تكوين
الإنسان حر ولكن…
في السياق الإنساني تغدو الحرية أمرا مرتبطا بكينونة الإنسان، لا يستطيع أن يؤسس ذاتيته أو ماهيته دونها، لهذا دافع عنها ولا يزال، واعتبرها جزءا أصيلا من تركيبته الحقوقية والإنسانية. ولم يعرف أن مجتمعا من المجتمعات دافع عن العبودية والاستغلال البشري بشكل طوعي وإرادي إلا في حدود ضيقة. بل ما حصل هو أن باختراع وتأسيس فكرة الدولة، تنازل الناس عن جزء من حرياتهم وحقوقهم، من أجل العيش المشترك، والحفاظ على المصالح المشتركة، والصالح العام، والتعايش ضمن فضاء يسمح للجميع بالبقاء على قيد الحياة، وسيادة حقوق الإنسان. هكذا تأسست الدولة، وهكذا بدأت الإرهاصات الأولى للتخلي الجزئي عن حرية الناس لصالح الدولة، وهي عملية معقدة ومركبة خضعت لصيرورة وسيرورة الاجتماع البشري، وتطورت عبر مسارات متشعبة، حتى وصلت إلى ما عليه الدولة الحديثة في صورتها المعاصرة.
إنها الحاجة إلى نظام يدمج العلاقات الإنسانية فيما بينها، ويحافظ على الأمن والاستقرار، ويحمي الإنسان من شر الإنسان، وجشعه، ووحشيته. وهنا نستحضر نظرية “العقد الاجتماعي”، التي نظّر لها فلاسفة مثل جون لوك وتوماس هوبز وجان جاك روسو، حيث تفترض أن الأفراد يتخلون عن جزء من حريتهم الشخصية، مقابل أن توفر لهم الدولة جانبا مهما من الأمن والنظام العام، وتحافظ على مصالحهم مقابل الأمن والنظام الذي توفره الدولة. وكما أكد جان جاك روسو[1] نفسه في كتابه العقد الاجتماعي، فإن مجتمع الأسرة هو أقدم المجتمعات، أي أنه هو المجتمع الأول، والمجتمع الأصيل، وذلك إلى أن الأولاد لا يبقون مرتبطين بالأب إلا للزمن الذي يحتاجون فيه إليه لحفظ أنفسهم، ثم تنحلُّ الرابطة الطبيعية عند انقطاع هذا الاحتياج، ويعود الأولاد إلى الاستقلال بالتساوي عندما يُحَلُّون من الطاعة الواجبة عليهم نحو الأب، ويُحَلُّ الأب من رعاية الأولاد الواجبة عليه، وهم إذا ما استمروا على البقاء متحدين فهذا لا يكون طبعًا، بل طَوْعًا، ولم تَدُم الأسرة نفسها إلا عهدًا.
هذه الحرية العامة حسب جان جاك روسو مسألة غريزية أو فطرية في الإنسان، وهي جزء من أصالته. فقانون الإنسان الأول، هو أن يبقى حيا، محافظا على ممتلكاته ومصالحه الخاصة، حارصا على أنانيته، ورغبته الذاتية في البقاء، حتى إذا بلغ سن الرشد أصبح سيد نفسه؛ وانطلاقا من هذا التصور فإن أول نموذج للمجتمعات السياسية؛ حيث يكون الرئيس صورة الأب، والشعب صورة الأولاد، وبما أن الجميع يولدون أحرارًا متساوين فإنهم لا يتنازلون عن حريتهم إلا لنفعهم، وكل الفرق هو أن حب الأب لأولاده في الأسرة يؤديه بما يرعاهم به، وأن لذة القيادة في الدولة تقوم مقام هذا الحب الذي لا يحمله الرئيس نحو رعاياه. وبهذا البعد فإن نشأة المجتمعات بدأت بين الأفراد لتشكيل حكومة أو دولة تضمن حقوقهم وحمايتهم، مقابل التخلي عن بعض حرياتهم. وهي نظرية عرفت بالعقد الاجتماعي، وجاءت لتفسر نشأة الدولة وشرعية السلطة.
لم يكن جون جاك روسو الوحيد الذي نظر لهذه الفرضية في نشأة الدولة، بل كان هناك من يدعم هذا الطرح الفلسفي، الذي يعتمد على تصور حالة طبيعية، أي حالة ما قبل الدولة، حالة الفوضى واللانظام، ولتجنب هذه الوضعية الفوضية، يقوم الأفراد بالتنازل طوعا عن بعض حقوقهم وحرياتهم الطبيعية لصالح سلطة جماعية (الدولة)، مقابل الأمن والنظام. هذا العقد ليس اتفاقًا مكتوبًا، بل هو فكرة رمزية تشير إلى اتفاق غير مرئي بين الناس أنفسهم أو بينهم وبين الحاكم. هذا ما أكد عليه هوبز في كتابه ” التّنين “، حيث كان يقر بطبيعة الحُكْم المطْلق للدّولة، لأنّه رأى أنّ الأنانية هي المحرّك الأساسي للإنسان. وأنّ الحالة الطّبيعية هي حربُ كلّ إنسان ضد كلّ إنسان. وتجنّب هذا الوضع الطبيعي في نظَر هوبز إيجاد دولة يحكُمها شخص أو أكثر بسلطة مطلقة. وذلك بأنْ تتخلّى الجماعة لهذا الحاكم عن الشّطر الأكبر من حقوقها مقابل التمتّع بنعمة الأمن. وانبثقت نظرة هوبز من السّبب المباشر للحرب الأهلية في بلاده. فهو يرى بأنّ الملك بدلاً من أنْ يحتفظ بالسّيادة الكاملة أتاح للبرلمان أنْ يقاسمه هذه السّيادة، الأمر الذي عنى لهوبز أنّ السيادة لا تتجزأ. وتجزئتها يعني تحطيمها، لهذا دافع بقوة عن المَلَكية المطلقة[2].
تلاَ هوبز جون لوك وهو المنظّر الليبرالي بامتياز، وبآرائه أخذت الولايات المتحدة الأمريكية. فهو يخالف أطروحة هوبز عن الحالة الطبيعية، حيث يرى بأنّ الحقوق الطبيعية تستند إلى شريعة الله التي فرضها على النّاس وهي ليست حالة حرب، بقدْر ما هي حالة تتضمّن الحقوق الإنسانية الثلاثة: الحياة، والحرية، والمِلكية. والحرية الطبيعية للفرد تعني عدم خضوعه لأيّة قوّة على وجه الأرض، أو الوقوع تحت السّيطرة القانونية أو السّماح لأيّ مخلوق يفرض إرادته عليه، إلا قانون الطبيعة وما يمليه من أحكام، وحريّة الأفراد في ظلّ الحكومة تعني وجود نظام دائم يلتزمونه، ويكون للطّاقة القانونية كيان واضح فيه[3].
أمّا جان جاك روسو فيؤكّد عبد الرحمن بدوي على أنّه ولد في مدينة جنيف بسويسرا التي كانت تؤلّف بنفسها جمهورية تحكُم نفسها بنفسها، ويجري فيها التشريع بمشاركة جميع سكّانها. هذا الوضع جعله ينظر لما سمّاه بالإرادة العامّة، وهو ما يوافق عليه غالبية النّاس إنْ لم نقل كلّ المواطنين. وهكذا انتهى روسو إلى عكس ما صرّح به في العقد الاجتماعي، حيث أنّ الإرادة العامّة تنتهي بأنْ تكون سلطة مطلقة يذعن لها الجميع من وافقوا على القانون المقترح، ومن لم يوافقوا عليه[4].
هنا يحق لنا أن نتساءل:
هل الحرية مكون أساسي من مكونات التنمية البشرية؟ وما هي أبعاد المكون الثقافي في عملية التنمية البشرية؟
لا يمكن أن نتحدث عن التنمية البشرية في عالم اليوم دون أن نستحضر اليوم قيمة الحرية، أو مفهوم الحرية باعتبارها المدخل الأصيل لتنمية الشعوب، وتطور مسارات الإنسان في عالم معقد ومتشابك. فكلما كانت العلاقة مع الحرية متجذرة في المخيال الإنساني لشعب معين، كلما كانت التنمية والتقدم في مجالات أخرى موازية لهذه العلاقة أمرا حتميا. فالعلاقة بين الحرية والتنمية ليست علاقة اعتباطية أو عارضة. بل على العكس من ذلك هي جزء أصيل من عملية التنمية، وفاعل أساسي من فواعل تقدم الإنسان والمجتمع على سواء. إذ لا يمكن للإنسان أن يرقى في مدارج النمو والتقدم، وهو ممنوع أو مكره على هذا الحق الطبيعي، المكفول من طرف الأديان، والشرائع الإنسانية منذ انبثاق فجر الإنسانية الأول. حيث جاءت الأديان والأعراف والقوانين الدولية، لتؤكد على ضرورة أن يكون الإنسان حرا، فاعلا، مريدا، قادرا، دون تمييز أو تحيز، أو جبر، أو إكراه.
لكن قبل أن نجيب عن العلاقة القائمة بين الحرية والتنمية في الأدبيات المعاصرة، يمكننا بداية أن نتحدث عن مفهومين أساسيين من طبيعة هذا الموضوع:
مفهوم الحرية:
الحرية تخضع عمومًا لتحليل ثلاثي الأبعاد[5]:
- البعد الميتافيزيقي: يتعلق هذا البعد بمعرفة ما إذا كان الإنسان حرًا أم أنه خاضع لقيود لا يتحكم بها. إذا كان الإنسان هو السبب الأول لاختياراته، يُقال إنه يمتلك إرادة حرة (تُعرف أيضًا بحرية اللامبالاة). ولكن هذا النوع من القدرة – الذي لا يجب الخلط بينه وبين إرادة عشوائية تخضع للنزوات والانفعالات – يصعب إثباته، ويبدو أنه يتعارض مع قوانين الطبيعة التي تقوم على الحتمية الصارمة. ومع ذلك، فإن قبول هذا النوع من الحتمية قد ينحدر إلى الفلسفة الجبرية (الفَتَالية).
- البعد الأخلاقي: وفقًا لإيمانويل كانط، الحرية، بالرغم من عدم إمكانية إثباتها، يجب افتراضها لجعل الأخلاق ممكنة. فقط كائن حر يمكنه الاختيار بين الخير والشر، لأن المسؤولية الأخلاقية تتطلب القدرة على الاختيار. وفي المقابل، يرى كانط أن الكائن الأخلاقي فقط هو الذي يمكن أن يكون حراً: حيث تصبح الحرية مرادفة للاستقلالية. أما من يسعى للاستمتاع دون أي قيود أخلاقية فيُطلق عليه لقب “ال libertin” (التحرري أو الماجن).
- البعد السياسي: في هذا السياق، يتم التمييز بين المواطن الحر (الذي يُطلق عليه في اللاتينية liber، وهو أصل كلمة “حرية”) والعبد. عندما تفرض الدولة قيودًا قليلة على الفرد، يُطلق عليها “دولة ليبرالية”. وإذا شعر الفرد أن القوانين مفرطة في تقييدها وتمنعه من ممارسة حريته (أي أنها تُعتبر قاتلة للحرية)، فقد يعارض الدولة بجميع أشكالها. ويُطلق على مثل هذا الشخص “التحرري” (libertaire) أو “الأناركي” (anarchiste).
مفهوم التنمية البشرية:
أما المكون الثاني في الموضوع قيد المدارسة فهو التنمية البشرية فماذا يعني هذا المصطلح؟:
ينبغي الإشارة إلى أن مفهوم التنمية هو مفهوم متطور، مر بمراحل متعددة وحقب زمنية مختلفة، ساهمت في تشكيله وبلورته إلى أن وصل إلى الشكل الحالي المتعارف عليه دوليا. هذا التطور المستمر في بلورة المفهوم، كان نتيجة طبيعية للنظرة الاقتصادية التي ارتبطت بشكل كبير بهذا المفهوم لعهود طويلة. وقد كانت هذه النظرة مرتبطة بالتوجه العام الذي كان يرى بأن الثروة هي هدف الاقتصاد، ولا مكان للعنصر البشري داخل هذا السياق، وظل هذا التيار يلقي بظلاله على هذا المفهوم، وتتبناه مجموعة من المنظمات والمؤسسات الاقتصادية حتى وقت قريب. كل هذه الظروف ساهمت وبشكل كبير في بروز تيار مغاير ومخالف لهذه النظرة التبسيطية، يرى بأن الإنسان هو الهدف الأساسي لكل العمليات الاقتصادية، والوسيلة الكبرى لإنتاج الثروة. وتغييب الإنسان داخل هذا النسق هو ضرب من اللامعقولية وإهدار لطاقاته العقلية والجسدية. ومن هنا بدأ مفهوم التنمية البشرية يأخذ ملامح شكله الأولى، حيث سيلتزم به البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة.
إذن كانت هذه المفاهيم نقطة انطلاق لمشروع إنساني واعد، رد للإنسان اعتباره داخل سياق لم يحترم إنسانيته، ولم يعط البعد البشري مكانته اللائقة به. بل قزم دوره لتحل الثروة والإنتاج وكل المفاهيم الاقتصادية المعروفة بدله. وقد اتخذت نظرية التنمية البشرية المستدامة شكلا مؤسساتيا من خلال تبني مجموعة من المؤسسات الدولية له وعلى رأسها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة. فصار لها وزن داخل المنظومة العالمية، وأصبحت تمارس تأثيرا قويا على مسار العلاقات الدولية مشكلة بذلك خطابا أكثر إنسانية، لا يقلل من أهمية الاقتصاد، ولكن يضعه ضمن رؤية جديدة أكثر شمولية. وما تقرير التنمية البشرية العالمي الذي يصدر سنويا عن البرنامج الإنمائي، وتقارير التنمية البشرية التي تغطي المستوى الوطني في البلدان المختلفة، إلا تجسيدا بالملموس على صدق ما قلناه.
يعرف المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي التنمية البشرية المستدامة بقوله:” التنمية البشرية المستدامة هي تنمية لا تكتفي بتوليد النمو وحسب، بل توزع عائداته بشكل عادل أيضا، وهي تجدد البيئة بدل تدميرها، وتمكن الناس بدل تهميشهم، وتوسع خياراتهم وفرصهم، وتؤهلهم للمشاركة في القرارات التي تؤثر في حياتهم.”.[6]
فالتنمية كما جاء في التعريف هي عملية توسيع خيارات الناس، هذه الخيارات التي لا يمكن أن تتأتى إلا بمجموعة من القدرات وهي:
– حياة المرء حياة طويلة وصحية
– حصوله على المعرفة
– الحصول على موارد لازمة لمستوى عيش كريم.
وإلى جانب هذه الخيارات هناك خيارات تضعها التنمية البشرية في اعتبارها، ولعل الحرية الدينية التي لها صلة بموضوعنا أحد هذه الخيارات، إذ ليست التنمية البشرية مجرد تنمية موارد بشرية فحسب. بل تتعدى ذلك إلى أن تصبح عملية تحقيق إنسانية الإنسان بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
أما كلمة مستدامة فتعني:” تلبية حاجيات الأجيال الحالية دون تعريض قدرات وفرص الأجيال المقبلة للخطر”. وكلمة مستدامة داخل هذا التعريف لا ينحصر معناها في البعد الاقتصادي كما أكدنا سابقا، وإن كان الاقتصاد بعدا من الأبعاد الحيوية في عملية التنمية. ولكن الاستدامة تتعدى هذا الجانب إلى أفق يمتزج فيه الاقتصاد بما هو اجتماعي وثقافي وسياسي. فالمهم في هذا المنظور الجديد للتنمية، أنه وسع خيارات البشر لتصبح كل تنمية تخلق تفاوتات طبقية صارخة بين مكونات المجتمع، أو تدمر البيئة، أو تنتهك الحريات، أو تخل بالتوازن الاجتماعي والسياسي، نقيضا للتنمية البشرية المستدامة.
هل التنمية حرية؟ [7]
قدم أمارتيا صن، الاقتصادي والفيلسوف الحائز على جائزة نوبل، أطروحة مميزة في كتابه “التنمية حرية” (Development as Freedom)، حيث يعيد تعريف مفهوم التنمية بالتركيز على الحرية كجوهر وغاية لعملية التنمية. يرى صن أن التنمية ليست مجرد تحسين اقتصادي أو زيادة في الناتج القومي الإجمالي، بل هي توسيع خيارات الإنسان وتمكينه من تحقيق إمكاناته الكاملة. ومن خلال هذا المنظور الجديد للتنمية، يرى بأن الحرية تحديدا يمكن أن تساهم بقدر كبير من الامتيازات تتجاوز فوائدها الأفق الاقتصادي الضيق، إلى أفق التواصل الحضاري والإبداعي الذي يحقق للأمم رقيها ومجدها.
ويمكن اختزال أطروحته المهمة في المحاور التالية:
- الحرية كغاية للتنمية: ينظر صن إلى الحرية على أنها الغاية النهائية التي تسعى إليها التنمية، بمعنى أن الغاية الأساسية لكل عملية تنموية، لا تخرج على نطاق تمكين الإنسان من أن يعيش حياة تنعم بالحرية، ويشعر فيها بالكرامة والاحترام. على سبيل المثال فتحسين الصحة والتعليم ليس مجرد وسيلة لدعم الاقتصاد، أو أن فوائدهما منحصرة فقط في الجوانب الاقتصادية، بل الهدف الأساسي هو تمكين الإنسان من العيش بحرية وكرامة. فالحرية من هذا المنظور تعني أكثر من مجرد غياب القمع السياسي أو الاقتصادي؛ إنها تتضمن إزالة كل العقبات التي تقيد خيارات الإنسان، مثل الفقر، الأمية، التمييز، أو غياب الخدمات الأساسية. فحسب أمارتيا صن التنمية الحقيقية هي التي تجعل من الإنسان مصدر وجودها، والمدخل الأساسي لصيرورتها، حيث تمنحه القدرة على تحقيق إمكانياته الكاملة، لأن الإنسان هو الهدف النهائي لأي مشروع تنموي.
- الحرية كوسيلة للتنمية: يؤكد صن أن الحريات الفردية هي الأدوات التي تُمكّن الأفراد من المشاركة بفعالية في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. على سبيل المثال: فحرية التعبير تُساعد في مكافحة الفساد لأنها تُمكّن المواطنين من انتقاد السياسات غير العادلة. كذلك حرية الوصول إلى التعليم فهي تُمكّن الأفراد من تحسين إنتاجيتهم والمساهمة في الاقتصاد. هنا تصبح الحرية الاقتصادية، مثل تمكين الأفراد من الوصول إلى الأسواق والمشاركة في الأنشطة الاقتصادية، فهي تعزز النمو، وتجعل المجتمعات تتقدم بخطوات ثابتة نحو المجد والتطور. فإذا كان المجتمع يتمتع بحرية إنشاء المشاريع، فإنه بالمقابل يستطيع الابتكار والمساهمة في الاقتصاد بشكل أكبر مقارنة بمجتمع يعاني من قيود اقتصادية. كان أمارتيا صن هنا يوضح أهمية الحريات المختلفة، بالنسبة للنشاط الاقتصادي، والتكامل بين الحرية والتنمية الاقتصادية، فمثلا هناك ترابط كبير بين كل من حرية التعبير، وحرية الحصول على التعليم، وحرية الاختيار الاقتصادي. فكل نوع من الحرية يُعزز الأنواع الأخرى ويُساهم في تحقيق التنمية بشكل عام. إذ عندما تتوفر حرية سياسية، يمكن للمجتمع الضغط لتحسين الخدمات الاجتماعية مثل التعليم والصحة، مما يعزز بدوره من الحرية الاقتصادية.
- إزالة القيود كشرط لتحقيق التنمية: يرى صن أن العقبات التي تقيد خيارات الإنسان وحريته هي العقبات التي تعوق التنمية. فمثلًا الفقر ليس فقط نقصًا في المال، بل هو قيد على حرية الفرد في تحقيق حياة كريمة. فالنظر إلى الفقر من زاوية أحادية لا يسمح لنا بتوسيع دائرة الرؤية، أو النظر إلى الموضوع الواحد من زوايا مختلفة، فالأمية أيضا ليست فقط نقصًا في التعليم، بل هي قيد على حرية الفرد في الوصول إلى الفرص. أما التمييز فيمنع شرائح من المجتمع (مثل النساء أو الأقليات) من المشاركة في الحياة العامة. ناهيك عن القمع السياسي الذي يُقيد حرية التعبير والمشاركة في صنع القرار.
- الحرية مقابل الحتمية الاقتصادية: لقد كانت هناك نظريات كثيرة في تفسير التنمية، حيث كانت تركز على النمو الاقتصادي بوصفه الغاية الأسمى للتنمية. لكن صن ينحو منحى مختلفا قليلا، فهو يوضح أن هذا النمو ليس كافيًا إذا لم يؤدِّ إلى توسيع خيارات الأفراد. فمثلا يمكن لدولة أن تحقق نموًا اقتصاديًا كبيرًا، ولكن إذا كانت هناك فجوات اجتماعية واسعة وقمع سياسي، فإن التنمية تصبح غير مكتملة. لذلك، يرى صن أن الحرية ليست نتيجة للتنمية فقط، بل شرطا أساسيا لتحقيقها. فصن يربط بين الحرية والتنمية المستدامة، موضحًا أن التنمية التي تركز على تمكين الأفراد من خلال الحريات هي الأكثر استدامة على المدى الطويل. فمثلا الاستثمار في التعليم والصحة يُمكّن الأفراد من المساهمة بشكل مستدام في الاقتصاد والمجتمع. فحتى لو حققت دولة ما تقدمًا اقتصاديًا، فإن هذا التقدم لا يُعتبر تنمية حقيقية إذا كان الأفراد محرومين من حقوقهم الأساسية.
وبالتالي أكدت أطروحة أمارتيا صن على أن الحرية ليست فقط هدفًا للتنمية، بل هي الوسيلة الرئيسية لتحقيقها. فبدون حرية، لا يمكن للفرد أن يشارك بفعالية في عملية التنمية أو يستفيد من ثمارها. فالتنمية الحقيقية تُقاس بمدى توسيع خيارات الأفراد وتحقيق إمكانياتهم، والسعي إلى عدم تقييد إراداتهم ورغباتهم. وهذا لا يتحقق إلا من خلال إزالة القيود الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعيق الحرية. فالتنمية من هذا المنظور الفاعل والمؤثر، ليست مجرد مؤشرات اقتصادية، بل هي عملية تحرر إنسانية شاملة.
دوافع صيانة الحرية:
ليست الحرية مفهوما منفصلا عن سياقات تشكله الثقافية والاجتماعية والفكرية. لهذا فهي مطلب أساسي، تتحقق من خلاله الكرامة الإنسانية والتنمية الشاملة في المجتمعات. لا ينبغي النظر إلى الحرية على أنها قيمة مجردة فحسب، بل هي نتاج طبيعي لمجموعة من الدوافع والعوامل والفواعل، تتداخل فيما بينها، لتشكل أساسًا للعدالة والمساواة والتقدم. ويمكن تحليل دوافع صيانة الحرية من زوايا مختلفة تشمل الأبعاد الإنسانية، السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية.
- الدوافع الإنسانية: إن الأساس الذي تبنى عليه الكرامة الإنسانية، لا يمكن أن ينجح دون قيمة الحرية، التي تمنح الفرد القدرة على اتخاذ قراراته وصياغة أفعاله بحرية، بعيدًا عن القهر أو الإكراه. فمن دون الحرية، يصبح الإنسان مُجردًا من هويته الإنسانية. بل دونها لن يتمكّن الأفراد من تحقيق إمكانياتهم الكاملة واستكشاف قدراتهم في بيئة تتيح الاختيار والتجربة. الحرية تُعتبر شرطًا لتحقيق العدالة والمساواة. بدونها، تتعزز الفجوات الاجتماعية، وتُهيمن القوى المسيطرة على الشرائح الضعيفة.
- الدوافع السياسية: حينما تصان الحرية، نكون أمام نظام ديمقراطي حقيقي، يتمتع بمساحات كبيرة من حرية التعبير، وحرية التجمع، وحرية المشاركة في اتخاذ القرار السياسي. هذا التعزيز والتمرين الديمقراطي، هو من يؤمن العدالة والحكم الرشيد. وفي غياب الحرية، لا مكان للحكم الراشد، ولا السياسة العادلة، بل على العكس من ذلك تنشأ بيئات خصبة للاستبداد والطغيان، واستغلال ومصادرة حقوق الأفراد باسم السلطة. مما يفضي بالمجتمعات التي تحترم حرية الأفراد وتصونها، أن تكون أكثر استقرارًا وأقل عرضة للنزاعات الداخلية، لأن الحرية تُتيح الفرصة للتعبير عن المظالم وحل النزاعات بطرق سلمية.
- الدوافع الاقتصادية: في بيئة حرة، يتمكن الأفراد من استكشاف أفكار جديدة وإطلاق مشاريع مبتكرة دون خوف من القيود. هذا يعزز التقدم الاقتصادي ويُشجع المنافسة، وكل صيانة للحرية الاقتصادية تُتيح للأفراد الفرصة للعمل والاستثمار بحرية، مما يُسهم في تقليل التفاوت الاقتصادي وتعزيز الرفاهية العامة. فالمجتمعات التي تحترم الحريات في الحقيقة تسعى إلى توفير ملاذات آمنة ومستقرة للاستثمار، مما يُعزز التنمية الاقتصادية.
- الدوافع الاجتماعية: تضمن صيانة الحرية احترام تنوع الآراء والثقافات، مما يُعزز التفاهم والاحترام المتبادل بين مختلف الفئات الاجتماعية. كما تُمكن المجتمعات من اتخاذ قراراتها بشكل مستقل، وتعزيز قدرتها على مواجهة التحديات وحل المشكلات الجماعية. إضافة إلى ذلك فصيانة الحرية تحمي الفئات المهمشة والمستضعفة من التمييز، وتضمن حقوقهم في التعبير والمشاركة.
- الدوافع الثقافية والمعرفية: تُتيح الحرية الوصول إلى المعرفة وتُشجع على التفكير النقدي، مما يُسهم في تطوير المجتمع ثقافيًا وعلميًا. وتعزيز قدرة المجتمعات على الحفاظ على هويتها الثقافية وتراثها، في مواجهة محاولات الطمس أو التهميش. هكذا يتمكن الأفراد من التعبير عن أفكارهم وقيمهم من خلال الفن والأدب، مما يُثري الحياة الثقافية.
- الدوافع الأخلاقية والفلسفية: بدون حرية الاختيار، يفقد الإنسان القدرة على التمييز بين الخير والشر، لأن الأخلاق تتطلب القدرة على اتخاذ قرارات حرة. وصيانة الحرية تُعبر عن التزام المجتمع بالقيم الإنسانية العالمية، مثل العدالة والكرامة والاحترام. لهذا تُعتبر الحرية شرطًا أساسيًا لتحمل المسؤولية الفردية والجماعية، سواء في العمل أو الحياة الاجتماعية. وبالتالي فصيانة الحرية ليست مجرد خيار، بل ضرورة لضمان حياة كريمة ومستدامة للأفراد والمجتمعات. الدوافع وراء صيانة الحرية تتجذر في قيم إنسانية وأخلاقية عميقة، كما ترتبط بالاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. مجتمع يُصون الحرية هو مجتمع يتمتع بالاستقرار، التقدم، والعدالة.
المراجع:
[1] – جان، جاك روسو. العقد الاجتماعي. ترجمة عادل زعيتر. مؤسسة هنداوي، ط1، 2015.
[2] – النائب، إحسان عبد الهادي.(2012). توماس هوبز وفلسفته السياسية.(ط1). مكتب الفكر والتوعية للاتحاد الوطني الكردستاني. ص: 157.
انظر أيضا: بدوي، عبد الرحمن. المرجع السابق. ص: 163
[3] – لوك، جون. الحكومة المدنية. ترجمة محمود شوقي الكيال. مطابع شركة الإعلان الشرقية. ص: 27.
[4] – بدوي، عبد الرحمن. المرجع السابق. ص: 165.
وانظر أيضا: روسو، جان جاك. خطاب في أصل التفاوت بين الناس وفي أسسه بين البشر. ترجمة بولس غانم.تدقيق عبد العزيز لبيب. المنظمة العربية للترجمة. ص: 37.
[5] – https://www.philomag.com/lexique/liberte
[6]– انظر كتاب ملامح التنمية البشرية ص: 15-16
[7]– التنمية حرية لأمارتيا صن ص: 15، سلسلة عالم المعرفة