تكوين
مقدمة:
تنطلق هذه المقالة من الشعور العام تجاه المرحلة التي يعيشها العالم اليوم، والمتسمة بتغلغل التكنولوجيا والرقمنة والوسائط الالكترونية في حياة البشر من جميع النواحي، خصوصا بعد جائحة كوفيد 19، وما فرضته من لجوء إلى العمل عن بعد والتجارة الإلكترونية، وارتفاع معدل مكوث الأشخاص أمام الشاشات الإلكترونية بصورة لافتة للنظر، هذا الشعور يعبر عنه من قبل الكثير من المفكرين بالاستياء ودق ناقوس الخطر، حول التبعات السلبية لهذا الوضع غير الطبيعي وغير المعتاد في المستقبل، خصوصا وأن الجميع يلاحظ التغييرات الكثيرة التي تحدث كل يوم، سواء تعلق الأمر بالفرد أو المجتمع. وقد ظهرت العديد من الأعمال الفكرية التي تعبر عن هذا الشعور بالاستياء والخواف من المستقبل.
كتاب نظام التفاهة
لعل من أبرز هذه الأعمال كتاب “نظام التفاهة” للفيلسوف الكندي ألان دونو Alain Deneault (1970)، وتكمن أهمية هذا العمل في كونه رصد، بلغة زاوج فيها بين الأرقام والمفاهيم، أهم التحولات الجذرية التي مست العالم في ظل الثورة الرقمية الراهنة، لاسيما على مستوى المؤسسات الأكاديمية والمؤسسات الاقتصادية، وتبعات تلك التغيرات على صعيد القيم الأخلاقية والحياة الاجتماعية بصورة عامة، والمتجلية في ظواهر لا تعد ولا تحصى، على رأسها؛ غياب العقل النقدي، أو تغييبه، بصورة أدق، وسلعنة الحياة العامة، الرأسمالية المتوحشة، الفن الرخيص، التلوث وافقار البيئة، الجريمة المنظمة والتي أضحت إلكترونية هي الأخرى..الخ. فالملاحظ بصورة عامة هو تكريس متزايد لقواعد تدعم الرداءة والانحطاط القيمي؛
“فتدهورت متطلبات الجودة العالية، غيب الأداء الرفيع، وهمشت منظومات القيم، وبرزت الأذواق المنحطة، وأبعد الأكفاء وخلت الساحة من التحديات، فتسيدت إثر ذلك شريحة من التافهين والجاهلين وذوي البساطة الفكرية”[1].
ومن ثم نطرح السؤال حول هذا الوضع، فهل يتعلق الأمر، كما تشير مترجمة كتاب نظام التفاهة في المقدمة، بوضع تاريخي يتسم بسيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة، أو كما عبر عنه قبل ذلك بسنوات، السياسي الجزائري الكبير المرحوم عبد الحميد مهري (1926-2012) بعبارة موجزة وعميقة، أصبحت متداولة من قبل الكثيرين، حيث قال:
“إننا في زمن الرداءة وللرداءة رجالها”
أم أن هناك زوايا نظر أخرى للوضع قد تكشف عن أبعاد أكثر خطورة من كونه نظاما للتفاهة أو للرداءة؟
أولا: التقدم نحو الهاوية !!
مفهوم التقدم (Progrès) هو أحد أركان الحداثة الغربية الصاعدة منذ الثورة الصناعية، وإن حققت الدول الكبرى خطوات كبرى طيلة القرنين الماضيين في سبيل التقدم وتحقيق الرفاهية والسعادة المنشودة لمواطنيها، إلا أن هذه الخطوات كانت تتم بوتيرة يمكن إدراك تسارعها، وبالتالي، يمكن التأقلم مع مستجداتها دون عناء كبير، ومن ثم كانت التغيرات الناتجة عن هذا التقدم مرنة نسبيا، أما الثورة التكنولوجية الراهنة، فقد تغير معها كل شيء، بصورة متسارعة جدا، فكأنها سيل جارف يبدل العالم جذريا، ويفرض صورا وعلاقات وسلوكيات جديدة كل يوم، يقول أحد الدارسين:
“نحن الآن أمام اقتصاد جديد، ايديولوجيات جديدة، نمط علاقات جديد، فقد أحدثت الثورة التكنولوجية الرقمية تغييرا جذريا في المجتمعات”[2].
وقد شكلت جائحة كورونا حافزا كبيرا لتسريع وتيرة هذا التحول إلى الإنسان الرقمي، وبالتالي المجتمعات الرقمية، حيث فرضت الاستغناء عن الالتقاء وجها لوجه بين البشر من خلال: التعليم عن بعد، والعمل عن بعد، التسوق عن بعد، المتعة عن بعد…الخ.
تحدث بعض المفكرين مع بداية الثورة الصناعية والتطور الذي أحدثته على البشرية عن الخوف من تحول الإنسان إلى آلة (l’homme-machine)[3]، ويبدو أن التخوف الآن، في ظل انتشار الثورة الرقمية هو تحول الآلة إلى إنسان (la machine-homme)، ذلك أن المميزات التي كان يتفرد بها الإنسان أصبحت مستهدفة وتتساقط الواحدة تلو الأخرى لتعوضها الآلات (لاحظ مثلا الدعوات إلى “الزواج” بالدمى الذكية !!)، فالبرمجيات المدعومة بالذكاء الاصطناعي تتغلغل في شخصية مستخدميها، وهي تدرك الحالات المزاجية لكل شخص، وكذا تطلعاته وآماله، بمعنى أنها تستطيع التفكير فيما يفكر فيه، ومن ثم إمكانية التنبؤ الدقيق بقراراته، فبمجرد ولوج الشخص إلى الشبكة العنكبوتية، هناك “شركات تتبع مساره من موقع لآخر، تركز على سلوكه وتدرس تنقلاته، هكذا تظهر الإعلانات المناسبة لاهتماماته على الصفحات التي يمر عليها“[4].
إقرأ أيضا:النقد الفلسفي للتكنولوجيا جاك إلول نموذجا: الجزء الأول
في كرة القدم مثلا، هناك مؤسسات متخصصة في الإحصائيات، وهي تمتلك معرفة دقيقة بكل صغيرة وكبيرة عن اللاعبين منذ بداية مسارهم (الفرق التي لعب لها، عدد الدقائق التي لعبها، المسافة التي قطعها في كل المباريات، عدد الأهداف التي سجلها بالرجل اليمنى واليسرى وبالرأس، عدد التمريرات التي قام بها، نوعية الإصابات التي تعرض لها..الخ) وتقدم هذه الإحصائيات الدقيقة للأندية التي ترغب في التعاقد مع اللاعب، حتى أنه يمكن شراء عقد اللاعب وإبرام صفقة مربحة دون معاينته بصورة مباشرة، وما قيل عن الرياضة يقال عن التجارة،
“فالبرامج المعلوماتية الجديدة تسمح للتجار بمعرفة أنماط الاستهلاك والمواد المطلوبة في السوق والكميات اللازمة، ويمكنها توقع ما نشتهيه من أطعمة..”[5].
باختصار، يمكن القول أنه إذا كانت الثورة الصناعية حولتنا إلى أرقام، فإن الثورة الرقمية جعلنا أرقاما متحكم فيها بصورة دقيقة وفعالة عبر الشرائح الالكترونية وكاميرات المراقبة المزروعة في كل مكان حولنا (في الهواتف، في الشوارع في المؤسسات..) فالجوسسة الرقمية، والجريمة الالكترونية، واختراق الحسابات الالكترونية البريدية والبنكية والاطلاع على المحادثات والصور..الخ، هي قواعد بيانات يمكن استخدامها لابتزاز الأشخاص (وهي تستخدم فعلا) والمؤسسات وحتى الحكومات بما يؤثر على الصفقات الاقتصادية، والقرارات السياسية ونتائج الانتخابات والعلاقات بين الدول (لاحظ تبعات الكشف عن وثائق ويكيليكس، أو برنامج التجسس بيغاسوس..).
من المؤكد أن الثورة الرقمية لها مزايا كثيرة خصوصا في
- تسهيل الوصول إلى المعلومة
- تيسير التواصل بين الأشخاص والمؤسسات بما يفتح فرصا كبيرة في التعليم والتكوين والتشغيل
- كما سمحت للدول بالتحكم أكثر في مختلف القطاعات
- وتقليل النفقات في بعض الميادين
غير أنها في المقابل، تسهم بشكل متسارع في تقليص بعض الوظائف وتعويض العمال بالآلات..، ومع ذلك تبقى هذه الآثار سطحية، لأن الخطر الأعمق لهذه الثورة هو التغيير الجذري الذي أحدثته على الإنسان في حد ذاته، وبالتالي على المجتمع ككل، حيث تشير إحدى الإحصائيات الحديثة إلى
“أن معدل مكوث الأفراد أمام شاشاتهم (هواتف، ألواح ذكية، أجهزة كمبيوتر..) وصل إلى ست ساعات وخمس وأربعين دقيقة يوميا، وهو ما يفوق الأربعين بالمئة من حياتهم في اليقظة”[6]
(بمعنى استبعاد ساعات النوم)، وهو معدل له دلالات خطيرة جدا، لأن وقت الفرد أصبح مقسما بين العمل أو الدراسة والنوم والإبحار على مختلف المنصات الإلكترونية، لا يتبقى له إلا ساعة أو ساعتين خارج هذه الثلاثية (نوم، عمل/دراسة، أنترنيت) فأين هو الوقت الذي يفترض أن يقضيه الفرد مع أسرته، مع أصدقائه في الواقع، وفي مختلف النشاطات التي تتطلب الحضور الجسدي، كالنشاطات الثقافية أو الترفيهية أو الدينية أو التطوعية..الخ؟ وهو وقت ضروري جدا خاصة بالنسبة للشباب لبناء شخصياتهم وتعلم طرق التأقلم مع معطيات الواقع، واكتساب الخبرات الحياتية الضرورية لمواجهة الأزمات والعوائق التي تعترضهم في المستقبل.
من الواضح أن هذا الوضع -في حال استمراره بنفس الوتيرة من التسارع- سينسف بالحمولة التقليدية لمفاهيم الأسرة والصداقة الواقعية ومختلف العلاقات الاجتماعية، مستعيضا عنها بحمولة جديدة متمركزة حول الافتراضية؛ أسرة افتراضية وصداقة افتراضية..الخ. لنصل إلى المفهوم الذي بلوره أستاذ الاقتصاد الفرنسي دانيال كوهين (1953-2023) وعنون به كتابه المهم: “الإنسان الرقمي” (Homo Numericus)، وهو إنسان لا عقلاني، متهور[7]، يرغب في الهروب من عزلته الواقعية عن طريق تكوين مجتمعات وهمية، وهذا ما توفره مواقع التواصل الاجتماعي بامتياز، فهي تعمل على توجيه الأفراد نحو ما يناسب ميولهم، فتخلق لهم مجموعات ملائمة يتخندقون فيها بعيدا عن الآخرين.
ثانيا: رعاية التفاهة:
من البديهي الجزم أن هناك دوما طرف مستفيد من كل وضع، بما في ذلك الوضع الذي نعيشه اليوم، خاصة من الناحية المادية، ومن البديهي أيضا أن يسعى هذا الطرف بكل ما أوتي من وسائل لاستمرار الوضع كما هو مادام يجلب له المزيد من الأرباح، أو محاولة تغييره على نحو يجعله يحقق أرباحا أكثر، وقد لاحظنا منذ جائحة كورونا أن أرباح الشركات العالمية المسؤولة بالدرجة الأولى عن الثورة الرقمية قد ارتفعت بنسب كبيرة جدا، ووصلت أرقام فوائدها إلى مئات الملايير من الدولارات، وهو ما يمنحها نفوذا كبيرا وسلطة قوية تمكنها من التدخل في صناعة السياسة العالمية والتأثير على دوائر صنع القرار حتى في الدول العظمى، بل إن الشركات الرقمية العالمية التي يرمز لها اختصارا بـــــــ: GAFA (قوقل، أبل، فيسبوك، آمازون) -مع مؤسسات أخرى شبيهة بها- قد استحوذت على المجتمعات بصورة شبه كلية، وصار بإمكانها أن توجهها نحو ما يناسبها، وبما أن الهدف هو المزيد من الأرباح فإن هذه الشركات العملاقة تنظر للعالم على أنه سوق، كل شيء فيه تتم سلعنته، والاستفادة منه.
هذه القوة أو النفوذ لم تتحقق إلا بفضل استراتيجيات معقدة تشتغل بها هذه الشركات، وعلى رأس هذه الاستراتيجيات
“التحكم في البنية الرقمية والبيانات، لأن الهيمنة في السياقات الراهنة لا تقتضي التدخل العسكري أو السيطرة السياسية”[8]
إنما هي هيمنة رقمية، وهو ما يؤكده مؤلف كتاب نظام التفاهة بقوله: “يبدو أن الصراع الجديد قد أكد أن الأسواق هي ساحة قتال الآن، وأن من يمتلك الخوارزميات الأسرع والأقوى هو من سيخرج منها منتصرا”[9]. وبالعودة إلى الإشكالية التي تم طرحها في المقدمة، نجد أن الأمر لا يمكن تفسيره بسيطرة للتافهين، ولا بانتشار الرداءة فقط، أو كما كتبت مترجمة كتاب نظام التفاهة في تقديمها للعمل: “لقد تبوأ التافهون موقع السلطة“[10]
إنما يتعلق بإحدى استراتيجيات الهيمنة الرقمية الأكثر جدة، والتي تقوم على نشر التفاهة والرداءة وتسطيح القضايا الكبرى، وتتفيه الرمزيات والروحانيات والقيم الأخلاقية، وكل ذلك من أجل الاستمرار في الهيمنة، فالتافهون هم مجرد أدوات وسيطة، يتم توظيفها من قبل الشركات الكبرى للاستمرار في فرض نفوذها ومضاعفة أرباحها، واستراتيجية التتفيه هذه تنتشر لتشمل مختلف القطاعات، بداية بالمؤسسات الجامعية، التي يفترض أن تكون بمثابة العقل الموجه للدول من خلال البحوث الأكاديمية التي تنتجها والحلول التي يبتكرها الباحثون الجامعيون لمختلف المشكلات التي تعاني منها مجتمعاتهم، ولكن، ولأن السلعنة أصبحت تشمل كل شيء، فقد تمت سلعنة البحوث العلمية، وتوجيهها لخدمة القوى الكبرى، يورد ألان دونو تصريحا لمدير جامعة مونتريال(كندا) أدلى به عام 2011 يقول فيه:
“العقول ينبغي أن تفصل وفق احتياجات سوق العمل”[11]
وقد لاحظ الباحثون في الجامعات الغربية (نفس الأمر بدأ ينتشر في السياقات العربية والعالمثالثية عموما) ظهور العديد من التخصصات الجديدة الغريبة والتي تحظى برعاية واهتمام كبيرين من قبل السلطات، وهي تخصصات تتمركز حول: الابتكار، الإنتاجية، التميز، الريادة، المؤسسات الناشئة (Start-up)، ومؤخرا الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في مختلف الميادين، وكلها تخصصات مكرسة لخدمة جهات المال والأعمال والغرض هو دوما، الهيمنة على الفرد وتوجيه استهلاكه، وقد انعكس الاهتمام بهذا التوجه على مفهوم الباحث الأكاديمي، حيث
“تحول إلى خبير، ومن الواضح أن الخبير غير مستقل وأن عمله ينبغي تشكيله وفق طبيعة التمويل الذي يحصل عليه”[12]
وطبعا لخدمة أهداف الجهة المانحة للتمويل، فهؤلاء الباحثين-الخبراء، لا يفكرون لأنفسهم ولا لمجتمعاتهم، إنما يفكرون لمصلحة سلطات أعلى تدفع لهم وتملي عليهم استراتيجيات العمل الواجب القيام به، وهذا يعني تغييب الحرية والتأمل والفكر النقدي، فالنظام العالمي الحالي يشجع غالبية البشر على الكسل والقبول بما هو موجود بدلا من التفكير في التغيير، إنه
“يشجع على النظر لما هو غير مقبول وكأنه حتمي، وإلى ما هو مقيت وكأنه ضروري، إنه يجيلنا إلى أغبياء”[13].
لا يتوقف تغلغل الهيمنة الرقمية الجديدة عند المؤسسة الأكاديمية والبحث العلمي، ولا عند عمليات البيع والشراء، بل إنها استراتيجية شاملة، تشتغل على مختلف الساحات بما في ذلك الجوانب الثقافية والاجتماعية والأخلاقية، ويتجلى تأثيرها بصورة كبيرة في مواقع التواصل الاجتماعي، ومنصات بث الفيديو المباشر، الموجهة لفرض نماذج ثقافية وقيمية غربية على أنها عالمية أو كونية، وفي المقابل يتم تهميش ثقافات وقيم بقية العالم، والضغط عليها واحتقارها وتتفيهها حتى تتآكل تدريجيا ويأفل نجمها، يلاحظ الجميع الانتشار الواسع للتفاهة والرعاية الكبيرة لها ماديا وتقنيا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فبفضل العائدات المادية التي يتلقاها بعض المشتركين الذين ينشرون محتويات تحقق أرقام مشاهدات عالية أو من يسمون بالمؤثرين (les influenceurs)، تحول الجميع إلى الاشتراك في هذه المواقع وإدمان متابعتها، سعيا وراء التكسب بأي طريقة كانت، وفي الغالب، يتم ذلك دون الالتزام بأية قيمة أخلاقية أو اجتماعية (العري، الرقص، الخلاعة، الإباحية، الهزل، السخرية، التنمر..الخ)، يبدو الأمر للكثيرين بأنه عبث أو مجرد تضييع للوقت أو ما شابه ذلك، ولكنه في حقيقته لعبة محكمة، يشرف عليها، ويضع قوانينها المستفيدون منها، فيم يمنح للعابثين-الوسطاء بقايا فتات دعما لهم حتى يستمروا، وجذبا لغيرهم حتى يلتحقوا باللعبة، وكلما كثر العابثون، زادت أرباح المشرفين.
ثالثا: هل من حلول؟
هناك شعور بالتذمر وعدم الرضا عما أحدثته الثورة الرقمية لدى كثير من القوى الحية في العالم، أفرادا ومؤسسات، خاصة وأنها كانت تأمل أن تكون هذه الثورة الرقمية سبيلا لترقية الوضع البشري، لا لتكريس هيمنة القوى الكبرى، وزيادة تهميش الضعفاء في العالم، وفي سياق البحث عن حلول للفكاك من هذا الوضع المعقد وغير الإنساني في عمقه، يطرح ألان دونو في ختام مؤلفه “نظام التفاهة” سؤالا وجيها، حيث يقول:
” أنا النكرة المسكين Poor little nothing، ما الذي يمكنني عمله بهذا الصدد؟”
سؤال يعبر عن صعوبة الخروج من الأزمة الذي يفرضها الوضع الراهن الذي نعيش فيه، فكل واحد منا يشعر بهشاشته ولاشيئيته -إن صح التعبير- وبالتالي، الشعور باستحالة إيجاد الحلول، والرضوخ مكرها للأمر الواقع، ومع ذلك، يهتدى ألان دودو إلى ضرورة ترك بصيص أمل، وفتح نافذة للممكن، ولو بعد مدة من الزمن، وبنبرة الثائر المتمرد يقول في آخر فقرة من كتابه:
“توقف عن السخط وانتقل إلى السؤال التالي: اعمل بكل هوادة لخلق توليف Syntheses من القضايا الوجيهة، التق مع آخرين في تجمعات بخلاف تلك الطائفية والشللية، اسخر من الأيديولوجيات التي تريد البروباغندا كتابتها في جوهر ذواتنا وحولها إلى موضوعات مجردة للتفكير، تجاوز أساليب السيطرة التي تمارسها المنظمات، وحاول خلق بنى تشبهنا، كن راديكاليا”[14].
من الواضح أن الحلول لن تكون غدا، ولكن يبقى الأمل ممكنا خاصة إذا استشعر الجميع الخطر، واجتمعت إراداتهم على ضرورة التغيير، لأن مسؤولية التغيير لا تقع الدول والحكومات فحسب، بل تبدأ من الفرد والأسرة والمجتمع المدني، فالتفاهة والرداءة إنما نجحت في الانتشار الواسع كالنار في الهشيم لأنها وجدت الحطب الذي يمدها بالطاقة، والتافهون تبوؤوا القمم على ظهور الأتباع والمريدين، فلو نفض هؤلاء الأتباع ظهورهم وأدبروا عن دعم التافهين لأعادوهم إلى حجمهم الطبيعي، وزالت سطوتهم وسقطوا من قممهم الوهمية إلى أسفل سافلين، يمكن للمنظومات التربوية والتعليمية أن تسهم -بمساعدة الأسر- في توجيه الناشئة وجهات أكثر إفادة بعيدا عن التفاهة، كما يمكن للمؤسسات المجتمع المدني أن تساعد بمضاعفة جهودها التحسيسية ونشاطاتها المفيدة في إبعاد الشباب عن التافهين، الطبيعة كما يقال تخشى الفراغ، لذلك، فغياب النشاطات المفيدة يفتح الباب واسعا أمام النشاطات التافهة والرديئة لاحتلال الساحة، وتبقى المسؤولية الكبرى ملقاة على عاتق الدول والحكومات، المطالبة بدعم الجهود المشتركة والتعاون فيما بينها من أجل بناء أنظمة رقمية عادلة وأكثر إنسانية، أنظمة تستخدم في خدمة الإنسانية بدلا من أن تكون أداة إضافية للهيمنة.
خاتمة:
تأسيسا على ما سبق يمكننا القول أن انتشار التفاهة واعتلاء التافهين لمراكز السلطة، لا يعني أن النظام الذي نعيش فيه نظام تافه، كما لا يعني أن هؤلاء حققوا هذه المكاسب باجتهادهم أو مثابرتهم ولا هي ضربة حظ، إنما يعني أننا نعيش في ظل نظام عالمي قوي التنظيم محكم الترتيب، تتحكم فيه شركات كبرى هي المسؤولة والمتحكمة في الثورة الرقمية التي نعيشها، هدفها الأساس هو زيادة الأرباح بأي طريقة، واستطاعت هذه الشركات العملاقة فرض نفوذها على العالم، وأصبحت توجه صناع القرار الوجهة التي تناسب أهدافها.
ينبغي النظر لهذه الشركات العملاقة على أنها “استعمار جديد”، يمكن تسميته بـــ: “الاستعمار الرقمي”، فالتحكم في الشعوب والهيمنة على الدول ومقدراتها لا يقتضي في ظل الثورة التكنولوجية الرقمية الراهنة التدخل المباشر، إنما هو تحكم عن بعد، وإذا كان الاستعمار التقليدي كان يطبق سياسة “فرق تسد” في مستعمراته، فإن الاستعمار الرقمي الراهن غير هذه السياسة نحو ما هو أعمق وأكثر فعالية، حيث يشتغل وفق مبدأ يمكن أن نطلق عليه “تفه تسد”، وهو يعبر عن استراتيجية تقوم على الإلهاء، وتحويل الأفراد والمجتمعات من الاهتمام بالمشكلات الحقيقية والبحث عن حلول لها من أجل التنمية والتطور، إلى الغرق في توافه الأمور وسفاسفها، لذلك فهو يدعم التافهين والسطحيين والعابثين والرديئين، باعتبارهم وسطاء بينه وبين الشعوب، والهدف من دعمهم ورعايتهم والإغداق على كثير منهم، هو تخدير الشعوب، ونشر الغباء والكسل والإفراط في الاستهلاك وإدمان الحياة الرقمية، وهذا ما يسمح لهذا المستعمر بإحكام قبضته على هذه الشعوب وتوجيهها لخدمة أهدافه.
يصدق على جائحة كورونا المثل القائل “مصائب قوم عند قوم فوائد”، لقد فرضت هذه الجائحة على الناس المكوث لوقت طويل في بيوتهم، حيث أصبحت الكثير من الخدمات تتم عن بعد (تعليم، أكل، صحة، ..الخ) فكانت فرصة مواتية للشركات الرقمية الكبرى لتقوم بالمهمة، وتدعم استمرارها بالرعاية والإشهار والتسهيلات، وهكذا لاحظنا بعد نهاية جائحة كورونا أن الكثير من الخدمات عن بعد التي تم اللجوء إليها اضطرارا بسبب الجائحة، لازالت تتم عن بعد دون وجود أي مبرر لبقائها كذلك، خاصة في ميدان التعليم والتكوين، فالجميع يعلم يقينا أن التعليم الحضوري أكثر فعالية من التعليم عن بعد، ولا مبرر لذلك سوى الخضوع المباشر وغير المباشر للقوى المستفيدة من هذا الوضع، وكلما استمر الوضع بهذه الصورة زادت أرباحها وبالتالي، زادت هيمنتها.
الإحالات:
[1] ألان دونو: نظام التفاهة، ت: مشاعل عبد العزيز الهاجري، بيروت: دار سؤال للنشر، ط1، 2020، ص 14.
[2] دانيال كوهين: الإنسان الرقمي، ت: علي يوسف أحمد، المملكة العربية السعودية، دار صفحة سبعة للنشر، ط1، 2022، ص 10.
[3] هو عنوان كتاب صدر عام 1747 للطبيب الفيلسوف الفرنسي Julien Offray de La Mettrie
[4] ستيفن بايكر: الرقميون: أنت مراقب 24/24، بيروت: شركة المطبوعات للنشر والتوزيع، ط1، 2011، ص 13.
[5] المرجع نفسه، ص 57.
[6] دانيال كوهين: مرجع سابق، ص 52.
[7] المرجع نفسه، ص 14.
[8] إسلام حجازي: الامبريالية الرقمية، الوجه الجديد للهيمنة، مجلة أفق، العدد 160 صادر بتاريخ:(24/01/2025) مؤسسة الفكر العربي، بيروت.
[9] ألان ددونو: مرجع سابق، ص 176.
[10] المرجع نفسه، مقدمة المترجم، ص 69.
[11] المرجع نفسه، ص 92.
[12] المرجع نفسه، ص 99.
[13] المرجع نفسه، ص 85.
[14] المرجع نفسه، ص 365.