الجانب المظلم لكوكبنا البشري الحاضر

 تكوين

ونحن في نهايات الربع الأول من القرن الواحد والعشرين تحضرنا الاحتفالات الفخمة التي عمَّت حواضر المعمورة في استقبال الألفية الثالثة، وصلوات الرجاء والأمل بسلام مستدام، ورفاهية خالصة من المنغصات التي استتبعت الحربين الكونيتين التي أشعلت أطراف القرن العشرين وحصدت ملايين البشر، وانجبت اللقطاء من أمهات عازبات، وعمَّرت مصانع أدوات القتل النارية والنووية، وقسَّمت العالم إلى معسكرين: منتصر ومهزوم، وتحركت مساطر هندسة الدول ونظمتها في حقائب التقدم والتخلف والنامية.

ونظرة متأنية إلى واقع الحال العربي في تَكوِّنه التاريخي ومآله المتوقع في جميع الأصعدة في فترة حركات التحرر والانقلابات على الملكيات التي توجتها قوات الحلفاء المنتصرة في الحربين الكونيتين، وما حملته في أحشائها من ملكيات بلباس جمهوري مُصطنع، وتبعية للنظامين الرأسمالي والاشتراكي، وقابلية الانحلال من داخلها، مؤسسة على غفلة من كون ما صاروا إليه يأتي ضمن نتائج الحربين، وكانت نكسة 5 حزيران التي كشفت عن هشاشة الأنظمة الفتية.

انشغل الباحثون والنخب العربية بعد الخامس من حزيران في تحليل أسباب النكسة وضعف الحضور العربي والمناعة والممانعة، وتوسعت في نقد العقل العربي وجلده في شتى تجلياته: السياسية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والعلمية. وكان خطابها في جميعها على نقيض ما كان عليه إبان حركات التحرر وإشادته بالانتصارات، وشحذ الهمم للمزيد تحت لواء شعارات القومية والوحدة، وقد يكون من المفيد الإشارة هنا إلى أن الخطاب في الحالتين خضع لقانون الفعل وردة الفعل، وهو قانون يُساير في المجالين: السياسي والاقتصادي الآنية والسطحية في التشخيص والتقصير في المعالجة المفيدة وتجاوز الراهن من الأحوال وتصويبه أو تغييره.

إلا أن قراءة متأنية لدُرر المكتبة العالمية السياسية والاقتصادية والأدبيات العابرة للمحلية القومية واللغوية المتيسرة، تجعلنا أمام مَشهد مختلف عن الرائج في وسائل الإعلام والتواصل من صور الاستقرار والسلام في ظل هيمنة أحادية على مفاصل الإدارة والإنتاج والبحث العلمي في المجالين: الأرضي والفضائي، وأن ما يحصل من مناوشات عسكرية وعقوبات اقتصادية تهدف بالدرجة الأولى إلى قمع كل حراك في البلدان المُصنفة متخلفة أو نامية في الشرق الآسيوي والقرن الإفريقي، قد يُعكر صَفو المعمورة تحت شعار السلام العالمي، والمحاولات الحثيثة لدفع الشعوب إلى تصفية وسحق نفسها بنفسها لتخفيف الأعباء وحل الدول القوية لمشكلاتها ونزاعاتها وأزماتها على حساب الآخرين.

لكن يبدو أن البلدان المُصنفة قوية ومتماسكة تبلغ بدورها منزلة متقدمة من الهشاشة ليست ببعيدة عن منزلة الأنظمة المُصنفة ضعيفة أو فاشلة، المفروض عليها التبعية في طلب استمراريتها في هُزالها، ويُشير العالم السيكولوجي يونغ في واحدة من مقولاته إلى أن

“لمعرفة الجانب المنير لكوكب ما علينا أن نعرف معرفة جيدة جانبه المظلم”

ولعلنا نجد ضالتنا في سبيل التعرف على الوجه المظلم لعالمنا الحاضر في المستويين السياسي الاجتماعي والمواطن الفرد في روايتين خياليتين مشهورتين نُشرتا في زمن الحربين الكونيتين:

  • رواية1984” لمؤلفها جورج أورويل
  • وروايةرجل بلا صفات” لمؤلفها روبير موزيل.

رجل بلا صفات

عارض روبرت موزيل (R. MUSEL روائي ألماني ورائد المذهب التعبيري في النثر، 1880-1942) في روايته “رجل بلا صفات” (L’Homme sans qualités) القيم الوهمية والأخلاق الكاذبة وخيبات الأمل التي تبلغ حدود التخلي، والتي تُميز العصر الرأسمالي الحديث، ومَزَّقَ فيها أقنعة الشخصيات الكبيرة، وفي الرواية شرحٌ مُسهبٌ لتعقيدات المشاعر والأحاسيس مع الذات والآخر لحياة الأوروبيين والنمساويين بخاصة بعد الحرب العالمية الأولى.

يُخبرنا موزيل في روايته هذه عن بث الأفكار العنصرية والقومية والمشاعر العدائية وتنمية الناشئة عليها، إذ يتعلم الأطفال الألمان ببساطة ازدراء حروب الأطفال النمساويين، وينظرون إلى الأطفال الفرنسيين كونهم أحفاد مكدودي الأعصاب ويهربون بالآلاف حين يُقبل عليهم ألماني من الحرس القومي ذو اللحية الكاملة، وكذلك يُربى الأطفال من الفرنسيين والروس والإنكليز على أنهم ينتصرون دائمًا أو أكثر الأحيان، ويقدم موزيل شخصية أولريش المختلفة، الذي يذكر في مسابقة إنشائية فكرة رأوها غريبة وهي أن الصديق الجاد للوطن لا يجوز أبدًا أن يجد وطنه الوطن الأفضل، والفكرة الثانية هي أنه من الجائز أن يكون الرب أيضًا  يحب أكثر ما يحب أن يتحدث عن دنياه في صيغة الاحتمال الكامن، وهو -الله- عندما يفكر في صُنع العالم فهو أيضًا يُفكر بأنه من الممكن أن يكون كذلك في صورة أخرى. ومارس أولريش في شبابه، وفي كل مكان حلَّ فيه ما هو حافل بالقيمة وبما لا طائل منه…(انظر ص 23).

وتجدر الإشارة إلى أن المقدمات التي تَصَدَّرت الكتاب المذكور سابقًا لافتة وغير معهودة في كتابة الرواية، فهي مُغرقة في التفلسف وضمن عناوين لا تخلو من الغرابة:

  • العنوان الأول، ما يُلاحظ أنه لا يُفضي إلى شيء
  • الثاني، منزل الرجل بلا صفات
  • الثالث، يُمكن للرجل بلا صفات أن يكون له أب ذو صفات
  • الرابع، إذا كان هناك روح خاصة بالواقع فلا بُدَّ أن يكون هناك روح خاصة بالممكن.

المُلاحظ في هذه التمهيدات التي تُذكرنا بمقدمات ابن طفيل لحكاية “حي بن يقظان” الفلسفية، تركيزه في فكرة الإمكان وأن الحتمية فكرةٌ مُضللة في شتى استخداماتها، حتى أن العالم يُمكن أن يكون على غير ما هو عليه، وهذا النوع من التفكير ربما يُعيدنا إلى التمييز الأرسطي بين مفهومي “ما هو بالقوة“، و “ما هو بالفعل“، أو مفهومي المادة والصورة، وأن مادة العالم الأولى كانت في حال القوة أو الإمكان المطلق لقبول أي صورة لتصبح موجودة بالفعل، وما هو حاصل يصبح موجودًا بالقوة لصورة ما جديدة وهكذا، وهذه المسألة طُرحت في الفكر الديني الإسلامي بخاصة عند المتكلمين والفلاسفة، وتقسيمهم الوجود إلى قديم أو واجب الوجود بنفسه، ومحدث أو واجب الوجود بغيره الممكن الوجود بذاته، وحسمهم النقاش بخصوص خلق العالم ومخلوقاته بالقول: “لم يكن بالإمكان أفضل مما كان“، وهذا يُقال على كل مناحي الوجود والحياة ومنها السياسة ومسالك الحكم والتدبير لشئون الناس، وسوف نعود إلى هذه المسألة فيما بعد.

يرى موزيل أنه “إذا كان هناك شيء يستطيع المرء أن يُسميه روح الواقع، فلا بد من شيء يستطيع المرء أن يُسميه روح الممكن“، ومن يحوز هذه المقولة “لا يقول مثلًا هناك حدث هذا أو ذاك أو سيحدث، أو لا بد أن يحدث هذا أو ذاك”، بل يخترع قائلًا: “هنا كان من الممكن أو كان ينبغي، أو كان من الواجب أن يحدث هذا أو ذاك“، وعندما يُقال له عن أي شيء أنه على الصورة التي هو عليها يُفكر قائلًا: “ولكن كان من الممكن -على ما يبدو- أن يكون على صورة أخرى أيضًا، وعلى هذا يُمكن لمعنى الممكن أن يُعرّف على وجه الخصوص بأنه إمكان التفكير في كل ما كان يمكن أن يكون بالقدر ذاته، وبأن ما هو كائن لا ينبغي أن يؤخذ على أنه أكثر أهمية مما ليس بكائن“(ص 16).

وبعد تجربة عراك شخصية وجزئية غير طوعية مع لصوص أشرار أفقدته وعيه  تدور في رأس أولريش (بطل القصة) مجموعة من الأفكار التي تتجاوز الشخصي إلى العام، وهي أنه من السمات الأساسية للحضارة أن يُسيء الإنسان الظن بالإنسان الذي يعيش خارج دائرته الخاصة، إساءة هي في منتهى العمق، كأن يَعُدَّ لاعب كرة القدم عازف البيانو غير مفهوم وأقل قيمة، وأن الشيء لا يوجد في الحق إلا من طريق حدوده، وعن هذا الطريق بواسطة فعل معادٍ إلى حد ما لمحيطه، فدون البابا ما كان ليوجد لوثر (مؤسس البروتستينية)، وما كان ليوجد بابا دون الكفار، ومن أجل ذلك لا يمكن إنكار أن أعمق اعتماد للإنسان على رفيقه الإنسان إنما يكمن في العداوة“.

الرواية كُتبت على إيقاع تداعيات الحرب العالمية الأولى (صدرت الرواية عام 1931)، وفي كلامه هنا يُوضح ما أشار إليه في التمهيد من تربية الأطفال تربية تُنمي الروح العنصرية والقومية عند الأوروبيين التي سوف تنفخ في مدافع الحرب وتدمير الأطراف المتصارعة.

ويوغل “أولريش” في التفكير في حقيقة راسخة -على ما يبدو- في مدى العصور، وهي أن

“البشرية تُنتج كتبًا مقدسة وبنادق وسلاحًا ولقاحًا للسل، وهي ديمقراطية فيها ملوك ونبلاء، وهي تبني كنائس ثم تبني جامعات ضد الكنائس، وتحول الكنائس إلى ثكنات، ولكنها تجعل للثكنات قادة من رجال الكهنوت، وهي تزود بالطبع الأدغال بالخراطيم المحشوة بالرصاص (لعله يقصد المدافع) لبعث المرض، للضرب في جسد رفيق الإنسان، وتُعد للجسد الوحيد الذي أسيئت معاملته سريرًا من الزغب”، وهذه المسألة معروفة بما فيها من “تناقضات الحياة ولا منطقيتها وعدم اكتمالها”(ص25).

وتقوده تجربته غير الطوعية إلى استكمال نظرته العمومية وهي أنه مما لا قيمة له إلى حد يدعو إلى اليأس أن تُلغى البنادق من هنا والملوك من هناك، وأن يُقلل أي تقدم، كبيرًا كان أو صغيرًا، من الغباء ونزعة الشر، ذلك لأن مدى الإساءة البالغة ونزعات الشر يُعاد استكماله في اللحظة ذاتها عن طريق نزاعات جديدة، وكأم الساق الواحدة من ساقي العالم تنزلق القهقري دائمًا عندما تتقدم الأخرى(ص36).

ويقدم الكاتب كاكانيا (بلد خيالي) بوصفها دولةً أفُل نجمها، مستقرة في وسط أوروبا، هي دولة نموذجية محدودة الطموحات المتصلة بالاقتصاد العالمي والقوة العالمية، لم يُجرب أهلها الاستعمار والامتداد إلى ما وراء البحار، وكانوا يعيشون في ترفٍ، ولكن ليس ترفًا بالغ الإرهاف كترف الفرنسيين، ويمارسون الرياضة ولكن ليس بجنون كالأنكلو ساكسون، وينفقون الأموال الطائلة على الجيش ولكنهم لم يتجاوزوا درجة القوة الثانية في الضعف بين القوى العظمى، وكانت هذه الدولة تُدار بطريقة متنورة قلما يُشعرُ بها، تُشَذِّبُ كل الذوائب في حذر بواسطة أفضل البيروقراطيات في أوروبا، والخطأ الوحيد الذي يُحسب عليها أنها كانت تَحُسُّ بالعبقرية والإقدام العبقري في الأشخاص الخصوصيين الذين لم يكونوا يتمتعون بالامتياز الخاص بحكم النسب الرفيع أو الوظيفة الرسمية، بمقدار ما يتمتعون بذلك بحكم السلوك المتطرف والخيلاء(ص44)، وفي كاكانيا هذه كان العبقري وحده هو الذي يُعَدُّ جاهلًا أبدًا، ولكن الجاهل لا يُعَدُّ عبقريًا أبدًا كما كان يحدث في أماكن أخرى(ص44).

ويصف الكاتب حال كاكانيا، الدولة التي أفُل نجمها، بالتفصيل:

  • لقد كانت إمبراطورية وملكية، وكانت في النص المكتوب تُسمى المملكة النمساوية/المجر وفي التداول الشفهي تُسمى النمسا.
  • كانت مُتحررة في دستورها غير أنها كانت تُحكم حكمًا لاهوتيًا، ولكن الناس كانوا يعيشون حياة تتسم بحرية الفكر.
  • كان المواطنون متساوين أمام القانون.
  • كان للناس برلمان يبلغ من استعماله الشديد لحريته أنه كان يَظلُّ مغلقًا في العادة، ولكن كان للناس أيضًا مواد تتصل بحالة الطوارئ يستغنون بها عن البرلمان، وفي كل مرة كان الناس فيها جميعًا يرتاحون إلى الحكم المطلق كان يأمر التاج بالعودة إلى الحكم البرلماني.
  • كانت تحصل فيها شتى ضروب الصراع القومي التي كانت تجذب إليها فضول أوروبا، وكانت هذه الصراعات تؤدي إلى تَعُثُّر آلة الدولة أكثر من مرة في السنة، لكن كان الناس ينسجمون فيما بينهم في الفترات الفاصلة، وفي فترات استراحة الدولة على نحو ممتاز… وكل ما في الأمر أن نفور كل إنسان من مطامح كل إنسان آخر -وهي التي نتفق عليها اليوم- كان قد حصل في هذه الدولة منذ زمنٍ بعيد… ولم يَتَعَرَّض النفور من الأخوة في المواطنة للتصعيد إلى شعور اجتماعي فحسب، بل اتخذ ظن المرء بشخصيته الخاصة وبمصيرها طابع الثقة العميقة بالذات أيضًا، وقد عدَّ الملاحظون غير أولي العلم رِقَّةً في الشمائل، أو حتى ضَعْفًا في الشخصية النمساوية، ولكن هذا خطأ وأنه لمن الخطأ دائمًا تفسير الظواهر في بلد ببساطة بشخصية سكانه.
  • ساكن البلد -أي بلد- ينطوي على شخصيات تسع على الأقل وهي: شخصية مهنية ووطنية وحكومية وطبقية وجغرافية وجنسية وشعورية وغير شعورية، وربما أيضًا شخصية خصوصية، وهو يجمع بينها في ذاته غير أنها تُشتته، وهو في الحقيقة ليس سوى حوض صغير تغسله هذه الجداول (الصفات) الكثيرة تَفِيضُ فيه وتعود إلى الخروج منه لتملأ حوضًا آخر، وكل إنسان يتمتع بالشخصية العاشرة، وهي ليست شيئًا آخر إلا هذا الأمر الواحد، وهو أن يأخذ مأخذ الجد ما تفعله شخصياته الأخرى(أنظر ص 45-46).

وكاكانيا التي يَعْرِضُ حالها من أكثر الدول تقدمًا، وهي كانت وما تزال تُشارك في صنع نفسها بنفسها، ويتمتع القوم فيها بمساحة من الحرية السلبية كونهم يشعرون على الدوام بالأسباب غير الكافية لوجودهم بالخيال الكبير تجله ما يحدث أو حدث بالفعل على نحو لا سبيل إلى رده، كأنما يغتسلون بأنفاس المحيطات التي صدرت منها البشرية، وانهيارها يعود إلى كونها بلد العبقريات، ويحاول التأكيد أن أي بلد يحكمه العباقرة مصيره الانهيار، وهو بعد ذلك يتناول حركة الأشخاص في مجتمعاتها(أنظر ص 46-47).

ويستعرض المؤلف بعد ذلك محاولات “أولريش” الثلاث الفاشلة للتحول إلى رجل له شأنه، اهتم أولًا بالفروسية والتَمَثُّل بالعظماء وأبرزهم نابليون، وبعد التحقق وجد فيه الطاغية الأكثر جبروتًا في التاريخ لأنه أراد أن يقلب أوروبا، وتحول ثانيًا إلى البحث عن الفضائل الأخلاقية بكفاية التقنية – النفسية، وتبين له عدم جدواها فانتقل منها إلى العلم، واكتشف أن حديثي السن يرون أن الغباء الأخلاقي عند الكبار يُعدُّ نقصًا في المقدرة على الربط مثلما يُعدُّ الغباء الذهني المألوف، وكانت الأخلاق الطبيعية بالقياس إليهم أخلاق الإنجاز والبطولة والتغيير، وتبوء محاولاته بالفشل.

الرجل بلا صفات” نتاج عصره، عصر الحرب العالمية الأولى وما بعدها، حيث أدار الناس ظهورهم للعباقرة في اللاهوت أمثال توما الأكويني والرسم أمثال فان كوغ والموسيقى أمثال فكنر والمسرح أمثال شكسبير… وغيرهم في المجالات المتعددة. إنه عصر مختلف، ففي حين كان الناس يبذلون جهودهم من أجل الرجال الضعاف ولا يحفلون بالأقوياء بدأ الأغبياء يلعبون دور القائد، وزُحزحت العلاقات من مواضعها، والتصورات التي كانت صحتها ضئيلة سابقًا باتت كبيرةً، وحازت الشهرة شخصيات ما كان المرء لينظر إليها قبلًا باتت الآن كبيرةً، واختلط بالجيد قدر كبير من الرديء والخطأ بالحقيقة، وشُغِلَت كل وظائف الفكر المفضلة والمهمة دفعة واحدة بالأغبياء، وكانت القرارات تأتي مُطابقة لأفكارهم، وطغى الغباء على العبقرية وأصبح مهمًا، وأصبح الغباء جذابًا وطبيعيًا إلى حدٍّ غير عادي، ومن طبيعة الغباء أنه مرن ويستطيع أن يلبس كل ثياب الحقيقة، وأما الحقيقة نفسها فليس لها إلا ثوب واحد وطريق واحد، وهي مغبونة دائمًا(ص81-87).

التفت “الرجل بلا صفات” –أولريش– إلى أوروبا، التي أُرغم على العيش فيها فوجدها مُنحطة انحطاطًا لا سبيل معه إلى إنقاذها، وأنها عندما تكون أحوالها حسنة في الظاهر تكون تُكابد داخليًا من التردي الذي يُعانيه كل شأن من الشئون، وأن الذكاء والغباء والمُبتذل تعابير يلفها الفوضى والتعقيد إلى حدِّ أنَّ كثيرًا من الناس يبدو لهم بجلاء أن من الأفضل لهم أن يؤمنوا بأنهم حيال انحطاط لا سبيل إلى وقفه(89).

والآن من هو الرجل بلا صفات؟ وهو يوجد بالملايين:

إنه نوع من البشر الذي أبدعه الحاضر، “إنه يَعْرف دائمًا ماذا عليه أن يفعل، ويستطيع أن يفكر، في كل شيء تفكيرًا بارعًا، ويتسم بكل الصفات، الطبيب والرياضي والموسيقي… ويستطيع أن يضحك عندما يكون غاضبًا ولا يتأثر بشيء يرفضه، وكل ما يحصل سوف يبدو له حسنًا وفي أي سياق كان، وما من شيء ثابت عنده فكل شيء قادرٌ على التبدل، وكل شعور من مشاعره ليس إلا وجهة نظر، ولا يكون المعوّل عليه عنده في كل شيء على ماهيته، بل مجرد أية “كيفية” مماشية له، دون أي إضافة على الدوام(95).

الإرباك في الحياة الاجتماعية يأخذ مداه وبطريقة خاصة عند الطبقة الوسطى التي يُمهد استقرارها إلى نوع من التوازن بين مُجمل الطبقات الاجتماعية، وهو أمر يتبدد في أثناء وبعد الحروب، وهو ما أُصيبت به “كاكانيا” إذ دخلت في عصر خالٍ من الروح ويُهيمن عليه المنطق وعلم النفس وغيره من فنون التحايل على الواقع المُزري المُتولد واللعب على الألفاظ وهو سُنَّة الطبقة الوسطى في الغالب.

ففي زمن الاستغراق في الحياة المادية يتجه أصحاب النفوذ السياسي والإداري في خطابهم إلى الرُوحانيات لأن الخطاب الوطني يكون قد استُهلك في فترة الحروب في عملية التفاف على المثل العليا التي تحملها الطبقة الوسطى بشأن الحق والواجب الأخلاقي الجميل وغيرها من القيم، وفي السياق نفسه فإن المُتسمين بعقلية الطبقة الوسطى يُعجبون بالثروة ويطمحون إليها في عمق أعماقهم، ولكنهم سرعان ما يتبدد هذا الطموح عند أول احتكاك لهم بالحاصلين عليها، فالثروات الإقطاعية إما أن تكون لها صورة الديون السخيفة وإما أن تكون مرتبطة بأسلوب حياة موروث، ويعاني المشتغلون في الصيرفة والمؤسسات البنكية والمالية ازدواجيةً في الشخصية تَتَبَدَّى في سلوكهم و تَتَبَدَّى أكثر في أسفارهم إذ إنهم يُسافرون في الدرجة الأولى عندما يكونون في سفر وظيفي، وفي الدرجة الثانية عندما تكون سفرتهم ذات طابع شخصي، ويخلص المؤلف من طريق شخصية “أولريش” إلى نتيجة وهي أن محاولة الجمع بين المبادئ الرُوحية والمادية في خطاب السياسيين والدبلوماسيين الأوروبيين ووعودهم بالخير القادم للوطن والعالم سائرة إلى القبر.

ويخلص روبير موزيل إلى القول بواسطة شخصية “أولريش” المضطربة، إن الرجل بلا صفات هو الإنسان الذي ينطوي على فكر مليء بالتناقضات ويتصوَّر أن كل الصفات التي عبرت عنها البشرية في تاريخها المديد تستقر في ذهنه استقرارًا متراصًّا، وأن القضايا التي يُثيرها بشأن مسائل مثل الخير والشر والظاهر والباطن في السيد المسيح وغيرها من القضايا اللاهوتية والعلاقات الشخصية الحميمة والاجتماعية والسياسية الوطنية، تدفعه إلى عدم الارتياح والعجز عن اتخاذ أي موقف صريح ومحدد بشأنها، و “أولريش” النموذج الفرد الذي يُمثل عموم الناس في عصره، صاحب وعي شفاف إلا أنه فاقد القدرة على اتخاذ أي موقف  وقرار للتغلب على خيبات الأمل في التغيير، وهو المتردد والمُفَكَكُ أبدًا في أفكاره وأفعاله ولا يستطيع الاختيار، و “أولريش” ” الرجل بلا صفات“دفعته الشكوك إلى الجنوح إلى العدائية المُفْرطة، وإعادة النظر في القيم الفنية والأدبية والعلوم الطبية والنفسية والاجتماعية والسياسية والدبلوماسية المغايرة لعصر سابق انتج الأعلام الأفزاز أمثال فرويد وماركس وشيلر وفاغنر وموزارت وبتهوفن . وشأن هذا النموذج من البشر هو شأن كل إنسان مثقف ينتمي إلى الطبقة الوسطى ومتشوق إلى تعديل موقعه الاجتماعي والتغيير، وتستمر المخاوف بحجم الأسئلة والتناقضات في عالم هش.

رواية 1984

الرواية الثانية التي سوف نقف على مضمونها الفكري السياسي هي رواية جورج أورويل (بريطاني 1903 – 1950) “1984” التي كُتبت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بعام أو عامين وهي تنتمي إلى الأدب الديستوبي (تعني كلمة ديستوبيا (Dystopia) (من أصل يوناني) مكانًا أو بلدًا تخيليًا حيث كل شيء مزعج أو سيء وعادة ما يكون ضمن نظام شمولي أو في وضع بيئيٍ سيء، وهي المعاكس لمصطلح ايتوبيا (Utopia) والذي يعني المدينة الفاضلة).

يُقسم العالم إلى ثلاثة محاور أو دول متصارعة وهي:

  • أوراسيا وتضم القسم الشمالي من الكتلة الأوروبية الأسيوية من البرتغال إلى مضيق بيرينغ (يفصل بين قارة آسيا وقارة أمريكا الشمالية، تحديدًا بين “رأس ديجنيف” في روسيا ورأس أمير ويلز في ألاسكا).
  • أوقانيا وتضم الأمريكيتين وجزر المحيط الأطلسي بما فيها الجزر البريطانية وأستراليا والنواحي الجنوبية من افريقيا.
  • إستاسيا وتشمل الصين والبلاد الواقعة إلى الجنوب منها مع الجزر اليابانية وقسم من منشوريا ومنغوليا وجبال التبت.

هذه الدول في حرب باردة دائمة وإن تغيرت تركيباتها، ويؤكد أن لا واحدة منها قادرة على تدمير الأخرى، وأن الحروب فيما بينها ناتجة في الأكثر عن نقص مستمر في السلع الاستهلاكية، وتتبادل فيما بينها تساقط قنابل صاروخية من حين إلى آخر تؤدي إلى وقوع الضحايا بالعشرات، وجديد الحروب أنها غير حاسمة ودائمة، وأن التوزيع الثلاثي للنفوذ يُنتج تحالفات غير ثابتة البتة، إذ سرعان ما تتبدل وتنقلب إلى عداوة بين المتحالفتين في ليلة وضحاها فينقلب الصديق إلى عدو والعدو إلى صديق.

ثم إن التمييز بين أنظمة الحكم فيها جميعها ديكتاتورية قمعية وشمولية في طموحها إلى التغلب والسيطرة على العالم ولا رادع لها، وهنا يبرز نوعٌ جديدٌ من الطغيان وهو طغيان الحزب وفرض الطاعة على الجميع للحزب مُمثلًا برئيسه أو زعيمه أو القائد الذي يدعونه في أوقيانيا -حيث تدور أحداث الرواية- “بالأخ الأكبر” الذي تملأ صورته الجدران والساحات ومداخل الأبنية حتى في المصاعد، ويُضاف إلى عبارة الأخ الأكبر كلمة “يُراقبك“، والمراقبة شاملة وفي كل مكان، ويبسط الحزب نفوذه بواسطة كاميرات المراقبة المنتشرة في الأرجاء وكل الدوائر والمفاصل الحكومية تُسجل كل حركة للأشخاص، الأمر الذي كان يضطر “وينستون” (بطل الرواية) إلى تجنب الكاميرات بالصعود إلى الدور السابع حيث يسكن، مترنحًا على الدرج متفاديًا المصعد، وهو في التاسعة والثلاثين ويعاني مرض الدوالي، وانضباط الناس في ممارسة طقوس الولاء لـ “الأخ الأكبر” مُكرس ومرسوم بدقة من الحزب وعيونه المنتشرة في كل أرجاء المدينة، والمشاركة في تظاهرات معاداة حزب “الأخوية”  الذي يرأسه “أمانيل غولدشتينعدو الشعب الوهمي الذي لا يظهر البتة، وقد يكون عدوًا مفبركًا من السلطة، وتُصورُ “الأخوية” للجمهور على أنها تسعى في قلب النظام والإطاحة بـ “الأخ الأكبر” وتُهدد استقرار الأمن والانضباط، والمخابرات أو “شرطة الفكر” كما يُسميها تلاحق المتقاعسين عن تلبية النداءات إلى التظاهرات والتجمعات التي تتم بواسطة مكبرات الصوت، والتي قد تصل عقوبته إلى الإخفاء أو الإعدام.

و”الولاء للأخ الأكبر يعني انعدام التفكير، بل يعني انعدام الحاجة إلى التفكير“، والولاء في المحصلة انعدام الوعي، ولذلك فإن كلَّ من كان بالغ الذكاء يُصفَّى ويُنظر إليه بوصفه حمولةً زائدةً، والأنسب للحزب الشمولي التخلي عنه، ولذلك -كما يقول- “شيء من الغباء يحفظ حياة صاحبه“(ص60)، فالغباء وليس الذكاء هو الضامن لصاحبه، ما دام جوهرًا متأصلًا في الشخص وليس تظاهرًا وتمثيلًا، لأن “شرطة الفكر” تتابع ليس فقط التصريحات المباشرة بل تعابير الوجه، لما فيها من انعكاس للمشاعر، ولذلك هناك ما يسمونه “جريمة الوجه” الذي يفضح صاحبه(ص69)، وفي السياق يُذكر أن “الجهاز العصبي” هو أسوأ أعداء الشخص ويؤدي به إلى أسوأ العواقب، والتصرف الذكي -إذا كتب له النجاح- هو في أن تَخْرِقَ القواعد وتبقى حيًّا(ص139)، ولا غرابة في أن يكون من شعارات الحزب أو الطغمة الحاكمة “أن الحيوانات والعامة أحرار”(ص85)، وما دام الأمر كذلك فالأمل معقود على عامة الناس  للتغيير(ص75).

ويُخبر “وينستون” عن حالته وكيف أنه كان مراقبًا طيلة الوقت في مكتبه (في وزارة الحقيقة) وفي شُقته بواسطة شاشات ضخمة تُستخدم للتبليغات والتنبيهات والمراقبة في آن: “…بطبيعة الحال ما كان المرء قادرًا على معرفة ما إذا كانوا يراقبونه في أية لحظة، وما كان يمكن التكهن بدخول شرطة الفكر على هذا الخط أو ذاك إلا على سبيل التخمين، بل كان يُمكن أيضًا تصوُّر أنهم يراقبون كل شخص طوال الوقت، وكان على المرء أن يعيش فعلًا وفق العادة التي أضحت غريزة، مُفترضًا أنهم يسمعون كل صوت يُصدره، ويراقبون كل حركة يأتي بها إلا في الظلام“(ص7)، ولا بُد من الملاحقة الدائمة لأن “جريمة الفكر ليست شيئًا يمكن إخفاؤها إلى الأبد(ص22).

وانطلاقًا من شعارات عقدية للحزب يُحدد الحاكم “الأخ الأكبر“، مفاصل القيادة التنظيمية الداخلية والسياسة الخارجية: الشعار الأول، الحرب هي السلام، والثاني، الحرية هي العبودية، وثالثهما، أن الجهل هو القوة.

وتجتمع أجهزة الدولة بوزاراتها الأربع في أربع مباني متقاربة. والوزارات هي:

  • وزارة الحقيقة وتُعنى بالأنباء والترفيه والتعليم والفنون الجميلة.
  • ووزارة السلم المختصة بالحرب.
  • ووزارة الحب وتَرْعى النظام والقانون، وهي الأكثر رُعبًا ولم يكن فيها أي نافذة.
  • ووزارة الوفرة وتُعنى بالشئون الاقتصادية.

وتسمية الوزارات لا تتوافق مع المهام المُوكلة بها، فدور وزارة الحقيقة هو تزوير الحقائق وبخاصة التاريخية واختراع المصطلحات وتعميمها بما يتوافق وخطة الحزب في محو الذاكرة وتكوين ذاكرة جديدة لا علاقة لها بالذاكرة الجمعية الماضية لأن الماضي أكثر أهمية من المستقبل(ص85)، فمهمة وزارة الحقيقة الأساس هي غسل الأدمغة بالمعنى الحديث، ووظيفة “وينستون” محصورة في تلف الملفات القديمة وحرقها في “ثقب الذاكرة“، وحتى الجرائد القديمة تُغيَّرُ في أخبارها وتُصاغ بطريقة جديدة مغايرة للحقيقة لتتحول إلى احتفالات دعائية لإنجازات وهمية للحزب.

وأما وزارة السلم فأولى مهامها الحرب وشد عصب الجمهور وإعداده لحرب دائمة لا تنتهي بنصر أو هزيمة، وصارت بين المتحاربين أشبه ما يكون بين حوانين معقوفي القرون كي لا يؤذي أحدهما الآخر (ص208)، والسلم الدائم مثل الحرب الدائمة (ص209)، وتعمد الدولة إلى إطلاق قذائف من وقت إلى آخر ليبقى الناس خائفين (ص156)، ويتوسع المؤلف في بيان قيامة الحروب وأسبابها الحقيقية مع قناعة راسخة بأن الحرب كلها كذبة، وثمة دائمًا حربًا قذرة خلف حرب أخرى، والناس لا تعلم بأن الأخبار كلها أكاذيب ومضللة (ص162).

والمحاور الثلاث السابق ذكرها (أوراسيا، أوقانيا، إستاسيا) مُتكافئة في القوة إلى حد كبير والتنافس على الأسواق، الذي كان سببًا رئيسًا للحروب السابقة قد انتهى، كما أن التنافس على المواد الأولية لم يعد واردًا. إن الحرب تحولت إلى حرب من أجل القوة العاملة(ص195_196)، فالأرض المُتنازع عليها تشتمل على معادن ثمينة ومنتجات نباتية مهمة مثل: المطاط، وفيها مخزون لا يَنْضَبُ من العمالة الرخيصة(ص198)، وهو ما يحصل منذ الثلث الأخير للقرن العشرين من انتقال المصانع الكبرى إلى البلدان الفقيرة حيث رُخص اليد العاملة، واستدراج العائلات إلى الهجرة من أوطانهم إلى الدول الغنية بعد إحداث عمليات شغب وصراعات داخلية فيها أو مع الجوار.

عند مقارنة بسيطة بين الحرب القديمة والحرب الحديثة نجد أن هدف هذه الأخيرة وفقًا لنظريته في “التفكير المزدوج” والذي يعني “استهلاك منتجات الآلة من دون رفع مستوى المعيشة العام”، فقد كانت مشكلة التصرف بفائض السلع الاستهلاكية مشكلة في المجتمع الصناعي منذ نهاية القرن التاسع عشر، أما الآن عندما لا تحصل إلا قلة من البشر على كفايتها من الطعام فمن الواضح أن هذه المشكلة لم تعد مُلحة حتى في حال غياب آليات التدوير المصطنعة.

إن عالم اليوم -كما يبدو له- عالم فقير خَرِبٌ إذا ما قورن بالعالم الذي كان موجودًا قبل عام 1914 (الحرب الأولى)، ما كانت ترجوه البشرية قبل هذا التاريخ وفي بداءات القرن العشرين كان تحقيق صورة مجتمع ثري مُنظم فَعَّال إلى حد لا يصدق، عالم متلألئ من الزجاج والفولاذ والإسمنت الأبيض النظيف، وهذه الصورة كانت جزءًا من ضمير كل شخص متعلم.

إلا أن الصورة المُتخيلة لعالم أكثر رفاهية لم يتحقق في القرن العشرين، والسبب في عدم تحققها هو الإفقار المتعمد الناجم عن سلسلة من الحروب والثورات ثم إن التقدم العلمي والتقني كان يعتمد قبل تلك الحروب على تجريبية الفكر التي لم يكن لها لتستمر في مجتمع مُوحد النسق، وخلاصة القول إن العالم -في القرن العشرين- صار أكثر بدائية مما كان عليه، فضلًا عن عدم الإصلاح الكامل للخراب الذي أحدثته الحروب بعامة والذرية بخاصة.

ومآسي القرن العشرين ما كانت لتحصل لو جرى استخدام الآلة من أجل بلوغ غايتها في إزالة الجوع ومشاق العمل الإضافي ورفع الجهل والقذارة والمرض… إلا أن التوزيع العادل للثروة يُهدد التراتبية الاجتماعية وديمومة هذه التراتبية لا يكون ألا من طريق الفقر والجهل والسلطة الحاكمة حريصة على استمرارهما جميعها.

والتطور العلمي والتقني مرتبط بضرورات الحرب والتجسس البوليسي، والربط ممكن بين التقدم الصناعي والتفوق العسكري، وأي بَلَدٍ يَتَخَلَّفُ من الناحية الصناعية سوف يُصبح ضعيفًا من الناحية العسكرية وسوف يسمح لخصومه من الدول الأكثر تقدمًا بإخضاعه إخضاعًا مباشرًا أو غيرُ مباشر.

سيرورة الحرب ليست مُهمة في نظر الحزب الحاكم، وإنما المهم هو وجود حالة الحرب نفسها، لأن سياسة الحزب تصير أكثرُ قبولًا في مناخ الحرب، وعناصر الحزب الداخلية عالمة لا محالة، بسبب موقعها الإداري أن الحرب زائفة، أو أنها غير موجودة أصلًا، أو أنها تُشَنُّ لغايات غير الغايات المُعلنة، وفي مقابل ذلك، تِبعًا لمبدأ التفكير المزدوج، فإن عناصر الحِزب الداخلية تُؤمن بأن الانتصار قادم لا محالة، وسوف يكون هذا الانتصار من طريقين: إما باكتساب الأراضي الجديدة والتوسع، وإما من طريق اكتشاف أسلحة جديدة لا سبيل إلى مواجهتها، والنظر إلى التقدم التقني محكوم بمدى توظيف منتجاته من أجل تقليل حرية البشر.

ويَنْصَبُّ اهتمام الحزب الحاكم -وهذا قابل للتعميم- بأمرين: أولهما التوسع في كل أرجاء المعمورة وضم أراضٍ جديدة بالتدريج، والآخر، إفناء إمكان التفكير المُستقل عند الأفراد والجماعات، وهذان الأمران يُحتمان على الحزب حل مشكلتين أساسيتين: الأولى -وتتكفل بها وزارة الحقيقة- وهي اكتشاف ما يُفكر فيه الأفراد من غير إرادتهم، والأخرى، هي كيفية قتل الملايين في ثوانٍ معدودة ودون إنذار مسبق، وهذا من اختصاص وزارة السلم -الحرب- ولعل هنا إشارة إلى هيروشيما وناكازاكي.

ويتطلب حل المشكل الأول أن يكون العالِمُ المُحقق مُتخصص في علم النفس، وعليه أن يدرس بدقة تعابير الوجه، وفي ذلك إشارة إلى “جريمة الوجه” الذي سبق الكلام عنها، ويعرف مفعول الأدوية والمعالجة بالصدمة الكهربائية والكشف عن الكذب والتنويم المغنطيسي والتعذيب الجسدي وغيرها مما يجعل الناس ينطقون بما يُبطنون(انظر202-203).

ويتحصل حل المُشكل الآخر بأن تقوم وزارة السلم باستخدام زُمَرٌ من العلماء، علماء الأحياء الذين يُطورون قدراتهم على إزهاق الحياة في المختبرات المنتشرة في غابات البرازيل، أو في الصحراء الأسترالية… وتعكف زُمْرَةٌ من العلماء الخبراء في وضع الخُطط ووسائل تمويل الحروب القادمة، ويستنبطُ بعضهم قذائف صاروخية أكبر حجمًا وأكثر قدرة على التفجير، ويهتم آخرون بإنتاج غازات سامة أكبر قدرة على القتل، أو إنتاج سموم قابلة للذوبان وبكميات كافية لقتل النبات في قارة كاملة، أو البحث عن سلالات جراثيم فتاكة عصية على أقوى المضادات الحيوية، وينصرف آخرون لإنتاج مركبات تخرق التربة وتشق طريقها، كما تخرق الغواصات الماء، أو إنتاج طائرات تسير مستقلة كالسفن الشراعية(205).

وأبعد من ذلك تقوم مجموعة من العلماء بالبحث عن إمكان تركيز أشعة الشمس من طريق صحون معلقة في الفضاء، أو إنتاج هزَّات أرضية اصطناعية وأمواج عاتية (تسو نامي) باستخدام حرارة باطن الأرض، ولا يغفل أرويل عن الاشارة إلى أن هذه التطلعات، وهي واحدة عند القوى العظمى الثلاث، لم تتحقق حتى أيامه، إلا أن أقصى ما تحقق هو امتلاك القنابل الذرّية، وكل واحدة من القوى تُدرك مدى خطورة استخدام هذا السلاح لأنه يؤدي إلى إفناء المجتمع المنظم كله بما في ذلك سلطتها، وتُحجم القوى العظمى عن الدخول في مغامرات حربية جدية قد تؤدي إلى هزيمة مؤكدة، والقوى العظمى الثلاث متمسكة بهذه الاستراتيجية(ص205).

والفلسفات “الأيديولوجيات” أو “نظام التفكير” للقوى العظمى متشابهات وإن اختلفت تسمياتها، فهي تُسمى في أوقيانيا “اشتنج“، وتُسمى “البلشفية” في أوراسي”، وتحمل في إستاسيا اسمًا صينيًا يُترجم عادة بـ “عبادة الموت“، والتمييز بين الفلسفات الثلاث يكاد يكون معدومًا من الناحية الفعلية العملية، ومن الناحية الاجتماعية لجهة الهرمية التراتبية، وعبادة القائد شبه إله، واقتصادياتها جميعًا قائمة على الحرب من أجل الحرب، وليس مسموحًا لأي مواطن في أوقيانيا الاطلاع على الفلسفتين الأخريين، ويعلمونه شجبهما بوصفهما عدويين بربريين وخطرين على الأخلاق والحس السليم، وحالة النزاع الدائمة يُكون دعمًا لبعضها الآخر، والكادرات التي تحكم  وتدير شئون هذه الدول العظمى تُدرك ذلك جيدًا، ومعظم هذه التوقعات قد حصلت في سطح كوكبنا في أيامنا الحاضرة.

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete