تكوين
لَكَم يحتاج الكاتب إلى جرأةٍ وإلى فصلٍ -ولو كان مؤقَّتًا- بين النظرية والفعل، ليقارب مسألة الحضارة في أيّ وجهٍ من وجوهها، وهو يعايش همجية الحروب التي تخطف وجوهًا وقلوبًا ونفوسًا… فتمتزج في دائرة الاحتضار جثث لن يبقى منها سوى ذكريات وحفنة من تراب!
وعلى رغم هذا الواقع المُنعقد على عبثيةٍ متجرِّدة من أيِّ منطق ما خلا منطق مصالح الدول الكبرى، فقد تَقصَّدتُ أن أطرح موضوعًا خاصًا بالحضارة، وتحديدًا لدى مفكّرٍ غُلِّفَت حياته كُلُّها بنفحات قلقٍ ويأس، منذ طفولته وحتى وفاته مريضًا، غير أنها لم تُثنه عن طرح منهجه ونظرياته ومعتقداته التي يعود إليها كثير من مفكّري اليوم، هو جيامباتيستا فيكو!
أولاً: جيامباتيستا فيكو Giambattista Vico (1668-1744) لمحة موجزة عن حياته
فيلسوف ومؤرّخ إيطالي، وُلِدَ في مدينة نابولي وعانى مشكلاتٍ صحّيةٍ منذ طفولته*، التحق بمدرسة الآباء اليسوعيين “وفيها دَرَسَ اللغات القديمة، وبخاصَّة اللاتينية وبعض اليونانية، كما درس الآداب والبلاغة والفلسفة والمنطق واللاهوت والتشريع، وبخاصَّة التشريع الروماني، إضافةً إلى ما حصَّله من فترات اعتكافِه في مكتبة والده”1. عام 1685 بدأ بإعطاء دروس خصوصية، عانى الفقر والأزمات المادية وعام 1697 عُيِّنَ أستاذًا للبيان في جامعة نابولي، ووُصِفَت شَخصيّته بالمثابرة والعِنِاد في وجه ما واجهه من إحباطٍ في أثناء حياته.
تأثَّر بالحضارة المصرية** وبالكتاب المقدّس (العهد القديم) وبأفكار شيشرون وأفلاطون وأرسطو في تنظيم المجتمع البشري، ومال نحو المُثُل الأفلاطونية مُنتقدًا ميتافيزيقيا أرسطو. من مؤلَّفاته: “انفعالات يائس”، “الكتاب الميتافيزيقي”، ” الحكمة الايطالية القديمة”، ” في توازن الجسم الحيّ”، “القانون الكلّي”، “العلم الجديد”… (ويُرجَّح أنه استوحى كتابه “العلم الجديد” La science nouvelle من كتاب الفيلسوف الإنكليزي فرنسيس بيكون “الأورجانون الجديد” Le nouvel organon، أو من عنوان كتاب عالِم الفلك والفيزياء الإيطالي جاليليو جاليلي Galileo Galilei “محاورات عن العلوم الجديدة”.
ثانيًا: منهجه الفلسفي في التاريخ
انطلق فيكو في منهجه الفلسفي في دراسة التاريخ من خلفيَّته الثقافية المُتمثِّلة بإلمامه بعلم اللغة وبالأساليب البلاغية المختلفة، فقد رأى أنَّ دراسة فقه اللغة هي الوسيلة الفضلى للتعرِّف على طرق تفكير الشعوب وأساليب حياتهم، وأنَّ العلوم الإنسانية هي الطريق الاساسي لتفسير أحداث التاريخ. وفي كتابه “مبادئ علم جديد في الطبيعة المشتركة للأمم”، والذي كان في الأصل فصلًا من كتابه “القانون العالمي” (عام 1723)، تبلورت فلسفة التاريخ في تَفَكِّرِه واتَّضحت معالمها، في أواخر عام 1724 وبعد إكماله الجزء الأكبر من كتابه، فقد عنونه “العالم الجديد في صورته السلبية”***، فقد تَوجَّه بانتقاداته للرواقيين الذين ربطوا أنفسهم بأغلال القدرية، والأبيقوريين الذين ادَّعوا أنَّ روح الإنسان تفنى مع موت الجسد، وللفيلسوف الإنكليزي هوبز Thomas Hobbes ، أحد مؤسِّسي الفلسفة السياسة الحديثة، والذي امتاز بالمادية الصرفة، وللفيلسوف وعالِم اللاهوت الهولندي غروتيوس Hugo Grotius الذي كان يرى أنَّ أصل الدولة والقانون دنيوي وليس إلهيًا، وكان من أنصار فكرة القانون الطبيعي والعقد الاجتماعي.
