التسامح بين ممكنات الواقع وفلسفة الاختلاف

تكوين

“فالامتلاء … والوحدانية لا يتنافيان”

جان غريش.[1]

يكاد المرء يلاحظ، في السياق الثقافي العربي، ومنذ لحظة التفاعل الأولى مع الحداثة (وهو ما يرجع إلى قرنين من الزمان على الأقل)، أن طريقة التعاطي مع الأسئلة الكبرى (ما الحداثة؟ كيف تقدَّم الغرب وتَخَلَّفنا؟ ما الهوية؟ ما سبيل التوفيق بين الأصالة والمعاصرة؟، إلخ…)، لا تسعى إلى طرح الإشكال بقدر سعيها إلى تأبيد السؤال؛ فيبدو الأمر كما لو أننا قد بلغنا مراتب الترقّي العليا، وصرنا نميل إلى طرح السؤال وإعادة طرحه في ديمومة لا تتناسب مع واقعنا البائس. بمعنى آخر، يبدو كما لو أن واقعنا يتيح لنا ممارسة “تجارب الفكر” بعد أن استقر واقعنا على مجموعة من الخطابات والقيم المعاصرة تكفي لتحقيق رفاهية “المعاودة والتكرار”.

تظل هناك، بطبيعة الواقع الفعلي، عدة عوامل راسخة في الذهنية العربية، تضمن ثباتَ الأسئلة وفقر الإجابات في الوقت نفسه. ومن بين هذه العوامل ميلٌ دائم في الفكر قوامه اللجوء إلى سردية “تفسيرية” أو منظور “مأمول” للتحيين، دون إعمال كثير من التفكير فيه، وبالتالي، يصبح التعاملُ مع الواقع مؤسَّسًا على رؤية مفكِّر لا ينتمي، في واقع الأمر، إلى عصرنا أو حضارتنا المعاصرة العالَميَّة (وبالتالي، لا يعرف هذا المُستَدْعَى شيئًا عن طبيعة أسئلة العصر الحديث التي قد تبدو، لأول وهلة، مطروحة من قبل؛ كما أنه انهمك في صراعات عصره بكلِّ ما فيها من وقائع فعلية فرضت نفسها عليه، ووجَّهَت فكره، وحددت إطار تفكيره الذي يضيق عن الواقع المعاصر، مهما بلغ ذلك المفكر من استشراف أو استوقاع لمستقبلنا). وقد لا تأتي سردية “الخلاص” المُدَّعاة من مفكِّرٍ بعينه بقدر ما تأتي من حنينٍ إلى ماضٍ ما أو حقبة تاريخية ما، بحيث لا يَكون مطلوبًا منّا سوى استدعائها لتتولى ضبط عصرنا وثقافتنا وفكرنا على النحو اللائق أو المنشود.

بهذه الطريقة، وفي سياق الدعوة إلى الخروج من أزماتنا، يحضر التاريخ الإسلامي الذهبي في ذهن بعض المفكرين بنفس درجة حضور حنين المحبة اليسوعية الأولى في أذهان بعضٍ غيرهم. وكذلك يُستَدعَى التفكير المادي التاريخي بقدر استدعاء نقيضه (الديني) المتمثل في انحلال التاريخ بمرور الزمان، ومفاد الأخير فساد التاريخ بابتعاده عن لحظة أولى فيه لا يُشْتَرَط أن تَكون لحظة بداية حقيقية في ثقافة ما بقدر حضورها بوصفها لحظة انطلاق وتَطَلُّعًا في ذهن المفكِّر نفسه. وتلزم الإشارة إلى أن طريقة التفكير “القياسية“، إن جاز التعبير، لا تتعلق باستدعاء خطاب أو مفكِّر ينتمي إلى ثقافتنا فحسب، بل قد تتعلق كذلك بمحاكاة العدو (وهو الكولونياليّ الغاشم على سبيل المثال)، باعتباره مثالًا سيئًا يمكننا أن نَكون نقيضه، أي مثالًا جيدًا (أن نَكون “هو” على نحوٍ أفضل وأسمى!)، من خلال السعي وراء ممارَسَة ما فَعَله فينا (الحديث عن الإسلام الإمبريالي)، والسبب، بالطبع، لأننا أرقى أخلاقيًا، ونستملك تراثًا أقدر على توجيه (أو فَلْتَرَة) مطامعنا ومصالحنا الذاتية صوب غايات أنبل.

يُضاف إلى خصائص الحضور القوي لهذا العطب الفكري على مستوى الخطابات أنه قد يحوز المسألتين السابقتَيْن معًا، فيفكر بأصلٍ ما، بالإضافة إلى تقليد العدو (وإن كان ذلك من باب الأمل فحسب)، وإن كان الأخير سيتم، وَفق ما يدور في ذهن المفكِّر المعاصر في هذا السياق، بِنِياتٍ أطهر وبسعي أكثر عدالة وإنسانية![2]

يؤسِّس كلُّ ما سبق حضورَ العطالة التاريخية، والثقافية، في عوالم العرب. لكنَّ التفسير بالعامل الواحد موقف رَدِّيٌّ reductionist غير دقيق؛ لأن الثقافة العربية تعاني من هذا الفوات على مستوى الأفكار التي لا يجمعها خطابٌ أو وجهةٌ موضوعية (قدر الإمكان) في النظر، كما تعاني منه على مستوى القيم المنشود تحقيق نسبةٍ منها في واقعنا المعاش.

سأركز في هذا السياق على قيمةٍ واحدة فحسب (رغم استدعائها بالضرورة لمجموعة من القيم سأتعرض إليها بطبيعة التشابك القيميّ، أي بناء على تلاقح القيم على مستوى تعريفاتها، وعلى مستوى تطبيقاتها).

ولعلَّ أزمة القيم، التي سأحللها من خلال دراسة قيمةالتسامح tolerance” بالتحديد، تكشف عن مساوئها في عدة نقاطٍ، أوجزها في البدء حصرًا، لا استفاضةً، على النحو التالي:

  • الغياب الكامل لقيمة هذه القيمة في الذهن العربي وفي اجتماعه كذلك (وإن شئت فقل فضيلة التسامح أو مبدأ التسامح، بمعنى ذلك الذي يطمح الذهن، وفق تصوُّره له، إلى تحقيق نسبة منه في الواقع المتحقِّق، دون الزعم بتحقيقه تامًا مكتملًا، وهو أمر يستحيل من داخل فلسفة القيمة نفسها). ولعلَّ دليلَ ذلك يتمثل في مقاوَمَة عدة دول لتطبيق هذا المبدأ “سواء على مستوى التشريع أم على مستوى التربية والتعليم أو على مستوى الثقافة”.[3]
  • استدعاء هذه القيمة بعد وضع حمولات لا تنتمي إليها عليها[4].
  • الدعوة إلى نقيضها، وهو “التَّعَصُّب”، بوصفه أمرًا يُسْعَى إلى تثبيته أو باعتباره قيمة محمودة، اتكاءً على علة التفكير بالأصل، في سياق تاريخي مَثَّلَ فيه الخطابُ المُسْتَدْعَى، على سبيل المثال الذي سأتناوله بالنقد فيما يلي، مقاومةً للاستعمار.

ويُعتَبَر جمال الدين الأفغاني من أبرز الأمثلة على النقطة الثالثة. ولذلك، سأتوقف عنده قليلًا لبحث هذه المسألة، من جهة نقد تصوُّره لمفهوم التعصب “الحميد“، إن جاز التعبير. وعلى امتداد مقاله، يذهب الأفغاني إلى تعريف التعصب كما يلي:

“التعصُّب قيام بالعصبية، والعصبية من المصادر النَسَبية؛ نسبة إلى العُصبَة، وهم قوم الرجل الذين يعزِّزونَ قوته، ويدفعون عنه الضيم والعداء. فالتعصب وصف للنفس الإنسانية، تصدُرُ عنه نهضة لحماية من يتصل بها … التعصب روح كلي مهبطه هيئة الأمة وصورتها، وسائر أرواح الأفراد حواسه ومشاعره … كلما ضعفت قوة الربط بين أفراد الأمة -بضعف التعصب فيهم- … تداعى بناء الأمة إلى الانحلال كما يتداعى بناء البِنية البدنية إلى الفناء … [والتعصب] -كما يطلق- يراد منه النعرة على الجنس ومرجعها رابطة النسب والاجتماع في منبت واحد”[5].

يتبين من الاقتباس أعلاه أن الأفغاني يفكر في التعصب وَفق أنثروبولوجياأوليَّة” للمجتمعات. وحقيقة الأمر أن هذا التعريف، من هذه الناحية التعميمية، يستوي -للمفارقة- مع التفسير التطوري المرتبط بحفظ الفرد لنفسه، على نحوٍ أشد فعالية، بانضوائه إلى جماعة أو مجتمع “يدفعون عنه الضيم والعداء“. بل إن الحديث عن المرجو من أخلاق التعصب “المأمول” يمكن تفسيره كذلك بالأخلاق التطورية “التي تجد … في أسلاف ما-قبل-البشر بعضًا من المكونات الأساسية للأخلاقية الإنسانية” بل يصل الأمر إلى رؤية “غرائز اجتماعية في الثدييات، وهي غرائز تحاكي الإيثارية [أو نزعة الإيثار][6]. وخلاصة القول هنا أن الأفغاني توسَّعَ في رؤية التعصب فرآه من مُقَوِّمات الأمَّة (والأمة اجتماعٌ قويٌ بمعنى ما)، ومن ركائز ديمومتها الدنيوية، بينما التعصب الذي أقصده، والذي يتحدث عنه معاصروه كذلك، ينطلق من إشكالية مجتمعية لاحقة -بضرورة المنطق- على تكوُّن المجتمعات الأوليّ، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ لأن الحديث عن التعصب بوصفه أزمة اجتماعية (بصرف النظر عن نوع التعصب، سواء أكان دينيًا أم جنسيًا [يرتبط بالقومية والوطنية]، أم غير ذلك) هو حديث، في الوقت نفسه، عن مجتمع بلغ درجة من التعدُّد جعلت من المستحيل الحديث عن نسيج واحد، أو لُحْمَة لهذا المجتمع، دون الإقرار بثراء التعدد فيه. وبالتالي، يجدر النظر إلى مسألة التعصب هنا بوصفها ظاهرة ناشئة في مجتمعات متطورة، تحيا في واقع التعددية، ولا ينبغي الوقوف عند حَدِّ الأنثروبولوجيا (ومن هنا، قد يقتل التعميمُ البحثَ قبل أن يبدأ). وبمعنى آخر، فإن الأفغانينقل النقاش إلى مستوى آخر يرجع فيه التعصب إلى أصوله اللغوية والقبلية[7]. وهو الأمر الذي يلزم فهمه في إطار لحظة الأفغاني التاريخية وطبيعة مقاومته للعدوان.

أما من وجهة تاريخية، ينبغي علينا فهم ما أراد الأفغاني تحقيقه بإيراد تعريف التعصب على هذا القَدْرِ من العمومية. فالسيد جمال الدين الأفغانيكان مشغولًا، على نحو حماسي، بالأزمة العاتية، التي كانت تعيشها بعض المجتمعات الإسلامية في مواجهة الحداثة الأوروبية آنذاك؛ والتي كان قد شاهد آثارها جليَّةً في الهند، قبل مجيئه إلى مصر[8]. وكان مقصد ذلك “الثائر الإسلامي” يتركز في “إنهاض دولة إسلامية من ضعفها، وتنبيهها للقيام على شؤونها، حتى تلحق الأمة بالأمم العزيزة والدولة بالدول القوية[9].

كذلك يصف الأفغاني “نوعًا” من التعصُّب، وليس “درجة” منه، بالتعصب “المعتدل”، ويرى أن “اعتداله [أي التعصب] هو الكمال الذي بيَّنا مزاياه، والتفريط فيه هو النقص الذي أشرنا إلى رزاياه، والإفراط فيه مذمَّة تبعث على الجور والاعتداء[10]. مع ملاحظة أن الأفغاني يركز على التعصب “الديني” المسيحي بالتحديد، في سياق حديثه عما قد يطرأ على التعصب الديني “من التغالي والإفراط مثلما يَعرض على التعصب الجنسي؛ فيقضي إلى ظلم وجور ربما يؤدي إلى قيام أهل الدين لإبادة مخالفيهم، ومحق وجودهم“. وعندما يتحدث عن الشطط في تعصب أهل الإسلام، نجده يقول “أما أهل الدين الإسلامي؛ فمنهم طوائف شطَّت في تعصبها في بعض الأجيال الماضية، إلا أنه لم يصل بهم الإفراط إلى حدٍّ يقصدون فيه الإبادة وإخلاء الأرض من مخالفيهم في دينهم”. وتعصب أهل الإسلام، حتى في أشد لحظات اشتداده، ينشد الفتح والدعوة إلى الدين، بعكس الأمم الغربية التي “اندفعت على بلاد الشرق لمحض الفتك والإبادة[11].

وحديث الأفغاني عن التعصب المعتدل يغفل، وربما لا يراعي، أن الاعتدالَ درجةٌ في سلم قيمة واحدة فحسب، وليس أكثر من قيمة. فأن يَكون المرءُ متعصبًا وَفق حَدٍّ أدنى إنما يجعله داخل دائرة نفس القيمة، أي داخل نطاق التعصُّب، ولو كان مُتَمَاسًّا، في هذه الحالة، مع محيطها، فإنه لم يخرج عنها؛ أما أن يَكون متعصبًا وَفق حَدٍّ أقصى إنما يجعله مقتربًا اقترابًا كبيرًا من مركز دائرة التعصُّب، وأما اعتدال في التعصب فيضعه في نقطة ما داخل الدائرة بالعموم؛ والأمر، في نهايته، درجات لقيمة واحدة. وهنا، يمكننا التساؤل عن المعيار الذي نستخدمه في قياس درجة تعصُّب المرء على العموم، وهو معيار لا أرى سبيلًا إلى تبنّيه عمليًا. وفي نقده لـ “مذهب الأفغاني في التعصب“، يقرأ ناصيف نصار “التسامح” باعتباره فضيلة وَفق النهج الأرسطوطاليسي القائم على “تعريف الفضيلة كوسط بين طرفين [يـ]ـقضي بأن يكون كل طرف متميزًا بعناصره الخاصة عن الطرف المقابل وعن الوسط نفسه. فإذا قلنا بأن الشجاعة وسط بين الجبن والتهور، فهذا يعني أن العناصر المقومة للشجاعة هي في جملتها غير العناصر المقومة للتهور والجبن. التهور شيء متميز في ذاته، والجبن شيء متميز في ذاته، والشجاعة شيء متميز في ذاته … ولا يمكن الانتقال من هذا الشيء إلى ذلك بتدرج كمي بسيط“. وبالتالي، يمكننا الحديث عن درجات الشجاعة ودرجات الجبن على مستوى الفضائل، والأمر أوضح في حالة القيم، وبالأخص القيم “السلبية” كالتعصب. وبذلك “فالتعصب المفرط لا يخرج عن ماهية التعصب لكونه مفرطًا. إنه درجة من درجات التعصب، وليس شيئًا آخر[12]. والحق أنّ الإكراهات التاريخية الواقعية للحظة الأفغانية هي التي ستدفعه إلى تطوير قيمة كالتعصب المعتدل (إذ يتميز عنده فيما يقارب التميز الماهوي عن التعصب المفرط أو الأدنى) مثلما ستدفع صديقه الإمام محمد عبده للحديث عن المستبد العادل.

عن التسامح:

في هذا السياق، سأحاجّ، وهي المسألة الرئيسية في الطرح، بأن قيمة التسامح لم تحضر على الوجه اللائق في ثقافتنا، كما سأحاجّ، وهو الأمر الأهم، بخروج هذه القيمة من معايير الحضارة المعاصرة، حتى إن كان ما أضفناه إليها، أو أغنيناها به، لا يتعدى الدور الذي يؤديه المتفرج السلبي إلى حَدٍّ كبير.

ولعلَّ نقطة البدء تتضح حين نتعرض لبعض تعريفات التسامح. لكن، تلزم الإشارة، في البدء كذلك، إلى حضور هذه القيمة مفهوميًا وَفق كلمة أخرى تنتمي إلى حقبٍ ثقافية حديثة إلى حَدٍّ ما، غير معاصرة: “التَّساهُل“. ولذلك، سنجد حديثًا عن “التساهل” الديني، ومعنى التساهل، في كتابات فرح أنطون[13]، وأمين الريحاني، وأديب إسحق، ومحمد عبده[14] وغيرهم. وتعريف التساهل عند الأول هو “التسامح بوجود ما يخالفك وهذا تحديد عام. أما الخاص فهو إجازة العقائد والطقوس الدينية التي تخالف العقائد والطقوس المألوفة[15]، وعند الثالث، فالتساهل، أو حَدّ التساهل، عند أهل “الحكمة العصرية” هو “رضى المرء برأيه اعتقاد الصحة فيه واحترامه لرأي الغير كائنًا ما كان، رجوعًا إلى معاملة الناس بما يريد أن يعاملوه. فهو على إثباته الصواب لما يراه، لا يقطع بلزوم الخطأ في رأي سواه. وعلى رغبته في تطرق رأيه للأذهان، لا يمنع الناس من إظهار ما يعتقدون[16].

ويبدو للقارئ هنا أن مفهوم التساهل، أولًا، يترادف مع التسامح، وهي حقيقة حاصلة بالفعل[17]. ويتضح، ثانيًا، أن تدقيقًا متأنيًا في تطورات واقعنا الحديث، وليس المعاصر فحسب، يكشف عن غياب حمولات التساهل في واقعنا، على الرغم من ثراء المادة الفكرية المكتوبة وتعدُّد مشارب الكُتَّاب والمفكرين، وتمددها عبر أجيال فكرية متلاحقة تمتد لقرنين.

يمكن البحث في منشأ النقطة الأخيرة بتحليل مفهوم التسامح، من جهة مصدره، ومعناه، ومآلاته على الأقل. وأقول إن التسامح يصدر بطبيعته، سواء أكان مصدره فردًا أم جماعة أم كيانًا سياسيًا أكبر، من “سلطة“؛ إذ لا يمكن للضعيف أن يتسامح. وحتى إن كان من بين معاني التسامح “تَحَمُّل ما لا يُطاق بيسر”، فإن هذا التحمُّل لا يصدر إلا عن صاحب قدرة فعلية على الانتقال إلى نقيضه، إما من خلال العنف (الرمزي أو المادي) إما في صورته الفردية أو الجماعية أو في قالب كيان سياسي مُحَدَّد[18]. ولذلك، لا يمكن فهم المعنى الخاص للتساهل، كما ورد أعلاه، وهو “إجازة العقائد والطقوس الدينية التي تخالف العقائد والطقوس المألوفة”، إلا بدون حضور فكرة السلطة في ذهن القارئ. وبمقاربة تعريف مجمع اللغة العربية (القاهرة) للتسامح باعتباره “سعة صدر تفسح للآخرين أن يعبّروا عن آرائهم ولو لم تكن موضع تسليم أو قبول، ولا يحاول صاحبه فرض آرائه الخاصة على الآخرين“، نجد في قولهم “سعة صدر تفسح” معنيَيْن، “المعنى الأول لهذه العبارة أن هو أن التسامح ليس فعلًا عقليًا خالصًا، بل هو فعل إرادي معقول قوامه السماح للآخرين بالتعبير عن آرائهم ومعتقداتهم الخاصة بهم. والمعنى الثاني هو أن رحابة الاستعداد للقيام بهذا الفعل أمر نسبي ومتغير بحسب أحوال المتسامح وظروفه وأحوال المتسامح معه وظروفه وأحوال موضوع التسامح وتطوره … [و]بما أن قوام التسامح إرادة تسمح للآخرين بالتعبير عن آرائهم ومعتقداتهم، فإنه يتضمن، بصورة أو بأخرى، عنصري القدرة والفوقية”[19].

وفي سبيل تجاوز هذه الخاصية السلبية في التسامح، وهي من خواصه الجوهرية، يمكننا المقارنة بينه وبين اللا-اكتراث أو عدم الاكتراث indifference.

وَفق رؤية نيكولاس وولترستورف Nicholas Wolterstorff، يمكننا الحديث عن قيمٍ تُفضي واحدتها إلى الأخرى، وهو انتقال متدرج بين مجالات قيمية تزداد اتساعًا، وبذلك يمكننا الحديث عن التسامح، انتقالًا إلى “إجلال التعدد“، وصولًا إلى “اللا-اكتراث[20].

وحقيقة الأمر أن التسامح يختفي بالكلية حين يحضر اللا-اكتراث في المشهد. ومثال ذلك إذا تخيلنا مسلمًا سنيًّا وقد سكن بجواره إما جار شيعي، أو مسيحي، أو بوذي أتى من الصين. وواقع الأمر، في الغالب، أن ردَّ فعله الإيجابي تجاه الجار الأول والثاني قد يَكون التسامح، وهنا، سنجد أنه “يتحمل” وجود أيهما، وقد يصل الأمر إلى أنه قد يبدو كأنه يغض الطرف عن وجود الجار المعنيّ ذاته. لكن، في الحالتين، يمكن للمسلم السنيّ، إن كان يتحلى بدرجة مُعتَبَرَة من الالتزام المذهبي، أن يتوقف عن ممارسة تسامحه (راجع أعلاه: ذاتية التسامح، وتحدُّده بموقف المتسامح والمتسامح معه على الأقل) لأنه لم يعد “يتحمل” ممارَسات غيره من “منافِس” لديه مذهب لا يتخذ موقفًا إيجابيًا (بشكل عام) تجاه مذهبه أو “منافِس” يمارس من داخل نسق توحيدي مغاير. لكن، في حالة الجار البوذي، قد يتندر المسلم السنيّ بسكن بوذي بجواره في النقاشات. والاختلاف هنا أنه تسامح مع الجار الأول والثاني، ولم يكترث بالثالث.

إذًا، يلزم أن نأخذ بعين الاعتبار حذف أي احتمال دلالي سلبي للا-اكتراث بوصفه قيمة، لأنه يعبِّر عن قيمة (أو مبدأ)، حسبما أرى، أرقى من التسامح.

وسيتخذ النقاش الآن مسارًا تجريديته أعلى من الحديث عن القيم، حين أتحدث عن “إبستمولوجيا الاختلاف epistemology of disagreement”.

إبستمولوجيا الاختلاف

لا أسعى في مقالي إلى تقديم رؤية استشرافية، تسعى وراء تفعيل “قيمة” اللا-اكتراث اجتماعيًا (وإن كنت أستطيع المحاجة بإمكان تفعيلها في عصرنا الحديث، وفي سياقنا العربي، دون إحداث تحولات كبيرة تأتي من سلطة الدولة، أو من تنازلات دينية مؤسسية)؛ كما أحرص على التأكيد على أنني لا أقدِّم توصياتٍ ما، لجهاتٍ ما. ويتمثل هدفي في بيان أمور مفادها:

  • أولًا، ثقافتنا العربية المعاصرة أبعد ما تَكون عن التسامح؛
  • ثانيًا، خرجت قيمة التسامح من المجال الحضاري المعاصر؛
  • ثالثًا، تقديم إبستمولوجيا الاختلاف[21] the epistemology of disagreement للثقافة العربية، من الزاوية الفلسفية[22].

في الواقع، “الاختلاف ظاهرة تستمر في معاوَدَة الظهور على مستويات مختلفة[23]. لكن، يمكن تقسيم الاختلاف تقسيمًا عامًا، تحقيقًا لأهداف المقال، إلى قسمين، ويتعلق القسم الأول بالاختلاف بين عموم الناس، في الاجتماع “الخام” بتعبير عبد الجواد ياسين، والاختلاف بين مَن سأركز عليهم، وهو الاختلاف بين “الأنداد الإبستيميين” كما سيأتي لاحقًا (الفلاسفة وأهل الفكر). مع ملاحظة أن الحديث عن الاختلاف الديني هو مركز الاهتمام بطبيعة الحال.

أما الاختلاف الأول يمكنه أن ينقسم إلى الاختلاف بين عموم الناس من أهل الدين الواحد، والاختلاف بين أهل الأديان التوحيدية على الأقل.

يلحظ المرء، في سياقنا العربي (والإسلامي بالأخص)، دون بذل الكثير من العناء، هيمنة التعصب وانتفاء التسامح. هل نتحدث عن خلاف عموم الناس من الشيعة مع السُّنَّة؟ أم نتحدث عن الخلاف مع الفئات المذهبية الأقل حظًا (على مستوى التاريخ)؟ أم نتحدث عن “مناسبات” التسامح بين المسلمين والمسيحيين؟!

في الحقيقة، الحديث عن أيٍّ مما سبق سيؤدي بنا إلى نفس الحقائق الواقعية: قوى شاحنة للتعصُّب، مُحَفِّزَة له، في هيئة ادعاء مفاده تمثيل “ما يريد الإسلام قوله حقًا”، و”ما قصده نبيه”؛ وادعاء آخر مفاده تمثيل المذهب، أيًا كان، لوجه الدين الحق[24]. يمكننا الحديث عن تجييش وحشد (من خلال وسائل إعلام، وتمويلات هائلة، واستعمال لكلّ التقنيات الترويجية القديمة والمعاصرة)، ويمكننا الحديث عن روح للتعصب تسري في جسد الاجتماع، حتى وإن أقنعتنا بقدراتها “الفريدة” على التعايش أو التسامح[25].

وأزمة الادعاءين المشار إليهما أعلاه تكمن في أنهما، على الأقل، يعجزان عن بلوغ مستوى الادعاء claim بمعناه الفلسفي، (وأقصد في تجلّيه التعددي المعاصر المنتمي إلى حقل الفلسفة الدينية[26]، أو المنتمي، على نطاق أوسع، إلى الحوار بين الأديان). ويمكن القول إنهما، ومعهما كل الادعاءات الأدنى رتبة اللازمة عنهما، محض كذب أو تزييف يحاول تحقيق مكاسب “إجرائية” عند الآخر (وهو آخر لا ينتمي إلى الدين في الغالب)، أو يحاول إبراز جانب “حداثي” ما (ولو من باب الاضطرار) في وجهه المذهبي القاتم. وآخر ما أود الإشارة إليه في هذا السياق، وبحصر الأمر في الأديان التوحيدية، وبضرب مثال من الإسلام وتاريخه فحسب، يتعلق بما تولِّده “الدعوة” — وهي لبُّ الدين ولبُّ مذاهبه، عبر تطورها دلاليًا وإجرائيًا منذ زمن النبي إلى وقتنا المعاصر — من “دينامية انقسامية: هي عينُها التي ما تزال مفاعيلُها تلقي بذيولها على عالم الإسلام حتى يوم الناس هذا”[27]. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن “الدعوة، في استخداماتها التاريخية، لا تعدو أن تَكون فعلًا من أفعال الإيديولوجيا. وبالحسبان هذا، لا يعود لها من هدف كبير مثل الإرشاد إلى الحقيقة، وإنما تنكفئ إلى معنى كلِّ إيديولوجيا بما هي سعي إلى المصلحة“، لوجدنا أن طبيعة التعصب الديني التوحيدي، وبصرف النظر عن مقولات الاعتدال فيه (وهي نفسها مقولات ذات نَفَس إيديولوجي)، تُحَيِّد من داخل أنساقها المنطقية، مبدأَ التسامح، لأنها لا تجد وقتًا له (إما من باب الترويج الدعائي، أو من باب السعي الإجرائي لإلحاق الآخر في منظومة مذهبية تكاد تكافح لتتعامل معه بوصفه إنسانًا يقف على نفس أرضية المتمذهب داخل الاجتماع) حتى داخل المجتمعات التعددية؛ إذ سيُتَرْجَم هدف أغلب المذاهب الدينية الحركية (وهي كذلك من خلال “الدعوة”) إلى محاولات لإكساء المجتمع التعددي بصبغة واحدة. ومن هنا خطورة التعصب الديني، بما هو آتٍ من سلطة “فعلية” أو تطمح إلى أن تحتل موقع السلطة (ولا بد لها، والحال هكذا، أن تخاتل بأنها تُصْدِر عن سلطةٍ)، وبما هو برنامج إيديولوجي يهدف إلى الهيمنة المجتمعية، أو إلى ترسيخ علو أهل المذهب على بقية أطياف الاجتماع.

أما دراسات إبستمولوجيا الاختلاف فتُرَكِّز “تركيزًا أساسيًا على تحديد الموقف الفكري الاعتقادي الذي يَكون مطلوبًا (عقلانيًا) من المرء تبنيه عقب اكتشاف اختلاف مع شخصٍ ما يعتبره الشخصُ الأولُ نِدًّا إبستيميًّا”[28]. وبالتالي، سنتعامل مع نماذج فكرية “أرقى”، بمعنى أنها نماذج لأشخاص بذلوا جهدًا كبيرًا في دراسة دينهم/مذهبهم، وأعملوا فكرهم في إيمانياته (وهي الفئة التسليمية في الدين، بمعنى أنها، أولًا، لا تتطلب حضور العقل في تكوينها، وثانيًا، حساسيتها تجاه “الدليل” ضعيفة أو محدودة إلى درجة كبيرة) واعتقاداته (وهي عقلية، أعمل فيها عقلَه، وبلورها، في الغالب، من باب المساجلة مع المنتمين إلى دين آخر، أي، لإثبات صدق اعتقاداته الدينية)[29].

من خصائص إبستمولوجيا الاختلاف أنها تراعي عوامل مثل التواضع المعرفي (نحن مخلوقات غير معصومة من الخطأ)، وتتطلب من الفيلسوف أو المفكر احترام فكر غيره، لا مجرد نقده أو السعي إلى نقضه أو — وهو الأمر الأسوأ —نفيه من دائرة الدين بالكلية.

ومن أهم مفاهيم هذه الدراسات مفهوما “النِدّيَّة الإبستيمية epistemological peerhood” و”التكافؤ parity“. وبالنسبة إلى قضية اعتقادية، (ق) مثلًا، تُفْهَم النِدّيَّة الإبستيمية بناء على مفهومين آخرَيْن، وهما التكافؤ الإدراكي cognitive parity والتكافؤ الدليليّ evidential parity. وبذلك:

[يقال] إن شخصين نِدّان إبستيميان، فيما يتعلق بالسؤال عن (ق) [أصادقة هذه القضية أم كاذبة؟]، إذا، وفقط إذا، (1) كانا، على قدم المساواة، لَبِيبَيْن، ومن أهل الفطنة، وعقلانِيَّيْن، وغير مُتَحَيِّزَيْن، و(2) كانا، على قدم المساواة، على دراية بالأدلة المتاحة؛ وهي الأدلة ذات الصلة بالسؤال عن (ق) (وهي أدلة تتضمن بيانات ومعلومات لها تأثير مباشر على السؤال، ومعرفة تمثِّل أساس النقاش، وحجج لصالح وضد الرؤى المتنافِسَة فيما يتعلق بـ (ق)). ويُحاز التكافؤ الدليليّ بعد [إنجاز أو تحقيق] المكاشَفَة التامة full disclosure، أي، بعد أن يتبادل الخصمان الفكريان أسبابَ [وأدلة] وجهة نظر كلٍّ واحد منهما حيال (ق).

ويُعاب على هذا التصوُّر، كما يتضح، نزعته المثالية، “فلا يمكن تطبيقه على الاختلافات الحاصلة في الواقع”[30].

وهناك تصوُّر آخر للنِدّيَّة الإبستيمية يمكن إيجاده في دراسات إبستمولوجيا الاختلاف، حيث:

[يقال] إن شخصين نَدَّان إبستيميان، فيما يتعلق بسؤال مُحَدَّد، إذا، وفقط إذا، تساوى احتماليًا أن يَكون أيهما — قبل الاختلاف — على صواب فيما يتعلق بذلك السؤال.

ومن زاوية رؤية نزعتها الواقعية أكبر:

[يقال] إن فردَيْن نِدَّان إبستيميان، فيما يتعلق بسؤال مُحَدَّد، إذا، وفقط إذا، (1) كانا حائزين قدرات إدراكية متشابهة، و(2) كانا على دراية بالأدلة المتاحة ذات التأثير على ذلك السؤال، وكانا على هذه الدراية بنفس الدرجة تقريبًا[31].

