تكوين
هناك صنفٌ من الناس يستمدّون من الحقّ ويمدّون الخلق ولكن بلطف ولين ورحمة، هذا الصنف من الناس يُعدّ في طبقة الأولياء، وقد أشار ابن عربيّ إلى استفادته من بعضهم، كما ورد في الفتوحات المكّية وروح القدس والدرّة الفاخرة. ما جذب ابن عربيّ إلى هؤلاء لم يكن نبوغهم ولا كثرة تآليفهم ولا موهبتهم الشعريّة، بل طيبة قلوبهم! فليس شرطًا أن تكون موسوعيًّا في المعرفة حتّى تتمكّن من إفادة الخلق، وإن بدت لك فكرة أردت إيصالها لغيرك فما أجمل التواضع واللطف والبساطة، إن تحلّيت بهذه الخصال وجد كلامك طريقه إلى قلوب الخلائق.
كثيرةٌ هي الكتابات العربيّة التي تظهر على الساحة الثقافيّة متناولة الأندلس ومعارف المسلمين في الماضي البعيد بالدرس والمناقشة. وغالبًا ما يكون ذلك بلغة مشحونة بالعاطفة. يكتب كثيرون من مصر والعراق ولبنان وسورية وغيرها من بلداننا العربية عن الفردوس المفقود. بل إنّ بعضهم يؤجّج مشاعر القراء بذكر بعض القصائد التي يبكي فيها حال الأندلس، فإسبانيا التي نراها اليوم يعود الفضل للمسلمين في كلّ جميل وصلت إليها، ولعلّنا نعود يومًا إلى قطعة من أرض الإسلام قصّرنا في حقّها فنعيد أمجاد الإسلام!
هذا المنطلق العاطفي لا يغيب عن بال أكثر (المتحدّثين) في (أوراقهم العلميّة)! ورسائلهم الجامعيّة عن الأدب والإنسانيّات في الأندلس. لم تكن هذه الصورة من العاطفة المدّعاة اليوم تواجهنا في الكتابات العلميّة الرصينة التي وصلتنا من أساتذة الجيل السابق، من أمثال إحسان عبّاس، وعبد العزيز الأهوانيّ، والطاهر مكّي، وعبد العزيز بنعبد الله، ومحمّد بنشريفة، ومحمود مكّي، وحسين مؤنس، وغيرهم من أعلام الدراسات الإسبانيّة. بل إنّ ما وصلنا من هؤلاء إلى جانب بحوثهم العلميّة الرصينة التواضع والإيمان بالبحث المستمر، والتعاون مع الباحثين شرقًا وغربًا.
التصوف في المشرق
يفاجئ القارئ المتعطّش إلى درك المعارف الصوفيّة هذا الكمّ الهائل من التراث العربيّ المنشور الذي طُبع في بغداد ومصر ولبنان وسورية، إنّ شخصية صوفيّة واحدة كالحلّاج أو ابن عربيّ أو ابن الفارض أُلّف عنها عشرات الكتب، فليس صعبًا أن نميّز بين الأصيل والدخيل والمحقّق والشائع، لكنّنا نجابه صعوبات عدّة عندما نودّ التعرّف على التصوّف في الأندلس. ذلك أنّ المراجع الشائعة على كثرتها لا تقفنا على أرض صلبة نستطيع من خلالها سبر غور أمور التصوّف، فبدايات التصوّف في الأندلس لم تتناولها الدراسات المشرقيّة بنفس القدر الذي تناولت به الدرس الصوفيّ العربيّ، وأضحى من النادر أن نجد في المكتبة المشرقيّة دراسات تهتم بالتصوّف الأندلسيّ وأعلامه، اللهم إلّا كتابات نادرة صدرت قبل نهاية القرن الفائت. ومن ذلك كتاب الدكتور محمد بركات البيليّ الذي صدر عن دار النهضة العربيّة عام 1993 بعنوان الزهّاد والمتصوّفة في بلاد المغرب والأندلس حتّى القرن الخامس الهجريّ، وأتبعه فيما بعد 1995 بدراسة عن المتصوّف ابن مسرّة ونزعته المسريّة في الأندلس. ذكر في مقدّمتها مراجعة الدكتور محمود مكّي للدراسة وأنّه بفضل الأخير تمكّن أن يصدر هذا الدارسة في صورة مرضية.
وعند مطالعتنا لكتاب البيليّ الزهاد والمتصوّفة يمكننا أن نعتبره تطويرًا لبحث كان قد نشره محمود مكّي في مجلّة دعوة الحقّ المغربية عام 1962 في عددين متتابعين تحت عنوان: التصوّف الأندلسيّ مبادئه وأصوله، ثمّ عاد فوسّعه ونشره باللغة الإسبانيّة عام 1968. وأثبت مكّي في بحثه عن أصول الحركة الصوفيّة في الأندلس أنّ أصول التصوّف ومبادئه لم تكن مضطرة لاستعارة أفكارها من مصادر خارج الإسلام، مؤكّدًا على أوجه الشبه المشتركة بين التصوّف الأندلسيّ والمصريّ، ومركّزًا بصفة خاصّة على أثر ذي النون المصريّ في متصوّفة الأندلس.
الأهوانيّ ومكّيّ
كان مكّي من أعلام الدراسات الإسبانيّة، فقد خلف أستاذه عبد العزيز الأهوانيّ، الذي حمل همّ العرب وآمن بـ”الوطن العربيّ” وأشرقت شمس معارفه شرقًا وغربًا. وما عرف تلامذة الأهوانيّ قطيعة مع الشرق أو الغرب، وما توقّف عطاؤهم لحظة من بعده، لذا لا يدهشنا أن تنعيه كلّ البلدان وتحزن على فقده. ومن بدهيّات الوفاء أن يخصّص له تلميذه الوفي محمود مكّي، دراسة تفصيلية تتناول جهوده في دراسة الآداب العربيّة بعنوان “عبد العزيز الأهوانيّ والتراث“. نشرتها مجلة فصول المصريّة. كما نعاه في مقال آخر نشرته مجلة الهلال.
إن عملًا واحدًا من الأعمال التي اضطلع بها الأهوانيّ عن الأندلسيّات كفيل بأن يعرف العرب له فضله، فمن يطالع مجلة المعهد المصريّ للدراسات الإسلاميّة في مدريد، وبصورة خاصّة أعدادها الأولى التي أشرف عليها الأهوانيّ، سيدرك جزءًا من البناء الذي غرس بذرته الأهوانيّ، وظهرت ثماره على يد محمود مكّي، وسليمان العطّار، الذي أشرف على ثلاثة أعداد من هذه المجلة ليعيد إليها صبغتها الأولى فاستكتب العلماء والباحثين من الشرق والغرب للحديث عن غرناطة وطليطلة وقرطبة.
حاول مكّي في بحثه عن التصوّف في الأندلس أنْ يصوّب بعض الأفكار التي طرحها آسين بلاسيوس في بحوثه عن أصول التصوّف الأندلسيّ، ففي أغلب بحوث بلاسيوس عن التصوّف انتشرت فكرة مفادها (أنّ الإسلام دينٌ جاف وبارد لم ينتج من داخله أيّ حركة صوفية، والزهّاد الأوائل في الأندلس ما هم إلاّ مقلّدون لحياة الرهبان في الشرق). وراح بلاسيوس يثبت من خلال أبحاثه عن تصوّف الغزاليّ، وابن مسرة، وابن عربيّ الأثر المسيحيّ الذي شكّل تجربة هؤلاء المتصوفة. إلّا أنّ هذا المسلك منه لم يكن بصارف للدراسين (العرب والمسلمين) عن الاستفادة من أعماله وترجمتها والعناية بها، بل والاعتماد عليها في دراساتهم عن أعلام التصوّف وإثبات الأثر الإسلاميّ في الفكر الأوروبيّ، كما فعل عبد الرحمن بدوي. وقد اعتذر غير واحد لبلاسيوس عن بعض أحكامه المتعسّفة تجاه التصوّف الإسلاميّ. فإلى غيرنا (نحن العرب والمسلمين) كان يكتب بلاسيوس، كما شرح ذلك الطّاهر علي مكّي في دراساته الثريّة عن الأدب الأندلسيّ، وكذلك فعلت الباحثة الفرنسيّة كلود عدّاس عند تناولها لآراء بلاسيوس في معرض مناقشتها لما كتبه بلاسيوس عن ابن عربيّ.
سليمان العطّار
كان العطّار تلميذًا نجيبًا وبارًّا بأساتذته المصريّين ومتأسّيًا بأخلاقهم في تعليم طلابه والاهتمام بمستقبلهم العلميّ والحياتيّ، سواء كانوا من مصر أو من سائر الأقطار العربيّة والغربية، فقد كان من أهل التصوّف والتخلّق الندرة.
عند تقديمه لكتاب المكافأة لابن الداية المصريّ، لفت سليمان العطّار نظرنا إلى ما كان بين المشتغلين بصناعة الأدب من توادٍّ وتراحم وتقدير بنّاء، فالكاتب يهدي عمله لمن هو له كفؤا من شيوخ الأدب والمحققين، ويشير إلى أنّ ذلك الجو العلميّ هو ما كان سائدًا في مصر وما حولها من بلدان تدور في فلكها الثقافيّ في النصف الأول من القرن العشرين. ومن خلال متابعة العطّار لنشرات عديدة للكتاب المشار إليه لاحظ انفصال الأجيال وتنافر المعاصرين، وهو الأمر الذي لم يكن موجودًا في أوائل القرن الفائت. واعتبر العطّار أنّ هذا المؤشر بداية متواضعة لضرب قيمة تراكم المعرفة، الأمر الذي سينمو ويترعرع بفضل سوق نشر الكتب.
إنّ مطالعتنا لأي عمل من أعمال العطّار تقفنا على نموذج مختلف من التناول العلميّ، لم يعد ذائعًا اليوم في كتاباتنا العربيّة، والنموذج الذي نقصده هو التأصيل والإبداع. فأغلب الدراسات في فروع الآداب لا تعدو أن تكون تكرارا لمعالجات سابقة أو نشرًا لأفكار سبق طرحها ولم تعد ذائعة لدى الدارسين بحكم الكسل المعرفي.
كان العطّار تلميذًا لأساتذة كبار أحسن الاستفادة من دروسهم بالفعل. وسواء كان العمل الذي يقوم به قراءة لكتاب أو تعليق على حادثة أو تحقيق لنصّ أو ترجمة لعمل أدبيّ فإنّك واجدٌ بصمته الشخصية وإبداعه البنّاء منذ لحظة المطالعة الأولى. فإن كان قد اهتم بالخيال بمفهومه الأدبيّ وعالجه في أكثر من دراسة، إلّا أنّ ذلك لم يكن بمعزل عن بقية فروع الدراسات العربيّة من تصوّف أو تاريخ أو علم اجتماع.
للخيال عند ابن عربيّ دورٌ مركزيّ في مؤلّفاته. حاول العطّار تسليط الضوء عليه وإظهاره لقرّائه. لأنّ ابن عربيّ لم يكن صوفيًا حالمًا. بل حاول أن يفتح لنا أفقًا ينبغي عبوره، أفق الإبداع والاختراع في عصرنا الحالي الذي صرنا فيه إحيائيّين لسادة من “أكداس غبار ماضينا” و”ماضي الغرب”. يخرج السادة آمرين بسلطتهم الماضية، فنتبعهم دون مقاومة، بل بكلّ الرضا والاستسلام. وعليه فالإحياء الذي يراه العطّار ينبغي أن يقوم على الانتقاء، وكلّ ما ينبغي أن نصنع منه أرضًا نسير عليها نحو سماء نصنعها نحن، أي يجب أن نمتلك ما نحييه، وينبغي أن يكون نقطة بداية نحو الانطلاق إلى آفاق الإبداع.
العشق الصوفي ورحلة البحث عن المعنى
حاول العطّار التأسّي بأساتذته المصريّين عند تولّيه إدارة العمل البحثي لمجلة المعهد المصريّ في مدريد، مدينًا لهم بالوفاء. ففي ترجمته لكتاب حضارة الإسلام في إسبانيا لأميريكو كاسترو نراه يقول: “إنّ فضل أستاذي الجليل عبد العزيز الأهوانيّ في خدمة الحضارة العربيّة وكشفها مسؤول عن هذا العمل، كما أنّ عون أستاذي الكريم محمود مكّيّ كان ضروريًّا لإنارتي فيما غمض عليّ، أخيرًا فللزملاء الأفاضل صلاح فضل وجابر عصفور من الأيادي عليّ ما لا يستطيع هذا العمل إلاّ تسجيله لهما”.
شرع العطّار في ترجمة وتقديم هذا العمل بعد أن سلّمه الأهوانيّ الكتاب ومعه كتبٌ أخرى لعرض وجهة نظر أميريكو كاسترو وكلّ ما أثير من نقاش حول آرائه ما بين مؤيّد ومعارض، وقد عزم في بداية الأمر على كتابة مقال بحثي فحسب عن موضوعة الكتاب إلّا أنه بعد المضي قدمًا في العمل رأى ضرورة ترجمته ومناقشة ما جاء فيه من آراء وتقريب مادته إلى القارئ العربيّ، وكان في كلّ هذا مستفيدًا من دروس أستاذه.
كتاب مئة عام العزلة
ولعل أشهر كتاب كُرّم العطّار لنقله إلى اللغة العربيّة وقُرن اسمه به: مائة عام العزلة لجابرييل غارثيا ماركيز، إلّا أنّ العمل الذي طُبعت حياته وفلسفته به هو كتاب الشريف العبقري دون كيخوته دي لامانشا الشهير بين العرب باسم “دون كيشوت” لميجيل دى ثربانتس سابيدرا الذي ترجمه العطّار وأهداه إلى روح أستاذه: “إلى روح عبد العزيز الأهواني معلّمي وأبي الروحيّ، والمترجم الأوّل لهذا العمل، وإن لم ينشر إلّا نصف قسمه الأول رغم ترجمة العمل كاملًا. الجهل لدى الناشر دفعه إلى تمزيق بقية العمل ورفض نشره في ظلّ تعديلات من الرقيب”!
ليس إهداءً فحسب بل تعبيرًا عن الألم ومشاطرة لأستاذه حزنه وفقده: “بعد ترجمتي العمل كاملًا، أعرف أنّك تمزّق قطعة من نفسك حين مزّقتَ ما ترجمت. أليس هذا التمزيق فعلًا من أفعال التأثّر بدون كيخوته، حين مزّق كلّ فروسيته، وعاد إلى اسمه القديم كيخانا”؟ ويستأذن العطّار أستاذه، رغبة في لملمة ما مزّقه يومًا أن يُصدّر ترجمته الجديدة للعمل بترجمة الأهواني لمقدّمة المؤلف، وبنشره لترجمة الأهواني للفصل الرابع عشر كاملًا ضمن ترجمته، واصفًا ترجمته بالاجتهاد، ومريدًا من ذلك أن يقدّم شيئًا من شاعرية الأهوانيّ في ترجمة القصيدة التي تتصدّر الفصل في شعر منثور.
ما فعله العطّار لم يكن تعبيرًا عن حبّه لأستاذه وتقديره له فحسب، رائدًا ومنشئًا لدراسة الأندلسيّات والإسبانيّات بين العرب والإسبان، ومرشدًا روحيًّا له. بل كان تخلّقًا ودرسًا لتلاميذه من بعده حتّى لا يقعوا فيما وقع فيه غيرهم من انفصال الأجيال وتنافر المعاصرين.
عودة إلى آسين بلاسيوس
ظلّت أعمال بلاسيوس عن التصوّف الأندلسيّ هي الموجّهة لأفكار الدارسين للتصوّف في المشرق، رغم أنّ جزءًا من الإنتاج المنشور في الدوريّات العربية كان قد قدّم نقدًا علميًّا لها، لكنّه لم يلق ذيوعًا بين الباحثين في هذا المجال، حتى صدر عمل الدكتور محمد كمال جعفر عن ابن مسرة الأندلسي، والذي حقّق فيه رسالتين لابن مسرة، جذبت أنظار الباحثين في إسبانيا والمغرب، فترجمت نشرته لأعمال ابن مسرّة إلى الإسبانية، وتمّت الاستفادة من تحليلاته ودراساته، نظرًا لأهمية دراسات جعفر والتي ردّ فيها فلسفة ابن مسرّة إلى منابتها الأولى.
وقد أحسن غير واحد من المهتمين في المغرب والأندلس وفرنسا وأمريكا بتطوير أفكارهم عن ابن مسرة تبعًا لنشرة جعفر لرسالتي ابن مسرّة، نذكر منهم على سبيل المثال: عبد الواحد العسري، ومانويلا مارين، ودومينيك إيرفوا، وكلود عدّاس، وآخرهم سارة سترومسا في مقالها: ابن مَسَرَّة وكتابه الثالث (توحيد الموقنين) المنشور في “دليل أكسفورد للفلسفة الإسلاميَّة” 2017 وكتابها الفلسفة الإسلامية واليهودية في الأندلس الصادر في برينستون 2019 والتي تناولت فيه بالدرس والتحليل متصوّفة الأندلس.
استطاع المغاربة بالتواصل مع الإسبان بحثًا ومناقشة وترجمة لأعمالهم أنْ يطوّروا الكثير من الدراسات العربيّة حول الإسبّانيات سواء ما اتصل بالتاريخ أو بالأدب أو بالتصوّف أو بإحياء التراث، ورغم ما تتسم به حركة التأليف من شتات وتفرّق فكلّ باحث يعمل في حقل معرفي على استقلال ثم يغادره أحيانًا إلى اهتمام آخر، إلا أنّهم لم يقطعوا مع الدراسات السابقة، كما هو الحال عند بعض الباحثين من المشارقة، وتظهر أعمالهم جدّة وأصالة ، ونضرب على ذلك مثالًا فيما يتّصل بموضوع التصوّف بعمل الراحل محمد إبراهيم ألوزاد: نشأة الفكر الفلسفي في الأندلس: تمهيد لدراسة العقلية الإسلامية في المغرب، ودراسته عن حضور مذهب ابن مسرة في الأندلس خلال القرن الرابع الهجريّ. ودراسته: الملامح العامّة لشخصية ابن مسرّة ورائه، وعمل الدكتور عبد السلام غرميني المدارس الصوفية المغربية والأندلسية في القرن السادس الهجري، الصادر عام 2000، والذي خصّ فيه ابن مسرّة ومدرسته ببحث لا يقلّ أصالة عن سابقيه.
إقرأ أيضاً: سير السالكات في التراث الصوفيّ الإسلاميّ
إنّ تناول الباحثين في مشرقنا اليوم مختلف عن تعامل الجيل الأوّل وبحكم الجغرافيا بعيد الصلة عن الأندلسيّات وما تطوّر فيها من بحوث! وينهض مثالاً على ذلك دراسة أنجزها أحد الباحثين عن ابن مسرّة، يوحي عنوانها بتناول الباحث ما آلت إليه الدراسات الحديثة في تناولها لفكر المتصوّف الأندلسّي، إلّا أنّه لم يفعل ذلك وراح يكرر الجهد الذي سبقه إليه غير واحد من الباحثين المصريين. كما أنّه لم يطالع البحوث العربيّة التي تناولت ابن مسرة الصادرة في المغرب أو مصر أو لبنان!
التصوف الأندلسي
إن عملاً واحدًا من هذه البحوث كان كافيًا لأن يجعل لبحثنا المشرقيّ صورة أخرى غير التي آل إليها، ونحيل في هذه العجالة على بحثين، أوّلهما: بحث كلود عداس عن التصوّف الأندلسي وبروز ابن عربي، وثانيهما: بحث عبد الواحد العسريّ الذي قدّم نقدًا علميًّا لدراسة محمّد كمال جعفر، ونقتبس من كلامه الفقرة التالية: “لقد تبلورت دراسة كمال جعفر لابن مسرّة، إلى جانب نزعتها الفيلولوجية، داخل رؤية للتاريخ، ولتاريخ الأفكار ينتظمها هاجس رصد الوحدة والاستمرارية: وحدة الفكر الإسلاميّ المرقي واستمراريته في الفكر الإسلاميّ الأندلسيّ. فهذه النظرة التجزيئية والتعاقبية في آنٍ واحد لتاريخ الأفكار تؤدّي بالضرورة إلى طمس الخصوصية، خصوصية ابن مسرّة في حالتنا، وإلى العودة بموضوع دراستها إلى تاريخ كلّيٍّ واحد وشامل؛ يسنده نظريًّا ومنهجيًّا، مفهوم التقدّم الذي يعبر عليه كذلك عادة بالتطوّر”.
إنّ التصوّف في الأندلس لم يكن يومًا نزوعًا سلبيًّا يقوم على اعتزال الناس واجتنابهم وعدم الاكتراث بأمورهم، ولكنّه كان إيجابيًّا نشطًا وفعّالًا في المجتمع الأندلسيّ، فقد اهتم الصوفيّة من خلال التزامهم بالتصوّف كأسلوب في السلوك والأخلاق بشؤون مجتمعهم، وساهموا في حركته الحياتيّة، كما اهتمّوا بحياة الناس وأحوالهم، فكانوا يعلّمون أهل الأندلس أمور دينهم ويدافعون عنهم ويتصدّون لمظالم الحكّام، ويشجبون في غير لينٍ وهوادة الظلم والاضطهاد الذي مارسه أولئك الذين تولّوا الوظائف الرسميّة، ومما رصدته مانويلا مرين في دراستها عن الزهاد الأوائل في الأندلس رفضهم تولّي الوظائف العمومية مثل القضاء، وتجنّبهم الاتصال بأولئك الذين يمثّلون السلطة السياسية، بل في كثير من الأحيان حينما تبعث السلطة بممثل لها إلى باب الزاهد أو المتصوف يتركهم ينتظرون ويعاملهم معاملة غيرهم من العوام، كما نجد ذلك لاحقًا في أدبيات مولانا جلال الدين الروميّ وبصورة خاصّة كتابيه: فيه ما فيه، ورسائله السياسية.
التفت الدارسون في إسبانيا حديثًا، والمملكة المغربية ولبنان إلى نقاط مضيئة في التصوّف الأندلسيّ، فوجدنا اهتمامًا بثورة الصوفيّة وموقفهم من السلطة، كما فعل إبراهيم القادريّ بوتشيش، واللقاء بين المتصوفة والفقهاء وأهل الحديث، لذا لم يكن غريبًا أن تتوجّه أنظار الكثيرين لهذا الجانب الروحيّ في الأندلس بعد دراسات الأب بول نويا –الذي كان معروفًا عند الجيل الأوّل من الباحثين المغاربة- عن ابن العريف وابن برجّان، ودراسة جورج كتّوره عن التصوّف والسلطة والمجتمع في الأندلس. لكن يقتضي الأمر منّا اليوم أن نكون أكثر صبرًا وتمهّلاً في دراسة التصوّف في هذه البقعة المباركة، فضلاً عن إصدار الأحكام في شأنه!