والمؤثرة، الأمر الذي يجعل الحفاظ على التراث مهمة المنظمات الأهلية، وقوى المجتمع المدني العامة والمحلية والجهوية. لأنه ليس هناك من شاهد أقوى من التراث يشهد على أصالة الشعوب وتواصلها وحقها في الوجود الكريم. والتراث، بوجهيه: المادي والثقافي، قيمة وثروة غير قابلة جوهرياً للزوال، على خلاف سائر الثروات المالية القابلة للضمور، والعسكرية المهددة دائماً بالانكسار.
والنظر إلى التراث الشعبي كقيمة حياتية جامعة يحتم أن لا يكون كأداة دفاع أو غلبة أو ترقي أو أي شكل من أشكال التحريض والاستفزاز، أو للتعبير عن رفعة هوية قومية أو قبلية، أو بهدف التقوقع والانعزال أو إقصاء المختلف الطافي على وجه الزمن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ملاحظة: (الجذمور (جـمعها جذامير) (باللاتينية: rhizoma) عبارة عن ساق تنمو أفقياً تحت الأرض يستعملها النبات للانتشار وتكوين نباتات جديدة تطلق جذوراً و سوقاً عند العقد الساقية. أنواع السوق الأرضية وتنمو موازية لسطح التربة، (مثل نبات الإنجيل والنعناع).