وإذا تحلينا بالواقعية لأكبر مدى ممكن، نلاحظ أن الشرط الثاني متبادَل بين الفردَيْن [النِدَّيْن الإبستمولوجيَيْن] إذا كان الواحد منهما منفتحًا على الآخر فكريًا على الأقل[32]. وهو ما يعني بذل المفكر جهدًا إضافيًا، كبيرًا في حقيقة الأمر، لاستيعاب الآخر من منظور الأخير (إذ يحمل كلٌّ منهما ترسانة تراثية دينية متنوعة حتى تكاد تتضارب أجزاءٌ فيها مع أجزاء أخرى بعيدًا عن السياقات التاريخية والثقافية، وهذه الترسانة المعنيّة مسبوقة بإيمان النشأة الذي كان له دور كبير، أولًا، في إعمال الفكر في الترسانة التراثية الخاصة، وثانيًا، في استعمال هذه الترسانة لصالح تثبيت عقلانية تبنّي ذلك الدين على مستوى العقائد والإيمان). ويُضاف إلى ذلك القوة الإبستيمية للنِدِّ الإبستيميّ التي يتحصل عليها من خلال إعماله العقل في نسقه الديني، وبحيث يَكون منتوج كل ما يتوصل إليه عقليًا أقوى إبستيميًّا من إملاءات غيره عليه عقائديًا أو فكريًا. ومن هنا، يُشار إلى أهمية الدور الذي يبذله المفكر أو الفيلسوف في تطوير نسقه الديني في استقلالٍ عمّا تلقاه شهادةً من غيره.

وتتبقى نقطة أخيرة، قبل الختام، متعلقة بطبيعة المفكرين أو الفلاسفة (في المسائل الدينية بالأخص). ومفادها: “في بعض الأحيان، تتغير رؤية الأغلبية — وبما يتضمن رؤية الأغلبية من أهل الاختصاص الفكري — فما يتعلق بالمسائل المُخْتَلَف عليها، تغيُّرًا (جذريًّا)، بمرور الزمان، ويبدو أن الوعي بهذه الحقيقة ينبغي عليه جعلنا ننظر إلى رؤية الأغلبية في مسألة بعينها بشيء من الحيطة والحذر”[33].

الختام

حاولت تقديم مبدأ أو قيمة أو فضيلة اللا-اكتراث بوصفها بديلًا للتسامح الذي عجز واقعنا عن تحقيقه (باستثناء تحقيقه في سياقات الادّعاء والتظاهر). وصار اللا-اكتراث أفقًا ممكنًا واقعيًا، يجتذب قطاعات أكبر من الشباب العربي في الوقت الراهن.

السعي وراء التسامح الآن لن يسفر إلا عن تخفيف مَدّ التعصُّب (فيتأرجح على سُلَّم درجته صعودًا ونزولًا بحسب مقتضيات الواقع والجهات الفاعلة فيه)، ولن يقضي عليه. وصار من الممكن، وربما من الضروري، التفكير في أفق قيمة جديدة، يتضافر معها تعميم إبستمولوجيا الاختلاف على مستوى التنظير والتبسيط لقطاع القراء والمثقفين العرب، بحيث تَكون هذه المبادئ في خدمة الاختلاف، فينقلب اتزان المعادلة التي تجعلنا ندفع الثمن دائمًا، ولو على حساب أنفسنا وعلى حساب علاقتنا مع الآخر، ويصبح التواصل بين أشد المتنافسين مبنيًا على التواضع المعرفي[34]، والإقرار بحق الآخر، أولًا، في الإيمان، وثانيًا، في الاعتقاد، ويضاف إلى ذلك التنبُّه والحيطة حينما نتعامل مع خطاب أي فيلسوف أو مفكر بحيث نأخذ بعين الاعتبار ما يلي: انعدام العلاقة الضرورية بين حضور خطاب هذا المفكر، ولو على مستوى مبادئه مجتمعة، في أي سياق معاصر بوصف ذلك الخطاب حلًا فعَّالًا لأزماتنا؛ وللعامل النفسي دور كبير في تبلور وتطوُّر خطاب المفكر، بجانب الإكراهات التاريخية والواقعية التي كانت ملقاة على عاتقه في لحظته. وبسبب هذا العامل، من بين عوامل أخرى لا يتسع لها الختام، يلزم علينا التنبُّه إلى التحولات الجذرية في خطابات المفكرين[35] بالعموم، وكذلك الفلاسفة، كيلا نقع أسرى في قبضة معرفة مُتَخَيَّلة (أو مخافة اعتقادنا أن تطوُّر المفكر يحصل في مسار خطي صاعد بالضرورة، أو حتى في صورة متسقة على الدوام)، وفي الغالب، يُحْشَد لها من خلال التعصب، سواء أكان أكاديميًا أم يتم خارج أسوار الجامعات.

 

المراجع والحواشي:

أبو يعرب المرزوقي، “النخب العربية وعطالة الإبداع في منظور الفلسفة القرآنية”، الدار المتوسطية للنشر، تونس، 2007.

جان غريش، “العوسج الملتهب وأنوار العقل – ابتكار فلسفة الدين”، مج1: إرث القرن التاسع عشر وورثته، ترجمة”: محمد علي مقلد، مراجعة: مشير باسيل عون، دار الكتاب الجديد المتحدة، لبنان، 2020.

جمال الدين الأفغاني، “مجلة العروة الوثقى لا انفصام لها”، تحقيق وتعليق: عبد الرحمن أبو ذكري، تقديم: محمد صفار، تنوير للنشر والإعلام، القاهرة، 2021.

الحسن بن الهيثم، “الشكوك على بطليموس”، تحقيق: عبد الحميد صبره ونبيل الشهابي، تصدير: إبراهيم مدكور، مطبعة دار الكتب، القاهرة، 1971.

شريف يونس، “سيد قطب والأصولية الإسلامية”، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2014.

عبد الإله بلقزيز، “الدينيّ والدّنيويّ – نقد الوساطة والكَهْنَتَة”، منتدى المعارف، بيروت، 2018.

علي مبروك، “مفهوم الشريعة بين تسييس الإسلام وتحريره”، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، المغرب، لبنان، 2017.

كمال عبد اللطيف، “العرب والحداثة السياسية”، دار الطليعة، بيروت، 1997.

كيلي جيمس كلارك، “أبناء إبراهيم”، ترجمة: إسلام سعد – علي رضا – سلمى العشماوي، دار مصر العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2019.

كيلي چيمس كلارك، الدين وأصل الكون والحياة”، ترجمة: إسلام سعد، مركز نهوض للدراسات والبحوث، لبنان، 2021.

محمد عبده (الأعمال الكاملة)، تحقيق وتقديم: محمد عمارة، دار الشروق، ج2، دار الشروق، القاهرة، 1993.

ناجية الوريمي بوعجيلة، “الاختلاف وسياسة التسامح – بحث في الإشكاليات الثقافية والسياسية في سياسات الرشيد والبرامكة والمأمون”، المركز الثقافي العربي، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، المغرب، لبنان، 2015.

ناصيف نصار، “أضواء على التعصب”، دار أمواج، لبنان، 1993.

ناصيف نصار، “التفكير والهجرة – من التراث إلى النهضة العربية الثانية”، دار الطليعة، بيروت، ط2، 2004.

ناصيف نصار، “باب الحرية – انبثاق الوجود بالفعل”، دار الطليعة، بيروت، ط2، 2013.

Machuca, Diego E. Disagreement. of Elements in Epistemology. Cambridge: Cambridge University Press, 2024.

[1]  انظر: جان غريش، “العوسج الملتهب وأنوار العقل – ابتكار فلسفة الدين”، مج1: إرث القرن التاسع عشر وورثته، ترجمة”: محمد علي مقلد، مراجعة: مشير باسيل عون، دار الكتاب الجديد المتحدة، لبنان، 2020، ص: 132.

[2] هنا تلزم الإشارة إلى مثال يوضح هذه الأزمة، ربما اجتمعت فيه أغلب مشاكل قطاع ذي حضور واضح في الفكر العربي المعاصر، وهو التالي:

فالتاريخ العربي الإسلامي لا يمكن أن يفهم إلا إذا قدمنا في تحليله وتأويله العامل الدولي على العامل الداخلي: إنه تاريخ الكونية بامتياز. فكتابه المؤسس كوني الدعوة وكوني العلاج يبدأ بحسم الأمر مع الماضي الإنساني بمنهج التصديق والهيمنة ويشرع في حسم الأمر مع المستقبل بمنطق الاجتهاد والجهاد لأن الرسالة لم تكن مقصورة على شعب بعينه بل هي موجهة إلى العالمين ومن ثم فهي بالأساس فتح غايته دينية وأداته سياسية ومجال فعله كل المعمور من الأرض … وفي الجملة فإنه لا توجد لحظة واحدة من التاريخ الإسلامي ليس الخارجي فيها متقدمًا على الداخلي: السياسة الدولية متقدمة على السياسة المحلية لأن السياسي والديني بالمعنى الإسلامي يتعلقان بالإنسان من حيث هو خليفة في الأرض وليس بجنس معين.

سنلاحظ في هذا المثال عدة أزمات:

  • يقدِّم المرزوقي “فاتحة”، بحسب تعبيره، لـ “طبيعة الأفق الذي يحكم الحياة الروحية والفكرية”، ولا يقدِّم هذا الوعد الكبير من خلال باب التواضع المعرفي (وهو الباب الذي يَكون منطقيًا وُلوجُه حين يَكون الخطاب على هذا القَدْر من الرهان)، بل يقدمه معلنًا أنه “منظور الفلسفة القرآنية”، وليس مجرد منظور فردي، اجتهادي، لمنظورٍ ينتمي إلى الفلسفة الدينية (وهذه حقيقته).
  • لا يتجاوز الخطابُ المعنيُّ الكولونياليةَ، لكن من خلال السعي إلى تقديم رؤيته بعناوين برَّاقة؛ والحق أنه لا يفكر إلا بآليات خصومه، وظهره يحمل عباءة الاستعمار؛ أي، لا يزال متأثرًا بها، ويفكر وَفق آلياتها في نسقه بالمعنى الكبير. هذا خطاب “الإمبرياليين المقهورين”، بتعبير ياسين الحاج صالح.
  • في هذا الخطاب، ثَمَّ تفكير بالمسيحية (على المستوى التاريخي) في الإسلام؛ أي، هناك ممارَسَة فقهية من خلال “القياس”، وهو من نزعات الكسل الفكري، حين يقول: “والأفق الذي حدده بمنهج التصديق والهيمنة هو الذي كان مدار صراعه مع الغرب الذي كان قد صار مسيحيًا بالمعنى القديم ثم بدأ تقريبًا في نفس العصر الإسلامي يصبح مسيحيًا بالمعنى الجديد الذي آلت فيه قيادة الحياة الروحية والسياسية الغربية شعب بدائي له بكارة الشعب العربي وعزيمة قبول التحدي الإسلامي في أوروبا أولًا ثم في الشرق نفسه خلال الحروب الصليبية وحروب الاسترداد”.

وهذه العطالة المعرفية الحقيقية، التي لا تمتلك أفقًا واسعًا على مستوى الرؤية، ولا قدرة إبداعية على التفاعل الخَلَّاق مع النصوص المؤسِّسَة في الثقافة، ولا تنشغل بالتواصل مع “الغرب” (بهذا التعميم السطحي)؛ وأقصد جهاته وفاعليه الرئيسيين الذين ينشدون آفاقًا أوسع من التفاعل مع “الآخر” (أي، نحن)، أقول إن هذه العطالة المعرفية الحقيقية لا ثمار لها سوى حشد زفرات غضب في قالب أكاديمي (سلطة الحقّ في القول المنهجي إن جاز التعبير)، وبتوجهات إيديولوجية ضيقة تساوي بين التعصُّب الدميم و”ما يمكن أن تريده لنا نصوصنا المؤسِّسَة في هذا العصر”، أي، ما نستطيع أن نفعله بأسسنا في الوقت نفسه، وَفق رؤانا المنشودة. انظر: أبو يعرب المرزوقي، “النخب العربية وعطالة الإبداع في منظور الفلسفة القرآنية”، الدار المتوسطية للنشر، تونس، 2007، ص: 9.

[3]  انظر: ناصيف نصار، “باب الحرية – انبثاق الوجود بالفعل”، دار الطليعة، بيروت، ط2، 2013، ص: 105.

[4]  ومن هنا ما ذهب إليه فرح أنطون، في تمجيده لمفهوم التسامح، “كما تبلور في فلسفة الأنوار، دون أدنى احتراز نظري أو تاريخي. بل إن مرماه الإصلاحي دفعه إلى التحمس لمحتوى المفهوم”. بالإضافة إلى ارتباط مفهوم التسامح عنده بسياق أعم يتعلق “بمحاولة إنجاز تعريب للمنظومة الليبرالية”. انظر: كمال عبد اللطيف، “العرب والحداثة السياسية”، دار الطليعة، بيروت، 1997، ص: 35.

[5]  انظر: السيد جمال الدين الأفغاني، “مجلة العروة الوثقى لا انفصام لها”، تحقيق وتعليق: عبد الرحمن أبو ذكري، تقديم: محمد صفار، تنوير للنشر والإعلام، القاهرة، 2021، ص: 224-226.

[6]  “الدين وأصل الكون والحياة”، كيلي چيمس كلارك، ترجمة: إسلام سعد، مركز نهوض للدراسات والبحوث، لبنان، 2021، ص: 271. وانظر كذلك، المصدر نفسه، “تطوُّر التعاوُن والرحمة”، ص: 277 وما بعدها.

[7]  انظر: مجموعة مؤلفين من أديب وإسحق والأفغاني .. إلى ناصيف نصار، “أضواء على التعصب”، دار أمواج، لبنان، 1993، ص: 189.

[8]  انظر: علي مبروك، “مفهوم الشريعة بين تسييس الإسلام وتحريره”، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، المغرب، لبنان، 2017، ص: 199.

[9] انظر: الشيخ محمد عبده (الأعمال الكاملة)، تحقيق وتقديم: محمد عمارة، دار الشروق، ج2، دار الشروق، القاهرة، 1993، ص: 343.

[10]  السيد جمال الدين الأفغاني، “مجلة العروة الوثقى لا انفصام لها”، سبق ذكره، ص: 226.

[11]  المصدر السابق، ص: 228، 229.

[12]  انظر: “أضواء على التعصب”، سبق ذكره، ص: 193-196. وقد ورد كاملًا في: ناصيف نصار، “التفكير والهجرة – من التراث إلى النهضة العربية الثانية”، دار الطليعة، بيروت، ط2، 2004، ص: 173-193.

[13] وهناك من يذهب إلى أن فرح أنطون هو أول مدافِع عن التسامح “في الخطاب السياسي العربي المعاصر … وأن الفضل يعود إلى هذا المصلح بالذات، في تقديم محتوى المفهوم، وإبراز أهميته، وذلك في إطار تأويله وتقديمه لمنظومة الحداثة السياسية الغربية، كما صاغتها الليبرالية”. انظر: كمال عبد اللطيف، “العرب والحداثة السياسية”، سبق ذكره، ص: 34.

[14]  ناصيف نصار، “باب الحرية – انبثاق الوجود بالفعل”، سبق ذكره، ص: 99.

[15]  انظر: “أضواء على التعصب”، سبق ذكره، ص: 48. والحقُّ ان هذا الكتاب مَثَّلَ نقطةَ انطلاق قوية لهذا المقال.

[16]  المصدر السابق، ص: 14.

[17] على سبيل المثال، فيما يتعلق بكلمة التسامح، نجد أنها “لم تتجاوز معاني التساهل وغضّ النظر عن غير المرضيّ، كما جاء في المعاجم وفي مختلف المصادر الأدبية”. “. انظر: ناجية الوريمي بوعجيلة، “الاختلاف وسياسة التسامح – بحث في الإشكاليات الثقافية والسياسية في سياسات الرشيد والبرامكة والمأمون”، المركز الثقافي العربي، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، المغرب، لبنان، 2015، ص: 25، 26. ولعلي أضيف نقطة أخرى، ترتبط بما ذكرته أعلاه منذ قليل، وهو حديثي عن الترابط القيميّ، إن كان من باب الالتباس في المفاهيم، أو كان من باب التلاقُح القيميّ (بلزوم وجود قيمة تَنْتُج من تفعيل قيمة أخرى أو السعي إليها). وأقول إن كان الحديث عن حضور الكلمة “في اللغة العربية القديمة” (وهو حضور لا يكشف عن تكثيف ضروري في الأفكار للشعور بالحاجة إلى خلق المفهوم أو بلورته)، أو في الثقافة المعاصرة، فإننا سنجد “ما ينهض بهذه الدلالات -وبنسب متفاوتة- موزّعًا بين عبارات ومصطلحات أخرى، من قبيل: ‘الوفاق، المسامحة، التسالم، العدل، التفهّم، التحابّ’. وهي تمثل الجهاز الاصطلاحي الذي تعتمده خاصّة الخطابات الاجتماعيّة والفلسفيّة الرامية إلى تشريع الاختلاف والتأليف بين المجموعات البشرية”. انظر: ناجية الوريمي بوعجيلة، “الاختلاف وسياسة التسامح”، سبق ذكره، ص: 26، بتصرف يسير. وكذلك، حين وظَّف فرح أنطون مفهوم التسامح، فإنما “كان يرادفه بلفظ التساهل – لإبراز أهمية محتواه، كحاجة ملازمة للتحرّر من الانغلاق والتعصب ومعاداة الآخرين”. انظر: كمال عبد اللطيف، “العرب والحداثة السياسية”، سبق ذكره، ص: 34.

[18] وأشير هنا إلى ذكر الدكتور حسن حنفي “لاتجاه يعترض على كلمة تسامح ويفضل كلمة احترام بدلًا منها. فكلمة تسامح ليس لها وجود لأننا نتسامح مع الأشياء التي لا نستطيع أن نقف ضدها. فالتسامح هنا يقف في موقف الضعف، هذا التسامح الضعيف سرعان ما يتحول إلى استبداد وعدم تسامح إذا زادت سيطرته”. انظر: “أضواء على التعصب”، سبق ذكره، ص: 178. وأرى أن هذا الاتجاه، الذي لم يحدده الدكتور حسن حنفي صراحةً، لزم عليه مراعاة “الاحتقان” الكامن في هذا القول، سواء أكان الحديث عن التسامح أم الاحترام. وباعتباره الأخيرَيْن قيمتين، يصعب تصوُّر قيام أحدهما أو كليهما على مرذولٍ أخلاقي (كتم الغيظ — أو، بالأحرى، وجود الغيظ من الأساس — والحنق على الآخر). وبالطبع، سأستبعد هذا الطرح من تعريفي للتسامح كما سيأتي تباعًا.

[19] انظر: ناصيف نصار، “باب الحرية”، سبق ذكره، ص: 96-98.

[20]  أُضيفُ إلى رؤية نيكولاس وولترستورف، المُشار إليها في السياق أعلاه، فكرة الانتقال المتدرج بين القيم (أو الفضائل، إذا قررنا استعمال اللغة الاصطلاحية للدكتور ناصيف نصار)، إذ أرى اللا-اكتراث قيمة، ومن خلاله تتحقق قيمة أخرى: الحرية للجميع (وإن كان الدكتور ناصيف نصار قد أدرج تحقُّق “الحرية للجميع” في سياق التسامح المتبادل، وهو مفهوم لا أستطيع إيجاد تعريف مناسب له يليق بإفضائه إلى “الحرية للجميع”). وليس في مبدأ “الحرية للجميع” ما يتضمن “أي حُكم مُسبق على قيمة أي اعتقاد أو رأي، ولا على قيمة أي مذهب من المذاهب القائمة أو الممكنة في هذه الميادين … [وهو] شرط الحد الأدنى الذي لا بد منه في الوجود الاجتماعي للبحث عن الحقيقة وللتقدم في هذا البحث”. انظر على الترتيب: كيلي جيمس كلارك، “أبناء إبراهيم”، ترجمة: إسلام سعد – علي رضا – سلمى العشماوي، دار مصر العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2019، بحث بعنوان “التعصب الديني وجراح الله”، ص: 168 وما بعدها؛ وانظر: ناصيف نصار، “باب الحرية”، سبق ذكره، ص: 104، 105.

[21] وأعتمد في هذا السياق على المصدر التالي:

Machuca, Diego E. Disagreement. of Elements in Epistemology. Cambridge: Cambridge University Press, 2024.

وجدير بالذكر أن المؤلف يُقرّ بأنه لا-أدري النزعة، ومن مناصري النزعة الشكيَّة Skepticism، أو، على الأقل، ينطلق الكتاب من هذه النزعة الشكيَّة التي يقال إن الإبستمولوجيا، في غالب مجالاتها، إنما تريد الردّ على حجج أهل النزعة الشكيَّة. قد ينجح الشاكُّ، ومعه المؤمن الذي خَبُرَ تجربةً دينية (بحسب المؤلف في هذه النقطة)، الأول من خلال منهجه، والثاني من خلال خبرته، في تنسيب اليقين المطلق كي يتماشى مع طبيعتنا البشرية.

[22]  ويذهب ناصيف نصار إلى أن “النظرة السليمة إلى الاختلاف هي النظرة التي نستمدها، لا من الدين ولا من الإيديولوجية، بل من الفلسفة. فمن ميزات النظرة الفلسفية إلى الاختلاف، بالإضافة إلى كونها تطرحه كمقولة أصلية في الوجود الإنساني تشديدها على عدم الخلط بين الاختلاف والخلاف والمخالفة، وسعيها إلى تحرير الاختلاف من الاقتران بالمخالفة. وذلك خلافاً للعقائد والمذاهب ذات النزعة الكلّية التي لا تعبأ كثيراً بالنظر العقلي في شؤون الإنسان وتميل إلى التوحيد الشامل بطبيعتها وإلى الارتياب من الاختلاف، إن لم تحاكمه باعتباره مخالفة. فالخلاف يعني تنازعاً وتغالباً حول أمر من الأمور. فهل من الضروري أن يتحول كل اختلاف بين البشر إلى خلاف في ما بينهم؟ والمخالفة تعني خروجاً عن نهج يجب التقيد به فرضاً. فهل من المعقول أن ننظر إلى كل اختلاف بمنظار المخالفة؟”. انظر: ناصيف نصار، “التفكير والهجرة”، سبق ذكره، ص: 156. ومن هنا، تتضاءل قدرة التعصب الديني بالتعاطي معه فلسفيًا، وليس من خلال سبل فكرية أو دَعَوِيَّة أخرى تكرِّس لنقيضه (أي التسامح).

[23] ibid., p. 8.

[24]  وهي سمة مشتركة بين الأديان التوحيدية في حضورها المذهبي المتنوع حَدّ الاختلاف التام والشقاق الذي قد يسعى إلى نفي الآخر، ولو كان منتميَا إلى الدين نفسه.

[25] ولعل أهمية مثال “التسامح!” الأشهر في السياق المصري على الأقل تنبع من تجدُّد الحديث حوله في كل عام، وأقصد جواز تهنئة المسلمين للمسيحيين بالكريسماس. وأستطيع، بكل يقين، الحديث عن هذا القول المتسامح التالي دون نسبه إلى شيخٍ أو داعية بعينه، لأنه حقًا سائد، ومفاده ما يلي: أنا، بوصفي مسلمًا، أؤمن بديني وصدق معتقداته، والآخر المسيحي، بوصفه كذلك، لا يؤمن إلا بصدق دينه ومعقولية معتقداته. وبالتالي، هو “كافر” في عيني، وأنا “كافر” في عينه. وإذا كنا على هذه الدرجة من المكاشفة، سيَكون للتسامح مكان. والحق أن الحديث عن التسامح أو التسامح “الإجرائي”، وهو مثالنا هنا، يثبت أن طبيعة التسامح نشوؤه من “سلطة”. إذ لا يمكن للمرء تصوُّر أن يقول مسيحي مصري مثلَ هذا القول دون إدانته بطريقة أو طرق ما. كما ينتج عن ذلك أن التسامح يسري، حتى هذه اللحظة التاريخية على الأقل، في اتجاه واحد. كما أن هذه الفكرة تسعى إلى ترسيخ مبدأ المجتمع “المُحْتَقِن”، إذ يمكنني أن أبادل جاري التحية كلّ في صباح، وأتبعها بقول “يا كافر”، فيردها عليّ، ويقول في نهايتها “يا كافر”. ووَفق مثال التسامح، فالأمور على ما يُرام حقًا بهذه الطريقة. ومن هنا قد نصل إلى أن مثال التسامح يؤدي إلى تعصُّب يمارَس من الجانبّين، وليس من جانب واحد (هذا إن مددنا التحقُّق الفعلي لهذه الرؤية على استقامته حتى يصل إلى منتهاه). وسينتفي مثال التسامح المعنيّ من الصورة بالكليَّة إن تطرقنا إلى أهل مصر من المذاهب الإسلامية غير السنيَّة، أو البهائيين، أو اليهود، أو الملحدين، أو غيرهم. إن التسامح هنا عباءة تتولى تدفئة التعصُّب، وتذكيه من كل الاتجاهات والمشارب التدينية.

[26] التحديد الذي أتبناه للفلسفة الدينية، ويميّزها عن فلسفة الدين، مأخوذ من جان غريش Jean Greisch (الذي يستند فيه إلى اقتراح هنري دوميري Henry Duméry)، ومفاده: “هناك مفكرون يسعون، من داخل إيمانهم بالذات، إلى أن يشرحوا بطريقة فلسفية الأسباب التي دفعتهم إلى اختيار هذه العقيدة، أو إلى أن يشرحوا فلسفيًا “قواعد هذا الانتماء”؛ ومن هنا، تلك الإشارة الألمعية إلى أن “غواية الفلسفة الدينية … الدفاع عن الدِّين”. انظر: جان غريش، “العوسج الملتهب وأنوار العقل”، سبق ذكره، مج:1، ص: 148، 150.

[27]  انظر: عبد الإله بلقزيز، “الدينيّ والدّنيويّ – نقد الوساطة والكَهْنَتَة”، منتدى المعارف، بيروت، 2018، ص: 247، 262.

[28] ibid., p. 22.

[29]  بالطبع، قد يعود المتدين إلى مجال المحاجّة العقلية لصالح الإيمان، أو يحدّثنا عن “عقلانية” الإيمان. وهو إجراء “بأثر رجعيّ”، يُثْبِت المُثْبَتَ (موضوعيًا كما يَدَّعي)، ويأتي بأدلة عقلية على ما يستغني عنها (وهو الإيمان)؛ وأرى أنها ممارَسَة قاصرة لغياب أرضية الإيمان “المشتركة” بين الفرقاء من عدة أديان، ومن هنا، قد نرى قصورها على مستوى تأسيسها.

[30] ibid., p. 23.

[31] ibid.

[32]  يود المرء لو أنه كان قادرًا على وضع شروط في التحليل مثل الانفتاح الإنساني، وتبنّي رؤية الآخر من باب الوجدان على الأقل (فلا يمكننا فهم الآخر دون أن نضع أنفسنا مكانه بأقصى قدر ممكن من الأمانة. وغنيٌّ عن البيان أن المتعصِّب دينيًا لا يملك وقتًا لنفسه كي يستهلك بعضًا منه في فهم غيره).

[33] ibid., p. 22.

[34]  وهو التواضع الذي نجد له أثرًا في التراث عند الحسن بن الهيثم، في قوله:

الحق مطلوب لذاته، وكل مطلوب لذاته فليس يعني طالبه غير وجوده، ووجود الحق صعب، والطريق إليه وعر، والحقائق منغمسة في الشبهات، وحسن الظن بالعلماء في طباع جميع الناس، فالناظر في كتب العلماء إذا استرسل مع طبعه، وجعل غرضه فهم ما ذكروه، وغاية ما أوردوه، حصلت الحقائق عنده هي المعاني التي قصدوا لها، والغايات التي أشاروا إليها. وما عصم الله العلماء من الزلل، ولا حمى علمهم من التقصير والخلل. ولو كان ذلك كذلك لما اختلف العلماء في شيء من العلوم، ولا تفرقت آراؤهم في شيء من حقائق الأمور، والوجود بخلاف ذلك. فطالب الحق ليس هو الناظر في كتب المتقدمين، المسترسل مع طبعه في حُسْن الظن بهم، بل طالب الحق هو المتهم لظنه فيهم، المتوقِف فيما يفهمه عنهم، المتبِع الحجة والبرهان، لا قول القائل الذي هو إنسان، المخصوص في جبلتَّه بضروب الخلل والنقصان. والواجب على الناظر في كتب العلوم، إذا كان غرضه معرفة الحقائق، أن يجعل نفسه خصمًا لكل ما ينظر فيه، ويُجيل فكره في متنه وفي جميع حواشيه، ويخصمه من جميع جهاته ونواحيه، ويتهم أيضًا نفسه عند خصامه فلا يتحامل عليه ولا يتسمح فيه. فإنه إذا سلك هذه الطريقة انكشفت له الحقائق، وظهر ما عساه وقع في كلام من تقدمه من التقصير والشبه.

ولما نظرنا في كتب الرجل المشهور بالفضيلة، المتفنن في المعاني الرياضية، المشار إليه في العلوم الحقيقية، أعني بطلميوس القلوذي، وجدنا فيها علومًا كثيرة، ومعاني غزيرة، كثيرة الفوائد، عظيمة المنافع. ولما خصمناها وميزناها، وتحرينا إنصافه وإنصاف الحق منه، وجدنا فيها مواضع مشبهة، وألفاظًا بشعة، ومعانى متناقضة، إلا أنها يسيرة في جنب ما أصاب فيه من المعاني الصحيحة. فرأينا أن في الإمساك عنها هضمًا للحق، وتعديًا عليه، وظلمًا لمن ينظر بعدنا في كتبه في سترنا ذلك عنه. ووجدنا أولى الأمور ذكر هذه المواضع، وإظهارها لمن يجتهد من بعد ذلك في سد خللها، وتصحيح معانيها، بكل وجه يمكن أن يؤدى إلى حقائقها.

انظر: الحسن بن الهيثم، “الشكوك على بطليموس”، تحقيق: عبد الحميد صبره ونبيل الشهابي، تصدير: إبراهيم مدكور، مطبعة دار الكتب، القاهرة، 1971، ص: 3، 4.

[35] ويمكن هنا إيراد مثال مهم، وهو عن سيد قطب. إذ يقول في الطبعة الأولى، من كتابه المهم “العدالة الاجتماعية في الإسلام”، 1944:

إن استئناف حياة إسلامية لا يتم بمجرد وضع تشريعات وقوانين ونُظم تقوم على أساس الفكرة الإسلامية، فهذا ركن واحد من ركنين، يعتمد عليهما الإسلام دائمًا في إقامة الحياة. أما الركن الثاني فهو تكوين عقلية مشبعة بالفكرة الإسلامية، لتنبعث حوافز هذه الحياة من داخل النفس، فتلتقي البيئة التي تكفلها التشريعات والنظم والقوانين … يجب إذن أن نكوّن فكرة إسلامية في نفوس الأفراد والجماعات، بجانب التشريع الإسلامي الذي ينظم الحياة، والثقافة هي الوسيلة الطبيعية لتكوين تلك الفكرة.

يشير قطب فيما بعد إلى كيفية ذلك، فيقول إن “طريقنا إذن من الوجهة النظرية لتكوين فكرة إسلامية مستقلة، أن نسير بحرص وحذر في اقتباس الفلسفة وما يتّبعها من طرق التربية، ونُظُم التعليم وبرامجه، والأدب، والتاريخ، والتشريع”.

لكنه سيتحول عن قوله في الطبعة السابعة من الكتاب نفسه، المنشورة في عام 1980، فيقول:

إن استئناف حياة إسلامية لا يتم بمجرد وضع تشريعات وقوانين ونُظُم مستمدة من الشريعة الإسلامية، فهذا ركن واحد من ركنين يعتمد عليهما الإسلام دائمًا في إقامة الحياة، وهو الركن الثاني لا الأول. أما الركن الأول، فهو العقيدة الصحيحة التي تُفرد الله سبحانه بالألوهية، ومن ثم تُفرده بالحاكمية، وتُنكر على غير الله أن يدعي حق الألوهية، بادعاء حق الحاكمية ومزاولته فعلًا! … يجب إذن أن نعيد بناء العقيدة الإسلامية على الأسس التي بنيناها في مطلع هذا الفصل في نفوس الأفراد والجماعات، قبل أن نفكّر في موضوع التشريع الإسلامي الذي ينظّم الحياة“.

كما يقول، في مطلع هذا الفصل:

إن الأمر المستيقن في هذا الدين؛ أنه لا يمكن أن يقوم في الضمير “عقيدة”، ولا في واقع الحياة “دينًا”، إلا أن يشهد الناس أن لا إله إلا الله؛ أي لا “حاكمية” إلا لله … كذلك هو لا يمكن أن يقوم في واقع الحياة “دينًا” إلا أن تتمثل العقيدة في نظام واقعي للحياة هو “الدين”. فتنفرد فيه شريعة الله بالهيمنة على حياة الناس جملة وتفصيلًا….

انظر: شريف يونس، “سيد قطب والأصولية الإسلامية”، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2014، ص: 410، والتشديد من المؤلف.

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete