تكوين
لا يمكن أن نتحدث عن التحولات المعاصرة التي عرفها العالم، دون أن نأتي على ذكر ضرورة الانفتاح، والاشتغال على ورش الخروج من ضيق كل النماذج الشمولية، أو السرديات الكبرى، أو الإيديولوجيات العابرة للحدود. لأن الانفتاح في هذا العالم ليس مجرد ترف يظهر مدى تشبع المرء بهذا النوع من التفكير، بل هو أكثر من ذلك بكثير، حينما يتحول إلى ضرورة ثقافية وفكرية واجتماعية واقتصادية تدفع بالإنسان المعاصر أن يخوض هذه التجربة مزودا بأدوات هذا الانفتاح، والدفع بعجلة التنمية إلى حدودها القصوى. وهنا تتحول هذه التجربة إلى ما يشبه الرغبة في الالتقاء والرقي والتسامح وكل القيم النبيلة، التي تجر وراءها تاريخ طويل من المشترك الإنساني، منذ ظهور الإنسان على هذا الكوكب. ولكن داخل هذه التجربة يساق المرء طوعا أو كرها، إلى مواجهة إكراهات مرتبطة بالتخلص من شوائب الأنا الجمعي المتضخم في العقلية الإسلامية، وكذا التخلص من الأنا الفردي الذي يكشف عن الجروح النرجسية التي يعاني منها هذا العقل. ولعل أكبر مواجهة تعترض العقل المسلم اليوم، تلك المواجهة مع مفهوم الهوية والخصوصية، والخوف المزمن من فقدان ما يشكل عمق الإنسان المسلم، وخصائصه ومميزاته وسماته الأساسية. وهنا يمكننا أن نطرح أكثر من سؤال بخصوص قضية الهوية في عمقها الفلسفي: فهل هناك هوية جامعة بين أفراد يفترض أنهم مختلفين على جميع المستويات؟ وهل الهوية حقيقة أم وهم؟ وكيف يمكننا أن نخرج من الأنساق المغلقة وبالتالي الخروج مما كان يسميه أمين معلوف بالهويات القاتلة؟ وبالرغم من أن مفهوم الهوية يبدو أنه يشكل مفهوما بسيطا وشائعا، إلا أن دلالته تبدو أعقد بكثير مما يمكن تصوره ابتداء. وهذا ما أشار إليه أمين معلوف[1] حيث أكد على أن الكلمات التي تبدو أنها أكثر شفافية ووضوحا تصبح هي الأكثر خيانة من غيرها. ومن بين هذه الكلمات المثيرة للشك والتساؤل هناك مفهوم الهوية، فنحن جميعا نعتقد بأننا ندرك دلالتها، ونستمر بالوثوق بها وإن راحت تعني نقيضها بصورة خبيثة.
هكذا هو مفهوم الهوية كما تشكل في الوعي الجمعي الإسلامي، ففي الوقت الذي يبدو بأنه مفهوم يشكل عناصر القوة في تشكيل هذا العقل، أو أحد تجليات الإسلام الهوياتي، يصير نقطة من نقاط الضعف في المنظومة الهوياتية في شموليتها، وإحدى الاختلالات القاتلة فيها. ولهذا فالانفتاح داخل هذا السياق الثقافي ليس خيارا لحظيا، تفرضه ضرورات المرحلة المعاصرة فحسب، وإنما هو خيار استراتيجي لتفادي السقوط في مستنقعات الهويات القاتلة، ودواليب الانتماء المميتة. وإذا كان الأمر كذلك فلا معنى للحديث عن الانغلاق، أو الخصوصية، لأن هذا الحديث عن هذه الأشكال الضاربة في التعصب، والتقوقع الذاتي هي نوع من الانكسار المعبر عن الخوف من الآخر، والرهبة من مواجهة الذات والتعرف على حقيقتها ونوازعها وجروحها النرجسية. وهنا يحق لنا أن نتساءل:
-
هل التعبيرات الهوياتية تعبر عن أزمة أم عن حل؟
يمكننا الجزم بأن التعبيرات الهوياتية هي تعبير عن مأزق حضاري أو ثقافي أو فكري، أكثر منه تعبير عن خصوصية أو سمات مشتركة لجماعة من الجماعات، لأن كل النماذج المغلقة، أو لنقل كل التطبيقات العملية لبعض أشكال الانغلاق الهوياتي تصنع لنا مجتمعات مفككة، وإنسانا قابلا للانفجار والتشظي. ويمكن لكل المتلاعبين بالأفكار أو العقائد الدينية أو السياسية أن يسوقوه إلى حيث يرغبون أو يريدون، ولعل هذا ما يميز العصبيات والأصوليات والجماعات العقائدية المغلقة، لأنها تنهل من هذه الأنماط الهادرة لكينونة الإنسان. ولكي نعرف حجم ما تقودنا إليه هذه الأنماط القاتلة نستحضر مقاربة مصطفى حجازي[2] لموضوع العصبية والهدر. إذ العصبيات والأصوليات ليست تكتلات كما قلنا سابقا للقوة وإبراز الذات المختلفة عن الآخر. بل الأمر أعمق من ذلك حينما نستحضر غياب الفرد، وذوبانه بشكل قهري ضمن منظومة قاتلة للإبداع والإلهام والخلق. لكن المشكلة الأساسية أن هناك من لا زال ينخرط في هذه الأشكال، دون أن ينظر إلى الوجه الآخر منها، أو الوجه الخفي فيها. فبالرغم من أن العصبة هي جماعة من الأقارب المرتبطين ببعض والمتلازمين ببعض، من خلال روابط مادية ومعنوية تجعل من انتمائهم إليها حالة من الاندماج الكلي في الوحدة الجماعية، إلا أن هذه الأشكال تحمل بذور فنائها بغياب الفرد، وغياب العقل، وحضور الجماعة، والفكر الأحادي، والطاعة العمياء. والأخطر أنه داخل هذه المنظومة المعقدة والهادرة لكل ما هو إنساني ينمو لدى الفرد استعدادا دائما لتجسيد هذا الانتماء، الذي يتخذ طابع التماهي الكلي، بل الذوبان الكلي في جماعة العصبية، بحيث يصعب الانفصال والتمييز والخصوصية الفردية. وبالتالي فالحديث عن الخصوصية داخل هذه المنظومة المغلقة يصبح ضربا من الجنون، على أساس أن الفرد الذي يتغنى بالخصوصية والتميز والهوية المميزة، هو نفسه شخص مغيب قهرا وقسرا داخل هذا النسق الكلياني.
وإذا أردنا أن نؤطر هذا الوضع الفرداني داخل أنساق العصبيات والأصوليات الهادرة لكل ما هو إنساني يمكن أن نجمل ذلك فيما يلي:
- تماهي الفرد بالجماعة: وهذا يحدث عندما يصبح الفرد جزءا لا يتجزأ من الجماعة، وتصبح الجماعة جزءا لا يتجزأ من الفرد، فيحدث التماهي إلى الحد الذي يصعب فيه التمييز والانفصال.
- الزيادة في مشاعر الانتماء: تولد العصبيات والأصوليات إحساسا متزايدا وشعورا كبيرا بالانتماء، إلى الحد الذي يحس فيه الفرد بالقوة التي تتسامى عن كل ما هو فردي وجزئي. أي أن الفرد داخل هذه المنظومة الجمعية المغلقة يستمد قيمته ودلالته من موقعه ضمنها. إحساس غريب يتولد من هذا التماهي الكلي مع كل فكرة أو عقيدة أو مبدأ، حيث يصبح عدم الالتزام بها، أو التراخي في تثبيتها أو ترسيخها تهديدا كليا لصيرورة الجماعة، وخطرا محدقا على استمراريتها. وهكذا تتخذ العصبية حسب تعبير مصطفى حجازي[3] صيغة ” النحن العصبي “، الذي يمثل شكلا من النعرات والنزعات إلى الانصهار في بوتقة الجماعة، والتكتل، والاحتماء بمقرراتها.
- النسب والقربى: تقوم العصبية في أساسها الأول على النسب والقربي، حيث تنهل من هذه المصادر ما يعضد ويسند إيديولوجيتها، ويعزز قوتها. غير أن هذا الأمر ليس هو المنهل الوحيد الذي تستند إليه هذه الأشكال المغلقة من التفكير، بل قد يتطور الأمر إلى التحول إلى صيغة الرابطة العرقية كما هو ملاحظ في التاريخ الإنساني مع أطروحة شعب الله المختار عند اليهود، أو خير أمة لدى المسلمين، أو الطائفة والفرقة الناجية لدى المجموعات والفرق والطوائف الإسلامية. كما تصبح رابطة دينية عقدية كما يؤكد واقع الإخوان المسلمين ومسماهم العقائدي. أو رابطة سياسية كما هو مشاهد لدى أخوة السلاح، أو النضال، أو الطرح الإيديولوجي السياسي.
هذه أهم الأشكال والصيغ التي تختفي وراءها الأنظمة العصبية، وتتستر وراءها أشكال الأصوليات المغلقة، والهويات القاتلة. وبالتالي فنحن هنا بإزاء نظام مغلق متكامل، له بنيات متداخلة فيما بينها، ومتكاملة في عناصرها المختلفة، غير أنها تتفق في الهدر الإنساني، وقتل الإبداع، والانغلاق على الذات بغية الانصهار في كل ما يمثل هذه الهوية الجمعية الهادرة والقاهرة. ولعل النظام الذي تشتغل به هذه العصبيات لا يخرج عن شيئين متلازمين: أولاهما: بنية عصبية داخلية. وثانيهما: بنية عصبية خارجية. ولكي نفهم الأمر بشكل أوضح لنحاول أن نلقي الضوء على تجليات كلا البنيتين:
- بنية العصبية الداخلية: ويميل فيها الإنسان إلى تكرار وجوده الداخلي في انسجام تإم مع مقتضيات الجماعة، وهذا يولد في الحقيقة لدى الفرد ما يمكن أن نشبهه بالإحساس بالدونية، وجلد الذات تعبيرا من المرء عن عزلة اضطرارية تديم قلق الإنسان الوجودي، وتؤبّد معاناته مع واقع ليس له منه غير حضوره الجسدي. هذه المحنة الفردية داخل دواليب الجماعة، وأنساقها المغلقة يواجه خلالها الفرد ثقافته، وتاريخه، ومشاعره، فيصير بفعل الانغلاقات الكبرى شبيها بما أشار عبد الرزّاق الجبران[4] أو إلى ما كان يسمّيه كولن ولسون باللاّمنتمي، وهو ليس سوى ذلك الإنسان الحاضر فينا ومعنا، والذي يشعر بأنّ الفوضى والاضطراب هما أعمق من النِّظام الذي يؤمن به قومه. ويضرب لنا مثلاً ببطل جحيم باربوس، الذي يلجأ إلى غرفة في الفندق ليغلق بابها، ويعيش ليرقب الآخرين من ثقب في الحائط. إنّه كما يقول باربوس:” يرى أكثر وأعمق ممّا يجب “[5].
- بنية العصبية الخارجية: لقد قلنا بأن العصبيات بفعل هذا الانشطار الداخلي الذي تحتويه مكوناتها، وبفعل النزعة إلى كل ما هو جماعي، والميل بشكل قهري إلى كل التعبيرات المغلقة، يصبح لديها أيضا منطق مغلق في التعامل مع الخارج، وهو المنطق الذي يصبح فيه الآخر عدوا وخطرا وجوديا يهدد لحمة العصبيات ويسعى إلى تقويضها. وفي ظل هذا الصراع تتولد مجموعة من المفاهيم الإقصائية والعدوانية، كالتعبير بالكفر أو الزندقة أو الهرطقة في وصف كل ما هو مندرج ضمن الأطر الخارجة عما تقرره العصبيات وأدبياتها، ويتحول الصراع إلى نوع من العدوانية التي تتوسل بكل شيء في سبيل بقائها. وهذا ما يمكن أن نفسر به تطرف العصبيات والأصوليات، واستعمالها لوسائل العنف المختلفة لتطويع الخارج عن أنساقها بدءا من الهجر، وصولا إلى التوحش في أبشع صوره كما تجسد في التاريخ الإنساني الطويل. وهنا مكمن خطورة الفكر الهوياتي، فعوض أن تعبر الهوية على مميزات وسمات الذات المتفردة والمختلفة عن الآخر، تصبح وسيلة القتل الوحيدة عند المتعصبين، وهواة الهويات القاتلة، ونوازع العنف المقدس، والجهل الديني والسياسي والثقافي.
الهوية
وإذا كان للهوية وجهها القبيح الذي يعبر عن نفسه من خلال مختلف السلوكيات التي ينهجها أصحاب هذه الأشكال والصيغ الإنسانية المغلقة، فإن للانفتاح وجهه المشع، والمضيء أمام كل هذه الأنساق المغلقة. غير أن الانفتاح ليس أيضا ترفا، بل هو محنة يكابدها العقل، وهو يحاول أن يخرج من ضيق هذه الأساليب والأشكال. إنه تجربة يعيشها العقل تستحق الدراسة والنقاش، على أساس أن العقل المنفتح منذ اللحظة التي يعي فيها نفسه، ويعي فيها غيره يبدأ رحلة الهروب، وتجاوز أفخاخ الفكر والعقل، والسائد في العقل الجمعي. وهنا تبدأ المحنة.
-
محنة العقل المنفتح
لا بأس ونحن نناقش موضوع العقل المنفتح أن نذكر بالتجربة التي قام بها جمال علي الحلاق[6]، وهو يرصد تجربة محنة العقل المنفتح، وإن كانت دراسته لا تنتمي إلى الكتابة الأكاديمية الصارمة، غير أن الكتابة الفكرية بأبعاد أدبية يمكن أيضا أن تكون إشارات عميقة لمن يحاول أن يضع يده على هذه التجربة، أو يلامس أبعادها الاجتماعية والثقافية والفكرية. والتعبير هنا بالمحنة ليس مجرد إنشاء بلا معنى، بل هو الحقيقة التي يعايشها كل من سول له عقله أن يخوض مغامرة الخروج عن الأنساق، والأعراف، والاجتماع البشري. فالمحنة تتجاوز المتعارف عليه هنا، حيث تصبح مرادفا للغربة، والإحساس بعدم الأمان الفكري، وعدم تقبل السائد الذي يولد لدى الجماعة أو المجموعات البشرية ردود فعل متباينة، تتفاوت في الحدة والخطورة كما هو معروف في التاريخ الإنساني. لهذا فالتعبير بالمحنة ليس من قبيل الشعارات الجوفاء التي لا يتحقق من خلالها أي شيء، بل هي الحقيقة المطلقة لمن يرغب بالتعرف على أن الانفتاح مدرسة العقل غير المحدود، والمتجاوز لكل الانغلاقات التي يفرضها المجتمع، بفعل التكلس والجمود الذي يصيبه بفعل مؤامرة الزمن. ولهذا فنحن نتقاسم أو نشاطر جمال علي الحلاق تجربة محنة العقل المنفتح من الشعور بالاغتراب في الواقع، وعدم القدرة على الاندماج فيه. وكذلك الشعور بالحصار الذي تمارسه الثقافة بفعل آليات سيطرتها، ووظائفها المختلفة بدءا بالثوابت والخطوط الحمراء، وانتهاء بالعزل، والإقصاء. وهي سلوكيات لا يمكن أن يدرك معناها أو يفقه بعضا من تداعياتها الخطيرة إلا من جرب هذه المحنة، أو كان أحد عناصرها، أي جرب أن يكون غريبا أو لا منتميا يشعر بهذا الحصار، وهذا الحضور اللاشعوري للثّقافة، وضيق النّماذج ومساحات الأمان التي يرسمها أصحاب الهويات القاتلة. إنها تركيبات نفسية تشعر كل يوم بالضغط، والترهيب، واللاتسامح الفكري كلما أراد أصحابها أن يوسّعوا من مداركهم، أو ينظروا بعيون أخرى غير تلك التي منحتها لهم الثقافة بقوة الإكراه، لتجعلهم أسرى داخل صناديق تفكيرهم، وهذه هي المحنة بكل أبعادها وتجلياتها. لهذا قلنا منذ البداية واعتمادا على الوقائع والأحداث والتاريخ والاجتماع البشري بأن الانفتاح ليس خيارا لحظيا يقوم به الإنسان أو لا يقوم، ولا أيضا تجربة مفعمة بالأمل والراحة والأمان. ولكنه أكثر من ذلك كما تدل على ذلك مختلف سيناريوهات الاحداث التاريخية، أي أنه تجربة لتكسير المألوف، أو لنقل بتعبير أدق هو فن الإصغاء للذات على حد تعبير جمال علي الحلاق. لكن الجميل وهنا المفارقة أنها تجربة ممزوجة بالقلق لعقلٍ يأبى أنْ يقنع، أو يعيش بعيدا عن التوتّرات. وقد نضيف أيضا أنها تجربة السؤال، أي أن قدر المنفتح أن يسأل. وليس معنى ذلك أن يضع علامات استفهامات في نهاية كل جملة، لكن السؤال هنا بمعنى مسيرة البحث المتواصلة، وغير المنتهية بقناعات تنتهي في الغالب إلى مفاهيم الثبات والجمود.
إقرأ أيضاً: من الهوية المبنية إلى بناء الهوية
إن ضيق النماذج التي تصنعها الثقافة الجمعية تخلق لدى هذا الكائن الإنساني نوعا من الثبات الفكري، والأمان النفسي، فيظل متشبثا بخيار الانغلاق والهوية، بالرغم من خطورة هذا الخيار على المدى الاستراتيجي. فالانغلاق أو التقوقع داخل الفكر الهوياتي يمكن أن يخلق للمرء ما يمثل بالنسبة إليه أمانا، ولكنه أمان مزيف إذا ما أمعنا النظر في تداعياته الكبرى. فحينما ينغلق الإنسان، فإنه لا يقصي فقط هذا الآخر المختلف، بل أيضا يقصى ذاته والإمكانيات التي يمكن أن تحصل عليها، أو تحوزها من خلال التواصل مع هذا المد الاختلافي. ولعل أخطر ما يجسد خطورة فكرة الانغلاق هو تحول نماذجه إلى أصنام ذهنية تجدد آليات سيطرتها في مسيرة متواصلة، تستمر في اختراق العقل الإنساني حتى تميت فيه كل عناصر الإبداع والتجديد. والأخطر أنه في هذا السياق المنغلق لا يمكن أن ينفك الإنسان عن صناعة هذه الأصنام الذهنية بفعل الاعتياد القاتل والمميت. فيصبح الإنسان أسيرا داخل هذه النماذج المغلقة، بحيث أنه كلّما حطّم صنماً أقام آخر مكانه، ودافع عنه، أو مات من أجله، أو كان ضحية لنزعات تعصّبه اتجاهه. فتتحول الفكرة والعقيدة والأدلوجة إلى ما يشبه الكوابح التي تقوم بكبح كل حركة أو تغيير مفترض، أو تحول استراتيجي نحو آفاق إنسانية كبرى.
وانطلاقا من كل هذا الواقع الحي لخطورة النماذج المغلقة، والمحنة التي يكابدها الإنسان المنفتح في رحلته نحو التحرر من التفكير الهوياتي القاتل، فإن العقل المنفتح يصبح هنا مثل السّهم المنطلق في الفضاء، أي أنه يسبح داخل فضاء فكري لا محدود، هذا التوصيف الذي تحدث عنه جمال علي الحلاق مؤشر فعلي على أن محنة العقل المنفتح محنة من نوع خاص، فهي المعاناة، ولكنها معاناة بطعم الحرية، والتواصل، والأفق الإنساني الواسع. لأن العقل هنا يسبح خارج كل محدود، ويغرد خارج العقل الجمعي وإكراهاته، عن طريق السؤال. السّؤال الّذي يعني الرّغبة في البحث عن معنىً آخر، خارج خيمة الحقيقة الّتي ترسمها الجماعة، وتصادق عليها الثّقافة وحرّاسها وسدنتها. وأيضاً السّؤال الذي يمنح العقل التميّز والتفرد، والخروج من ربقة نمطية قاتلة، تستهدف العقل، وتميت عناصر الحياة فيه. إنّه السّؤال الذي يعطيك إمكانية العيش مع الآخرين، دون أنْ تحتويك سياجاتهم، أو تحاصرك قيود أفكارهم. فيكفي أنْ تسأل كي تعبُر إلى حيث تتلاقى مع ذاتك في وحدة وجودية لا يستطيع العقل المنغلق إدراكها. وهنا يقف الإنسان بعقله المنفتح ليمدّ بفكره كلّ أواصر الاتصال مع الجميع، دون أنْ تذيبه شعاراتهم، أو تنزاح به تعبيراتهم إلى حيث مركز ثقلِهم الفكري والثّقافي.
لكن كيف تضمن الثقافة سيرورتها وصيرورتها المنغلقة؟
للجواب عن هذا السؤال لا بد من أن نفهم بأن الثقافة هي كائن حي فينا، يتفاعل معنا كما نتفاعل معه، ويسايرنا ونسايره. ولكن خطورته هي أنه يفرض علينا أيضا سطوته، إذا لم ننتبه إلى أنه ليس محايدا في حصاراته، وانغلاقاته. وبالتالي فنحن محاطون بهذه الآليات الضبطية المعلنة والمضمرة داخل تاريخ طويل من الثبات والركود. وذلك ما يمكن أن نستشفه من خلال أنظمة تفكيرنا، وقوالب ثقافتنا المزورة، وآليات التحكم التي يتقنها العقل المنغلق على المدى المتوسط والطويل. ولعل أهم هذه الأساليب نجد ما يلي:
- العقيدة مكان العقل: لا يمكن أنْ نتحدّث عن العقيدة في حضور العقل، فكلاهما خصمان لا يلتقيان إلا لِماما. لهذا فالانغلاق يتغذّى من التّهويلات الإيديولوجية التي ينتجها حرّاس العقيدة (المسلمات/الثوابت/الأصول…)، أو المستفيدين المباشرين من تأزيم الوضع، أو ديمومته من تجار الخوف، وصناعة ثقافة التيئيس. وما لم نصلح هذه الأعطاب الثقافية، فسنكتشف كم أنّ سماحة الدين، قد تتحوّل إلى مصنع لتفريخ العنف.
- تعزيز صورة الإنسان الآثم أو المذنب: تعمل الثقافة المنغلقة على ترسيخ ذهنية في صراع دائم مع ذاتها. فتكرّس الإحساس الإنساني بالضّعف. وتنمي في مقابلها تحريضا وترغيبا على الالتحام بالجماعة، طمعا في الإحساس بالمزيد من التّعويض النّفسي. وهي الحالة نفسها التي يخلقها الاستبداد عبر منظومة تتجذّر في المجتمع من خلال ثلاثية: (التجريم/التحريم/التأثيم) والتي تتيح للمرء أنْ يتمثَّل شعار ” اخضع ترضع “. فالتّجريم: يمارسه الاستبداد عن طريق أجهزته القمعية(الأمن وما يدور في فلكه)، أما التحريم: فهو وظيفة المؤسّسة الدينية، حيث لا خضوع دون تضييق مساحة المباح. أما التأثيم: فهو يعزّز التجريم والتحريم، بجعل طاقة الإنسان محدودة، بأنْ يشعرها دوماً بعقدة الذنب، حتى يكبح جماحها، أو يجعلها مهدورة لا نفع فيها[7]. لذا فالمجتمعات التّأثيمية التي تعيش على عقدة (الذنب والإثم)، لا يمكن أنْ تستشرف مستقبلها إلاّ مرفوقة بالتردّد، واجترار الماضي، والخوف من العقاب، لأنّ بين عقدة الّذنب والفشل ارتباط وثيق، قد يصل بالفرد أو الجماعة إلى سلوك الإرهاب والإجرام بوصفهما تطهيراً ذاتياً، وبحثاً عن خلاص ممكن.
- إخضاع المرأة: يؤكد مصطفى حجازي على دور المرأة المركزي في لحمة العصبيات، بحيث أن إخضاعها الكامل وفرض القوانين الأكثر تزمتا عليها هو ديدن الأصوليات قديما وحديثا، فصورتها لا يمكن أنْ تخرج عن المرأة العورة، أو عن كونها مصدر الغواية.[8]
- المؤامرة أو خطاب المظلومية: يختار المنغلق دوما خطاب المظلومية بوصفها تعويضا نفسيا عن إخفاقاته، وعجزه عن مسايرة كثيرا تكورات عصره. وهذا الاختيار هو استراتيجية واضحة يهدف من خلالها المنغلق إلى مواراة جرحه النّرجسي، من خلال إيمانه الصخري بأن هناك من يحيك المؤامرات لديمومة تخلفه. وهنا مقتل التّفكير والعقل والرّؤية. فكلما تلبّست بنيتنا العقلية بهذا النّوع من التّفكير، كلّما خسِرنا أنفسنا أكثر. وما أشار إليه إيريك فروم يفيدنا في هذا الصّدد:” فلكي نفهم ديناميات العملية الاجتماعية علينا أنْ نفهم ديناميات العمليات السّيكولوجية العاملة داخل الفرد على نحو ما أردنا أنْ نفهم الفرد فإنّه يتوجب علينا أنْ نراه في سياق الحضارة التي تشكِّله “[9]. لهذه الأسباب نفهم كيف أنّ العقل المنغلق يخوض صراعات وهمية تصرِفه عن تداعي منظومته الدّينية، والثقافية، والاجتماعية، أو الإجابة عن الأسئلة الحارقة التي تنتظره. ولن يكون هناك حل لهذه الإشكاليات إلا بالاحتماء بالخطاب المؤامراتي بغية تجييش البشر وحشدهم وصرفِهم عن أيِّ شيء يتبادر إلى ذهنهم، فلا شيء يعلو فوق صوت المعركة.
المراجع:
[1] – أمين، معلوف. الهويات القاتلة. ترجمة نهلة بيضون. دار الفارابي،ط3، 2015، ص:19,
[2] – مصطفى، حجازي. الإنسان المهدور دراسة تحليلية نفسية اجتماعية. المركز الثقافي العربي، ط1، 2005. ص: 45.
[3] – المصدر نفسه. ص: 46.
[4] – الجبران، عبد الرزاق. جمهورية النبي. دون تاريخ نشر، أو طبعة، أو دار نشر. ص: 27.
[5] – كولن، ولسون. اللامنتمي. بيروت. دار الآدب للنشر والتوزيع. ط5. 2004. ص:5.
[6] – جمال، علي الحلاق. فن الإصغاء للذات قراءة في قلق المنفتح. منشورات الجمل، عمان/سيدني، 2002/2013.
[7] – انظر ما كتبه مصطفى حجازي في مقدمته لكتاب مصطفى صفوان. لماذا العرب ليسوا أحرارا؟. ترجمة مصطفى حجازي. بيروت، دار الساقي. ط1، 2012. ص: 7.
[8] – مصطفى حجازي. المرجع السابق. ص: 121.
[9] – إيريك، فروم. الخوف من الحرية. ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر،1972،ط1. ص: 10.