وفي الواقع أنَّ فيكو بنى نقده عن فلاسفة السياسة بوصفهم أنهم فسَّروا التاريخ في رأيه تِبعًا لأهدافهم ومصالحهم، وأنهم تَقَصَّدوا من طريق دراساتهم الخروج بنظرياتٍ تتعلَّقُ بحاضرهم، فأتت رؤيتهم عن المجتمع لتجزم أنه مجتمعٌ ثابتٌ لا يتغيَّرُ من عصرٍ إلى آخر، وهذا ما رفضه فيكو الذي دعا في هذا الاطار إلى استخدام المنهج التكويني التاريخي، بدلًا من المنهج التركيبي الفلسفي في تتبُّع تطوُّر الجماعات، إضافةً إلى أنه دعا المؤرِّخين إلى أن يُولوا اهتمامًا كبيرًا بالحقائق التجريبية للتاريخ، وأن يكونوا على درايةٍ متأنّية بالأفكار والأفراد والأحداث التاريخية التي تُصيبها التغيُّرات، كما أنه ميَّز بين التاريخ المقدَّس من جهة بوصفه تاريخ اليهود والمسيحيين، والتاريخ الدنيوي من جهةٍ أخرى وهو تاريخ سائر الأمم وفق اعتقاده.
ثالثاً: نظريته في التعاقب الدوري للحضارات
-
معنى التعاقب الدوري
تقوم نظرية “التعاقب الدوري” على افتراض أنّ للحضارات أعمارًا محدّدة تمامًا كما لدى الكائنات الحيّة (طفولة وشباب وهرم وشيخوخة فموت)، وقد ارتكز فيكو في إطلاق هذه النظرية على ثلاث نقاط أساسية:
- صحيح أنَّ كلَّ عصرٍ يمتاز بطابعه الخاص إلِّا أنَّ خصائص عدَّة مشتركة تجمع بين العصور التاريخية المختلفة، فعلى سبيل المثال يُمكن تشبيه مرحلة هوميروس Homère في التاريخ الإغريقي القديم بمرحلة العصور الوسطى الموسومة بالبطولات والملاحم. (وتَجدرُ الإشارة هنا إلى أنَّ فيكو كان شديد التأثُّر بأشعار هوميروس، مُميّزًا بين “الإلياذة” التي وضعها في فترة شبابه، و”الأوديسة” التي خَطَّها في فترة نضجه).
- كلُّ مرحلةٍ تاريخية تتبع مرحلةً أخرى على الخطِّ نفسه، فعصر البطولة يعقبه عصر تسود فيه مَلَكَةُ الفكر على النزوع نحو التخيُّل ويقوى فيه النثر على الشعر وتُستبدل أخلاق الحرب بأخلاق السلم.
- هناك حركة دائرية مؤكِّدة بين الأدوار، وفي كلِّ دورةٍ ارتفاع عن مستوى الدورة السابقة، وهذا يناقض وينفي فكرة أنَّ التاريخ يُعيد نفسه على النمط ذاته، لا، بل هو في تَجدُّدٍ دائم ويأتي حكمًا بصورٍ جديدة.
-
الدورة الحضارية في فكر فيكو
رأى فيكو أنّ للحضارات أدوارًا كأدوار الليل والنهار والفصول الأربعة وسائر ظواهر الكون، وشَبَّه التاريخ من هذا المنطلق بدورة القمر الذي يبدأ هلالًا ويُكمل بَدرًا تامًّا، إلى أن يختفي شيئًا فشيئًا حتى الخسوف الكامل، ثم يعود فيظهر الهلال الجديد، إذًا كلُّ بدايةٍ تعقبها نهاية وكلُّ نهايةٍ يعقبها تكرار للبداية الأولى، ويسير التاريخ في صيرورةٍ دائرية تخضع لها الحضارات: بداية فنموّ فنهاية!
-
المرحلة الأولى: عصر الآلهة L’âge des dieux
في هذا العصر تخضع القوانين لمشيئة الآلهة، وذلك من طريق الكهنة، ويسيطر على حياة الشعوب البدائية وعلى ذهنيِّاتهم كمٌّ من الخرافات المصحوبة بخوفٍ من الظواهر الطبيعية وبإيمانٍ مطلق بقدرات الآلهة الفائقة الطبيعة، وتكون طباع الناس فَظَّةً ووحشيًّةً، ويكون تفكيرهم خاليًا من أيّ منطق وغارقًا في عوالم الوهم والسحر وانعدام الوعي، ويكون الحكم تيوقراطيًا استبداديًا يستند إلى نظريةٍ دينية (وثنية أو سماوية)، ويسيطر فيه الكهنة على المجتمع بأكمله.
-
المرحلة الثانية: عصر الأبطال L’âge des héros
هي فترة تنتقل فيها السلطة من رجال الدين والكهنوت إلى رجال الحرب والسياسة، ويقوم نظام أرستقراطي حيث الحكم للأغنياء والاحتقار للخدم والعبيد والتحكّم بالفئات الشعبية، وهذا العصر هو نتيجة حتمية لحالة الخوف والطغيان التي عاشها الأفراد في عصر الآلهة، وتجدر الاشارة في هذا المجال إلى أنَّ الفروسية نشأت في هذه المرحلة وكذلك قامت الحروب الصليبية، ومن البديهيّ أن تميل طباع البشر هنا إلى تمجيد البطولة وسيادة القوة.
-
المرحلة الثالثة: عصر البشر L’âge des hommes
في هذه المرحلة يبدأ وعي الأفراد واعترافهم بأنهم متساوون في الحقوق والواجبات، ويحصلون على حقوقهم بوصفهم مواطنين يمتلكون الحرّية، فيبدأ عهد الديمقراطية بعد المَلَكية المستبدّة حيث تسود المساواة وتخفت الطبقية وتتطوّر أنماط التفكير بتغليب الاتّجاه العقلاني، كما يجري سنُّ التشريعات والقوانين لتسيير أمور الدولة، ما يؤدّي إلى ازدهارٍ روحيٍّ وفكريٍّ للحضارة، وهذه هي المرحلة الأخيرة في الدورة الحضارية في نظرية فيكو، إذ تُسيطر بعد ذلك أجواء الترف المصحوب بالفوضى والحروب.
ووفق فيكو يتضمُّن هذا العصر بذور انهياره، حيث الديمقراطية الدافعة إلى إعلان المساواة لا تلبث أن تُغري العامَّة من الناس، فيتطرَّفون في المطالبة بحقوقهم ما يؤدّي إلى صراعٍ قويٍّ بين طبقات المجتمع وإلى فتَنٍ وأزمات، إضافةً إلى فسادٍ يُؤذن بانتهاء الدورة الحضارية كلِّها، ومع بلوغ المجتمع مثل هذه الحالة يصبح متعذّرًا الإصلاح من الداخل، ويتمُّ السقوط في البربرية لتبدأ بعد ذلك دورة حضارية جديدة، مُتدرّجة من عصر الآلهة إلى عصر الأبطال إلى عصر البشر، ويُلاحظ هنا توافق فيكو مع الفكر السياسيِّ الأفلاطونيّ، فقد رفض أفلاطون الديمقراطية بوصفها تُؤدِّي إلى الفوضى، وأنّ حُكم الرجل الواحد هو العلاج الضروريُّ للخلل الديمقراطيِّ، (وطبعًا على أن يكون الحاكم فيلسوفًا والفيلسوف حاكمًا وفق ما رأى أفلاطون في كتابه “الجمهورية”).
وبعدما أطلق فيكو نظرية “التعاقب الدوري” حاول تطبيق آرائه من طريق أمثلةٍ من التاريخَين الإغريقي والروماني، فعند الإغريق لم يستمر عصر الأبطال طويلًا كما افترض، لأنَّ ظهور الفلسفة عَجَّل في الانتقال من عصر الآلهة إلى عصر البشر دون البقاء في عصر الأبطال مُدَّةً طويلة. أمَّا عند الرومان فقد طال عصر الأبطال، وعند بلوغ الناس عصر البشر كانوا قد ابتعدوا عن عصر الآلهة، وما لبثوا أن عادوا في العصور الوسطى إلى بربريةٍ شبيهةٍ بالبربرية الأولى، فاجتازوا عصرًا إلهيًا جديدًا حيث تولَّى الملوك المناصب الدينية، ثمّ اجتازوا عصرًا بطوليًا حيث قامت الحروب الصليبية. أمّا العصر الثالث، فكان العصر الذي عاش فيه فيكو، أي القرن الثامن عشر، عصر الاحتكام إلى العلم والعقلانية في الفكر الأوروبي.
رابعًا: الدين والعناية الالهية
رأى فيكو أنَّ الأمَّة في حاجةٍ إلى الدين كي ترقى إلى مستوى الحياة العادلة، ومن هذا المنطلق فقد أولى اهتمامًا خاصًا للطقوس الاجتماعية مثل طقوس الزواج ومراسم دفن الأموات، ورأى أنّ هناك مظاهر متأصِّلة في الحضارات جميعها، ومن أبرزها نظرة الشعوب إلى البطل وتقييم دوره في صُنع التاريخ، وذكر في هذا السياق مثل المصريين القدامى الذين كانوا يرون مَلكهم إلهًا، وكذلك كانت الحال كما قال في الحضارات الشرقية القديمة (الهندية والفارسية والبابلية)، وفي الحضارة الإغريقية القديمة.
إلى ذلك تَركَّز اهتمام فيكو في مفهوم “العناية الالهية”، كلمة “الالهي” (Divin) تُشتَقُّ من الفعل اللاتيني (Divinari) الذي يعني التنبُّؤ وكشف أو اكتشاف الأشياء الخفيّة، سواء تعلَّق الأمر بالإنسان أو بالشئون الطبيعية أو التاريخية، وفي اعتقاد فيكو أنَّ العناية الالهية هي التي جعلت مسار التاريخ على النحو الذي هو عليه، وهي التي دعمت العقيدة المسيحية بفضل تعاليم الكنيسة وشهداء المسيحية ومعجزات القدِّيسين، وأنَّ مشيئة الإرادة الإلهية هي التي أدَّت إلى ظهور أممٍ حاربت الديانة المسيحية ورفضت ألوهية المسيح، فردّت المسيحية بمحاولاتٍ حثيثة بهدف تثبيت العقيدة المسيحية بعمقها وأبعادها في نفوس المؤمنين، الأمر الذي أدَّى بدوره إلى قيام العصر الأول، أي عصر الآلهة مُمَثَّلًا في البابوات، كذلك كان تَدخُّل العناية الالهية في المجال السياسيّ فكان التشارك بين السلطة المدنية والحكومات الشعبية.
وفي “العلم الجديد”، درس فيكو الطبيعة المشتركة للأمم في ضوء مفهوم “العناية الالهية”، وتَقَصَّدَ أن يكشف عن أصول التنظيمات الدينية وغير الدينية بين الأمم والمجتمعات، ليتبيَّن له أنَّ جميع الشعوب قد مرَّت كلًّا بمفرده، بتاريخٍ مثاليٍّ أبديٍّ في أثناء مراحل نشأتها ونموّها وتطوّرها ونضوجها، وصولًا إلى انهيارها وسقوطها.
بذل فيكو إذًا قُصارى جُهده ليعلن ولاءه للكنيسة لافتراضه أنه يستحقُّ ثناءها لأنه فسَّر مبادئ القانون بطريقةٍ تتَّفق واللاهوت الكاثوليكي، وجمع بين الدين والفضيلة ذاهبًا إلى رؤية الدين القوة التي تدفع البشر إلى القيام بالأعمال الفاضلة.
خامسًا: بين فيكو وابن خلدون
تموضعت فلسفة فيكو في مؤلَّفه “العلم الجديد” في إطار بحث التاريخَين الإغريقي والروماني، فيما اتَّخذ ابن خلدون في كتابه “المقدِّمة” من تاريخ العرب والمسلمين مرتكزًا على أفكاره.
وفي حين شدَّد فيكو على ثنائية الدين والاجتماع، إذ لولا الدين لما وُجد اجتماع على الاطلاق، فقد أعطى ابن خلدون في القرن الرابع عشر وفي حديثه عن كيفية نشوء الدول الدور الأول لمفهوم العصبية، ورأى أنها الدعامة الأساسية للحكم، فالمُلك هو التغلُّب والحكم بالقهر ولا يكون إلَّا بالعصبية، بل إنَّ غاية العصبية هي المُلك، “وذلك لأننا قدَّمنا أنَّ الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كلّ اجتماعٍ إلى وازعٍ وحاكم يزع بعضهم عن بعض، فلا بدَّ أن يكون التغلُّب هو المُّلك… والمُّلك هو التغلّب والحكم بالقهر، لا يتركه لأنه مطلوب للنفس، ولا يتمُّ اقتدارها عليه إلَّا بالعصبية…”2 ، صحيح أنه ذكر ما للدين من أثرٍ في نشوء الدول واتِّساع رقعتها، إذ هو يؤلِّف القلوب ويُزيل الخلاف، إلا أنه لم يجعل للدين أثرًا سماويًا في نشوء الدول، بل جعله عاملًا نفسيًا طبيعيًا يقوِّي لُحمة العصبية ويساعد في تكاثرها وقوَّتها.
إلى ذلك تتغلغل فكرة الله في أبحاث فيكو وكتاباته، وكأنه كان يلتجئ إليها في كلِّ خطوةٍ يخطوها تفكيره، لدرجة يُخيَّل للقارئ أنَّ الأفكار والمعاني قد تفقد تسلسلها بعيدًا عن هذا المعنى الإيماني، بينما كان ابن خلدون غالبًا ما يذكر الله وقدرته في نهاية أبحاثه… فلو حُذفَت لما فُقد التسلسل ولا تبدَّلت المعاني.
وفيما كان فيكو بعيدًا عن اعتماد المنهج الاستقرائي في بحوثه ونظرياته محاولًا كَشف سير التاريخ مستندًا إلى ما يعرفه عن طبيعة العقل البشري، فإنَّ ابن خلدون التزم الطريقة الاستقرائية ساعيًا في استقصاء الأخبار والكشف عن مغالط المؤرِّخين وعن الأوهام في الأحداث، وإلى التمييز المستمرِّ بين الصواب والخطأ.
سادسًا: بين فيكو وديكارت
في القرن الثامن عشر كانت الفلسفة الديكارتية هي المُسيطرة على الفكر الفلسفي، وفيكو الذي كانت ولادته بعد ثمانية عشر عامًا من وفاة ديكارت، اطَّلع بعمقٍ على فلسفة هذا الأخير إلى أن عارضها علنًا مُنعتقًا من تأثيرها بعد سنِّ الأربعين تقريبًا.
وقد سخر في كتابه “القانون العلمي” (العام 1721) من إهمال الفلاسفة لعلم اللغة ناصحًا إيّاهم بالتعمّق في هذا العلم العابق بالمبادئ الفلسفية، وأجرى عملية نقدٍ ذاتي قائلًا: “لقد بقيت طوال حياتي أجد السعادة في استخدام العقل أكثر من استخدام الذاكرة، وكلَّما ازددتُ معرفةً في علم اللغة، ازداد الإحساس بجهلي. في ذلك الحين كان يبدو لي أنَّ ديكارت ومالبرانش على صوابٍ في قولهما إنَّ التعمّق في دراسة اللغة يُضرُّ بالفيلسوف ولا يُلائمهُ، فيما كان على هذين الفيلسوفَين المرموقَين أن يُشجِّعا الفلاسفة على دراسة علم اللغة، وأن يبحثا في إمكان ردِّ هذا العلم لمبادئه الفلسفية”3.
إلى ذلك رأى فيكو في أفكار ديكارت ومنهجيّته خطورةً على الخيال والأحاسيس والعواطف الإنسانية، واتّهم معاصريه من أتباع ديكارت بقيادة الفكر إلى عالمٍ بارد سمَّاه ب “البربرية الفكرية”، فالإفراط في العقلانية غالبًا ما يُؤدِّي إلى فراغٍ روحيٍّ وأخلاقيٍّ، من هذا المنطلق انتقد فيكو الكوجيتو الديكارتي لأنه في رأيه ليس قادرًا على إزالة الشكِّ أو تقديم أساس للعلم. إنّ اليقين هو ما يفعله الإنسان إذًا ليس الوعي الذاتي، بل الفعل الإنساني هو مبدأ الحقيقة في علم التاريخ. وكذلك رفض إثبات وجود الله بواسطة أدلّةٍ ترتكز على معرفةٍ أوّلية سابقة على التجربة، واصفًا الذين يحاولون “أن يثبتوا وجود الله بصورةٍ قبلية، إنّما يرتكبون إثم الفضول البعيد عن الورع والتقوى…”4، ورفض قول ديكارت بأنّ مقياس الصدقيّة في المعرفة هو الفكرة الواضحة المتميّزة. فالفكرة قد تكون خاطئة، وتُصدَّق. ولهذا رأى “أنَّ ما نحتاج إليه هو قاعدة نستطيع قياسًا إليها أن نُميَّز بين ما يمكن معرفته وما لا يمكن”5.
سابعًا: أين نحن اليوم من نظرية فيكو وآرائه؟!
لسنا اليوم ضمن دائرة العصور الثلاثة المتعاقبة من الألوهة إلى البطولة إلى عصر الإنسان التي عرض لها فيكو، كما أننا لسنا كذلك داخل حتمية الأجيال الثلاثة لعمر الدولة، ولا للأطوار الخمسة لتطوِّرها، كما شرحها ابن خلدون… ولا تُشبه حالتنا اليوم لا تديُّن فيكو القائم على التسامح والتقوى، ولا عصبية الرحم التي كانت تجمع بين الناس بقوّةٍ ولا تُفرِّقهم كما رآها ابن خلدون!
فأين نحن اليوم؟!
نحن للأسف أسرى دورةٍ قاتمة الحدود والملامح لولادةٍ مفتوحةٍ على قدرية الموت، بدلًا من أن تكون موسومةً بعطاء الحياة، ويتخِّذ مفهوم “الموت” راهنًا أحد منحيَيَن: إمِّا أن يكون لُعبةً يَقع فيها أصحاب السلطة والتسلُّط الأبرياء الضعفاء دون اكتراثٍ وبعيدًا عن أيّ حسّ إنسانيّ، وإمِّا أن يكون طريقًا اختارته فئات ضلَّلتها الأصولية الدينية وأقنعت أتباعها أو بالأحرى أوهمتهم بأنَّ الموت شهادةٌ تُقدَّر في الدنيا والآخرة.
هي التيوقراطية التي تحكم بعض الدول، فتَذِلُّ وتُخضِعُ شعوبها وتتحكَّم في مصائرهم، فيَرى الحُكَّام أنفسهم “آلهة” و”أولياء”، ويُجبرون المرأة على الصمت والرجل على الخضوع والأولاد على الرضوخ اللاواعي لصنمية الأعراف البالية، وكأننا ما نزال في عصر شعوبٍ بدائيةٍ في عالمٍ من المفترض أن يكون متحضِرًا.
هي الأرستقراطية التي تتلوَّن بأقنعةٍ زائفة، لتُبرِّرَ لبعض المستمسكين بالمراكز السلطوية العليا بطولاتهم الوهمية التي غالبًا ما تتَّخذ من عملية تخدير الأفراد والمجتمعات وسيلةً للتحكِّم الاستبدادي.
وهي الديمقراطية المُجَدولة على لوثةِ كاذبة عنوانها “المساواة”، والتي باسمها تُخاض حروب وتُفتعل صراعات مفتوحة على المجهول.
أهو عصر آلهةٍ أم عصر أبطالٍ أم عصر بشر؟
في الواقع، إنه عصر اللاعدالة الذي لن ينقذنا منه منهج الاستبطان السقراطي ولا عالم المُثُل الأفلاطوني ولا المحايثة الأرسطية ولا علم الأخلاق الكنطي ولا المثالية الهيجلية ولا البراغماتية الماركسية ولا الفينومينولوجيا الهوسرلية ولا الوجودية السارترية… إنه عصر سوف يعقبه حكم عصر آخر من اللاعدالة أيضًا وهكذا دواليك… وكأننا في حالةٍ تناسليةٍ تأتي تحت المُسمَّى ذاته وتحمل المضامين عينها. وأمّا الاستفاقة من هذا “الضلال الفكري” وقصر الرؤية والبصيرة، فبعيدة حتمًا، كما تُثبت لنا أحداث الأمس القريب والحاضر المعاش، وكلاهما مُنعقد على الظلم والألم!
خاتمة
“لا وجود لعقلاء أو فلاسفة قبل أن توجد الحضارة والدولة”.
أقرَّ فيكو بوجوب وجود قوانين معيّنة وموحَّدة تُسهم في تكوين الأمم والشعوب، ولا تأتي هذه القوانين من طريق العقل، إنّما من “الحسّ المشترك” معارضًا بذلك نظرية الفلاسفة العقلانيين الذين يرون أنَّ المجتمع من صنع العقلاء، وكان تَعَلُّقه جليًّا باللغة والتاريخ وسائر الدراسات الإنسانية التي أسقطها ديكارت، فيما أعطاها هو دفعًا قويًا.
رفض فيكو النظر إلى الإنسان من جانبٍ واحد أو إلى مَلَكَةٍ واحدة لديه هي العقل، لأنّ في مقابل هذا العقل هو يمتلك القدرة على الخيال الخلَّاق… وهو هذا الخيال المستند إلى ثقافةٍ تاريخيةٍ عالية، ما دفعه إلى وضع نظرية “التعاقب الدوري” كما رسمها من نسج تخيُّله المتسلل إلى أحداث الأزمنة التاريخية القديمة والحديثة.
لقد كان من كبار المفكِّرين الإيطاليين، إلى درجة قال فيه الشاعر الألماني غوته Johann von Goethe إنَّ من حسن حظ شعبه أنَّ له أبًا كبيرًا مثله.
المراجع والحواشي:
*حين كان فيكو في السابعة من عمره، سقط من أعلى سُلَّم نقَّالي، فصُدِمَ رأسهُ بالأرض، وظلَّ غائبًا عن الوعي خمس ساعات. وتكوَّن ورم ضخم في رأسه على إثر هذه السقطة. وكان الورم يُخفَّف بشقّه بمبضعٍ مرّةً تلو المرَّة، وفقد ذات مرَّةٍ دمًا كثيرًا لدرجة أنّ الأطباء توقّعوا موته القريب، لكنه نجا وبقي على قيد الحياة. وربّما تكون هذه الحادثة قد سبّبت له مزاجًا مكتئبًا وحادًّا كما قيل.
[ 1] مدخل إلى فلسفة فيكو وعصره، www.hindawi. Org ، مؤسّسة هنداوي.
**تأثّر فيكو بما كان يقوله قدامى المصريين عن وجود مراحل ثلاث للتاريخ، وهي: المرحلة الإلهية وما تتميَّزُ به من لغةٍ سرِّية مقدَّسة للحكُّام والملوك الفراعنة، والمرحلة البطولية وما تتميَّز به من لغةٍ رمزية، والمرحلة البشرية وما تتميَّز به من لغةٍ شعبية.
***عَمِدَ فيكو حينما تعثَّر نشر كتاب “العالم الجديد في صورته السلبية” إلى اختصاره لربع حجمه، وقدمهُ على أساس منهجٍ إيجابيٍّ وعنونه: “مبادئ علم جديد في الطبيعة المشتركة للأمم”. وصدر الكتاب في طبعته الأولى لعام 1725.
[2] ابن خلدون، المقدّمة، دار الجيل، بيروت، ص. 153-154.
[3] Giambattista Vico, Autobiography, p. 37
[4] www.hindawi.org. ، مؤسّسة هنداوي
[5] المرجع نفسه.