تكوين
مقدّمة:
إنّ الجسد الإنساني هو التعبير الأوّل عن وجود الإنساني وعن حضوره الأنطولوجي الفيزيقي، فهو علامة كينونته الأولى وبها يحقّق وجوده ويثبته في الحياة. فكان بذلك هويّته والمعبّر عن ذاته.
ونظرا لهذه الأهمّيّة الكبرى أسال الإنسان حبرا كثيرا حول جسده يفهمه ويشرحه ويصبغ عليه من الرّموز والدّلالات الشيء الكثير، تعضده في كلّ ذلك اللّغة بما هي جزء من هذا الجسد والمعبّر عن كينونة الإنسان إلى جانبه. فتعدّدت وفق ذلك الخطابات المهتمّة بالجسد ورموزه.
ولعلّ من أهمّ هذه الخطابات نذكر الخطاب الدّينيّ الذي كان الجسدُ قطب الرّحى فيه. إذ الجسد أساس الشّعائر والطّقوس والتّواصل مع المقدّس، وبه يتفاعل الإنسان مع ما يحيط به. فكان عندئذ أحوج إلى الضبط والتقنين والرّقابة، خاصّة في الخطاب الفقهي الذي من أخصّ خصائصه وضع الحدود والضّوابط حتّى لا انفلات.
ولم تكن الحضارة العربيّة الإسلاميّة القديمة بمنأى عن مثل هذا الخطاب وعن تلك الرؤية. فكان الخطاب الإسلامي ينوس بين الوفاء لبعض الرؤى التي كانت سائدة زمن إنتاجه وبين عصيانها والثّورة عليها. ولكنّه كان في كل ذلك خطابا ساعيا إلى الرّقابة وإلى وضع القواعد والأسس والنّماذج التي ينبغي اتّباعها.
ولقد تعدّدت الخطابات الإسلاميّة التي كان الجسد حاضرا فيها بقوّة مثل القرآن والسنّة والسيرة وكتب الشّمائل والتفسير وأدب الباه وغيره.
ويسعى هذا المقال الموجز إلى تبيّن دلالات حضور الجسد في الخطاب الإسلامي القديم من خلال الوقوف على نظرته إلى جسد النبيّ باعتبارها النّموذج والمثال والقدوة ثمّ منظوره إلى جسد المؤمنين رجالا ونساء. فقد ميّز هذا الخطاب الدّيني في الجسد بين جسد المؤمن وجسد غير المؤمن. فقدّم الأوّل واستهجن الثّاني. وكان هذا الخطاب الإسلامي، إلى ذلك، في جزء كبير منه خطابا مذهبيّا يُنافح عن مقالات الفرقة التي ينتمي إليا ويذود عنها محرّضا في مقابل ذلك على خصومه المذهبيّين وواصما لهم، مقوضا نظرتهم إلى الإنسان والكون.
جسد النّبيّ:
مثّلت شخصيّة النبيّ قطب رحى عديد المصنّفات الإسلاميّة المختلفة: سيرةً ومجاميع حديث وتاريخ وفقه وأصول فقه وتفسير وكتب مناقب ومصنّفات الشمائل ودلائل النبوّة وغيرها. فكلّ مجال تصنيف اهتمّ بوجه من وجوه النبيّ محمّد المتعدّدة وكلٌّ وجد فيه ضالّته بل وأوجد فيه ما لم يكن ربّما فيه[1]. وقد وجدت بعض المجالات في جسد النبيّ تحديدا مادّة لها. فقد اهتمّت به كتب الفقه في تأثيث أبوابها مثل الطّهارة والصّلاة والنّكاح وغيرها واهتمّت به كتب الشّمائل ودلائل النبوّة في إطار إثباتها نبوّة محمّد وإيجاد موطئ قدم لها ضمن سلسلة النبوّات السّابقة له، ودفاعها عنها.
ولعلّنا بالعودة إلى ما جاء في هذه المصنّفات من صفات تتعلّق بجسد النبيّ نبدي جملة من الملاحظات: أوّلها اهتمام هذه المصنّفات بالتفاصيل الدّقيقة المتعلّقة بجسد محمّد: فقد ذكر البيهقي في دلائله[2] ضمن باب وسمه بـ ” جِمَاعُ أَبْوَابِ صِفَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ” أحد عشر بابا كلّها تتعلّق بدقائق الجسد من وجه ولون وصفة العين والجبين والرّأس وصفة الشّعر والشّيب وصفة ما بين منكبيه وكفيّه وقدميه وإبطيه وقامته وطيب رائحته وصفة خاتم النبوّة وغيرها كثير.
والنّاظر في هذا النّوع من الخطاب يلحظ أنّه خطاب إيمانيّ تمجيديّ يسعى إلى رسم صورة نموذجيّة للنّبي. فينبغي لمحمّد أن يكون نموذجيّا جسدا كما هو نموذجيّ نبوّة ورسالة. ولذلك كانت كلّ صفاته المذكورة صفات محمودة ومثاليّة فهو” بارع الجمال” مثلما جاء في الروض الأنف للسهيلي[3].وفي هذا السّياق لا بدّ من الإشارة أنّه كثيرا ما استعمل الخطاب الإسلامي القديمُ صفات الجسد وشحَنها بدلالات تتراوح سلبا وإيجابا ووظّفها حجاجيّا. من ذلك مثلا، الصّفات السلبيّة التي اقترنت بمسيلمة والتي تختلف جذريّا عن الصّفات التي أثبتها الخطاب السنّيّ للنّبيّ. فقد جاء في فتوح البلدان “حدثني أَبُو رياح اليمامي، قَالَ. حدثني أشياخ من أهل اليمامة أن مسيلمة الكذاب كان قصيرًا شديد الصفرة أخنس الأنف أفطس، يكنى أَبَا ثمامة وقال غيره: كان يكنى أَبَا ثمالة”[4]. فكان بذلك الجسد مادّة خصبة وظّفها الخطاب الإسلامي للاحتجاج لأطروحاته: إثباتا لنبوّة محمّد ووصما لأعدائه ومخالفيه.
ولقد عكست المصنّفات الإسلاميّة وعيا بأهمّية الجسد وتوظيفه باعتباره رمزا من ناحية وأداة حجاجيّة من ناحية أخرى، فاكتسى عندئذ القبح والجمال وما اتّصل بهما من صفات دلالات تمجيديّة حينا وتحقيريّة استهجانيّة حينا آخر.
والجدير بالملاحظة ثانيا أنّ جسد النّبيّ كان في جميع الخطاب الإسلاميّ جسدا نموذجيّا والممثّل الأبرز لمعايير الجمال عند العربي في تلك العصور. بل إنّ كلّ عصر من العصور حاول أن يكرّس نظرته الجماليّة ومعاييره في الحُسْن من خلال جسد النّبيّ. فكانت صفات النبيّ الجسديّة تتضخّم كلّما تقدّمنا في الزّمن ويُضاف لها دائما وتتّسع دائرتها.
وإنّ هذا الاهتمام الكبير بصفات النبيّ الجسديّة في مختلف العصور ضعفا وقوّة انتصارا وإحباطا يعكس رغبة في استحضار النبيّ واستعادة اللحظات الأولى والبدايات، أي الرّغبة في تكرار ذلك المجد المرتبط بزمن انتصار الدّعوة. فتلك الفترة كرّستها المدوّنة الإسلامية القديمة باعتبارها فترة ذهبيّة، وهي خير القرون وأفضل العصور تشهد بذلك عديد الأحاديث المنسوبة إلى النّبيّ.
فالتركيز الشديد على ذكر تفاصيل الجسد المحمّدي هو شكل من أشكال إعادة الحياة لهذه الشخصيّة. وهذا من شأنه أن يمثّل تحفيزا ودفعا إيجابيّا في عصر الانتصار، أو يمثّل مواساة وتهوينا من حرّ الهزيمة زمن الأزمات والإحباط والانتكاسات. ويمكن في هذا الصّدد أن نشير إلى مصنّفيْن يندرجان جميعا ضمن أدب الشّمائل وقد اهتمّا بصفات النّبيّ الجسديّة: الشّمائل المحمّديّة للترمذي (ت.279ه) والوفاء بأحوال المصطفى لابن الجوزي (ت.597ه). فالنّاظر في هذين الكتابيْن يلحظ اشتراكهما في الحديث عن النّبي باعتباره أنموذجا: فيقول ابن الجوزي: ” اعلموا وفقكم الله أن بيّنا محمّد خالصة الوجود وواسطة العقود، لا يُداني باحة مجده بشرٌ ولا ملك، ولا يطرق ساحة جدّه مخلوق”[5].وهو في هذا طبعا ينطلق من زاوية إيمانيّة تمجيديّة لا تنظر إلى محمّد الإنسان ولا يعنيها، وإنّما يعنيها محمّد الإيمان المتعالي. ومعلوم أنّ المنظور الإيماني لا يعنيه التاريخ ووقائعه إلاّ بما هو وسيلة لمعانقة المقدّس وتجلّيه. وكلّما بعُد الإنسان عن الحدث وزمن وقوعه والفواعل التّاريخيّين فيه، رتع الخيال وجمح مالئا بذلك الفراغات التي تتركها الذّاكرة ومقاوما نسيانا يعصف بالماضي ووقائعه. فهذا الماضي لا سبيل إليه إلاّ بالذّاكرة المعطوبة طبيعةً والتي تحفظ أحداثا لتنسى أخرى أو تتظاهر بنسيانها، والذّاكرة بطبعها خاضعة للزّمن يفعل فيها فتقوى وتضعف، ولذلك كان الخطّ والكتابة. ولمّا كانت الكتابة سردا كان لا بدّ أن تكون ذات رؤية ومنظور على حدّ عبارة السرديّين. وهذا المنظور يجعلها غير محايدة وتكون عندئذ حاملة لإيديولوجيا سافرة أحيانا وخافية أحيانا أخرى.
وفي هذا السّياق نشير إلى أنّ الاختلاف في حجم المادّة المتعلّقة بجسد النبيّ في المُصَنَّفيْن لعلّه عائد إلى اهتمامات المصنّف وشواغل عصره الذي عاش فيه والذهنيّة المهيمنة آنئذ: فليست شواغل القرون الأولى هي عينها شواغل القرن الثّالث. وليس القرن الثالث هو نفسه القرن الخامس هجريّا. إذ لم يكن الاهتمام بجسد النبيّ يتمّ إلا في إطار مباحث السيرة أو الفقه وهي عموما إشارات مقتضبة تحوّلت بعد ذلك إلى مجال في التصنيف مستقلّ. فلقد أشار ابن الجوزي إلى المحفّزات التي دفعته إلى التصنيف في أدب الشمائل، فيقول: “وإنّي لما رأيت خلقا من أمّتنا لا يحيطون علما بحقيقة فضيلته، فأحببت أن أجمع كتابا أشير فيه إلى مرتبته، وأشرح حاله من بدايته إلى نهايته، وأدرج في ذلك الأدلّة على صحّة رسالته وتقدّمه على جميع الأنبياء في رتبته[6]“.
فالنزعة الأولى تعليميّة تسعى لإرساء الأنموذج وفرضه والتعريف به داخليّا ولعلّ في هذه النزعة توجّها مذهبيّا يرسي نظرة أهل السنّة ويكرّسها وهو في ذلك ينبذ غيرها من مقالات الفرق الأخرى. أمّا النزعة الثّانية فهي جداليّة تردّ على المختلف الدينيّ والخصم الحضاري أي هي تتوجّه إلى ما هو برّانيّ تُجادله وتفحمه وتقنعه بصحّة نبوّة محمّد وشرعيّة رسالته.
وهاتان النزعتان كفيلتان بأن يُزاد في الصّفات والشّمائل، فتُصنَع لهذه الغايات المختلفة الأخبارُ والأحاديث، ويُحتفى بها، بل إنّها تتعمّق أكثر في عصور الانحطاط والتراجع التي تنضب فيها حركة التصنيف وتنشط حركة الشروح وشرح الشروح.
الجسد المختلف:
لقد سعى الخطاب الدّينيّ المحفَّز بالنزعة الإيمانيّة والتمجيديّة وبمنظور المعجزات إلى رسم صورة متعالية للنبيّ وجسده. فخُصّ بقدرات تفوق قدرات البشر: الجنسيّة خاصّة. إذ أورد الصّالحي الشّامي وهو من المتأخّرين (ت942ه) في الباب الثّامن من مصنّفه فصلا عنوانه: “في قوته صلى الله عليه وسلم على كثرة الوطء” جاء فيه: ” روى ابن سعيد وابن أبي أسامة عن طاوس ومجاهد، قالا: أُعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم قوة أربعين رجلا في الجماع. وروى ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: أُعطي النبي صلى الله عليه وسلم قوة بضع وستين شابّا، فحسدته اليهود، فقال الله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وروى ابن سعد عن مجاهد وطاوس قالا: أُعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم قوة أربعين في الجماع” (…) روى البخاريّ والنّسائيّ وأبو بكر الإسماعيلي عن قتادة عن أنس- رضي الله تعالى عنه– قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدور، وفي لفظ يطوف، على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار وهنّ إحدى عشرة. قال قتادة: قلت لأنس: أكان يطيقها وفي لفظ، هل كان يطيق ذلك؟ قال: كنّا نتحدث أنّه أُعطي قوة ثلاثين، وفي رواية عند الإسماعيليّ: أربعين في الساعة الواحدة. وفي رواية أخرى في الليلة الواحدة[7].
إقرأ أيضًا: الجسدُ المقدسُ في الثقافة الإسلامية: أجساد المعصومين في المُتخيل الشيعي الإمامي نموذجًا
وقد تكرّرت مثل هذه الأخبار في مختلف المصنّفات التي اهتمّت بسيرة النبيّ وشمائله ودلائل نبوّته ومعجزاته. وعُدّت قدرته الجنسيّة الخارقة علامة على نبوّته، بل إنها ناتجة عن النبوّة. فإذا كان الطّعام عند البشر العاديّين هو الذي يقويّ ” شهوة البدن” على حدّ قول البوصيري، فإنّ النبوّة هي سبب تلك القدرة بالنسبة إلى النبيّ[8]. وقد عُدّ هذا الأمر برهانا على نبوّته. وليس مردّ إقبال النبيّ على النّساء- حسب الخطاب الإسلاميّ القديم- رغبة في الجنس واللذّة، وإنّما القصد منه تبليغ الدّين: فقد ذكر السيوطي في تعليقه على حديث “حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ” الذي أورده النّسائيّ، قال حكاية عن السبكيّ: وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ السِّرُّ فِي إِبَاحَةِ نِكَاحِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ نَقْلَ بَوَاطِنِ الشَّرِيعَةِ وَظَوَاهِرِهَا وَمَا يُسْتَحْيَا مِنْ ذِكْرِهِ ومالا يُسْتَحْيَا مِنْهُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ نِسْوَةً يَنْقُلْنَ مِنَ الشَّرْعِ مَا يَرَيْنَهُ مِنْ أَفْعَالِهِ وَيَسْمَعْنَهُ مِنْ أَقْوَالِهِ الَّتِي قد يستحي من الإفصاح بهَا بِحَضْرَة الرِّجَال ليتكمل نَقْلُ الشَّرِيعَةِ وَكَثَّرَ عَدَدَ النِّسَاءِ لِيَكْثُرَ النَّاقِلُونَ لِهَذَا النَّوْعِ وَمِنْهُنَّ عُرِفَ مَسَائِلُ الْغُسْلِ وَالْحَيْضِ وَالْعِدَّةِ وَنَحْوِهَا قَالَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِشَهْوَةٍ مِنْهُ فِي النِّكَاحِ وَلَا كَانَ يُحِبُّ الْوَطْءَ لِلَّذَّةِ الْبَشَرِيَّةِ مَعَاذَ اللَّهِ وَإِنَّمَا حُبِّبَ إِلَيْهِ النِّسَاء لنقلهن عَنهُ مَا يستحي هُوَ مِنَ الْإِمْعَانِ فِي التَّلَفُّظِ بِهِ فَأَحَبَّهُنَّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِعَانَةِ عَلَى نَقْلِ الشَّرِيعَةِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ وَأَيْضًا فَقَدْ نَقَلْنَ مَا لَمْ يَنْقُلْهُ غَيْرُهُنَّ مِمَّا رَأَيْنَهُ فِي مَنَامِهِ وَحَالَةِ خَلْوَتِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَمِنْ جِدِّهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي الْعِبَادَةِ وَمِنْ أُمُورٍ يَشْهَدُ كُلُّ ذِي لُبٍّ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا لِنَبِيٍّ وَمَا كَانَ يُشَاهِدُهَا غَيْرُهُنَّ فَحَصَلَ بِذَلِكَ خَيْرٌ عَظِيمٌ[9]. وهكذا يفارق النبيّ القدرات العاديّة الطّبيعيّة للبشر، فيكون مُعجِزا بجسدته ومعجِزا بنبوّته، بل إنّ الجسد يضحى وعاء النبوّة ومُشرِّعا في حدّ ذاته. فتصبح انفعالات الجسد مثالا يسعى المؤمنون إلى تقليده تأسّيًّا بالنبيّ. وقد اعتبر الخطاب الإسلامي قدرة النبيّ الجنسيّة علامة على الصحّة الموفورة والتي يُستحسن أن تكون في كلّ المسلم، فيكون قويّا غير ضعيف، مساهما في ازدياد عدد المسلمين وفي تعمير الأرض، ومن ثمّة في الاضطلاع بمهمّة استخلاف الأرض التي أنيطت بالإنسان[10].
ولعلّه من المفيد أنْ نشير في هذا السّياق إلى التناقض الحادّ بين المنظور العربي الإسلامي للعلاقة الجنسيّة والمنظور الغربي المسيحيّ خاصّة: فالجنس في الخطاب الدّينيّ الإسلامي إيجابيّ لأنّه سبيل إلى تجنّب الزّنى والنظرة الحرام وهو سبب إلى كثرة النسل التي كانت سببا للفخر والتّباهي في سياق تاريخي قديم، لأنّ كثرة العدد سبيل إلى المنعة والقوّة، خلافا للخطاب المسيحيّ الذي أشاد بعفّة المسيح ورغبته عن النّساء. ومثّلت رغبة النبيّ محمّد في النساء وقدرته الجنسيّة التي أشاد بها الخطاب الإسلامي محطّ استهجان الخطاب المسيحي القديم. ففتحت هذه المسألة مجالا للطّعن في صدق نبوّة محمّد وذلك دائما في مقارنة مع المسيح، ونُظر إلى إقباله على النّساء دليلا على رغبته في الملذّات الدنيويّة التي تُضعف الجانب الرّوحي وهو ممّا لا يليق بمقام النبوّة ولا بالأنبياء[11].
ولقد رأى الخطاب الإسلامي في جسد النبيّ استثناء ليس فقط من حيث القدرات البدنيّة وإنّما حتّى من حيث ما يُفرزه الجسد المحمّديّ ممّا هو في العادة غير محتفى به كاللّعاب وفضل الوضوء والعرق.
لعابه | وضوؤه | عرقه |
– أورد البخاريّ قال: ” حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَثَرَ ضَرْبَةٍ فِي سَاقِ سَلَمَةَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ، مَا هَذِهِ الضَّرْبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ ضَرْبَةٌ أَصَابَتْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ، فَقَالَ النَّاسُ: أُصِيبَ سَلَمَةُ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَنَفَثَ فِيهِ ثَلَاثَ نَفَثَاتٍ، فَمَا اشْتَكَيْتُهَا حَتَّى السَّاعَةِ”[12].
– وأورد كذلك: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ. قَالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا، فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِب. فَقَالُوا: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ فَأْتُونِي بِهِ. فَلَمَّا جَاءَ بَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ، فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ[13]. |
-حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ الْجَعْدِ قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ، فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ[14].
|
– أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ:دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عِنْدَنَا فَعَرِقَ، وَجَاءَتْ أُمِّي بقارورة فَجَعَلَتْ تَسْلِتُ الْعَرَقَ، فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ؟ قَالَتْ: هَذَا عَرَقٌ نَجْعَلُهُ لِطِيبِنَا، وَهُوَ أَطْيَبُ الطِّيب[15].
|
إنّ مثل هذه الأخبار كثيرة ومبثوثة في مختلف المصنّفات وقد اكتفينا منها بما يدعم فكرة استثنائيّة الجسد النبويّ، إذ نُسب إليه من القدرات ما بها يفارق العاديّ: فأضحى للعاب والنفث قدرات علاجيّة وللوضوء والنّخامة[16] والشعر[17] دلالات البركة التي هي من أخصّ خصائص الجسد المحمّدي التي ليست لأحد سواه. والجدير بالملاحظة أنّ الحديث والخطاباتِ الدّائرةَ في فلكه كالسيرة والشّمائل وغيرها تختلف اختلافا كلّيا عن الخطاب القرآني. إذا لم يُشر هذا الأخير إلى تميّز محمّدٍ جسدا واختلافه عن غيره من البشر، وإنّما خاطبه دائما باعتباره نبيّا يتميّز عن غيره بالرسالة التي أنيطت به لا غير. وهذا ما يدلّ على أنّ باقي الخطابات الحافّة إنّما هي خطابات بعديّة أتت لتُعزّز انتصار الدعوة المحمّديّة. فلا يمكن، في نظرها، أن يكون من جاء بالرّسالة الفريدة إلاّ فريدا واستثنائيّا. ويتجلّى هذا الرّأي أكثر عندما نقف على النزعة الإيديولوجيّة السّافرة حينا والمقنّعة حينا آخر في بعض الأخبار التي تؤكّد انتصار الدّعوة على هذا الآخر المختلف دينيّا، فكان الجسد النبويّ فيها وسيلة للتعبير عن مثل هذا الانتصار. مثلما هو الحال في الخبر التّاليّ: أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ ، عَنْ مُلَازِمٍ ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ بَدْرٍ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ ، عَنْ أَبِيهِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: خَرَجْنَا وَفْدًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَايَعْنَاهُ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّ بِأَرْضِنَا بيعَةً لَنَا، فَاسْتَوْهَبْنَاهُ مِنْ فَضْلِ طَهُورِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ وَتَمَضْمَضَ، ثُمَّ صَبَّهُ فِي إِدَاوَةٍ، وَأَمَرَنَا فَقَالَ: اخْرُجُوا، فَإِذَا أَتَيْتُمْ أَرْضَكُمْ فَاكْسِرُوا بِيعَتَكُمْ، وَانْضَحُوا مَكَانَهَا بِهَذَا الْمَاءِ، وَاتَّخِذُوهَا مَسْجِدًا. قُلْنَا: إِنَّ الْبَلَدَ بَعِيدٌ، وَالْحَرَّ شَدِيدٌ، وَالْمَاءَ يَنْشَفُ؟ فَقَالَ: مُدُّوهُ مِنَ الْمَاءِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا طِيبًا. فَخَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا بَلَدَنَا، فَكَسَرْنَا بِيعَتَنَا، ثُمَّ نَضَحْنَا مَكَانَهَا، وَاتَّخَذْنَاهَا مَسْجِدًا، فَنَادَيْنَا فِيهِ بِالْأَذَانِ. قَالَ: وَالرَّاهِبُ رَجُلٌ مِنْ طيء، فَلَمَّا سَمِعَ الْأَذَانَ قَالَ: دَعْوَةُ حَقٍّ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ تَلْعَةً مِنْ تِلَاعِنَا، فَلَمْ نَرَهُ بَعْد[18].
إنّ هذا الخبر وأمثاله يؤكّدان أنّ جسد النبيّ كان وسيلة الجماعة المسلمة للتعبير عن قضاياها وهمومها وانتصاراتها وهزائمها ورؤيتها لنفسها وللآخر المختلف. فهو مطيّة الجماعة للتّموقع ولإثبات التميّز: فتميّز النبيّ جسدا ونبوّة هو برهان على تميّز الجماعة المؤمنة به والمتّبعة له عربا ومسلمين، وهذا ما يصبغ عليها مشروعيّة في الهيمنة على الآخر المغلوب[19] أو يمثّل شكلا من أشكال المواساة زمن الخيبات والانتكاسات، فيكون جسد النبيّ تذكيرا دائما بهذا التفوّق حتّى وإن كانت معطيات التّاريخ تشي بعكسه.
لقد شاءت الجماعة المسلمة أن يكون جسد النبيّ صورة لهم وانعكاسا لواقعهم، فكان نموذجيّا واستثنائيّا، تتحقّق فيه جميع صفات الكمال، حتّى إنّه كان جسدا انصهرت فيه الذّكورة بالأنوثة حتّى لا تمييز بينهما، فكانت جسدا جامعا أنموذجا archétype وطرازا prototype.
الجمع بين الذكوري والأنثويّ:
إنّنا إذ نعود إلى مختلف المصنّفات التي اهتمّت بجسد النبيّ ككتب الشّمائل ودلائل النبوّة ومجاميع الحديث النّبويّ نلاحظ أوّلا أن أوصاف النبيّ غير ثابتة فهي متغيّرة حسب منظور الواصف، بل إنّها أحيانا تصل حدّ التناقض إزاء موصوف واحد. وإنّ هذا الاختلاف يعود إلى تقبّل النّاظر وذوقه وقدرته على الوصف. فالصّفات تبقى انطباعيّة وغير محايدة لسبب بسيط ورئيسيّ أنّ هذا الوصف إيماني والغاية منه تمجيديّة أساسا. وقد مرّ معنا كيف أنّ الخلفيّة التي ينطلق منها الواصف تؤثّر بشدّة على الصّفات (مسيلمة مثالا). هذا إضافة إلى أنّ صفات النبيّ متغيّرة حسب الزّمن، فيحاول كلّ عصر أن يضع رؤيته الجماليّة الخاصّة عليها. والحقّ أنّ هذا الاختلاف في التقبّل الجماليّ يتعلّق بمختلف الشخصيّات المهمّة في تاريخ الإنسانيّة عموما[20].
ونلاحظ ثانيا، أنّ بعض أوصاف النبيّ امتزجت فيها الصّفات الأنثويّة بالذّكوريّة. فلم تكن تعبيرا صادقا ووفيّا للرؤية الجماليّة العربيّة المتعلّقة بالرّجل والتي تتجسّد في الشعر العربيّ القديم، بل إنّنا نرى أنّ اختلاط الأعراق بما تحمله من رؤية جماليّة خاصّة بها قد أثّر في سمات صورة جسد النّبيّ. فأضحت جسدا النّبيّ جسدا شعريّا أكثر منه تاريخيّا. إذ ليس تمثّل العرب لصورة الرّجل والمرأة مطابقا بالضّرورة لتمثّل غيرهم من الأمم لهما. فقد أورد البخاري مثلا: ” حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سُئِلَ الْبَرَاءُ: أَكَانَ وَجْهُ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلَ السَّيْفِ، قَالَ: لَا، بَلْ مِثْلَ الْقَمَرِ”[21]. وأورد كذلك: “حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا مَسسْتُ حَرِيرًا وَلَا دِيبَاجًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَا شَمِمْتُ رِيحًا قَطُّ أَوْ عَرْفًا قَطُّ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ أَوْ عَرْفِ النَّبِيِّ”[22].
إقرأ أيضًا: الجسد الانثوي ما بين الدين والمجتمع والسياسة
وقد تكرّرت مثل هذا الأخبار في مختلف المصنّفات الأخرى وتُوسّع فيها نثرا وشعرا. فليست الثّقافة العربية كما رسّخها الشعر القديم تصف وجه الرّجل بالقمر والبدر ولا تصف طيب نشره الذي هو من أخصّ خصائص وصف المرأة في الشعر ولا توصف يده وكفّاه باللين والنّعومة، بل ربّما وُصف بضدّ ذلك لأنّه مناسب لما يقوم به من شديد الأعمال في الفضاء الخارجيّ.
إنّ ما نخلُص إليه إنّ جسد النبيّ كانت مجالا رحبا حاولت الجماعة المؤمنة به عبر العصور أن ترى فيه نفسها، فرسّخ كلّ عصر رؤيته الجماليّة الخاصّة به. وإنّ الطريف حقّا هو أن يُعدّ جمال النبيّ كما تمثّله المؤمنون دليلا على صدق النبوّة. إذ ليست الرسالة التي جاء بها هي التي تشي بصدقه بل جسده الذي مثّل غالبا وسيلة لتجلّي هذه الرّسالة ومعبرا لها حتّى تصل للمؤمنين (نزول الوحي وانفعال جسد النبيّ به مثلا).
وإنّ هذا التجاور والامتزاج بين معجميْن هما في العادة متباعدان، أي المعجم الذكوريّ والأنثويّ الغزليّ، قد ساهما في رسم صورة متفرّدة للنبيّ[23]. فكانت بذلك هذه الصّورة معبّرة عن الذّائقة الجماليّة للجماعة في كل عصر وليست انعكاسا صادقا لصورة النبيّ كما هي في التّاريخ.
فجسد النبيّ كما جاء في المصنّفات الإسلاميّة هو جسد إيمانيّ وليست جسدا تاريخيّا. وخير دليل على ذلك هو أنّه جسد خالٍ من العيوب وممّا من شأنه أن يشوّه الصورة المثاليّة للنبيّ: فهو جسد “خُلق كما يشاء” على حدّ قول حسّان بن ثابت. ولذلك كان هذا الامتزاج ذكوري- أنثوي تعبيرا صادقا عن المخيال العربيّ في مختلف فتراته وعن رغبته في أن تكون صورة النبيّ منسجمة مع التطلّعاتِ الجماليّة للجماعة.
ولقد احتلّ الجسد في الخطاب الدّيني الإسلاميّ مكانة متميّزة سواء ذلك المتعلّق بصاحب الدّعوة: النبيّ محمد، أم الجسد الإنسانيّ عموما: رجلا أو امرأة. ولعلّ من أهمّ الخطابات التي مثّل الجسد مادّة لها هو الخطاب الفقهي، وذلك لأنّه خطاب مهمّته الأولى هي الضبط والتسييج والتقنين، فلا يمكن أن يبقى المؤمن منفلتا عن كلّ ضابط[24].
وبتفحّص هذا الخطاب، نلحظ وعيا تمييزيّا تراتبيّا يقوم على الموازنة والمفاضلة بين عناصر عدّة، كالرّوح والجسد، وجسد الرّجل وجسد المرأة وجسد العبد والأمة وجسد المسلم وغير المسلم وهلمّ جرّا.
الرّوح- الجسد:
فاضل الخطاب الإسلاميّ الدّيني بين النّفس/الرّوح والجسد، فكانت حظّ النفس أرجح. وفي هذا السّياق يقول السّيوطيّ معلّقا على الحديث الذي أورده الترمذيّ: “وَقَدَّمَ الطِّيبَ عَلَى النِّسَاءِ لِتَقَدُّمِ حَظِّ النَّفْسِ عَلَى حَظِّ الْبَدَنِ فِي الشَّرَفِ”[25]. ولئن كانت صورة الجسد في الخطاب الدّينيّ الإسلامي القديم ليست سلبيّة مطلقا مثلما هو الحال في بعض الدّيانات الأخرى، فإنّ هذا لا يعني أنّه لم يُنظر إليه باعتباره سببا للنّجاسة وارتكاب الخطيئة التي من شأنها أن تشوّش صفاء الرّوح وطهارتها. ولذلك تأخّرت مرتبة الجسد وتقدّمت النّفس في العلوّ والشّرف فهي جوهر لا عرض. وقد مُحّض تفسير عديد الآيات القرآنيّة لصالح هذه الموازنة. فذكر الرّازي مثلا في تفسيره: ” وأمّا المَعْقُولُ فَمِن وجوه: الأوَّلُ: وهو أنَّ وقْتَ النَّوْمِ يُضْعِفُ البَدَنَ، وضَعْفُهُ لا يَقْتَضِي ضَعْفَ النَّفْسِ، بَلِ النَّفْسُ تَقْوى وقْتَ النَّوْمِ فَتُشاهِدُ الأحْوالَ وتَطَّلِعُ عَلى المُغَيَّباتِ، فَإذا كانَ ضَعْفُ البَدَنِ لا يُوجِبُ ضَعْفَ النَّفْسِ، فَهَذا يُقَوِّي الظَّنَّ في أنَّ مَوْتَ البَدَنِ لا يَسْتَعْقِبُ مَوْتَ النّفس. الثّانِي: وهو أنَّ كَثْرَةَ الأفْكارِ سَبَبٌ لِجَفافِ الدِّماغِ، وجَفافُهُ يُؤَدِّي إلى المَوْتِ، وهَذِهِ الأفْكارُ سَبَبٌ لِاسْتِكْمالِ النَّفْسِ بِالمَعارِفِ الإلَهِيَّةِ، وهو غايَةُ كَمالِ النَّفْسِ، فَما هو سَبَبٌ في كَمالِ النَّفْسِ فَهو سَبَبٌ لِنُقْصانِ البَدَنِ، وهَذا يُقَوِّي الظَّنَّ في أنَّ النَّفْسَ لا تموت بموت البدن. الثّالِثُ: أنَّ أحْوالَ النَّفْسِ عَلى ضِدِّ أحْوالِ البَدَنِ، وذَلِكَ لِأنَّ النَّفْسَ إنَّما تَفْرَحُ وتَبْتَهِجُ بِالمَعارِفِ الإلَهِيَّةِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾. وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلام: أبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِي. ولا شَكَّ أنَّ ذَلِكَ الطَّعامَ والشَّرابَ لَيْسَ إلّا عِبارَةً عَنِ المَعْرِفَةِ والمَحَبَّةِ والِاسْتِنارَةِ بِأنْوارِ عالَمِ الغَيْبِ. وأيْضًا فَإنّا نَرى أنَّ الإنْسانَ إذا غَلَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِبْشارُ بِخِدْمَةِ سُلْطانٍ، أوْ بِالفَوْزِ بِمَنصِبٍ، أوْ بِالوُصُولِ إلى مَعْشُوقِهِ، قَدْ يَنْسى الطَّعامَ والشَّرابَ، بَلْ يَصِيرُ بِحَيْثُ لَوْ دُعِيَ إلى الأكْلِ والشُّرْبِ لَوَجَدَ مِن قَلْبِهِ نَفْرَةً شَدِيدَةً مِنهُ، والعارِفُونَ المُتَوَغِّلُونَ في مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى قَدْ يَجِدُونَ مِن أنْفُسِهِمْ أنَّهم إذا لاحَ لَهم شَيْءٌ مِن تِلْكَ الأنْوارِ، وانْكَشَفَ لَهم شَيْءٌ مِن تِلْكَ الأسْرارِ، لَمْ يَحُسُّوا البَتَّةَ بِالجُوعِ والعَطَشِ. وبِالجُمْلَةِ فالسَّعادَةُ النَّفْسانِيَّةُ كالمُضادَّةِ لِلسَّعادَةِ الجُسْمانِيَّةِ، وكُلُّ ذَلِكَ يَغْلِبُ عَلى الظَّنِّ أنَّ النَّفْسَ مُسْتَقِلَّةٌ بِذاتِها ولا تَعَلُّقَ لَها بِالبَدَنِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ لا تَمُوتَ النَّفْسُ بِمَوْتِ البَدَنِ[26]. وقال كذلك في معرض تعليقه على آية ” ونفخت فيه من روحي[27]: ” وإنَّما أضافَ اللَّهُ سُبْحانَهُ رُوحَ آدَمَ إلى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا لَهُ وتَكْرِيمًا.[28]
إقرأ أيضًا: السلطة والحقيقة: جدلية التداخل بين الروحي والزمني محمد أركون نموذجاً
ولقد كان هذا المنظور القائم على ثنائيّة الرّوح/ الجسد شائعا في مختلف الثّقافات القديمة وليس الإسلام في ذلك بدعا منها. وفي هذا السّياق يقول سامي الرّياحي: ” لقد وفّرت الثقافات القديمة للإنسان استعارات للجسد متأثّرة بالتّصوّرات الميتافيزيقيّة للكون، فكانت توحي بانشطار الكيان الإنسانيّ إلى نصفين متناقضين متصارعيْن هما المادّة/ الرّوح، وبمقتضاها اعتبر الجسد موطن الشّرور وسبب الدّنس والرّذيلة واغتراب جوهر الإنسان في الكون، فهو عبارة عن وحل يشوّه الصّورة النّقيّة والأصليّة للنّفس الخالدة (…)، ومن هذا المنطلق تعاملت هذه الثّقافات تصوّرا وممارسة مع الجسد على أساس أنّه ضرب من الحضور المحرج الذي ينبغي التحكّم فيه بواسطة سلطة العقل والأخلاق”[29].
الجسد الشعائري: الجسد والاتصال بالمقدّس:
وفي علاقة بثنائيّة المادّة/ الرّوح، كان الجسد صراط العبور إلى الرّوح بما هي صنو المقدّس. فكان الفيزيقي/ المادّي والعاديّ وسيلة إلى الميتافيزيقي/ المتعالي والمقدّس. إذ الجسد في مختلف الدّيانات وسيلة للاتّصال بالمقدّس، فهو المطيّة التي يركبها المؤمن ليصل إلى حضرة المقدّس ويتفاعل معه. ولذلك كان الوشم والصوم والصّلاة القائمة على حركات الجسد والحجّ والدّم وطقوس الطّهارة وغيرها كلّها طقوس قائمة على الجسد الإنسانيّ باعتباره وسيلة الإنسان لتطهير الرّوح وبلوغ المقدّس. وليس الإسلام في ذلك بدعا منها. وإذا نظرنا في المصنّفات الإسلاميّة، وجدنا أنّه إضافة إلى أبواب الطّهارة والصّلاة والصوم والحجّ وغيرها التي فيها احتفاء بالجسد حركات وأعمالا شعائريّة عليها تقوم تلك الطّقوس وبها تصحّ، ثمّة نظرة إلى الجسد تفاضل بين أعضائه وأجزائه. وفي هذا السّياق يقول صاحب كتاب المحلّى: “وَمَنْ نَكَسَ وُضُوءَهُ أَوْ قَدَّمَ عُضْوًا عَلَى الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ فِي الْقُرْآنِ عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا لَمْ تُجْزِهِ الصَّلَاةُ أَصْلًا، وَفُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِوَجْهِهِ ثُمَّ ذِرَاعَيْهِ ثُمَّ رَأْسِهِ ثُمَّ رِجْلَيْهِ، وَلَا بُدَّ فِي الذِّرَاعَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ مِنْ الِابْتِدَاءِ بِالْيَمِينِ قَبْلَ الْيَسَارِ كَمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ، فَإِنْ جَعَلَ الِاسْتِنْشَاقَ وَالِاسْتِنْثَارَ فِي آخِرِ وُضُوئِهِ أَوْ بَعْدَ عُضْوٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ الْمَذْكُورَةِ لَمْ يُجْزِ ذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا لَزِمَهُ أَنْ يَعُودَ إلَى الَّذِي بَدَأَ بِهِ قَبْلَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَهُ فَيَعْمَلُهُ إلَى أَنْ يُتِمَّ وُضُوءَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَدِئَ مِنْ أَوَّلِ الْوُضُوءِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ، فَإِنْ انْغَمَسَ فِي مَاءٍ جَارٍ وَهُوَ جُنُبٌ وَنَوَى الْغُسْلَ وَالْوُضُوءَ مَعًا لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ مِنْ الْوُضُوءِ وَلَا مِنْ الْغُسْلِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ مُرَتَّبًا، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ”[30]. ونجد الأمر نفسه في الخطاب الشّيعيّ. فقد جاء في الكافي: “عن أحمد بن محمد، وأبي داود جميعا، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن الحسين بن عثمان. عن سماعة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا نسيت فغسلت ذراعك قبل وجهك فأعد غسل وجهك ثم اغسل ذراعيك بعد الوجه فإن بدأت بذراعك الأيسر قبل الأيمن فأعد غسل الأيمن ثم اغسل اليسار وإن نسيت مسح رأسك حتى تغسل رجليك فامسح رأسك ثم اغسل رجليك“[31].
وإنّ هذا التمييز بين أعضاء الجسد هو نتيجة رؤية مخصوصة إلى الكون عامّة تقوم أساسا على الثّنائيّات: فوق/ تحت ويمين/ يسار وهكذا. وقد احتوى القرآن ما يُبين عن هذه الرؤية: فكان تفضيل اليمين على الشّمال[32] والأعلى على الأسفل في مواطن عديدة. فاقترن اليمين بالسّرور والسّعادة والخلاص والنّجاة من العقاب، أمّا الشمال فهو قرين العذاب والنّدم والشّقاء.
ولقد جعل الفكر الإنساني عامّة والإسلامي خاصّة الجسد ومتعلّقاته رموزا بها يعبّر عن رؤيته إلى نفسه وإلى الكون[33]. فلم يقبل هذا الفكر أن يُترك الكون الذي يعيش فيه مطلقا دون تقييد وتحديد ورفض كذلك من باب أولى أن يكون جسده منفلتا عن كلّ تحديد وضبط. فكما دلّ الأعلى على الخير والسّماء والرزّق والمقدّس كان الجزء العلويّ في جسد الإنسان أشرف لأنّه يضمّ القلب والدّماغ. وكذلك الأمر بالنسبة إلى اليمين والشّمال[34].
ولقد كان الجسد في المنظومة الفقهيّة عموما وفي كتاب المحلّى خصوصا موضوعا من المواضيع الرّئيسيّة للفقه الإسلاميّ فكلّ الأبواب التي تضمّنتها المصنّفات الفقهيّة لا يخلو السّواد الأعظم منها ممّا له علاقة بالجسد كالطّهارة والصّلاة والصوم والحجّ والحدود وغيرها. إلاّ أنّ الجامع بين هذه الأبواب على اختلافها هو سعي الفقه إلى تهيئة الجسد المؤمن وتحضيره وضبطه ليكون دائما جاهزا للاتصال بالمقدّس، ولا يتوقّف هذا الإعداد المستمر والرّقابة الدّائمة على الجسد وهو حيّ فقط بل يتواصل حتّى عند الموت. فلجسد الميّت ضوابط ينبغي أن تتوفّر وقواعد في الغسل والدّفن تُراعى حتّى لا يكون ثمّة ما يشوّش على اللحظة المقدّسة التي يرسل فيها الجسد إلى عالم آخر مختلف.
وقد مارس الفقيه رقابة على الجسد جعلته ملائما لرؤيته الفقهيّة. إلاّ أن الطّريف هو أنّ هذا الجسد وإن سيّجته المنظومة الفقهيّة بصرامتها نظريّا فإنّ الواقع كان أقوى وكانت قضايا الجسد إذن منفلتة عن التقييد التّام وهذا ما تشي به آراء الفقهاء المختلفة حتّى التّناقض. فها هو ابن حزم في مصنّفه يردّ على خصومه معترفا بخلطهم وعدم ضبطهم[35]. وهو ما يدلّ على تعدّد القراءات والاختلافات الفقهيّة إزاء المسألة نفسها (الزّنى في هذا السّياق) وهو ما يُثبت بشريّة الاجتهادات الفقهيّة رغم ادّعاء أصحابها تعاليها وقدسيّتها.
جسد الرّجل:
والنّاظر في الخطاب الدّيني عموما والفقهي خصوصا يلحظ أنّه موجّه تحديدا إلى متقبّل ذكر. وقد يُبرِّرُ ذلك بعضهم بنظام العربيّة أصلا، إذ خطاب المذكّر هو المطلق والعامّ ولا يعني ذلك إقصاء المرأة، خاصّة وأنّ ذلك يكاد يكون عامّا في الخطاب القرآني.
والحقّ أنّ مثل هذه الحجّة لا تصمد كثيرا. فالخطاب الفقهيّ مثلا عند ابن حزم واعٍ بهذا التمييز، وهو تمييز مقصود يضع الرّجل في الصّدارة وكأنّه هو المعنيّ بدرجة أولى بمحتوى الخطاب. فمُنتِج المعرفة رجل ومتقبّلها، حسب الخطاب القديم، ينبغي أن يكون كذلك أيضا. وبرهان ذلك أنّه دائما يقدّم الرّجل على المرأة حتّى في المواضع العامّة جدّا، فيقول مثلا: “وَتَطْهِيرُ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالدَّمِ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمَاءِ حَتَّى يَزُولَ الْأَثَرُ”[36]. وهذا ديْدنه في كلّ خطابه تقريبا.
هذا بالإضافة إلى أنّه يطرح المسائل متوجّهة إلى الرّجل أساسا ثمّ يعطف عليها في الخاتمة ما تعلّق بالمرأة، كقوله مثلا: “الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي كُلِّ ذَلِكَ سَوَاءٌ”[37] أو قوله: “وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ حُكْمَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ”[38] أو كذلك قوله: ” وَنَذْرُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ (…) سَوَاءٌ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا”.[39]
فلقد كان جسد الرّجل إذن في معظم الخطاب الفقهي قطب الرّحى وركيزة أساسيّة يصوغ وفقها الفقيه مسائلها ويشكّل حسبها حلوله تقنينا وضبطا وبيانا للقويم من السلوك والأفعال والهيئات وغيرها.
جسد المرأة:
حرص الخطاب الفقهي القديم على ضبط الحدود بين الرّجل والمرأة على مستويات عدّة، لعلّ من أهمّها مستوى الأحكام المتعلّقة بالجسد: إذ لم يتعامل القدامى مع الجنسيْن بالطّريقة نفسها وإن كانت الغاية الكبرى مشتركة وهي الضبط وممارسة الرّقابة على الجسد وتطويعه للنظرة الفقهيّة التي ترفض الشاذّ والمختلف والخارج عن القاعدة.
والملاحظ بالنسبة إلى جسد المرأة هو منزلتها المتدنّية مقارنة بالرّجل، وقد وظّف الخطاب الدينيّ القديم – وحتّى الحديث- عديد الآيات القرآنيّة لتعزيز هذه النظرة السلبيّة لكلّ ما يتعلّق بالمرأة خاصّة من النّاحية الفقهية[40]. والجدير بالملاحظة أنّ مثل هذه النظرة لم تكن حكرا فقط على الخطاب الإسلاميّ، بل نجد أنّ الإنسان القديم عموما كانت نظرته إلى المرأة فيها نوع من التهميش والحطّ من الشّأن. فلم تكن تشارك في الأعمال التي كان يشارك فيها الرّجال. بل ثمّة أعمال احتكرتها المرأة وأخرى عُدّت رجاليّة بحتة. وما الأمثلة التي يجود بها علينا التّاريخ من نماذج نسائيّة كسرت الحصار واستطاعت فرض نفسها في عالم الرّجال إلاّ استثناءً يؤكّد القاعدة[41].
ولقد هيمنت على الخطاب الدّينيّ الإسلاميّ نظرةُ المرأة- العورة. وفي هذا السّياق يذكر ابن حزم قائلا: وقَدْ أَوْضَحْنَا فِي ” كِتَابِ الصَّلَاةِ ” أَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ إلَّا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ[42].
لقد ضخّم القدامى مفهوم العورة ووسّعوه منطلقين في ذلك من العرف الاجتماعي للمجتمع العربي والحجازي تحديدا ووقع تعميمه حتّى شمل باقي الشّعوب الدّاخلة في الإسلام والحاملة لثقافة قد تختلف عن الثّقافة العربيّة. فكان الواقع العربيّ في القرنين السّادس والسّابع الميلاديّين القاعدة التي على أساسها وقع التشريع وضبط القواعد وما ينبغي أن يكون.
ولكنّ الملاحظ في الخطاب الإسلامي القديم هو التمييز في جسد المرأة بين الحرّة والأمة. فبقدر التّشدّد في مراقبة الجسد الأنثويّ الحرّ، وقع التّسامح والتّغاضي في علاقة بجسد الأمة، فسُمح لها بما لم يُسمح به للحرّة كالزّينة والتبرّج وأصناف اللّهو كالعزف وقرض الشّعر في مجالس الأدب.
فقد أورد صاحب المحلّى في سياق حديثه عن جسد الجارية: وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ -: فَصَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ إبَاحَةُ النَّظَرِ إلَى سَاقِهَا وَبَطْنِهَا وَظَهْرِهَا، وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى عَجُزِهَا وَصَدْرِهَا – وَنَحْوِ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ. وَصَحَّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ إبَاحَةُ النَّظَرِ إلَى مَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَدُونَ الرُّكْبَةِ[43].
ويقتضي قول ابن حزم هذا أنّ جسد الجارية كان يُتعامل معه معاملة تختلف عن معاملة الحرّة ويُنظر إليه من زاوية مُناقضة لتلك التي يُنظر من خلالها إلى الحرّة. فكانت الجواري أكثر حرّية في أجسادهنّ، إذ تقلّ المراقبة والضبط على عكس الحرائر اللّوات كنّ مقيّدات بالحدود والأعراف والقواعد التي تكبّل أجسادهنّ في أبسط التّفاصيل[44]. وجاء في المحلّى: ” وَلَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ التَّبَرُّجُ وَلَا التَّزَيُّنُ لِلْخُرُوجِ إذَا خَرَجْنَ لِحَاجَةٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي ” كِتَابِ الصَّلَاةِ “ أَمْرَ النَّبِيِّ إذَا خَرَجَ النِّسَاءُ إلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَخْرُجْنَ تَفِلَات”[45].
وكذلك الأمر بالنسبة إلى العدّة، فعدّة الأمة أقل من عدّة الحرّة. إذ أورد مالك: ” قُلْتُ: أَرَأَيْتَ الْأَمَةَ تَكُونُ تَحْتَ الرَّجُلِ فَيُطَلِّقُهَا تَطْلِيقَةً يَمْلِكُ بِهَا الرَّجْعَةَ أَوْ طَلَاقًا بَائِنًا فَاعْتَدَّتْ حَيْضَةً وَاحِدَةً ثُمَّ أُعْتِقَتْ أَوْ اعْتَدَّتْ بِشَهْرٍ ثُمَّ أُعْتِقَتْ أَ فَتَنْتَقِلُ إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ أَمْ تَبْنِي عَلَى عِدَّتِهَا؟ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: تَبْنِي عَلَى عِدَّتِهَا وَلَا تَنْتَقِلُ إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ، قُلْتُ: وَسَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ يُمْلَكُ فِيهِ الرَّجْعَةُ أَمْ لَا؟ قَالَ: نَعَمْ، ذَلِكَ سَوَاءٌ عِنْدَ مَالِكٍ تَبْنِي وَلَا تَنْتَقِلُ إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ الْأَمَةَ إذَا مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَلَمَّا اعْتَدَّتْ شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ أَعْتَقَهَا سَيِّدُهَا أَتَنْتَقِلُ إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ أَمْ تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الْإِمَاءِ وَكَيْفَ هَذَا فِي قَوْلِ مَالِكٍ؟ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: تَبْنِي عَلَى عِدَّتِهَا وَلَا تَرْجِعُ إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ.[46]
والنّاظر في الخطاب الإسلاميّ القديم وخطاب ابن الحزم في المحلّى خصوصا يلحظ حرصه الشّديد على التّفاضل بين المرأة والرّجل حتّى فيما يتعلّق بالوضوء ومائه. فلم يُجز ابن حزم أن يتوضّأ الرّجل بفضل وضوء المرأة. وأجاز عكس ذلك. فيقول: وَكُلُّ مَاء تَوَضَّأَتْ مِنْهُ امْرَأَةٌ – حَائِضٌ أَوْ غَيْرُ حَائِضٍ – أَوْ اغْتَسَلَتْ مِنْهُ فَأَفْضَلَتْ مِنْهُ فَضْلًا، لَمْ يَحِلَّ لِرَجُلٍ الْوُضُوءُ مِنْ ذَلِكَ الْفَضْلِ وَلَا الْغُسْلُ مِنْهُ، سَوَاءٌ وَجَدُوا مَاءً آخَرَ أَوْ لَمْ يَجِدُوا غَيْرَهُ، وَفَرْضُهُمْ التَّيَمُّمُ حِينَئِذٍ، وَحَلَالٌ شُرْبُهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَجَائِزٌ الْوُضُوءُ بِهِ وَالْغُسْلُ لِلنِّسَاءِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَلَا يَكُونُ فَضْلًا إلَّا أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِمَّا اسْتَعْمَلَتْهُ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ أَكْثَرَ فَلَيْسَ فَضْلًا، وَالْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ بِهِ جَائِزٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَأَمَّا فَضْلُ الرِّجَالِ فَالْوُضُوءُ بِهِ وَالْغُسْلُ جَائِزٌ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، إلَّا أَنْ يَصِحَّ خَبَرٌ فِي نَهْيِ الْمَرْأَةِ عَنْهُ فَنَقِفَ عِنْدَهُ، وَلَمْ نَجِدْهُ صَحِيحًا فَإِنْ تَوَضَّأَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ أَوْ اغْتَسَلَا مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ يَغْتَرِفَانِ مَعًا فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَا نُبَالِي أَيُّهُمَا بَدَأَ قَبْلُ، أَوْ أَيُّهُمَا أَتَمَّ قَبْلُ.[47] فليس مجرّد استعمال الماء هو ما يجعله نجسا، عند ابن حزم، وغير قابل لأن يتوضّأ به الرّجل، بل يعتبر أنّ استعمال المرأة لذلك الماء هو ما ينجّسه، والحال أنّه لا يعتبر ذلك كذلك بالنسبة إلى الرّجل.
وخطاب ابن حزم في هذا السّياق منسجم تماما مع نظرة الإنسان القديم التي ترى في المرأة كائنا نجسا – ليس فقط في الحيض- وسببا للشّرور، وذلك خاصّة في بعض الدّيانات التي احتكّ بها الإسلام كالمسيحيّة والتي ترى في المرأة سبب الطّرد من الجنّة وبالتّالي تستحق العقاب الإلهي المتمثّل في نجاسة الحيض.
وقد أجرى ابن حزم وغيره من الفقهاء هذا التفاضل حتّى في الموت والجنازة. فقد جاء في مدوّنة مالك بن أنس: ” قَالَ مَالِكٌ: إذَا اجْتَمَعَتْ جَنَائِزُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، جُعِلَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَالنِّسَاءُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ. قَالَ فَقُلْتُ لَهُ: فَإِنْ كَانُوا رِجَالًا كُلَّهُمْ؟ فَقَالَ: فِي أَوَّلِ مَا لَقِيتُهُ يَجْعَلُونَ وَاحِدًا خَلْفَ وَاحِدٍ يُبْدَأُ بِأَهْلِ السِّنِّ وَالْفَضْلِ، فَيُجْعَلُونَ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: أَرَى ذَلِكَ وَاسِعًا إنْ جُعِلَ بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ أَوْ جُعِلُوا صَفًّا وَاحِدًا، وَيَقُومُ الْإِمَامُ وَسَطَ ذَلِكَ وَيُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا غِلْمَانًا ذُكُورًا وَنِسَاءً جُعِلَ الْغِلْمَانُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَالنِّسَاءُ مِنْ خَلْفِهِمْ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ، وَإِنْ كُنَّ نِسَاءً صُنِعَ بِهِنَّ كَمَا يُصْنَعُ بِالرِّجَالِ، كُلُّ ذَلِكَ وَاسِعٌ بَعْضَهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ أَوْ صَفًّا وَاحِدًا”[48].
إنّ الجسد في الخطاب الدّينيّ القديم حمّال دلالات. والخطاب المتعلّق به يعكس ذهنيّة العصر المنتج له ورؤية الجماعة المسلمة للجسد المؤمن رجالا ونساء. إذ الجسد مطيّة للمقدّس ووسيلة له.
وليس المقدّس في الخطاب الإسلامي شعائر وطقوس فقط، بل إنّ المقدّس يتجلّى في جميع أعمال الإنسان وحركاته اليوميّة والعاديّة كالعمل وطلب العلم والمعاملات وحتّى الجنس[49]… إلخ. فكلّ هذه الأعمال التي تبدو لا علاقة لها مباشرة بالمقدّس قد صُبغت بدلالات تجعلها مطيّة إلى الله.
وإنّ من سمات الخطاب الإسلاميّ المتعلّق بالجسد اشتغالُه وفق منطق الثّنائيّات: ثنائيّة الرّجل/ المرأة وثنائيّة المؤمن/ والكافر ثمّ ثنائيّة الانتماء إلى/ الإقصاء من الفرقة أو المذهب المنتمى إليه (خوارج، شيعة، سنّة…).
جسد المسلم وجسد غير المسلم
ميّز الخطاب الفقهي القديم بين الأجساد على أساس الانتماء إلى الإسلام من عدمه أي وفق قاعدة الإيمان والكفر. فكان جسد المسلم ذكرا أو أنثى أفضل من جسد غير المؤمن من حيث النّجاسة والطّهارة. فميّز مثلا ابن حزم بين لعاب المسلمين ولعاب غيرهم:
المؤمنون | غير المؤمنين |
” وَلُعَابُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ – الْجُنُبِ مِنْهُمْ وَالْحَائِضِ وَغَيْرِهِمَا – وَلُعَابُ الْخَيْلِ وَكُلِّ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَعَرَقُ كُلِّ ذَلِكَ وَدَمْعُهُ، وَسُؤْرُ كُلِّ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ – طَاهِرٌ مُبَاحٌ الصَّلَاةُ بِهِ”[50]. | ” وَلُعَابُ الْكُفَّارِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ – الْكِتَابِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ – نَجِسٌ كُلُّهُ، وَكَذَلِكَ الْعَرَقُ مِنْهُمْ وَالدَّمْعُ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْهُمْ، وَلُعَابُ كُلِّ مَا لَا يَحِلُّ أَكْلُ لَحْمِهِ مِنْ طَائِرٍ أَوْ غَيْرِهِ، مِنْ خِنْزِيرٍ أَوْ كَلْبٍ أَوْ هِرٍّ أَوْ سَبُعٍ أَوْ فَأْرٍ، حَاشَا الضَّبُعَ فَقَطْ، وَعَرَقُ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا وَدَمْعُهُ – حَرَامٌ وَاجِبٌ اجْتِنَابُهُ”.[51] |
فالملاحَظ من هذا الجدول هو أوّلا جعل خصائص الجسد الإنسانيّ خاضعة لمقالة الإيمان والكفر. فالمؤمن طاهر وغير المؤمن نجس ينبغي الحذر من نجاسته.
وهذه النظرة السلبيّة متأتّية من تأويل معيّن لبعض آي القرآن والتي عُمّم معناها وأُخرجت من سياقها التّاريخيّ، كتحريم الزّواج من المشركات ومنع زواج المشركين من المسلمات وغير ذلك من الآيات التي جاءت في سياق تاريخيّ مخصوص. ولكنّ العقل الفقهيّ حاول تعميمها مهمّشا بذلك سياقها والظّروف التي حفّت بها. فذهب مالك في المدوّنة أنّ المسلم ينبغي أن: “لَا يَتَوَضَّأُ بِسُؤْرِ النَّصْرَانِيِّ وَلَا بِمَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ”[52].
لقد تعامل الإنسان القديم – وحتّى الحديث- مع الجسد في أبعاده الرّمزيّة التي أصبغها هو عليه.
فليس الجسد هو ذلك الحضور المادّي فقط بل هو منظومة رمزيّة معقّدة تختلف من حضارة على أخرى، بل وتختلف ضمن المجتمع نفسه من مجموعة إلى أخرى.
الجسد المذهبيّ
لم يكتفِ الخطاب الدّيني القديم بالتمييز والمفاضلة في الجسد عامّة بين المؤمن والكافر، وفي جسد المؤمن بين الرّجل والمرأة فحسب، بل تعدّى ذلك إلى ما يمكن أن نطلق عليه اسم الجسد المذهبيّ. وهو جسد وصمه الاختلاف المذهبي والفرقيّ بين مختلف النّحل الإسلاميّة نفسها. فليس جسد السنّيّ مثلا كجسد الخارجيّ من حيث الدّلالات. وهذه المعاني الجسديّة تختلف حسب مرجعيّة الخطاب المتحدّث. فالسنّيّ يرى في أجساد المخالفين له انحرافا وانفلاتا من الضّوابط وما ينبغي أن يكون، وكذلك يرى الشّيعيُّ غيره والخارجيُّ. وفي هذا السّياق أورد ابن حزم: ” ولا يجوز حلق بعض الرأس وإبقاء بعضه. وحلق الشعر مكروه إلا في الحجّ أو من علّة وهو من علامات الخوارج المارقين من الدّين ويستحبّ ترجيل الشعر يوما ويوما”[53]. فأضحى الجسد في الخطاب المذهبيّ القديم وسيلة لوصم الآخر المختلف مذهبا وفرقة.
فكما كان اللّباس ولونه، قديما، وسيلة التمييز بين مختلف مكوّنات المجتمع الدينيّة والعرقيّة، كان الجسد كذلك حمّال دلالات مذهبيّة تُنافح عن الاختيارات المذهبيّة للفرقة وتهاجم الآخر المذهبيّ. فكانت بذلك حلاقة الرأس وسيلة للتمييز بين الفرقة النّاجية التي على الحقّ وبين المخالفين والمارقين الذين هم على الباطل. فصار الجسد بذلك ميزان الجنّة والنّار في الخطاب المذهبي.
وقد كان حلق الرأس تفصيلا اختلفت الفرق المختلفة في تأويله: فأعتبره أهل السنّة علامة المروق والخروج عن الجماعة وعن الصّراط المستقيم، وقد اعتمدوا في ذلك على أحاديث منسوبة إلى النّبيّ مقتطعة عن سياقها الذي وردت فيه – هذا إن صحّت أصلا-. فأورد البخاري مثلا في صحيحه: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ: حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ يُحَدِّثُ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَال: يَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، ويقرؤون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ إِلَى فُوقِهِ). قِيلَ: مَا سِيمَاهُمْ؟ قَالَ: (سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ، أَوْ قَالَ: التَّسْبِيدُ[54]. وقد ورد هذا الحديث ضمن باب وسمه البخاري بـ: باب قِرَاءَةِ الْفَاجِرِ وَالْمُنَافِقِ، وَأَصْوَاتُهُمْ وَتِلَاوَتُهُمْ لَا تُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ.
فكانت السّمات الجسديّة علامة وصم عبْرها حكم البخاري ومن ورائه أهل السّنّة على أصحابها بالنّفاق ومفارقة الطريق المستقيم، وليس هذا الطّريق إلاّ ما اعتقد أهل السنّة أنّه الصّواب والحقّ.
ولئن اعتقد اهل السّنّة أنّ تحليق الرأس علامة الخوارج الذين خرجوا، في نظرهم، عن أصل الدّين وفارقوا صحيح العقيدة، فإنّ هذا الصّفة، أي حلق الرأس، ربّما كان الخوارج يتعمّدونها علامةً يعرف بها في الحروب الرّجلُ منهم خصمه من صاحبه. وربّما كانت إلى ذلك علامة على الشّجاعة وعلى الزّهد والإقبال على الموت والرّغبة فيه[55]. فانظر كيف تتّخذ الفرقُ من صفات خصومهم الجسديّة ما به تصنع الأحاديث وتؤوّل آي القرآن لمهاجمتهم وتكريس مقالاتها فيهم.
ولقد كان الجسد وتفاصيله ومتعلّقاته من أهمّ الوسائل التي وظّفها الخطاب المذهبيّ لإرساء مقالاته الخاصّة وتسفيه مقالات الفرق المنافسة الأخرى بل والتحريض عليها والحكم على المنتسبين إليها بالكفر والخلود في النّار.
خاتمة
لقد اهتمّ الخطاب الإسلامي القديم باختلاف مشاربه وتخصّصاته من سيرة فقه وتفسير وحديث وغيرها بالجسد الإنسانيّ عموما وبجسد المسلم خاصّة. فكانت العناية بجسد النّبيّ إظهارا لصدق نبوّته وبرهنة على نموذجيّته وحسن خَلقه وجماله الذي هو من نعم الله التي تنضاف إلى نعمة الوحي والقرآن.
ثمّ اهتمّ الخطاب الفقهيّ بالجسد حسب أبواب كتب الفقه من طهارة وزواج ودفن وزينة وهيئة وغيرها. وقد كان الخطاب الدّينيّ القديم في كلّ ذلك حريصا على ممارسة الرّقابة على جسد المسلم، فضبَط الدّوائر التي لا ينبغي له الخروج عنها والتي يحب عليه الالتزام بها، وخاصّة جسد المرأة الذي هيمن على الخطاب المتعلّق به المنعُ والتحريم والتضييق والزجر.
وقد كان الجسد كذلك وسيلة للاحتجاج المذهبيّ ومجادلة الآخر وتقويض مقالاته من خلال وضع أحاديث واعتمادها لوصم الآخر جسديّا والحكم عليه بالمروق والخروج عن أصل الدّين والطريق القويمة.
فليس الجسد في الخطاب الإسلاميّ القديم مجرّد وسيلة أنطولوجيّة تحقّق وجود الإنسان فيزيائيّا فقط، بل هو حمّال دلالات أعمق من ذلك بكثير فهو -أي الجسد- ضامن لاستمرار اتّصال الإنسان بالمقدّس في الدّنيا، ووسيلة الإنسان لتحقيق الخلاص في الآخرة، بل إنّه يرافق الإنسان في رحلته الأخرويّة عذابا ونعيما، جنّة ونارا. وتكفي نظرة عجلى في آيات العقاب وآيات الثّواب في الخطاب القرآني للتأكّد من ذلك.
فلقد كان الجسد منظومة رمزيّة دالّة متكاملة، تعامل معه الإنسان عامّة والمسلم خاصّة باعتباره رامزا إلى أبعاد أخرى تتجاوز الحضور المادّي له: فليست اليد اليمنى مجرّد جارحة يستعين بها الإنسان على تصريف حياته بل هي أكثر من ذلك هي البركة، السّلام، والمقدّس، والثّواب، والحسن، والجميل أي أنّها الخير عامّة. وليست اليد اليسرى إلاّ الشرّ المحض.
ثمّ بقي أن نشير إلى الخطاب الدّيني الإسلاميّ القديم كان منسجما مع واقع عصره ومع المنظومة الفكريّة التي أنتجته والت كانت سائدة حينها وكانت وفيّة بدورها لرؤية الإنسان القديم عامّة لجسده وجسد الآخرين. فلسنا بتسليط الضّوء على هذا التّراث نحكم عليه ونجلد ذاتنا، بل إنّنا نسعى إلى فهمه قاصدين فهم عصرنا الذي نعيشه. فوفاؤنا لهذا التّراث هو وفاء لجمر الموقد لا لرماده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع:
(ترتيب ألفبائيّ دون اِعتبار ألف ولام التعريف و”اِبن” و”أبو”)
المصادر
- البخاري (محمّد بن إسماعيل)، الصحيح، تح. مصطفى ديب البغا، ط.5، دمشق، دار اِبن كثير- دار اليمامة،
- البلاذريّ، فتوح البلدان، تح. عبد الله الطّبّاع، بيروت، مؤسّسة المعارف للنّشر.
- البيهقي، دلائل النبوّة، تح. المعطي قلعجي، ط1، دار الكتب العلمية/ دار الريان للتراث الطبعة، د.ت.
- ابن الجوزي، الوفاء بفضائل المصطفى، تح. عامر التّميمي، ط1، البحرين، المجلس الأعلى للشؤون الإسلاميّة، 2018.
- ابن حزم، المحلّى، ت. عبد الغفار البنداري، ط1، بيروت، دار الفكر، د.ت.
- الرّازي، مفاتيح الغيب، ط3، بيروت، دار إحياء التّراث العربي، 1420هـ.
- السّهيليّ، الرّوض الأنف، تح. عبد الرحمان الوكيل، ط1، دار الكتب الإسلاميّة.
- السيوطي، شرح سنن النّسائي، تح. مكتب تحقيق التّراث الإسلامي، بيروت، دار المعرفة، د.ت.
- الصّالحي الشّامي، سبل الهدى والرّشاد في سيرة خير العباد، تح. عادل عبد الموجود وعلي معوض، ط1، لبنان، دار الكتب العلميّة، 1993.
- القرآن.
- المبرّد، الكامل في اللّغة والأدب، بيروت، مؤسسة المعارف، د.ت.
- مالك بن أنس، المدوّنة، ط1، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1994.
- النّسائيّ، السّنن، ط1، الرياض، مكتب التربية العربي لدول الخليج،1988.
المراجع:
العربيّة
- الحدّد (شافية)، نظرة العرب إلى الشّعوب المغلوبة، ط1، تونس، دار محمّد علي الحامّي، 2002.
- الحوفي (أحمد)، المرأة في الشّعر الجاهليّ، ط2، القاهرة، دار الفكر العربي، د.ت.
- الرّياحي (سامي)، الجسد في ثقافة الإسلام بين الفقه والبيان، مؤمنون بلا حدود، 02 مارس 2016.
- الشرفي (عبد المجيد)، الفكر الإسلاميّ في الرّدّ على النّصارى، ط.1، تونس- الجزائر، الدار التونسيّة للنشر- المؤسسة الوطنيّة للكتاب، 1986.
- قرامي (أمال)، الاختلاف في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، ط1، بيروت، دار المدار الإسلاميّ، 2007.
الأجنبيّة
- Bouhdiba (A), La sexualité en Islam, Paris, PUF, 1975.
- Hertz (R), Death and the right hand, London,2ed. Routledge, 2004.
- Tolan (J), European accounts of Muhammad’s life, in the Cambridge companion of Muhammad, ed1, Cambridge, Cambridge University Press, 2010.
الهوامش:
[1] – حرصت مصنّفات الشمائل ودلائل النبوّة على التضخيم من الصّفات والمعجزات وبالغت في ذلك لغايات مختلفة لعلّ أهمّها يتمثّل في السّياق الجدالي مع المختلفين دينيّا من الأمم الأخرى المغلوبة والمندمجة في الحضارة العربيّة أو المجاورة. انظر في ذلك أطروحة عبد المجيد الشرفي، الفكر الإسلاميّ في الرّدّ على النّصارى، ط.1، تونس- الجزائر، الدار التونسيّة للنشر- المؤسسة الوطنيّة للكتاب، 1986.
[2] – البيهقي، دلائل النبوّة، تح. المعطي قلعجي، ط1، دار الكتب العلمية/ دار الريان للتراث الطبعة، د.ت.
[3]– السّهيليّ، الرّوض الأنف، تح. عبد الرحمان الوكيل، ط1، دار الكتب الإسلاميّة، ج3، ص 439.
[4] – البلاذريّ، فتوح البلدان، تح. عبد الله الطّبّاع، بيروت، مؤسّسة المعارف للنّشر، ص 123.
[5]– ابن الجوزي، الوفاء بفضائل المصطفى، تح. عامر التّميمي، ط1، البحرين، المجلس الأعلى للشؤون الإسلاميّة، 2018، ج1، ص166.
[6]– ابن الجوزي، الوفاء، مصدر سابق.
[7]– الصّالحي الشّامي، سبل الهدى والرّشاد في سيرة خير العباد، تح. عادل عبد الموجود وعلي معوض، ط1، لبنان، دار الكتب العلميّة، 1993، ج09، ص 72-73.
[8] – السيوطي، شرح سنن النّسائي، تح. مكتب تحقيق التّراث الإسلامي، بيروت، دار المعرفة، د.ت، ج7، ص 73.
[9]– نفسه، ص 73.
[10]– نفسه: ” وقال القاضي عياض النكاح متّفق على التّمدّح بكثرته والفخر بوفوره شرعا وعادة، فإنه دليل الكمال وصحّة الذّكور به، ولم يزل التّفاخر بكثرته عادة معروفة، والتمدّح به سيرة ماضية وأما في الشّرع فسنة مأثورة، حتى لم يره العلماء مما يقدح في الزهد”.
[11]– أورد جون طولان في مقال له ملخّصا الموقف المسيحيّ من هذه المسألة: ويقول إنّ محمّدا نفسه قد زعم أنّه أُعطِيَ قدرة جنسيّة تضاهي قدرة أربعين رجلا. ويستعرض قائمة بزوجات النبيّ الخمسين، متطرّقا إلى الفضائح حول زينب وعائشة.
ألم يعلن بولس الرّسول أنّ “العازب يشغله الربّ وسبل إرضائه. أمّا المتزوّج فتشغله الدنيا ورضا زوجه (1كورنثوس7: 32-33)؟ أليس هذا أصحّ بالنسبة إلى رجل له من الأزواج خمسينَ، رجلٍ دائم المشاركة في التخطيط للحرب؟ كيف له مع هذا الاِنشغال الدائم والمستمرّ أن يجد وقتا للصوم والصلاة وعبادة الله والتأمّل والتفكير في أمور الآخرة، وفيما يتعلّق بالأنبياء؟ ” وإنّي على يقين أنّ ما من نبيّ يؤثر ملذّات هذه الدنيا أكثر من إيثار سيّدكم لها”.[11] ثمّ يشرح الراهب المسيحيّ ” دلائل النبوّة التي تُجبر أحدهم على الاِعتراف بصفة النبيّ أو الرسول لمن يظهرها”.[11] وعلامتا النبوّة هما التنبّؤ بأشياء غيبيّة (الماضي أو المستقبل) وإظهار المعجزات. انظر:
Tolan (J), European accounts of Muhammad’s life, in the Cambridge companion of Muhammad, ed1, Cambridge, Cambridge University Press, 2010.
[12]– البخاري (محمّد بن إسماعيل)، الصحيح، تح. مصطفى ديب البغا، ط.5، دمشق، دار اِبن كثير- دار اليمامة،1993، ج4، ص 1541.
[13]– نفسه، ج3، ص1357.
[14] – نفسه، ج1، ص 81.
[15]– البيهقي، مصدر سابق، ج1، ص258.
[16] – البخاري، مصدر سابق، ج1، ص 95. ” قَالَ عُرْوَةُ، عَنْ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ: خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ زَمَنَ حُدَيْبِيَةَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ: وَمَا تَنَخَّمَ النَّبِيُّ ﷺ نُخَامَةً، إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ.”
[17] – البيهقي، دلائل النبوّة، مصدر سابق، ج6، ص249. ” حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عيسى الجبري أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ نَجْدَةَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَقَدَ قَلَنْسُوَةً لَهُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ فَقَالَ اطْلُبُوهَا فَلَمْ يَجِدُوهَا ثُمَّ طَلَبُوهَا فَوَجَدُوهَا فَإِذَا هِيَ قَلَنْسُوَةٌ خَلِقَةٌ فَقَالَ خَالِدٌ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ فَابْتَدَرَ النَّاسُ جَوَانِبَ شَعْرِهِ فَسَبَقْتُهُمْ إِلَى نَاصِيَتِهِ فَجَعَلْتُهَا فِي هَذِهِ الْقَلَنْسُوَةِ فَلَمْ أَشْهَدْ قِتَالًا وَهِيَ مَعِي إلا رزقت النّصر.”
[18]– النّسائيّ، السّنن، ط1، الرياض، مكتب التربية العربي لدول الخليج،1988، ج1، ص 151.
[19] – شافية حدّد، نظرة العرب إلى الشّعوب المغلوبة، ط1، تونس، دار محمّد علي الحامّي، 2002.
[20] – اختلفت صورة المسيح مثلا حسب المنظور الجمالي للشّعوب المؤمنة به، فنجد أنّ كل أمّة رسمت له صورة تعكس معاييرها الجماليّة الخاصّة بها وليست صورة المسيح الحقيقيّة: فيختلف لون البشرة مثلا من الأبيض إلى الأسود حسب اختلاف المؤمنين به.
[21] – البخاري، الصحيح، مصدر سابق، ج3، ص1304.
[22] – نفسه، ج3، ص1306.
[23]– البخاري، الصحيح، ج5، ص 2268. ” حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مَوْلَى أَنَسٍ – قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُتْبَة: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا.
[24] – سامي الرّياحي، الجسد في ثقافة الإسلام بين الفقه والبيان، مؤمنون بلا حدود، 02 مارس 2016.
[25] – السيوطي، مصدر سابق. ج7، ص63.
[26] – الرّازي، مفاتيح الغيب، ط3، بيروت، دار إحياء التّراث العربي، 1420هـ، ج9، ص374.
[27] – آل عمران:169- 175.
[28] – الرّازي، مصدر سابق، ج19 ص 139.
[29]– سامي الرّياحي، الجسد في ثقافة الإسلام بين الفقه والبيان، مرجع سابق.
[30] – ابن حزم المحلّى، ت. عبد الغفار البنداري، ط1، بيروت، دار الفكر، دت، ج1 ص 310.
[31]– الكليني، الكافي، ط1، بيروت، منشورات الفجر، 2007، ج3 ص 25.
[32] – سورة الحاقّة، الآيات 19- 34: ﴿فَأَمَّا مَنۡ أُوتِیَ كِتَـٰبَهُۥ بِیَمِینِهِۦ فَیَقُولُ هَاۤؤُمُ ٱقۡرَءُوا۟ كِتَـٰبِیَهۡ ١٩ إِنِّی ظَنَنتُ أَنِّی مُلَـٰقٍ حِسَابِیَهۡ ٢٠ فَهُوَ فِی عِیشَةࣲ رَّاضِیَةࣲ ٢١ فِی جَنَّةٍ عَالِیَةࣲ ٢٢ قُطُوفُهَا دَانِیَةࣱ ٢٣ كُلُوا۟ وَٱشۡرَبُوا۟ هَنِیۤـَٔۢا بِمَاۤ أَسۡلَفۡتُمۡ فِی ٱلۡأَیَّامِ ٱلۡخَالِیَةِ ٢٤ وَأَمَّا مَنۡ أُوتِیَ كِتَـٰبَهُۥ بِشِمَالِهِۦ فَیَقُولُ یَـٰلَیۡتَنِی لَمۡ أُوتَ كِتَـٰبِیَهۡ ٢٥ وَلَمۡ أَدۡرِ مَا حِسَابِیَهۡ ٢٦ یَـٰلَیۡتَهَا كَانَتِ ٱلۡقَاضِیَةَ ٢٧ مَاۤ أَغۡنَىٰ عَنِّی مَالِیَهۡۜ ٢٨ هَلَكَ عَنِّی سُلۡطَـٰنِیَهۡ ٢٩ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ٣٠ ثُمَّ ٱلۡجَحِیمَ صَلُّوهُ ٣١ ثُمَّ فِی سِلۡسِلَةࣲ ذَرۡعُهَا سَبۡعُونَ ذِرَاعࣰا فَٱسۡلُكُوهُ ٣٢ إِنَّهُۥ كَانَ لَا یُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ ٱلۡعَظِیمِ ٣٣ وَلَا یَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِینِ ٣٤﴾.
– [33] Robert Hertz, Death and The right hand, London,2ed. Routledge, 2004.
[34] – والنّاظر في الثّقافة الشعبيّة يلحظ ترسّخ مثل هذا التمييز كذلك فتكون الرّجل اليمنى واليد اليمنى أفضل من الرجل اليسرى ومن اليد اليسرى. فلا تتمّ المصافحة باليسرى ولا تدخل منزلا بالرجل اليسرى، وإذا رغبت عن شيء تفلتَ عن يسارك وهكذا.
[35] – ابن حزم، مرجع سابق، ج12، ص 404. يقول: “وَلَكِنَّ الْقَوْمَ لَا يُحْسِنُونَ الْقِيَاسَ، وَلَا يَعْرِفُونَ الِاسْتِدْلَالَ، وَلَا يَطْرُدُونَ أَقْوَالَهُمْ، وَلَا يَلْزَمُونَ تَعْلِيلَهُمْ، وَلَا يَتَعَلَّقُونَ بِالنُّصُوصِ، وَهَلَّا قَالُوا هَاهُنَا: إنَّ الزُّهْرِيَّ أَدْرَكَ الصَّحَابَةَ وَكِبَارَ التَّابِعِينَ؟ فَلَا يَقُولُ هَذَا إلَّا عَنْهُمْ، وَلَا نَعْرِفُ خِلَافًا فِي ذَلِكَ مِمَّنْ يَرَى تَحْرِيمَ هَذَا الْعَمَلِ، فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ لَوْ وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ؟”
[36] – ابن حزم، المرجع السابق، ج1، ص108.
[37]– نفسه، ج3 ص3851.
[38]– نفسه، ج3 ص 333.
[39]– نفسه، ج6 ص273.
[40]– سورة يوسف، الآية 28. وسورة آل عمران، الآية 36.
[41]– أحمد الحوفي، المرأة في الشّعر الجاهليّ، ط2، القاهرة، دار الفكر العربي، د.ت.
[42]– ابن حزم، المحلّى، ج 9 ص163.
[43]– المحلّى، ج9، ص 162.
[44]– أمال قرامي، الاختلاف في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، ط1، بيروت، دار المدار الإسلاميّ، 2007.
[45]– المحلّى، ج9، ص 174.
[46]– مالك بن أنس، المدوّنة، ط1، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1994، ج2، ص 17.
[47]– نفسه، ج1، ص 204.
[48]– مالك بن أنس، المدوّنة، ج1، ص257.
[49]-Bouhdiba (A)، La sexualité en Islam, Paris, PUF, 1975.
[50]– المحلّى، ج1، ص 136.
[51]– نفسه، ص 137.
[52]– المدوّنة، ج1، ص 122.
[53]– ابن حزم، المحلّى بالآثار، تح. خالد الرباط، ط1، بيروت، دار ابن حزم، 2016، ج1، ص 231.
[54]– البخاري، الصّحيح، م. سابق، ج3، ص 2748.
[55]– المبرّد، الكامل في اللّغة والأدب، بيروت، مؤسسة المعارف، د.ت.