تكوين
التيار الإسلامي المعتدل
ظهر مُصطلح “الإسلام المعتدل” ظهورًا مُتكررًا في وسائل الإعلام والنقاشات السياسية والفكرية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، خصوصًا في سياق مكافحة التطرف والعنف الذي يتخذ من الإسلام ستارًا. يتناول هذا المفهوم أفكارًا وممارسات تهدف إلى إبراز إنسانية الإسلام وقيمه الأساسية التي تدعو إلى السلام والتسامح. فما هو جوهر مفهوم الإسلام المعتدل حقًا؟ وهل يعدُّ هذا الاتجاه جديدًا أم أنه يُمثل الوجه الحقيقي للإسلام الذي دعا إليه النبي محمد ﷺ؟ للإجابة عن تلك الأسئلة، يجبُ علينا استعراض الوضع التاريخي الذي أفضى إلى ظهور هذا التيار الفكري، إذ يُعَد هذا المصطلح حديثًا نسبيًا بعد بروز التيارات المتطرفة التي تُطلق على نفسها اسم الجماعات الإسلامية.
ما هو الإسلام المُعتدل
هو مصطلح نسبي يحتمل تفسيرات متعددة، ولا يتميز بتعريف مُوحد. يشير هذا المفهوم إلى تفسير يُركز في القيم الأساسية مثل: التسامح والرحمة والعدل، ويؤكد أهمية استخدام العقل في فهم العقيدة. يُعارض هذا الاتجاه التطرف والعنف، ويدعو إلى الحوار البناء مع الآخرين لتعزيز التفاهم بين الثقافات، كما يتضمن دعوة للتعايش السلمي ونشر قيم الاحترام المتبادل، مما يُسهم في بناء مجتمعات قائمة على التضامن، من طريق تعزيز قيم الاعتدال، يسعى في تقوية الروابط الاجتماعية ومكافحة الأفكار المتطرفة.
الجذور التاريخية
في منتصف القرن التاسع عشر، في ظل التغيرات الجذرية التي شهدتها منطقتنا نتيجة ضعف الدولة العثمانية وانحلالها وانتشار الجهل والخرافات والبدع بين الأفراد في المنطقة العربية التي بلغت ذُروتها في تلك الفترة، بالإضافة إلى غزو القوى الأوروبية الإمبريالية وتأثيرها الثقافي والحضاري المتزايد في شعوب المنطقة، ومع تدهور المستوى العلمي والثقافي والحضاري في عموم البلاد الإسلامية، كان هناك شعور بالقلق لدى بعضهم من احتمال اندثار معالم الحضارة والثقافة والهوية العربية والإسلامية وتراجعها أمام الغزو العسكري والحضاري والثقافي الغربي الذي ساد العالم بأسره، نتيجة للتقدم العلمي والثقافي، وكذلك بسبب الإمبريالية التوسعية للدول الأوروبية، لذلك لم يرَ هؤلاء طريقة لحماية الهُوية العربية والإسلامية سوى نبذ جميع مظاهر الثقافة والحضارة الأوروبية، مهما كانت اختلافاتها من دولة لأخرى، بما في ذلك الأفكار والعادات والفلسفات والعلوم والفنون وحتى الملابس.
ظل هذا الفكر منتشرًا انتشارًا ملحوظًا في العالم الإسلامي حتى بلغ حد تحريم أي أفكار أو علوم أو كتابات أوروبية. ومن المثير للاهتمام أن هناك جزءًا ليس بالقليل من العرب والمسلمين ما تزال تتبنى ذاك الأسلوب في التفكير في الوقت الراهن، على الرغم من استفادتهم من عديدٍ من الامتيازات والاختراعات الغربية مثل: السيارات والهواتف المحمولة والتلفزيونات والحاسوب والأدوية وغيرها من الإضافات التي أسهمت بها الحضارات الغربية في التراث الإنساني. ومع ذلك، فإنهم يتمسكون برؤيتهم السلبية تمامًا تجاه كل ما يأتي من الغرب.
شهدت اللغة العربية والأدب العربي تراجعًا كبيرًا عقب سقوط بغداد على يد التتار عام 1258، وهو الحدث التاريخي الذي أنهى الحكم والخلافة العربية في العالمين العربي والإسلامي. وقد أدى ذاك الانهيار إلى حقب من الفوضى والصراعات السياسية والاجتماعية. كانت الظروف السياسية السلبية، ولا سيما في مصر، نتيجة للفوضى التي ازدادت الأوضاع فيها سوءًا في أثناء حكم المماليك والعثمانيين، فقد تأثرت جميع فئات المجتمع، بما في ذلك المثقفين والكتَّاب. أضف إلى ذلك، أن الثقافة الإسلامية قد مُنيت بخسارة كبيرة على أيدي التتار، إذ أقدم المغول على إتلاف آلاف الكتب القيمة والمخطوطات النادرة، وأدى ذلك إلى مقتل عديدٍ من العلماء والأدباء، بالإضافة إلى تشتيت شمل من تبقى منهم في مختلف البِقاع الإسلامية. وقد تجلت تلك الفوضى في الأدب الذي عكس التوترات الاجتماعية والصراعات السياسية، مما أسفر عن ظهور أعمال أدبية تناولت مُعاناة الناس وآمالهم.
ولعل أبرز من صوَّر حجم الدمار الذي مُنيت به بغداد (ومعها الحضارة العربية والإسلامية) كان ابن كثير في كتاب البداية والنهاية حينما وصفها قائلا: “وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة” وفي فِقرة أخرى وصف ابن كثير حجم المعاناة التي عاشها أهل بغداد آنذاك: “ولما انقضى الأمر المُقدر وانقضت الأربعون يومًا بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون”. وطال كل ذاك الدمار الرهيب بيت الحكمة كذلك، فقد دُمرت المكتبات وأُحرقت عديدًا من الكتب والمخطوطات القيمة وأصبح من الصعب الحفاظ على هذا المخزون العلمي والتراث الإنساني الكبير.
على الرغم من كل ما سبق، ومرور القرون من الهيمنة غير العربية على منطقتنا، نشأ في القرن التاسع عشر اتجاه فكري جديد يسعى في تحقيق التوازن بين الهُوية العربية والإسلامية وتعاليم الدين، والحداثة والانفتاح على العالم المعاصر. وقد دفع هذا الاتجاه المفكرين إلى إعادة قراءة النصوص الدينية بأسلوب يُبرز دعوة الإسلام إلى نشر مفاهيم الرحمة والتسامح والتعايش السلمي، واحترام تعدد الثقافات والآراء، كما يؤمن هؤلاء بأن الإسلام يدعو إلى الاعتدال وينبذ الغلو، خصوصًا في ظل انتشار الجهل السطحي الذي يعدونه أخطر من الجهل البسيط، إلى جانب تراجع المستوى الفكري حتى في المؤسسات العلمية العريقة مثل الأزهر الشريف الذي عانى جمودًا في التفكير النقدي.
وفي هذا السياق برزت حركة النهضة العربية وترافقها النهضة الإسلامية، بوصفها مُبادرتين جادّتين تهدفان إلى إحياء الحضارة العربية والإسلامية وإخراجها من حالة التراجع التي شهدتها. وقد تجسدت تلك الحركة في مجموعة من المشاريع الثقافية والفكرية التي استهدفت تعزيز الهُوية العربية، من طريق إحياء التراث الأدبي والفني وتحفيز النقاشات بشأن العلوم والفلسفة، كما سعت النهضة إلى تأكيد أهمية التعليم بوصفه وسيلة للنهوض بالمجتمعات، وضرورة الانفتاح على التجارب العالمية للاستفادة منها. وكان الهدف الأساسي لتلك الحركة هو التخلص من الاستعمار وإعادة بناء الدول العربية على أسس وطنية، مما أدى إلى ولادة فكرة الوَحْدَة العربية التي أسهمت في تعزيز الروابط بين مختلف الدول العربية.
رفاعة الطهطاوي
انطلقت حركة النهضة العربية من مصر عقب الحملة الفرنسية عام 1798، فقد أدرك الجميع الفجوة بين المنطقة العربية والإسلامية وأوروبا. امتدت الحركة إلى عواصم عربية أخرى، وتميزت بشخصيات مثل رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873)، أحد أبرز رواد النهضة الحديثة في مصر، ومؤسس مدرسة الألسن، وأحد أهم المفكرين والمثقفين الذين أسهموا في تطوير التعليم والثقافة في مصر في القرن التاسع عشر. في عام 1826 انطلق الطهطاوي إلى فرنسا ضمن بعثة تعليمية أرسلها محمد علي باشا مُكونة من 44 رجلًا وتولى الطهطاوي إمامة البَعثة. وفي فترة إقامته في فرنسا، درسَ الطهطاوي العلوم الحديثة واللغات الأوروبية بالإضافة إلى استكشاف الحضارة الفرنسية. ونتيجةً لتجاربه الغنية، كتبَ كتابًا بعُنوان “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”، الذي وصف فيه تجربته في فرنسا وأبرز مظاهر التقدم والحضارة التي شهدها.
إقرأ أيضًا: رفاعة الطهطاوي: أحد رواد التنوير
مدح الطهطاوي الحضارة الفرنسية حينما كتب: “اعلم أن الباريزيين يختصون بين كثير من النصارى بذكاء العقل ودقة الفهم في وغوص ذهنهم في الغويصات … وليسوا أسراء التقليد أصلا، بل يحبون دائمًا معرفة أصل الشيء والاستدلال عليه، حتى أن عامتهم أيضا يعرفون القراءة والكتابة.” في إشارة تُوضح مدى انتشار الأمية في مصر والعالم العربي في ذلك الوقت، كما انتقد الحضارة الفرنسية (الغربية) عندما كتب: “وهم في الحقيقة أقرب إلى البخل من الكرم” وانتقد بُعدهم عن الدين عندما كتب: “ومن عقائدهم القبيحة قولهم إن عقول حكمائهم وطبائعهم أعظم من عقول الأنبياء وأذكى منها” وذاك يُثبت أنه حاول جاهدًا أن ينقل صورة محايدة وموضوعية عن الحضارة الفرنسية.
بعد عودته إلى مصر أسس الطهطاوي مدرسة الألسن في عام 1835، وهي تعد أول مدرسة حديثة مختصة في تعليم اللغات الأجنبية في مصر. وقد تخرج في تلك المدرسة عددًا من المترجمين والمثقفين الذين أسهموا في نقل العلوم والمعارف الحديثة إلى البلاد، كما ترجم عديدًا من الكتب والمراجع العلمية والأدبية إلى اللغة العربية، وكتب عديدًا من الكتب في مجالات متنوعة مثل: التاريخ والجغرافيا واللغة العربية، كما أسس أول صحيفة مصرية تصدر باللغة العربية، وهي “الوقائع المصرية”، وقد أسهم أيضًا في تطوير التعليم في مصر من طريق إدخال العلوم الحديثة إلى المناهج الدراسية، وعُرف بدعواته للإصلاح الاجتماعي والسياسي في البلاد.
كان الطهطاوي من الرواد الأوائل الذين دعوا إلى ضرورة تحديث المجتمع المصري، وإدخال العلوم والمعارف الحديثة إلى مصر. وقد آمن بأهمية التعليم بوصفه ركيزةً أساسية لبناء المجتمع وتطويره، ورأى أن التعليم هو السبيل الوحيد لتحقيق التقدم والازدهار، كما كان يدعو إلى أهمية الحفاظ على الهُوية الوطنية المصرية والتراث الثقافي العربي والإسلامي. وقدم الطهطاوي نداءً للحفاظ على الآثار المصرية، فقد اقترح جمع جميع الآثار المُكتشفة وتقديمها إلى مدرسة الألسن، وهو ما أسفر عن تأسيس المتحف المصري فيما بعد. وعلاوة على ذلك، مَثلت تحذيراته من تصدير الآثار ضغوطًا على الحكومة، مما أدى إلى إصدار مرسوم بحماية التراث المصري في عام 1835، وإنشاء مخزن للآثار في القاهرة. كانت تحركات الطهطاوي علامة فارقة في التحول الثقافي والعلمي في مصر، كما كانت تلك التحركات الأولى من نوعها في العالم العربي. امتدت بعد ذلك تلك التحركات الثقافية والعلمية من مصر إلى سائر البلاد العربية، وكان لمصر دورًا علميًا وثقافيًا رائدًا في العالم العربي.
جمال الدين الأفغاني
لم تتوقف حركة التطوير الفكرية الثقافية بعد رفاعة الطهطاوي، وإنما تلاها عديدٌ من الحركات الأخرى وبرز عديدٌ من المفكرين مثل المفكر جمال الدين الأفغاني (1838-1897) الذي آمن بوَحْدة الأمة الإسلامية. دعا الأفغاني إلى توحيد الصفوف لمواجهة التحديات، مؤكدًا أهمية التعاون بين الدول الإسلامية في عصر الفتن والصراعات. رأى أن الوَحْدة ضرورة حقيقية تُجَسَّدُ في العمل المشترك لتعزيز القيم الإسلامية ونشر السلام والعدالة الاجتماعية، ودعا إلى تعزيز الوعي لدى الأفراد والمجتمعات لمواجهة الانقسامات والعمل بروح الجماعة من أجل مستقبل أفضل.
كما ألقي الضوء على أهمية مقاومة الاستعمار الغربي الذي يعدُّ تهديدًا للأمة الإسلامية، من طريق تعزيز الوعي الثقافي والديني بين الأجيال الجديدة، وتأكيد ضرورة الوَحْدة بين الدول الإسلامية لمواجهة ذاك الخطر، كما دعا إلى نشر الأفكار الوطنية التي تدعم استقلال الشعوب الإسلامية، وتوعية المجتمع بالآثار السلبية للاحتلال في الهُوية والتراث، مما يُسهم في بناء مجتمعات قوية. كما أكد ضرورة العودة إلى القرآن والسنة بوصفهما مرجعًا أساسيًا، مع أهمية تفسيرهما بما يتماشى مع واقع المجتمع المعاصر، الأمر الذي يُعدُّ ضرورة لمواكبة التطورات الحضارية والعلمية، كما طرحَ ضرورة تطوير المناهج التعليمية لتعزيز التفكير النقدي.
إقرأ أيضًا: الإسلام السياسي القصة وما فيها: من الأفغانى إلى حسن البنا عبر قنطرة رشيد رضا
وأكد أهمية تحكيم العقل في فهم الدين، ودعا إلى الجمع بين العقل والنقل في تفسير النصوص الدينية لتتحقق رؤية شاملة تُوحد بين الإيمان والعقلانية، مما يُعزز الفهم العميق للمعتقدات. تلك المعالجة المتوازنة تُمكن المؤمنون من التوصل إلى تجارب رُوحية أعمق وتُعزز الانفتاح على التفسيرات المتنوعة، كما دعا إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع المُنصف للثروة، لتحقيق التوازن الاجتماعي والحد من الفوارق الاقتصادية.
ترك الأفغاني إرثًا عظيمًا بوصفه أحد الرواد الأوائل للنهضة العربية والإسلامية، فقد ألهم الأفراد لتطوير أوطانهم وأسَّس جمعيات سرية لمقاومة الاستعمار وتعزيز الوعي الوطني. ولعب دورًا بارزًا في تكوين الحركات الوطنية، وجذب المثقفين لتبادل الأفكار، وكان له أثرًا عميقًا في تعزيز الشعور القومي والديني. زار عدة دول إسلامية وكتب عديدًا من المقالات بخصوص قضايا الإصلاح.
محمد عبده
ظهر بعد ذلك تلميذ جمال الدين الأفغاني، الإمام محمد عبده، ليكون واحدًا من أبرز المفكرين والمصلحين في العالم العربي والإسلامي. ترك عبده بصمات واضحة في الفكر الإسلامي والعربي من طريق أعماله وأفكاره. فقد أسهم في تجديد الفكر الديني وإصلاح المجتمع، داعيًا لاستخدام العقل في استنباط الأحكام الشرعية وتبني مبادئ العدالة والمساواة، كما عمل لتعزيز التعليم باللغة العربية الفصحى، مما رفع مستوى الوعي الثقافي والسياسي، أكسبه ذلك احترام كثيرين في الأوساط الفكرية والدينية.
وقدم الإمام محمد عبده تفسيرات جديدة للقرآن الكريم، تركزت في المعاني الحقيقية للآيات وربطها بالحياة المعاصرة. وقد سعى من طريق كتبه في تقديم رؤية تتماشى مع تحديات العصر الحديث، مما أسهم في تمكين الأفراد من فهم القيم الإسلامية في سياق الظروف الاجتماعية والسياسية، كما عمل للتصدي للخرافات والجهل، داعيًا إلى تعزيز العلم والمعرفة وتجديد المناهج التعليمية، وطالب بمنح المرأة حقوقها ورفع مكانتها في المجتمع، مُشددًا على أهمية تعزيز الوَحْدة الوطنية.
إقرأ أيضًا: محمد عبده عبقري الإصلاح
ظهر عددٌ من المفكرين والعلماء الإسلاميين في القرنين التاسع عشر والعشرين الذين سعوا إلى البناء على أفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، فيعدون هم المؤسسون للتيار الإسلامي المعتدل. يُعَدُّ ذاك التيار من الاتجاهات الفكرية والدينية التي تهدف إلى تحقيق توازن بين الدين والحداثة، مع المحافظة على التراث الإسلامي والانفتاح على العالم الحديث. كما يسعى في إعادة قراءة النصوص الدينية بأسلوب يُعزِّز قيم الرحمة والتسامح، مع احترام تنوع الثقافات والآراء. ويُؤمن المعتدلون الإسلاميون بأن الإسلام ينص على الوسطية في الفكر والسلوك، ويدعو إلى الاعتدال والابتعاد عن الغُلو. تنعكس تلك الوسطية في تفسير النصوص بأسلوب يأخذ في الحسبان السياق التاريخي والاجتماعي، مع محاولة تطبيق الأحكام الدينية بما يتوافق مع المصلحة العامة.
إذًا باختصار مبادئ الإسلام المعتدل كالآتي:
- التوازن بين الدين والدنيا، يهدف إلى فهم الإسلام بوصفه دينٌ يسعى في تحقيق الرفاهية الدنيوية والأخروية، معتبرًا أن الدين والدنيا ليستا متناقضتين.
- التسامح والحوار، يُشجع على التفاعل مع الآخرين، مهما كانت معتقداتهم أو ثقافاتهم، ويؤكد أهمية الحوار بين الأديان والثقافات.
- حقوق الإنسان، يؤمن بضرورة احترام حقوق الإنسان كما هي مُعَرَّفة في الإسلام، بما في ذلك حقوق المرأة والأقليات.
- إصلاح وتجديد، يدعم فكرة التجديد الفقهي والاجتهاد لمواجهة تحديات القرن التاسع عشر والعشرين والحادي والعشرين، بدلًا من التمسك الأعمى بالتقاليد دون فهمها.
- مكافحة التطرف، يقدم نموذجًا للمسلمين لمواجهة التطرف والإرهاب بأفكار يمكن تقبلها عالميًا.
- التكامل والتقدم، يُسهل من التكامل بين المسلمين والمجتمعات الأخرى، مما يُسهم في التقدم الاجتماعي والاقتصادي.
- التعزيز للقيم الإنسانية، يُعزز القيم الإنسانية التي تشترك فيها جميع الثقافات، مثل العدالة والحرية والمساواة.
من طريق تلك المبادئ يُمكننا أن نستنتج أن الإسلام المعتدل ليس تيارًا حديثًا، بل يمكن عده جزءًا أساسيًا من الكِيان الإسلامي منذ نشأته. يُعرِّف الإسلام بوسطيته واعتداله، ويدعو إلى التوازن في جميع جوانب الحياة، ويرفض الفِرَق المتشددة. يُعد تيار الإسلام المعتدل محاولة لاستعادة المعاني الأصيلة في الإسلام وتطبيقها لخدمة البشرية والتقدم. على الرغم من تلك التحديات يُمثل هذا التيار أملًا للبعض في تحقيق تغيير إيجابي في مجتمعات المسلمين ومواجهة التطرف. وهو يعد الأكثر توازنًا بين التيارات، لأنه يهدف إلى مكافحة التطرف وتحقيق الاستقرار والانضباط السياسي.
الجدير بالذكر أن تيار الإسلام المعتدل يطاله عديدًا من الانتقادات والتحديات المختلفة:
- عدم وجود تعريف موحد
على سبيل المثال هناك من يرى أن تيار الإسلام المعتدل يفتقر إلى تعريف موحد، مما يؤدي إلى تنوع في الآراء والمواقف بين أفراده. إن هذا التنوع يجعل من الصعب تقديم رؤية متسقة للإسلام المعتدل، ويضاعف الانتقادات الموجهة إليه، فيجد بعض الأفراد أنفسهم منقسمين بين وجهات نظر تقليدية وأخرى أكثر حداثة. علاوة على ذلك، فإن الاختلافات في التفسير والضرورة المُلحة في التوافق بين الأجيال المختلفة تُظهر كيف أن هذا التيار ليس فقط مُعرض للتناقض أحيانًا، بل يتطلب أيضًا حوارًا مستمرًا لتعزيز الفهم المتبادل. تلك الديناميكية قد تضع تحديات أمام الجهات التي تسعى في إقامة تواصل فعال مع المجتمعات الأوسع، مما يزيد من تعقد الساحة الإسلامية المعاصرة.
- ضعف التأثير في الأرض
وهناك من يرى أن هذا التيا يُركز في الجانب النظري، ولكنه يُعاني نقصًا في البرامج العملية القابلة للتطبيق في الأرض، مما يحد من فاعليته وتأثيره في الواقع. وعليه فإن هذا القصور يعوق قدرة هذا التيار على تحويل الأفكار المعتدلة إلى واقع ملموس، وينعكس سلبًا على استجابة المجتمعات الإسلامية للمبادرات التي تسعى في تعزيز التسامح والتعايش السلمي. في ظل غياب استراتيجيات واضحة وممارسات عملية، يُصبح من الصعب على الأفراد أن يؤمنوا بقدرات ذاك التيار على تحقيق التغيير الإيجابي في مجتمعاتهم. وبذلك، يؤدي هذا إلى فقدان بعض الأفراد لثقتهم في مصداقيته وقدرته على مواجهة التحديات المعاصرة، مما يتطلب ضرورة إعادة التفكير في كيفية تحويل الأفكار المثالية إلى تطبيقات عملية يمكن أن تؤثر تأثيرًا إيجابيًا في حياة الناس.
- عدم القدرة على مواجهة التطرف بفاعلية
كما يُواجه تيار الإسلام المعتدل تحديات كبيرة في مواجهة التطرف، ولا سيما التطرف العنيف الذي يُمثل تهديدًا للأمن والسلام في المجتمعات. إن التحديات تتجاوز مجرد الفكر المتطرف، فهي تتعلق بإعادة صياغة الفهم العام للإسلام وتعزيز القيم الإنسانية والعيش المشترك. يفتقر هذا التيار إلى آليات فعالة لمكافحة الفكر المتطرف، وتفنيد الحجج التي يقدمها المتطرفون، مما يستدعي العمل لتطوير استراتيجيات شاملة تشمل التعليم والتوعية من أجل تجاوز الأفكار المتطرفة واستئصال جذورها. خاصة وأن هناك جماعات من الإسلام السياسي المتطرفة (وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين) تُقدم نفسها بوصفها تتبع تيار الاسلام المعتدل. والجدير بالذكر هو أن التطرف لمرحلة مُقلقة، فقد أصبح يُتطاول على رموز إسلامية معتدلة كبيرة مثل فضيلة الإمام شيخ الأزهر الشريف في مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من وسائل الإعلام.
- ضعف التواصل مع الشباب والأجيال الجديدة
يُواجه تيار الإسلام المعتدل تحديًا كبيرًا في التواصل الفعَّال مع الشباب الذين يُمثلون شريحة كبيرة ومتنوعة من المجتمع الإسلامي. ففي عصر تتسارع فيه وتيرة التطورات التكنولوجية والمعلوماتية، أصبح من الضروري على هذا التيار أن يُعيد النظر في استراتيجياته، إذ يعاني نقصًا ملحوظًا في استخدام اللغة والأساليب التواصلية التي تستطيع جذب الشباب وملامسة اهتماماتهم الحقيقية (وهو ما تُجيده التيارات المتطرفة). لا بُد للتيار من تطوير رسائله لتكون أكثر توافقًا مع التطلعات الحديثة والتحديات التي يواجهها الشباب، مما يشمل قضايا الهُوية والانتماء والتغيرات الاجتماعية السريعة. يتطلب ذلك أيضًا الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الإنترنت التي تعد الوسائل الرئيسة لتواصلهم، فيُعزز التيار من حضوره ويُسهم في توعية الشباب بخصوص المبادئ المعتدلة والقيم الإنسانية.
- عدم القدرة على تجاوز الخلافات الداخلية
يعاني التيار الإسلامي المعتدل خلافات داخلية تتعلق بالرؤى والمواقف والطروحات الفكرية، مما يُضعف قدرته على العمل بطريقة موحدة ويُقلل من تأثيره في الساحة الإسلامية. تلك الخلافات ليست نتيجة اختلاف في الآراء بشأن بعض القضايا الأساسية، بل تمتد إلى طريقة التعامل مع التحديات المعاصرة التي تواجه المجتمعات العربية، مما يُؤدي إلى انقسام الرأي العام بشأن مفاهيم مثل الاعتدال والتطور، ومن ثم فإن تلك الفجوات تُعرقل الجهود المبذولة لتعزيز الوَحْدة والتضامن بين مختلف مكونات التيار، مما يؤثر سلبًا في مصداقيته على مواجهة التطرف والتحديات الأخرى التي تُهدد السِلم الاجتماعي.
- عدم وجود دعم سياسي كافٍ
يفتقر تيار الإسلام المعتدل إلى الدعم السياسي الكافي، مما يُقيِّد قدرته على التأثير في السياسات العامة ويجعل من الصعب عليه ممارسة نفوذٍ حقيقي في اتخاذ القرارات. إن هذا الضعف لا يؤثر فقط في فاعلية التيار في المجال السياسي، وإنما ينعكس على ثقافة المجتمع وفهمه للقيم والمبادئ. بالإضافة إلى ذلك، فإن غياب الدعم السياسي يعوق الجهود المبذولة لتحقيق الأهداف التي يسعى فيها التيار مثل: نشر قيم التسامح والعدالة وتعزيز الحوار بين الأديان والثقافات المختلفة. ومن ثم تبقى الطموحات في نشر هذه القيم الرائدة حبيسة التحديات التي تفرضها الظروف الراهنة، مما يجعل أنصارَ هذا التيار يلجأون للمطالبة لتضافر الجهود من جميع المعنيين لدعم هذا التيار وتمكينه حتى يُحقق رؤيته.
- عدم قدرته على تقديم حلول اقتصادية واجتماعية
يُركز تيار الإسلام المعتدل في الجوانب الدينية والثقافية، لكنه يفتقر إلى تقديم حلول اقتصادية واجتماعية للمشكلات التي تواجه المجتمعات الإسلامية. ذاك التحدي يؤثر سلبًا في قدرة التيار في كسب تأييد الفئات الفقيرة والمهمشة، التي تعاني صعوبات اقتصادية واجتماعية. خصوصًا وأن تلك القضايا تعد هي المدخل الأساسي والرئيس التي تدخل منها جماعات التيارات المتطرفة.
أحد جذور الاسلام السياسي
هناك عددٌ من المفكرين والعلماء والفلاسفة الذين ينتقدون هذا التيار، ويعدونه أحد الجذور الأساسية لتيار الإسلام السياسي، لا سيما السني منه. وقد خصصوا جزءًا من انتقاداتهم للأفكار التي طرحها جمال الدين الأفغاني الذي كان له تأثيرًا كبيرًا في تلك الحركة. فهم يرون أن أفكاره قد أسهمت في تكوين رؤية معينة بشأن الدين والسياسة، مما أدى إلى ظهور تيارات متشددة وتفاسير متعددة للإسلام التي تتبناها الجماعات السياسية المختلفة. ذاك النقد يأتي في سياق أوسع يتناول العلاقة بين الدين والتغيير الاجتماعي، والكيفية التي يمكن أن تؤثر بها الأفكار الفلسفية والسياسية في المجتمعات الإسلامية المعاصرة.
ملاحظة مُهمة : إن التيارات العربية التي سوف تُعرف لاحقًا كانت أيضًا نتاجَ حركة النهضة العربية المذكورة أعلاه. (عدا الإسلام السياسي الشيعي)
يتبع…
المصادر
الدكتور أنور الزعبي. (2005) تيارات الفكر العربي المعاصر إلى أين؟ صحيفة الرأي الأردنية.
أ.م. د حسين كليبان الزهيري (2023) فلسفة الإصلاح بين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده دراسة مقارنة. كلية الآداب – الجامعة العراقية.
فرج سعيد وبوطيبي محمد (2021) موقف رواد النهضة العربية من التراث العربي الإسلامي خلال القرن 19 م. مجلة الاستيعاب.
ألبرت حوراني (1991) كتاب تاريخ الشعوب العربية. مؤسسة نوفل للنشر والتوزيع.
يوجين روجان (2011) كتاب العرب من الفتوحات العثمانية إلى الحاضر. كلمات عربية للترجمة والنشر.
عباس عميد زنجاني (2010) كتاب الفكر السياسي في الإسلام – المبادئ والأطر العامة. مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي.