تكوين 

ما فتئت إشكالية التراث والحداثة تطرح نفسها على الفكر العربي المعاصر، وما فتئت الآراء تختلف بين قائل بضرورة (التَحْدِيثُ) وقائل بضرورة (التَتْرِيثُ) أي العودة إلى التراث، وقائل بضرورة التوفيق بين النزعتيْن، بيد أنَّ السؤال المركزي الذي قلَّما طرحه الفكر العربي المعاصر على نفسه هو السؤال التالي في رأينا: إلى أي حَدٍّ حقَّقَ العرب معرفة موضوعية بماضيهم؟ ويبدو لنا أنَّ المعرفة المغلوطة بالماضي لا يمكن أن تؤدي إلا إلى جملة من المغالطات تنتهي في الأخير إلى تزييف الوعي بالذات، وفي هذا السياق نودُّ أن نراجع مفهومًا مركزيًّا في تاريخ العرب وهو مفهوم الجاهلية. ولئن كانت الجاهلية تعني زمنيًّا تاريخ العرب قبل الإسلام، فإنَّ هذا التاريخ يعاني التعميم والتجاهل الذي قد يبلغ حَدَّ الاحتقار لدى فئات كثيرة، بل إنَّ وسم هذه الفترة التاريخية بـــ “الجاهلية” وما يحمله هذا اللفظ من وسم سلبيٍّ أيا كان مفهوم الجهل، إنما هو مدخل إلى إلغاء هذه الفترة من التاريخ، والنظر إلى تاريخ العرب وكأنما هو تاريخ قد انطلق مع الإسلام وبه. ويزداد هذا الأمر رسوخا في باب الاعتقادات الدينية بما أنَّ الإسلام قد جبَّ ما قبله في نظر عدد من الباحثين.

إنَّ تحقيق معرفة موضوعية بالفترة السابقة على الإسلام أمر ضروري لفهم الحدث الإسلامي مهما كانت درجات الوصل والفصل التي أحدثها الإسلام، ولا شك في أن كل قارئ للقرآن يلاحظ النزعة الحوارية الطاغية على هذا النص: حوار مع الواقع “الجاهلي” ومع الفاعلين “الجاهليين” ومع عقلياتهم وتصوراتهم وأحلافهم ومعاشهم… ومن ثم فإن إقصاء هذه الفترة من التاريخ لا يخدم أشد المتعلقين بالنظرة الإقصائية للجاهلية بما أنها فترة مفتاح لتحقيق الإحاطة بالمعاني القرآنية.

الجاهلية في القرآن:

إضافة إلى الجذر (ج.ه.ل) وتنويعاته المختلفة الواردة في القرآن لوسم المخالفين للتعاليم المحمدية أو المخالفين لتعاليم الأنبياء عموما[1]، أشار القرآن إلى الفترة السابقة للعهد المحمَّدي في أكثر من موضع باستخدام لفظ “الجاهلية“: “يظنّون بالله غيرَ الحقِّ ظنَّ الجَاهِلِيّةِ” (آل عمران 3/154 ) و”أَفَحُكْمَ الجاهليّة يبغون ومَن أحْسَنُ من الله حكما لقوم يوقنون” (المائدة5/50 ) و”وقَرْنَ في بيوتكنّ ولا تَبَرَّجْنَ تبرُّجَ الجاهليّة الأُولَى” (الأحزاب 33/33 ) و”إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ” (الفتح48/26). 

إن “الجاهلية” في القرآن تسمية خارجية لا ريب في ذلك، فلم يكن أهل الجاهلية يُسَمُّون أنفسهم بهذا الاسم، ولا ينعتون زمنهم بهذه السمة، وإنما “لفظ الجاهلية اسم حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة[2]، ولما كان الأمر كذلك فإنها تسمية محمولة على معنى الانتقاص والهجاء، فالإسلام قد قَدَّمَ نفسه على أنه النقيض والبديل والضدَّ والماحي والثائر على ما قبله، ومن ثم فإنَّ القرآن لم يتردد في الدعاية ضدَّ هذا الزمن وضدَّ تلك الفترة، وعلى التقليل من شأنها كما يفعل كلُّ خصمٍ بخصمه، وعلى هذا الأساس، فإننا نرى أنَّ كل محاولة للوقوف على دلالات لفظ “الجاهلية” لا تأخذ في الحسبان هذا البعد التهجيني الدعائي ضدَّ الفترة السابقة للإسلام، أنها محاولة غير موضوعية. ولقد لامس بعض القدامى هذا المعنى حين نظروا في المسألة من طريق قلب التسمية بالاعتماد على وجهة نظر الذات إلى ذاتها، وهو ما يختزله قول أبي هلال العسكري في كتاب الأوائل: “وكانت قريش تُسمَّى في الجاهلية العالِمية لفضلهم وعلمهم[3]، وهكذا فإنَّ العسكري في هذا الباب لم يزد عن تسمية الفترة نفسها بتسميتين متناقضتين تناقضَ وجهات نظر القائم على التسمية، وليست قضايا التسمية من القضايا الشكلية التي يمكن تجاوزها بيسر، لأنَّ الاسم هو الباب الأول أو الأساس لكل العلامات اللاحقة.

ولعلَّهُ من المفيد الإشارة إلى أنَّ المصادر المختلفة لم تنقل لنا تسمية الجاهليين لزمنهم، وهو أمر لافت للانتباه، وقد يكون دليلا على غياب البعد التأريخي عندهم، أو على غياب الوعي بالهُوية الجامعة والزمن الجامع، كأن تلجأ كل قبيلة أو كل تحالف قبليٍّ إلى تأريخٍ للأحداث يوافق عظائم الأمور من حياتها أو انتمائها الديني أو السياسي، فالتاريخ الجامع يقوم على هُوية جامعة وعلى سلطة جامعة وهو أمر لم يُحققه العرب قبل الإسلام.

لقد ظهرت هذه التسمية الزمنية التهجينية لفترة ما قبل الإسلام زمن المدينة أي فيما عُرف بالقرآن المدني، وهي فترة تتوافق مع أمرين: بداءة تكوُّن السلطة الإسلامية والاجتماع الخاضع لها أي توحيد الخاضعين لسلطة النبي في هُوية جامعة وزمن جامع. وبداءة الاحتكاك بأهل الكتاب ووضع الرسالة المحمدية في سلسلة استمرار الرسالتين السابقتين: اليهودية والمسيحية، والتمايز عنهما في آن، مما يفيد إمكان اقتراض الإسلام لهذه التسمية منهم، جاء في أعمال الرسل ما يلي: “ فاللهُ يأْمُر الآنَ جمِيع النّاس في كلّ مَكَانٍ أنْ يَتُوبوا، مُتَغَاضِيا عن أزمنة الجهل” (أعمال الرسل، 17/30).

الجاهلية في بقية المصادر الإسلامية:

إن التعريف بالجاهلية –سواء ورد هذا التعريف مقصودًا لذاته أو جاء عرضيًّا- في المدونة التراثية العربية قد اكتنفته نزعتان متناقضتان:

  • نزعة تهجينية قائمة على كيل المثالب للفترة السابقة للإسلام، ومثالها ما جاء في سيرة ابن هشام من وسم منسوب إلى جعفر بن أبي طالب في أثناء حديثه مع نجاشي الحبشة، ونص الحديث: “أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القويّ منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولًا فدعانا إلى الله نوحُّده ونعبده وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكفُّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام[4].
  • نزعة تمجيدية قائمة على تعداد مناقب العرب قبل الإسلام، ومثالها ما جاء عن ابن قتيبة: “وكذلك الأمم فيها أمّة كرم بلِبانها كالعرب، فإنها لم تزل في الجاهلية تتواصى بالحلم والحياء والتذمّم، وتتعاير بالبخل والغدر والسفه، وتتدرب بالنجدة والصبر والبسالة، وتوجب للجار من حفظ الجوار ورعاية الحق فوق ما توجبه للحميم… ولهم الضيافة والإيثار على النفس والجود بالموجود[5].

ويدفعنا التناقض الصارخ بين صورتيْ الجاهلية في هذين المثالين إلى طرح السؤال التالي: بم يمكن أن نُفسِّر هذا التناقض؟

يبدو لنا أن الإجابة تكمن في معرفة دوافع التأليف عن الجاهلية، وهما دافعان تتلوّن معهما الجاهلية بلونين متناقضين: أولهما، بيان فضل الإسلام على العرب، وهو فضل يقتضي الحطُّ من الزمن الذي سبق مجيء الإسلام، وتصوير العرب بوصفهم أناسًا كانوا غارقين في التوحش والهمجية حتى انتشلهم الإسلام من ظلمات عيشهم، وآخرهما، بيان فضل العرب على سائر الأمم، وهو دافع فرضته النزعة الشعوبية الناتجة عن اختلاط الأمم في الإسلام، وميل كل أمة إلى التفاخر بأمجاد أسلافها، وقد تزامن ذلك مع بداءة عصر التدوين أي منذ منتصف القرن الثاني للهجرة، ومن ثم فإنَّ كلَّ قول في الجاهلية لم يكن خاليا من رهانات تقبع خارج الزمن الجاهلي، ولم يكن الإخباريون يُخبرون عن الأسلاف بقدر ما كانوا يُحقِّقون أهدافهم هم في حاضر التدوين.

الجاهلية في الدراسات الحديثة:

يمكن للباحث أن يرصد ثلاثة اتجاهات في حد مفهوم الجاهلية في الدراسات الحديثة:

  • يقوم الاتجاه الأول على توسيع هذا المفهوم والانتقال به من كونه فترة تاريخية إلى كونه نمطًا في الوجود، وهو اتجاه غالب على حركات الإسلام السياسي منذ المودودي، ولعل كتاب محمد قطب[6] خير ممثل لهذا الاتجاه، وفيه أن الجاهلية حالة ذهنية وسلوكية تتميز بعدم الإيمان بالله وعدم تطبيق شريعته وباتباع الأهواء والمصالح وبوجود الطواغيت على الأرض وبالانجراف في تيار الشهوات، ومن ثم فإن الجاهلية جاهليات: يونانية ورومانية وأوروبية وصناعية وعلمية، وقد شهدت الجاهلية أوجها في القرن العشرين وفق رأيه، إذ يقول: “فالجاهلية اليونانية، والجاهلية الرومانية، وجاهلية العقيدة المحرفة في العصور الوسطى، وجاهلية الانفصال الكامل عن الدين في ظل الداروينية والانقلاب الصناعي، كلها مجتمعة هي الجاهلية الحديثة، جاهلية القرن العشرين، وهي ليست مقصورة على أوروبا”[7].

وفي الحقيقة فإنَّ نظرة متفحصة لما يسميه المؤلف جاهلية القرن العشرين توقفنا على أنها الاسم البديل للحداثة لديه، فمن خصائص هذه الجاهلية الحديثة لديه: “التقدم العلمي الفائق الذي يستخدم (من بين ما يستخدم) في تضليل البشرية عن هدى الله، النظريات العلمية المتعددة التي توجه الناس إلى الانحراف في الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس… الفتنة بالتطور، تحرير المرأة[8]، وبالطبع فإنَّ توسيع هذا المفهوم وسحبه على المجتمعات المعاصرة يُعطي حركات الإسلام السياسي شرعية النضال من أجل الانتقال بالمجتمعات الحديثة من حالة الجاهلية إلى حالة الإسلام، وتطبيق حكم الله الذي هو في الحقيقة ليس سوى حكم جماعة معينة.[9]

  • أما الاتجاه الثاني، فيقوم على تضييق هذا المفهوم، وذلك بالعودة إلى المعاني المعجمية للجذر (ج.ه.ل) في الفترة المدروسة. ويُمكن عدّ مقالة توشيهوكو ايزوتسو نموذجية في هذا الباب، لقد وقف هذا الباحث على أنَّ الجهل يعني في الشعر الجاهلي ثلاثة معان أساسية: روح الانتقام وضدها الحلم، والظلم وضده الحكمة، وانعدام المعرفة وضدها العلم. أما في القرآن، فإن الجاهلية كانت تسمية للمعنيين الأول والثاني أساسًا، وقد لاحظ الباحث الارتباط الشديد بين الحلم والحكمة أي القدرة على كبح العواطف وتحكيم العقل. إن الجهل يعني الأنفة والإباء والغطرسة وروح المقاومة المتقدة ورفض الاستسلام، وهي طائفة من القيم كونت نموذجَ الفتى الجاهلي، ويقابله الحلم بما يعنيه من هدوء وإعمال للعقل وسيطرة على عاطفة الانتقام ووقار، وهي خصال السيد الجاهلي. ولقد كان الإسلام بما يتطلبه من خضوع واستسلام وعبودية وطاعة نقيضًا لروح الرفض والتمرد، وتسمية جديدة مكثفة للحلم، مع مراعاة فارق أساسي يتمثل في أن الإسلام قد نقل ثنائية جهل/حلم من مجالات علاقات الإنسان بغيره إلى مجال علاقة الإنسان بربه، وحلت ثنائية إسلام/كفر محل الثنائية القديمة جهل/حلم[10].

 

  • ويقوم الاتجاه الثالث، على مراجعة هذا المفهوم، وذلك بتخليصه من الدلالات السلبية أولًا، فليست الجاهلية عصرًا مظلمًا كما يتصور كثيرون، بل كانت للجاهليين قيم نبيلة وعلوم بمقياس عصرهم وتنظيمات وتشريعات وآداب وصلات بغيرهم من الأمم والشعوب، وببيان الاتصال بين الجاهلية والإسلام ثانيًّا، وهو اتصال يُمْكِنُ للمرء أن يدركه من طريق النظر في الدراسات المتصلة بالعقائد (الحنيفية مثلًا) أو بالطقوس (الحج مثلا) أو بالتشريعات (الدِيَّة مثلا) أو بالتكافل الاجتماعي (الميسر مثلا)…

وعمومًا يمكن القول إنَّ فهم الإسلام يظل أمرًا مُتعذرًا ما لم تُحقق معرفة تاريخية موضوعية بالفترة الجاهلية، وهو مسعى يحول دونه عائقان، يتصل أولهما، بالمدونة التراثية عن الجاهلية التي كانت خاضعة لرهانات عصر التدوين. ويتصل آخرهما، بمدى قدرة الباحث على التخلص من نزعتيْ التهجين والتمجيد عند تناول تاريخ العرب في الجاهلية.

 

المراجع:

[1] – راجع سياقات العبارات التالية في القرآن: تجهلون، جاهلون، جهالة

[2] –  جلال الدين السيوطي: المزهر في علوم اللغة وانواعها، ج1، ص 301 (ضمن “النوع العشرون: معرفة الألفاظ الإسلامية)

[3] – أبو هلال العسكري: الأوائل، تحقيق محمد السيد الوكيل، دار البشير للثقافة والعلوم الإسلامية، القاهرة 1987، ط1، 1987، ص65

[4] – ابن هشام (عبد الملك): السيرة النبوية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2000، ج1 ص ص 249-250

[5] – ابن قتيبة: فضل العرب والتنبيه على علومها، تقديم وتحقيق وليد محمود خالص، منشورات المجمع الثقافي أبو ظبي-الإمارات، ط1، 1998، ص63

 

[6] – محمد قطب: جاهلية القرن العشرين، دار الشروق، القاهرة، ط12، 1992

[7] – نفسه، ص41

[8]  – نفسه، ص52

[9] – انظر كذلك: هشام جعفر: منهج النظر إلى مفهوم الجاهلية، سلسلة مراصد ع21، مكتبة الاسكندرية، 2013، كذلك مهدي حارث مالك الغانمي: الجاهلية في القرآن الكريم، قراءة في الدلالة، مجلة القادسية في الآداب والعلوم التربوية، مج 9، ع1، س2010، ص ص 63-74

[10] – توشيهوكو ايزوتسو: الله والإنسان في القرآن، علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم، ترجمة وتقديم د. هلال محمّد الجهاد، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2007، الفصل الثامن: الجاهلية والإسلام 307-353.

 

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete