تكوين
تُمثلُ صور عالم ما بعد الموت وعقائد الآخرة وما يندرج ضمن المُتخيل الأخروي وعالم الجزاء ركنًا أساسيًا من أركان الديانة الإسلامية، تتجلى في عقائدها وعباداتها وكذلك في أحكامها، وتنتشرُ في خطاب يُخوف بالجحيم ويعدُ بالجنة وما فيها، لكن دراسة علمية لكل هذا العالم يمكن أن تضع الباحث أمام مفارقات هذه العقائد والتصورات، وليس ذلك بغريب فإن التصورات الأخروية لم تبدأ مع الإسلام ولم تقتصر عليه، بل يظن بعض العلماء[1] أن الإنسان البدائي عرف مُتخيلا يخص ما بعد الموت، واستدل هؤلاء الباحثون على ذلك بطقوس الجنائز التي تدل على أن ذلك الإنسان السحيق استعد لرحلة ما بعد الموت استعدادًا يليقُ بما ينتظره في تصوره من بعث أو حياة ثانية، يمكن أن تكون امتدادًا للأولى ويمكن أن تكون خلافًا لها، جنة أو جحيمًا، هذه إذًا محاولة لتقصي أهم عناصر هذا العالم العجيب الغيبي من طريق مقارنة نصوص التراث التفسيري بنص القرآن وبيان الفرق ومكافحة فكرة العدل بأفكار أخرى مثل العقاب الجماعي أو الشفاعة أو عذاب القبر وكل تلك التصورات تتناقض مع فكرة الحساب العادل ويوم القيامة ويوم القضاء.
-
من الحلم بالجنة إلى الخوف من الجحيم:
يمكنُ أن نلاحظ فرقًا كبيرًا بين إسلام البدايات الحالمة وإسلام فترات الأزمات الكبرى، فإذا كان الحلم بالجنة مبتغى الذين هاجروا وحاربوا في سبيل الله مع الرسول في بداءة الدعوة الجريئة الحالمة فإن التفكير في الخلاص من الجحيم أصبح محرِّكا أهم في فترات الخوف واليأس والألم، وهذا الأمر لا يرتبط بالإسلام، بل بمخاوف الإنسان ورغباته، إذ في البداءات الحالمة يُهيمن الأمل وفي لحظات النهاية والانهيار يُسيطر الألمُ والخوفُ.[2]
لقد ذكرت كتب التاريخ والسير أن الرسول في بداءاته كان يُرغِّبُ الناس بالجنة ولم يكن ذلك يفيد كثيرا دعوته، لأن القبائل لم تكن تصدق ما كان يقول ومع ذلك فقد كان في تلك الأخبار ميالًا إلى الترغيب لا الترهيب: “أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمكة ثلاث سنين من أول نبوته مستخفيًا، ثم أعلن في الرابعة فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين، يوافي المواسم كل عام يتبع الحاج في منازلهم في المواسم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة، فلا يجد أحدًا ينصره ولا يجيبه، حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة ويقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تُفلحوا وتملكوا بها العرب وتُذل لكم العجم وإذا آمنتم كنتم ملوكًا في الجنة، وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه فإنه صابئٌ كاذبٌ، فيردون على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أقبح الرد، ويؤذونه ويقولون: أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك، ويكلمونه ويجادلونه ويكلمهم ويدعوهم إلى الله ويقول: اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا، فكان من سمي لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودعاهم وعرض نفسه عليهم: بنو عامر بن صَعْصَعة، ومُحارب بن خصفة، وفزارة، وغسان، ومرة، وحنيفة، وسليم وعبس، وبنو نضر، وبنو البكاء، وكندة، وكلب، والحارث بن كعب، وعذرة، والحضارمة، فلم يستجب منهم أحد”[3]
وعندما نراجع الأخبار في كتب التاريخ والسيرة بحثا عن الترغيب والترهيب نجد أن الجنة لها حضور بارز. مثلًا هذا الخبر عن بداءات الدعوة: “عن جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه أضرب له مثلًا فقال: اسمع سمعت أذنك وأعقل عقل قلبك، إنما مثلك ومثل أمتك مثل ملكٍ أتخذ دارًا ثم بنى فيها بيتًا ثم جعل فيها مائدةً ثم بعث رسولًا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه، فالله هو الملك والدار هي الإسلام والبيت الجنة، وأنت يا محمد الرسول من أجابك يا محمد دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل ما فيها“[4].
وفي باب ذكر علامات النبوة بعد نزول الوحي ترغيب كثير في الجنة: “عن علي قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، خديجة وهو بمكة فاتخذت له طعامًا، ثم قال لعلي، رضي الله تعالى عنه: أدعُ لي بني عبد المطلب، فدعا أربعين، فقال لعلي: هلم طعامك، قال علي: فأتيتهم بثريدة إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها، فأكلوا منها جميعًا حتى أمسكوا، ثم قال: اسقهم، فسقيتهم بإناء هو ري أحدهم، فشربوا منه جميعًا حتى صدروا، فقال أبو لهب: لقد سحركم محمد، فتفرقوا ولم يدعهم، فلبثوا أيامًا، ثم صنع لهم مثله، ثم أمرني فجمعتهم فطعموا، ثم قال لهم، صلى الله عليه وسلم: من يؤازرني على ما أنا عليه ويجيبني على أن يكون أخي وله الجنة؟ فقلت: أنا يا رسول الله، وإني لأحدثهم سنًا وأحمشهم ساقًا، وسكت القوم، ثم قالوا: يا أبا طالب ألا ترى ابنك؟ قال: دعوه فلن يألو ابن عمه خيرًا”[5]
لذلك لم يكن انزياح التفسير عن القرآن إلى التخويف بالنار والترهيب بالعقاب والتأثيم إلا نتيجة لوقائع التاريخ وأزمات المؤسسات أمام تحديات ذلك العصر التاريخية. فقد كانت أحوال المسلمين تزداد سوءًا وكان يضيق بهم الحلم وتزداد بهم المخاوف[6].
لقد كانت خديجة “أول من آمن بالله وبرسوله، وصدَّقت بما جاء منه”[7] فكانت هي أول مُبشرة بالجنة[8]، وقد كان خطاب محمد في أوله مليئًا بالتبشير بعيدًا عن التخويف، والجنة لم تكن فقط في السماء، بل كانت أيضًا في الأرض: فـ “هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه”[9]. ويمكن أن نلاحظ أن الجنة وإن لم تجلب انتباه تجار قريش ولا جلبت انتباه البدو البسطاء في البداءة فإنها على أي حال صارت تجلبهم إليها منذ بدأت الغنائم والأموال تتزايد على المسلمين[10].
وأمكن مع مرور الوقت أن تترسخ الفكرة الأخروية وأن يقوم هذا الدين الجديد وأن يكون للجنة فيه منزلة أساسية. إنا نتأكد بمراجعة الأخبار عن عدم اهتمام بدو العرب وتجارهم بما كان يعدهم به الرسول من الجنة أن للعصبية كما قال ابن خلدون دورا لا يضاهى في تاريخ الإسلام. فقد بدأت الجماعة الأولى على ذلك الأساس ثم بعد الهجرة واتساع المهمة إلى الغزو بدأت الأفكار تلعب دورًا مهمًا: فكرة الأخوة الدينية، وفكرة الجزاء الأخروي ولكن المكاسب المادية من الانضمام إلى الإسلام كانت بلا شك محركًا أقوى يدل على ذلك ازدهار حال المسلمين ونظام المكافآت التي اعتمدها الخلفاء الراشدين لتشجيع المحاربين على الفتوحات، إلى أن ترسخت قيم المؤسسة الجديدة وبدأ بعد ذلك التعويض الأخروي يلعب دورًا مهمًا ويجعل الدولة غير مطالبة بتقسيم الثروة إلى الجميع.
وليس أشد من تلك الحقب التي فقد فيها المسلمون مجدهم وسلطتهم ومدنهم وقراهم واحدة بعد أخرى، وحين يضيق العيش قد يلجأ الإنسان إلى الرؤيا، فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل “بدأ ذلك بالحملات الصليبية ثم بحركات الاسترداد المسيحية التي أدت إلى طرد العرب من الأندلس ثم تتالت الهزائم العسكرية والسياسية وكلما ازدادت الهزائم ازدادت المؤسسة الدينية قوة. اليوم تعمل الخطابات الدينية المتجمدة والحركات التي توظف الدين في السياسة لتأثيم الناس وتحميلهم كل أنواع الخيبات السياسية والعسكرية والحضارية. هذه الخطابات الدينية في تنامٍ متزايدٍ تُرَهِّبُ وتُرَغِّبُ وتتحكم في العقول من طريق خطاب يجد فيه الإنسان البسيط معنى واضح لكل شيء. إن الرقيب الخفي الذي زُرع منذ قرون لا ينفك يُساعد هذه القوى المتحدثة باسم الدين فيجعل الإنسان ضعيفًا أمام خطابها. وذلك الرقيب الخفي مزروع فينا أساسا عبر غرس تصورات المحاسبة الأخروية.
لأن الرب الرحيم مكَّنه من ذلك ليُفرِّجَ عن كربه ويحلم بتلك الجنة التي في السماء. وقد يضعف إيمان البشر في أيام المحن وسنين الحرب والمجاعات والآلام، فيشعرون بالخوف ولا يأملون ويحقدون ولا يحبون ويلجؤون إلى المعاصي بدلًا من الصلاة فيشعرون بالذنب العظيم، وهم يشعرون بالذنب لأن المؤسسة الدينية/الاجتماعية استطاعت بكل تأكيد أن تغرس ذلك الرقيب الخفي الذي ينام في أعماق كل نفس وُلدت مسلمة، فإذا هي مهما هربت تُؤَثِّمُ ذاتها لأن تصوَّرات الجحيم وعذاب القبر ومنكر ونكير قد وُظفت خصيصًا لذلك التأثيم: ويزداد الشعور باليأس وعدم الرضا عن الذات فيزداد القلق والخوف ويميل الإنسان عندئذ إلى التصعيد عن آلامه الدفينة -آلام الخوف من العقاب الإلهي- من طريق الكوابيس، لذلك نجد في تاريخنا حقبًا يسود فيها التشاؤم والخوف والقلق، وعوض أن يفكر الإنسان والمجتمع في حلول لمشاكله السياسية والاقتصادية يزداد تقوقعا وهروبا وانتظارا لليوم الأخير، ذلك اليوم الذي يَحِقُّ فيه الحق، ويأتي فيه الرب القاضي العادل، فيرتاح الإنسان أخيرًا من الشقاء، يرتاح من العذاب ومن الآلام.
ولعل الجحيم الإلهي أرحم من القلق المُقِضِّ والشعور بالذنب واليأس والنقص فالرب أرحم على مخلوقاته، ولكن سلطان ذلك الرقيب الخفي يُعذب الإنسان عذابًا لا يعلمه إلا الإنسان الذي آمن بتصورات المؤسسة الاجتماعية والدينية والسياسية فصار لها عبدًا ذليلًا خاضعًا بعد أن كان كريمًا حرًا عبدًا للرب وحده.
التركيز في أن الله رب جحيم هو أصل التشاؤم واليأس والخوف، وذلك يعني في الحقيقة أن الإنسان أو الجماعة تنتظر مصيرًا قاتمًا لأنها تشعر بالذنب وتُحَمِّلُ نفسها مسئولية ما، وطالما من الصعب على الفرد أو الجماعة أن يُخَلِّصَ نفسه من الشعور بالذنب وأن يعترف وأن ينتهي الأمر باعترافه وتوبته، فإن أسهل طُرق التصعيد هي في أن يرتسم أمامه كابوس النهاية القاتمة التي تنتظره. إن الخوف يعكسُ بلا شك تأنيب الضمير وهو في كل الحالات عدم ثقة بالآخرين وبالذات.
فالواثق من براءة نفسه ليس مُضطرًا إلى توقع العقاب، وإنما هو آمل في الثواب، والقرآن تغنى برحمة إله عظيم إلا أن المؤسسة حالت دون أن تكون فكرة الرحمة والغفران محورها لأنها كانت في حاجة إلى غضب الرب لتكبح بذلك كل ما رأت أنه لا يسهم في بنائها، مثل ذلك تحريم القُرطبي كل أشكال اللعب: “فكل لهو دعا قليله إلى كثير وأوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، وصدَّ عن ذكر الله وعن الصلاة فهو كشرب الخمر، وأوجب أن يكون حراما مثله. فإن قيل: إن شرب الخمر يورث السكر فلا يقدر معه على الصلاة وليس في اللعب بالنرد والشطرنج هذا المعنى، قيل له: قد جمع الله تعالى بين الخمر والميسر في التحريم، ووصفهما جميعا بأنهما يوقعان العداوة والبغضاء بين الناس. ويُصدَّان عن ذكر الله وعن الصلاة، ومعلوم أن الخمر إن أسكرت فالميسر لا يُسكر، ثم لم يكن عند الله افتراقهما في ذلك يمنع من التسوية بينهما في التحريم لأجل ما اشتركا فيه من المعاني. وأيضًا فإن قليل الخمر لا يُسكر كما أن اللعب بالنرد والشطرنج لا يُسكر ثم كان حرامًا مثل الكثير، فلا ينكر أن يكون اللعب بالنرد والشطرنج حرامًا مثل الخمر وإن كان لا يُسكر. وأيضا فإن ابتداء اللعب يورث الغفلة، فتقوم تلك الغفلة المستولية على القلب مكان السكر، فإن كانت الخمر إنما حُرمت لأنها تُسكر فتصد بالإسكار عن الصلاة، فليحرم اللعب بالنرد والشطرنج لأنه يغفل ويلهي فيصد بذلك عن الصلاة” [11]
-
من أين جاء عذاب القبر؟
لا أثر لعذاب القبر في القرآن، ولكن له في كتب التفسير أثرٌ كبيرٌ. يذكره الطبري في سياق تفسيره الآية 126 من سورة طه فيقول: “عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال(…): عَذَابُ الكافرِ فِي قَبْرِهِ، والَّذِي نَفْسِي بَيَدِهِ أنَّه لَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينا، أتَدْرُونَ ما التِّنِينُ: تسْعَةٌ وَتسْعُونَ حَيَّة، لكلّ حَيَّة سَبْعَةُ رُءُوسٍ، يَنْفُخُونَ فِي جِسْمِهِ وَيَلْسَعُونَهُ وَيخْدِشُونَهُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ”[12]. ونقل ذلك جُلّ المفسرين فتجده عند الرازي[13] والزمخشري[14]. ويمكن القول إن التفسير أعطى الشرعيَّة لهذا التصوُّر لأن المفسر أوجد علاقة بين الأحاديث المروية عن الرسول والقصص المتناقلة وبين النص القرآني فاستخرج عذاب القبر من آيات لا تشير في الظاهر إلى شيء منه[15]. ومن طريق ذلك بحث المُفسر عن إثبات أنه حق لا ريب فيه مع أن القرآن لم يذكره، ويدل ذلك على أن التأويل خدم التصورات السائدة ليجد لها رابطًا بالنص القرآني، وتلك التَّصورات كانت تميل إلى الترهيب لتُحقّق الطاعة المرجوة، فعذاب القبر مثل كل صور العقاب المُتوعَّد بها في التفسير غايته أن يقتنع الناس بالانتماء للدين والإيمان بقيمه وأسسه والالتزام بطقوسه أي طاعة المؤسسة الدينية التي نشأت على شرعية أنها المُخلِّص من العقاب.
لقد مَكَّنَ اعتراف التفسير بعذاب القبر وإثبات أنه حق وأن له أساسٌ قرآنيٌ من فتح باب التخويف على مصراعيه[16]. ولو أن التفسير لم يبحث لذلك التصوّر عن أساس قرآني لما تجذَّر في الأدبيات والكتب والمجالس، وهو الأمر الذي يكشفُ أن التفسير يتبع سُنة ثقافية سائدة ويساعدها في إيجاد علاقة لها بالنص القرآني.
وتصوُّرات عذاب القبر سائدة في كتب التخويف والترهيب وفيها من التفاصيل ما لا وجود له في القرآن ولا التفسير[17]. ولا شك أن فكرة العذاب قبل البعث تناقض المبدأ القرآني الأساسي الذي يقوم على الحساب العادل وإقامة الميزان والعدل، إلا أن التفسير أقر بوجود حساب قبل الحساب الأخير متمثلٌ في مُسائلة منكر ونكير الذين يختبران الميت في أمور تخص عقائده[18]. وذلك يدلُّ أن الوظيفة الأساسية لهذا التصور العقابي هو تثبيت الرقيب الذاتي والتأكيد أن الأعمال بالنيات وأن النجاة لا تكون إلا للمؤمن الذي يُثبته الله فيتذكر الإجابات في ساعاته العصيبة والمَلَكَانِ يُرعبانه ويقفان أمامه فلا يهتز ولا ينسى وإنما يُجيب فيجتاز الامتحان الأخير قبل محنة الوقوف أمام الله[19]. فكأنه ضرب من التحقيق السابق للمحاكمة، لأن المرء يُقرُّ بآثامه ويتعذب بسببها أو ينجو من العذاب ويطمئن في انتظار البعث الأخير، إنها وسيلة للتمييز بين المؤمن والكافر والصالح والطالح، لا تختلف عن الترهيب والترغيب بالثواب والعقاب الأخروي في شيء[20]. إنها ثنائية الثواب والعقاب يعمل باستخدامهما المُفسر لترسيخ الدين في الناس، والدين هو الخضوع والتسليم بلا قيد ولا شرط لكل ما تفرضه المؤسسة وكل ما تنهى عنه وكل ما تأمر به.
- في الشفاعة ومفارقاتها العجيبة:
لقد كان أبو العلاء المعري واضحًا حين سخر في رسالة الغفران من مسألة الشفاعة ومن مُتخيلها الذي راجَ وانتشر في عقائد المسلمين في عصره، لقد جعل مدار السخرية متصور الصراط يعبرهُ الذي حظي بالشفاعة من قريب أو ولي وسقط منه من لم يجد للشفاعة سبيلًا، ولقد بَين تناقض ذلك المتخيل مع قيم العدالة والرحمة الربانيين فكيف يُعقل أن تتلاءم فكرة الشفاعة القائمة على التمييز مع فكرة الميزان والمحاسبة العادلة، وكيف يُعقل أن تتلاءم صورة الرب العادل الحكيم مع الرب الذي يسمح بشفاعة الأنصار والأولياء والأنبياء وغيرهم، صور عجيبة للمحاسبة الأخروية متناقضة مع قيم تحملها الرسالة القرآنية.
لقد صار همُّ التفسير والمؤسَّسة الدينية حفظ تصوراتٍ على أساسها قام نظام يحكم باسم سلطة متعالية ضاربة في القِدم[21]. وقد كانت الجنة في القرآن واحدة وفيها درجات متفاوتة بمقدار الإيمان لكنها بَدَت في التفسير مُتعدَّدةً وذكوريَّةً إلى أقصى حدٍّ، وكذلك الجحيمُ كان في القرآن بسيطًا فصار عالمًا معقَّدًا فيه كثيرٌ من النِّساء[22]. ولا يُعبِّر ذلك إلا عن إسقاط النظرة التراتبية الاجتماعية والسياسيَّة إلى هذا الفضاء البعيد العادل فصار شبيهًا بما في الدنيا: بعض الناس فوق وبعضهم الآخر دون ذلك منزلة وقد يدخل الجنة من لا يستحقُّها أصلا بشفاعة من محمّد[23].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيأتوني فأضرب بيدي على صدري، ثم أقول: أنا لها! ثم أمشي حتى أقف بين يدي العرش، فأُثني على ربي، فيفتح لي من الثناء ما لم يسمع السامعون بمثله قطُّ، ثم أسجد فيُقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، سل تُعطَه، واشفع تُشَفَّع! فأرفع رأسي فأقول: رب، أمتي! فيقال: هم لك، فلا يبقى نبي مرسل ولا ملك مُقرَّب إلا غَبَطني يومئذ بذلك المقام، وهو المقام المحمود. قال: فآتي بهم باب الجنة، فأستفتح فيُفتح لي ولهم، فيُذهب بهم إلى نهر يقال له “نهر الحيوان”، حافتاه قَصَب من ذهب مُكَلَّلٌ باللؤلؤ، ترابه المسك، وحصباؤه الياقوت، فيغتسلون منه، فتعود إليهم ألوان أهل الجنة وريح أهل الجنة، ويصيرون كأنهم الكواكب الدُرِّية، ويبقى في صدورهم شامات بيض يُعرفون بها، يقال لهم: “مساكين أهل الجنة”[24].
إن الباحث في توظيفات المحاسبة الأخروية وما تُوزِّعه من ثواب وعقاب يجد في كتب التفسير كَمًّا هائلًا من الأخبار والروايات والقصص، فكل واحد يُضيف شيئا من عنده فإذا هي مرآة للنفس البشرية الباحثة في المحاسبة الأخروية عن خلاصها، فلما عرفت تلك النفس أنَّها أمَّارة بالسوء وأن طبعها الميل إلى الأهواء جَعلت في العقاب الأخروي تطهيرًا لها يُمكِّنها من الخلود في الجنة إلى الأبد.
ونتبين ذلك في انزياح التفسير من تصوِّرات الجزاء العادل الذي يُحاسب فيه الله القرناء بما فعلت بالجمَّاء[25] إلى تصوِّرات الشفاعة التي فيها يُدخل محمد أمته في الجنة فيحسده على ذلك كل الأنبياء، ولكن ذلك الدخول يمر في أغلب الأحيان عبر بوابة الجحيم، فالنار ناران واحدة لها أهلها الخالدون فيها عذابا مقيما والثانية تُعدُّ مطهرًا يمر عبره المؤمنون العصاة الذين تركوا الصلاة أو الزكاة أو زنوا أو عاقروا الخمرة أو سرقوا من أموال الناس أو قتلوا نفسًا بغير حق[26].
لقد كشف هذا التناقض الظاهري بين العدل والشفاعة -الشفاعة تنقض مبدأ العدل- أن العدل المنشود يصطدم في الحقيقة مع رغبة بشرية محمومة في أن يغفر له، وكان على التفسير أن يلبي في الوقت نفسه حاجة الإنسان إلى التمسك بفضيلة المساواة -ولو كانت على أساس أنها أمل لا غير- ورغبته المُلحة العميقة في أن يسامحه ربه على كل شيء، ولعل تلك الرغبة نابعة من تصورنا نفسه للرب: هو قادر فلم لا يقدر على غفران الذنوب، وهو عظيم فما الذي يخسره لو سامح. إنه ليس في حاجة إلى عقابنا لأنه ليس في حاجة إلى إثبات أنه عظيم. هو الرب ولا يُضيره من أفعالنا شيء، لذلك بدت المسامحة مطلبًا مشروعًا.
لكن الغفران وإن كان مشروعًا، بل صفة من صفات هذا الرب، فإنه في الحقيقة يُهدد أمن المؤسسات التي أقامت سلطانها على التهديد بالعقاب الدنيوي والأخروي، هذه المؤسسات الفقهية والسياسية والاجتماعية تَدَّعي أنها تلعب دورُ المُخلِّص من عقاب الجحيم، وتَدَّعي أنها مختارة من رب مريد، ولكنها كانت على مر القرون تفتك السلطة بالسيف، ولقد وجد التفسير للسيف مبررا دينيا يُشرعه: إن عقاب الله في الدنيا للذين عصوه يتمثلُ في الضرب بالسيف والفتنة والتناحر[27].
وفي التفسير يمكنُ العثور على تبرير لكل شيء: للأمراض والمحن والتفاوت بين الناس والآلام والاستبداد والظلم، وسبب ذلك اعتقاد المُفسر من جهة في يوم العدالة النهائي، وإيمانه من جهة أخرى في أن الآخرة خير وأبقى، فالدنيا لا تساوي شيئًا أمام ما ينتظر المؤمن في الآخرة. وإن هذا الإيمان أدى إلى التعلق بهذه الآخرة التي أبدع القرآن في بيانها على أجمل صورة، فحول التفسير ذلك الإعجاز والبيان إلى واقع ملموس، ففقدت الجنة ما لها من سحر وكذلك الجحيم وبدلًا من أن يتزن الإنسان أملًا وخشية صرنا نتحدث عن حقب يسيطر فيها التخويف وعن حقب يمتد فيها صوت يذكر بالأمل في رحمة الله[28].
إن الغفران الإلهي يُهدد أمن المؤسسات لأنه يسحب من تحتها بساط دور الوصي الذي تلعبه على الأمة من أجل حمايتها من الجحيم في الدنيا وفي الآخرة، فإذا كان الرب غفورًا وإذا كان أمر العقاب شأنًا بين الإنسان وربه فلم يتدخل الفقيه؟ ولم يتدخل القاضي؟ ونحن نتحدث هنا عن معاصٍ لا ترتبط بالمعاملات، بل بالعبادات والمحرمات، فالعبادات انتهاك لواجب ديني لا يُحاسب عليه إلا الرب في الأصل والمحرمات التي لا تَمسُّ في نظر المُفسر نفسه إلا من الواجبات الدينية (الخمرة واللعب يعطل الصلاة ويمنع عن ذكر الله ولذلك حُرم كل ما يمنع الصلاة من لهو وخمر ولعب، انظر القُرطبي مثلًا) هي كذلك شأن بين الإنسان والله، ووحدها المعاملات بين الناس هي ما يدخل تحت سلطة البشر. وفي التاريخ الإسلامي اختلط الأمر فقامت حروب باسم واجب ديني (الزكاة) وقتل المرتد وحرق تارك الصلاة وتعزيرُ شارب الخمر، فلماذا إذًا عذاب الجحيم إذا كان عذاب الدنيا بمثل هذه القسوة؟ بل هل يجوز في العدل أن يُجرم الإنسان مرة واحدة فيعاقب على ذلك مرتين؟
لقد اجتهد المفسرون فنظموا فضاء الآخرة وصنفوا الجناة وفكروا مليًا في الدرجات وما يستحقه كل واحد منهم، وأخيرا ابتكروا عقابا جماعيا وثوابا جماعيا لا أصل له في القرآن. ولما كان لا بد أن يُفرِّقوا بين المُطيع والعاصي فقد فرقوا بينهم على مرحلتين: المرحلة الأولى، يُحرقون بالنار التي توعَّدهم بها الله، ثم تفرغ منهم جهنم ويدخلون إلى الجنة. والمرحلة الأخرى، يُوسمون في الجنة بعلامة تُميزهم ويُوضعون في أسفلها، فلا يستوي المُطيع بالعاصي أبدًا، لكن تلك التراتبية التي حملها المفسرون من الدنيا إلى الجنة تُؤبد هذا التفاوت وتجعل فكرة المساواة غير قابلة للتفكير. فمادامت الجنة نفسها درجات فكيف إذًا الدنيا؟ ولا نعثر في تصورات الآخرة المنشودة على عالم خالٍ من الدرجات، التي هي في الدنيا سبب الشر كله، فالتفاوت هو الذي يجعل الأقل مالا يطمع فيمن له المال، والأقل جمالا يشعر بالنقص والأقل صحة والأقل أولادا، وكل ذلك يُسبب الغيرة والحسد، والحسد في كتب التفسير سببُ معصية إبليس وسبب معصية قابيل، وهما معصيتان سببتا كل ما في الوجود من عنف.
هل يعني كون عالم الآخرة لا يخلو من التراتب أن العنف لن يقف؟ وهل يعني ذلك أن ثورة ما قد تندلع من بين الفئات المُهمَّشة في الجنة؟ وماذا لو أن أهل الجحيم تعلموا من عذابهم أنهم مخطئون؟ هل سيغفر لهم رب الكون الرحيم؟ لقد بدت التفاسير جاهدة في البحث عن قصة متناسقة ترويها لتجد حلولًا للوجود وللمصير لكن كم التفاوت الهائل الذي يوجد في الدنيا يحول دون أن نجد في التفسير إجابة للحيرة الإنسانية العميقة: هل من خلاص؟
لقد مَثَّلت الشفاعة في التفسير حَلًا ضروريًا كريها عند بعضهم[29] ولكنه يستجيب إلى تلك الرغبة في الغفران، وإن كان مطلب الناس من الدين العدل مطلبًا أخلاقيًا فإن طمعهم في الغفران يبدو -وفق ما روى البعض[30]– فوق أخلاقي، بمعنى أن مُنتهى القيم الأخلاقية تحقيق المساواة، ولكن الغفران لا يمكن تَصوُّرَهُ جزءًا من هذا العدل، لأن الرب يقضي بين الناس بالعدل، فكيف يغفر مثلًا لرجل قتل رجلًا؟ فهو إن غفر له يعد ذلك إجحافًا في حق الآخر، لكن الإنسان لا ينفك يرجو هذا الغفران وإن كان الغفران مناقضًا للعدل.
من أجل ذلك كان لا بد من المطهر: تلك المرتبة العالية في الجحيم والمُخصصة للعصاة من أمة محمد، وإن أكبر دليل لنا على انزياح التفسير عن القرآن أن هم القرآن كان أخلاقيًا دينيًا قبل كل شيء، أما في التفسير فقد كان الهم ثقيلًا إذ على المفسر رعاية الغايات الأخلاقية والدينية من جهة، ولكن أمامه مسئولية تتعلق بدوره في الحفاظ على هُوية هذا المجتمع الجديد والتشريع للسلطة المتحكمة به.
- هل العقاب فردي أم جماعي؟ من أين جاء الخوف من عقاب الاستئصال؟
وفي سياق ذلك التشريع وتأكيد هُوية المجتمع المسلم اشترك المفسرون في الاعتقاد بكون الأمم التي هلكت بعذاب الاستئصال مصيرها جهنم وفيها قرارها الأبدي، ولا نجاة إلا لأمة محمد فالانتماء إليها والطاعة العمياء لولاة أمرها[31] كفيلان بتحقيق الخلاص من السقوط في الجحيم حتى لو كانوا من أصحاب الكبائر[32]. وأصل هذا الاعتقاد بفكرة الأمة الناجية في الدنيا من الاستئصال وفي الآخرة من النار [33] مرتبط بالتصور الوجودي للخير والشر والمصير، وقد ذكر القُرطبي نقلًا عن مالك أنه قال: “خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير، أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف، وأهل الرحمة للرحمة، ورُوي عن ابن عباس أيضًا قال: خلقهم فريقين، فريقا يرحمه وفريقا لا يرحمه”[34]. لقد خلق الله أهل النار للنار وأهل الجنة للجنة من قبل أن يعمل الناس الخير أو الشر.
ومن اللافت أن الخلاص الأخروي وإن كان في القرآن فرديًا -وقد ألحت آيات كثيرة على ذلك[35]– فإن المفسرين يتحدثون عن خلاص جماعي، أي خلاص الأمة أو الجماعة أو الفرقة أو العصبة وسقوط بقية الخلق في قرار الجحيم[36]، وكل هذه الملاحظات تتناقض مع الروح القرآنية التي جعلت العمل أساسًا للثواب والعقاب، وجعلت هذا العمل فرديًا يُسأل عنه المرء مهما يكن أبواه أو أمواله أو أبناؤه فكل ذلك لا يُغني عنه شيئا عند الله[37]، بل إن منطق الجماعة الناجية هو أقرب إلى التفكير القبلي والبدوي منه إلى روح القرآن التي جعلت الذنب فرديًا وثوابه وعقابه فرديين كذلك.
فلم يتحمَّلُ الأبناء تبعات ذنوب الآباء ولا نظرت إلى الأبناء بما فعل الآباء، ولا اشترطت انتماء إلى ملة، بل اشترطت الإيمان بالله والتوحيد والعمل الصالح وتصديق النبي، وربما كان لكل آية من آيات القرآن سياق نزلت فيه يُفسر دلالة الثواب الموعود أو العقاب المتوعد به من ذلك مخاطبة المتلقي الأول لتلك الرسالة المحمدية وإعلامه بما ينتظر من الجزاء في الآخرة وهو أمر يختلف جذريًا عن تلقي المتأخرين الذين وجدوا أنفسهم منتمين إلى أمة الإسلام ولادة أو ولاء.
لقد وُظف التفسير الثواب والعقاب في الآخرة أولا وقبل كل شيء لتأكيد هُوية المجموعة التي أسهمت في بنائها وتأصيلها، فأحاطوها بفكرتين جزائيتين أساسيتين كل واحدة تعمل لتسييج هذه الجماعة وتطويق أفرادها المختلفين في الأصل عرقيًا ودينيًا ولُغويًا وثقافيًا، وهاتان الفكرتان هما التخويف بالاستئصال والترغيب في الخلاص منه -وهما عقاب وثواب جماعيان دنيويان- والتخويف بالجحيم والترغيب في الخلاص منه -وها قد غدا عبارة عن عقاب وثواب جماعيين أخرويين-[38].
ويدل هذا على أن المفسرين قاموا بتوليد صورة الثواب والعقاب الأخرويين في نفس النحو الذي صاغوا به الثواب والعقاب الدنيويين، في تنكر واضح لفردية الجزاء ومن أجل غاية شديدة الالتصاق بأهداف هذا العلم الإستراتيجية المُتمثلة في تأصيل فكرة الجماعة وترسيخ هُويتها على أساس ديني عبر توضيح أن المصير مصير جماعي سواء كان ذلك في الدنيا أو الآخرة، فإما هلاك جماعي وإما خلاص جماعي.
وفي الحقيقة لعبت فكرة الخلاص الجماعي من عقاب الدنيا والآخرة أدوارًا خطيرة في التاريخ الإسلامي، وهي تدل على أن العلماء فكروا انطلاقا من واقعهم الطبقي، فقد كان العامة من الناس في جهل ولم يكن الدين سوى مظهر من مظاهر الاتباع والتقليد لا غير، ولا شك أن مسألة الشفاعة هي من أوضح الأدلة على خروج التفسير من منطوق النص القرآني فقد تجاهل المفسرون صريح الآية القائلة: “وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ” ورفضوا إنكار مبدأ الشفاعة ناسخين القرآن -وهو المحفوظ من التحريف والمقدس عنما يقولون- بالسنة النبوية التي هي الأصل الثاني من الأصول، وتقل حجية عن القرآن وقد يُشكك في رواياتها على خلاف القرآن المحفوظ من كل تحريف[39].
لقد أسهم التفسير في تخصيص الناس الذين سوف يدخلون الجنة في أكثر من موضع من القرآن ومثال ذلك تفسير الطبري للآية :”وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ”[40] فالآية تَعِدُ الصالحين من العباد دون تخصيص قوم على قوم ولا بيان تفاصيل ذلك الصلاح، وهي وعدٌ بتوريث الأرض ولا تخصص المقصود بالأرض فيقول المفسر مُخصصًا كل ذلك الكلام المطلق: “أخبر سبحانه في التوراة والزَبُور وسابق علمه قبل أن تكون السماوات والأرض، أن يُورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأرض ويُدخلهم الجنة وهم الصالحون”[41].
فالأمة المحمدية[42] هي الأمة الناجية من العقاب الجماعي الدنيوي والأخروي، وذلك غير مذكور في القرآن لكن التفسير أَوَّله من طريق تخصيص مُجمله وتطويع الآيات للحاجات المرغوبة[43]، والدليل على أن فكرة الأمة المحمدية الناجية هي انزياح كبير عن التصور القرآني للجزاء يكمن -إلى جانب الشفاعة وقد نفاها القرآن نفيًا شديدًا- في مبدأ الرحمة التي تشمل الجميع بلا استثناء حتى لو كانوا من مرتكبي الكبائر وهي القضية الخلافية الشهيرة بين أصحاب التفسير بالمأثور وأصحاب التفسير بالرأي[44].
فأهل السنة والجماعة يرون أن كل من كان من أمة محمد تلحقه الرحمة والمغفرة مستشهدين بالآية القائلة:” ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ”[45] والناظرُ في الآية يرى أنها لا تُصرِّحُ بشيء مما ذهب إليه المفسرون بالمأثور، بل هي تخبر بأن الله أورث الكتاب للمصطفين من العباد وقسمهم ثلاثًا: فقسمٌ ظَلَمَ نَفسهُ وقسم اقتصد وثالث سبق إلى الخير، ولا تشير الآية إلى الثواب ولا العقاب الأخرويين لكن الطبري يقول مفسرًا: “عن عبد الله بن مسعود أنه قال: هذه الأمة ثلاثةُ أثلاثٍ يوم القيامة: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابًا يسيرًا، وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول: ما هؤلاء؟ وهو أعلم تبارك وتعالى فتقول الملائكة: هؤلاء جاءوا بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا بك، فيقول الرب: أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي”[46] وقد أكد الطبري تلك الرواية بخبرٍ ثانٍ عن كعب يقول فيه: “كلهم في الجنة”[47] فهذه الأمة المحمدية المثالية: “أمة مرحومة، الظالم مغفور له والمقتصد في الجنات عند الله والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله”[48].
ويمكن أن نرى أن في هذا خروجًا عن مبادئ العدل القرآنية التي جعلت الأب لا يُغني عن ابنه شيئًا ولا المال ولا الجاه، فإذا بالانتماء إلى أمة محمد يكفي للدخول إلى الجنة، حتى لو ظلم المرء نفسه أو اقتصد في الواجبات وهو أمر يبدو متناقضًا مع صرامة العقوبات التي أقرها المفسرون على الذين يخترقون النهي ويتركون الواجبات الدينية فتقام عليهم الحدود القاسية في الدنيا، لكن ذلك لا يمنعهم من دخول الجنة في الآخرة. ولا شك أن فكرة حماية الجماعة هي ما كان يدفع إلى مثل هذا التصور، ويجعل المفسرين يتجرؤون على ظاهر النص القرآني ليعلنوا أمورًا تخالف منطوقه، فهذه الأفكار تساعد على التمسك بالانتماء إلى هذه المؤسسة الاجتماعية والفقهية والسياسية وإن كان ذلك شكليًا، لأن صرامة هذه المؤسسة في تطبيق العقوبات الدنيوية قد تنفر في هذا الانتماء فأتاح هذا التسامح والغفران الإلهي كسب المزيد من الأفراد الذين لم يلتزموا بالقواعد لكن الأمل مفتوح أمامهم في الغفران الأبدي.
ونلاحظ حينئذ كيف كان المفسرُ يتصرف في هذا الفضاء الغيبي وكأنه شاهدٌ عليه فيخبر بأمور هي في الأصل في علم الغيب ويُقر بالغفران للناس قبل موتهم ومحاسبتهم ويُقر بالجحيم لآخرين قبل بعثهم ووقوفهم أمام الله، فكأنه ناطق بالغيب ماسك لمفاتيحه عارف بمكنونه الخفي، أو كأنه ضامن لما سيصدر عن الرب يوم الحساب[49]. ومن المهم تأكيد أن الخروج من عموم الصلاح والتقوى والإيمان القرآني وعدُّ أمة محمد هي الناجية من النار وإن كان فيهم من عصى، يدل على توق هذه المؤسسة الدينية إلى صناعة هُوية ذات أساس ديني لمجموعة غير متجانسة من الناس لغة وثقافة، وهي مجموعة ذات مشروع سياسي وعسكري يرتكز على المبررات الدينية فمن أهدافها أن ترث الأرض التي وعد الله بها المحمديين[50].
ولقد آل الأمر مع المفسرين المتقدمين إلى جعل النظر في الدين على خلاف السنة -السائدة التي أسستها تفاسيرهم- أشدُّ من تجاوز المحظورات والكبائر التي نهى الله عنها، وحجتهم في ذلك أن من كان يشرب الخمر أو يزني أو يسفك الدماء أو يترك الصلاة قد يتوب في حين أن من كان يتبع نِحلة ويجدُ لها التبرير بالآيات الكريمة من القرآن لن يُدرك أنه ظالم نفسه لذلك لن يتوب وحينئذ كان الابتداع أخطر من المعاصي لأن الابتداع كفر في حين أن العاصي لا يُخَلَّدُ في النار[51]. فيمكن للإنسان أن يقتل أو يسرق أو يزني أو يشرب الخمر فيعاقب حينًا في جهنم ثم يُرحم منها وقد لا يدخلها بشفاعة من محمد، ولكن لا يمكن للإنسان أن يؤوِّل القرآن على خلاف السنة السائدة، فتلك جريمة في الاعتقاد ومن أجرم في الاعتقاد ليس كمن أجرم في الفعل.
ولكن أصل العقاب في القرآن أن يفهم الإنسان أن خلاصه في فعل الخير فيجتنب العنف. ففي عالم الدين يُعاقب الإنسان ويُرهَّبُ بالعقاب ليتعلَّم القوي أن الرب أقوى منه، والغني أن الرب أغنى منه والعظيم أن الرب أعظم منه[52]. أما في التفسير فإن العقاب يتحوّل إلى أداة لإخضاع البشر لا للقوة الغيبية العظيمة التي هي أكبر من الجميع، بل لقوة العلماء وقوة السلطان.
إن الترهيب بالجحيم في التفسير يمارس في مستويات متعددة منها ما هو اجتماعي ومنها ما هو سياسي ومنها ما هو أخلاقي، لكن الترهيب الديني يصبحُ عنفًا ويفقد العقاب عدالته حين يصبحُ بابًا ليسيطر الإنسان على الإنسان. ولم يكن المفسرون المسلمون وحدهم الذين فهموا النص المقدس فهمًا حرفيًا فحولوا ما جعل فيه في الأصل للحدِّ من العنف سببًا لعنفٍ لا يقف، بل لقد حولت الكنيسة بفهمها الحرفي الموظف المسيحية من دين يُحرم العنف إلى خطابٍ يُبرره ويدعو إلى الحرب وسفك الدماء. إن التفسير البشري هو الذي جعل الثواب والعقاب الإلهي يبدو عنيفًا ولا أخلاقي لأن ذلك التفسيرُ جعل البشر يعتدون على البشر باسم الدين وباسم الجنة والثواب الإلهي ولنا في نداء البابا إربنوس خير حجة على أن رجال الدين يصنعون الخطاب الذي يُلبي مصالحهم.
- في حتميَّة الرحمة والعدل الإلهيين:
يتميز العقاب القرآني بدلالة أخلاقية لا تعني أنه المعنى الحرفي تماما ولا أنه يصف ما سيكون، وفي كل دين يحتلُّ الخطاب الأخلاقي مرتبةً عميقةً وخفيةً مكشوفةً في آن، ولولا ذلك ما كان يمكن أن يعبد الناس ربًّا يتوعدهم بالحديد والنار ويُكبلهم بالآلام والموت والفقر والحرمان. إن الرب رحمان رحيم وعادل وفي حضرة العدل يكون عقابه أو لا يكونن لذلك يعجز التفسير عن إيجاد منطق لكل التفاوت البشري مهما حاول، لأن ما يفعله البشر بالبشر فادحًا فظيعًا ولا قدرة لأي دين على تبرير مقدار تلك الفظاعة والبشاعة التي يقترفها الناس باسم الدين أحيانا، وعلينا أن نُميز بين العقاب الإلهي والعقاب البشري، لأن في ذلك خلاصنا اليوم مما نحن فيه مُتخبطين.
مثالُ ذلك أن التفسير قد يُبرر وجود الآلام كونها ابتلاءً لكنه لا يقدر مهما فعل أن يبرر دونية منزلة المرأة ولا أن يُقنعها بأن ما هي فيه عقابٌ لها على ما اقترفته أمها حواء، ففي القرآن لا وجود لمفهوم خطيئة متوارثة بالدم من جيل إلى جيل ولا وجود لمفهوم عقاب نفس بما اقترفت نفس ثانية، وعلى علماء الدين اليوم الكفُّ عن الحديث بخصوص القوامة التي فرضها الرب عقابًا على النساء، لأن تلك القوامة وإن صح أنها عقاب لحواء فلا يمكن في منطق الدين عدها عقابًا لكل النساء، لأن الذنوب ليست بالوراثة وكذلك العقوبات، أما إذا كانت المرأة مخلوقًا سفيهًا وناقصَ العقل بطبعه، أي أن الله هو الذي قَدَّرَ عليه ذلك فلم يمتلئ الجحيم بالنساء؟ وهل في ذلك عدل؟ فإما أن الرب عادل وأنه خلق المرأة عاقلة كالرجل وكلفها كما كلفه بتحمل أعباء الوجود وأن وجودها ابتلاء مثل وجوده وإما فلا، فإذا كان الرب عادلًا فلا يستقيمُ إلا أن يعدل بينهما لأنهما من نفس واحدة ولأنهما يُحاسبان على حد سواء.
وليس حديثنا عن المرأة مجرد مثال، بل إن تخليص المجتمع والمرأة من فكرة أنها معاقبة وأن وجودها عقابٌ هو أول سبيل الخلاص من فهمنا المتخلف للدين، لأن القرآن جعل الوجود ابتلاء لآدم وحواء معًا لا لآدم فحسب، فانزاح التفسير عن القرآن وعَدُّ وجود المرأة عقابًا، وهكذا فإن هذه المعايير المزدوجة هي المثال الأول الذي من طريقه نُثبت أن العقاب القرآني قد تحول على يد المفسرين ليصبح عنفًا.
ولقد ترتب على هذا العنف ظلمًا تاريخيًّا كبيرًا للمرأة والرجل على حد سواء، بِعَدِّ أن ذلك الرجل ليس إلا من صلب تلك المرأة تحمل به وتربيه وتتزوجه، وهي تلك الناقصة الدين والعقل والمعاقبة بآلام الحيض والولادة وخدمة الزوج وبأن لها نصف ما للرجل، فكيف لهذا المخلوق الناقص أن يلد الكامل وأن يربيه وأن يشاركه الحياة؟
إن العقاب يتحول إلى عنف حين يمارس باسم الرب أكبر تعذيب من إنسان على إنسان، وقد مُورس التعذيب على أجساد النساء وأرواحهم وأفكارهم فاستُؤصلت منهن فكرة أنهن يملكن أنفسهن وأجسادهن وأرواحهن بموجب ما لهن على أنفسهن وأجسادهن من حق، ولا شك أن أعنف أشكال العقاب الذي لا مبرر أخلاقي له هو جعل الرجل قوامًا على المرأة، وهو أعنف الأشكال إطلاقًا لأنه حَوَّلَ نصف المجتمع إلى عبءٍ ثقيلٍ وحَمَّلَ النصف الآخر مسئولية جسيمة لا تطاق، فالقوامة عنفٌ يُمارس على المجتمع يحرم المرأة من أن تشعر بأنها مسئولة عن مصيرها ويحرم الرجل من أن يرى نفسه حرًا غيرُ مكبلٍ بتحمُّل أعباء مخلوق آخر يُحمّله الدين والمجتمع عبء مصيره، النساء لسن حطب جهنم، بل هن مخلوقات متساويات بكل ما خُلق في الأرض وفي السماء، أما دونيتهن فآتية من نظام تخيلي وعقائدي من صنع الإنسان.
إن الثواب والعقاب يتعلقان بالمصير قبل كل شيء، والإنسان لا يقدر على أن يختار وجوده وماضيه، لذلك لا يمكن أن يحددهما ولا أن يتحرر منهما، ولكنه إذا أراد قادر على تحرير مصيره، فهو إذًا قادر على التحكم بالثواب والعقاب، وقد رأينا أن المُفسر لم يَشِذَّ عن هذا المبدأ فهو يودُّ أن يُحدد مصيرهُ بأن يكون في الجنة لا في النار، اختار أن يتحرر مما اعتقد أنه يقوده إلى النار، فالإيمان والطاعة هما اختيار حر ومسئول، وهو ممارسة لحرية أعطاها الرب للإنسان تتمثل في قدرته على أن يختار الشر بدل الخير فيدخل الجحيم بدل النعيم.
فمثل المُفسر هنا مثل كل إنسان يربيه المجتمع يَوَدُّ لنفسه الخير ويبتعد بها عن الشر، ولكن مشكلته تتمثلُ في أنه فكر بأنه مسئول عن خلاص الجماعة لا عن خلاص نفسه فقط، وقد بَيَّنَّا الكيفية التي بها حول التفسير السلطة إليه وفوض لنفسه وللسلطان من طريق آيات القرآن أن يثيبا وأن يعاقبا، فأفضل طريقة لتحرير جماعته معه -لأنه يشعرُ بالمسؤولية عنها وهو يخاف عليها ويحبها- تتمثلُ في إجبارها بسلطة الدين وشوكة السلطان، وهكذا فقد برر العلماء للقمع والعنف باسم الدين، وتحولوا إلى أوصياء على مصائر البشر فاستعبدوا البشر، وحينئذ انزاحوا عن الحكمة القرآنية، فلو شاء الرب لآمن الناس جميعا، ولكنه لم يجبر الإنسان على طاعته، فقد يُخَلِّي بينه والكفر ولا يَقْصُرُهُ على الإيمان.
إن الإجبار الوحيد الذي علمتنا إياه قصة الهبوط من الجنة هو أن يكون الإنسان حرًا، لقد أجبر الرب آدم على الاختيار بين أن يطيع النهي أو يعصيه وحينئذ أجبره على أن يكون حرًا، ويمكن القول إن تلك القصة القرآنية كان يمكنُ أن نراها من هذه الزاوية المتفائلة على أنها تعلم الإنسان أن يخرج عن وصاية الرب ويتدرب عبر الجحود والطاعة على الحياة ويبحث عن كماله وحده بلا اتكاء على أحد، وما أجمل قصة الإنسان لو رأيناها من زاوية أن وجوده بحث عن الكمال وأنه لا أساس لذلك البحث لولا الحرية المفروضة عليه، لكن التفسير رأى غير ذلك، فقد رأى أن الإنسان لا بد أن يكون في وصاية ما، وعوض أن تكون الحرية ميزة ترى الحرية في التفسير أصل البلاء، وقد رأينا ذلك بخاصة مع المعتزلة، إذ الحرية عندهم هي في خلق الشر، وذلك يعني أنها سلبية لأنها سبب العقاب كله، لقد خان التفسير الحكمة القرآنية بعمق حين حاول تبرير بناء المدينة الفاضلة بالقمع والعقاب والقطع والحرق والضرب والهجر، ناسيًا أن الرب سبقت رحمته غضبه وجنته جحيمه.
وهكذا فإن المُفسر يبقى قبل وبعد كل شيء إنسانًا لا غير، يعتقد أنه مسئول عن البشر الذين خلقهم الرب أحرارًا فأخضعهم، ويخاف من الجحيم الذي توعدهم به الله فوضعهم في جحيم أفكاره ومعتقداته، ويرى أنهم لا يعرفون وهو وحده صاحب العلم فحرمهم من المسئولية ومن الحرية التي تترتب على تلك المسؤولية، فيفكر المُفسر عوضًا عن الناس ويجازف بالرأي مُتحملًا في ذلك عبئًا دينيًا جسيمًا على عاتقه، ويحيط الجماعة بسياج يمنعهم من أن يتحرروا منه فهو حاميهم من العقاب وهو مخلصهم منه وهو قائدهم إلى الجنة. إنه العارف بالمصير ولا يحق لكائن سواه أن يُفكر أو يكتشف أو يتخيل مصيرًا آخر. لقد ضيق المفسر الخناق على نفسه وعلى الناس المؤمنين، مع أن الأصل أن الله جعل الحياة هبة ونعمة لا تقف عند حد، وأما الحياة الآخرة فتبقى لُغزًا شرع العقل يبحث عن سره منذ الإنسان البدائي ولن يجد له حلا إلا إذا توصل العلم إلى معرفة الكيفية التي يموت الموتُ وهل يموتُ الموتُ؟
لم يتبق إذًا للإنسان الباحث عن جواب يريحه ويطمئنه سوى وجه ربه الكريم، يعدهُ بالمغفرة والرحمة الواسعة إذا هو نوى أن يلتحق بجانب الخيرين ويبتعد عن أصحاب الأذى والشرِّ، والشرُّ بَيِّنْ والخير بَيِّنْ وبينهما رحمة الله وعدله كما يظن كبار المتصوفة والعارفين.
قائمة المراجع والمصادر:
ابن سعد أبو عبد الله البصري الزهري محمد بن سعد بن منيع، الطبقات الكبرى، 9ج، بيروت، دار صادر، د. ت. (تحقيق إحسان عباس)
ابن عربي أبو عبد الله محي الدين بن عربي، التفسير، 2ج، بيروت، دار صادر، ط1، 2002.
ابن عربي أبو عبد الله محي الدين بن عربي، الفتوحات المكية، 14مج، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة بالتعاون مع معهد الدراسات العليا السوربون/ الهيئة المصرية العامة، 1985. (تحقيق عثمان يحيى).
ابن كثير أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، تفسير القرآن العظيم،4 ج، بيروت، دار المعرفة، 1969.
أركون محمد، الفكر الإسلامي. نقد واجتهاد، بيروت، دار السّاقي، 1998.
بالطيب محمد، وحدة الوجود في التصوف الإسلامي في ضوء وحدة التصوف وتاريخيته، بيروت، دار الطليعة، 2008.
بول ريكور، العادل، بيت الحكمة المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، 2003.
الرازي فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي التميمي البكري الرازي، التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب، 32ج، بيروت/ مكة، دار الكتب العلمية/ دار الباز، ط1، 1999.
الزمخشري جار الله أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، 4ج، بيروت، دار المعرفة، د. ت، (ويليه كتاب الكافي الشافي في تخريج أحاديث الكشاف لابن حجر العسقلاني وبذيله: كتاب الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال للإمام ناصر الدين أحمد ابن المنير الاسكندري المالكي، وحاشية محمد عليان المرزوقي الشافعي، وكتاب مشاهد الإنصاف على شواهد الكشاف لابن محمد عليان المرزقي).
السعفي وحيد، العجيب والغريب في كتب تفسير القرآن، تونس، تبر الزمان، 2001.
الطبري أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، جامع البيان في تأويل القرآن، 24ج، الدار البيضاء، مؤسسة الرسالة، ط1، 2000. (تحقيق أحمد محمد شاكر).
الفتوحات المكية، مج 4، ص393-394.
القرآن الكريم، برواية ورش عن الإمام نافع، مجمع الملك فهد لرواية المصحف الشريف.
القُرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري، الجامع لأحكام القرآن، 20 ج، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط2، 1985.
التوجاني زينب، الثواب والعقاب في كتب تفسير القرآن، مؤمنون بلا حدود، 2019.
Balaudé, Jean François Les théories de la Justice dans l’antiquité, Nathan Université, coll. 128, 2000
GIRARD René, la violence et le sacré, Paris, Bernard Grasset, 1972
MINOIS Georges, Histoire de l’enfer, que sais-je ? Paris, PUF, 1994.
Pierre Leveque, Bêtes, dieu et hommes l’imaginaire des premières religions, Paris, Messidor/Temps actuels, 1985.
[1] انظر مثلا:
Pierre Leveque, Bêtes , dieu et hommes l’imaginaire des premières religions, Paris, Messidor/Temps actuels, 1985.
[2] – “Lié ou non à l’idée de châtiment et de jugement, éternel ou temporaire, l’enfer est le miroir des échecs de chaque civilisation à résoudre ses problèmes sociaux, et c’est le révélateur de l’ambigüité de la condition humaine. Tant que l’homme sera incapable de résoudre sa propre énigme, il imaginera un enfer.” Georges Minois, Histoire de l’enfer, p3.
[3] ابن سعد، الطبقات، ج1، ص217.
[4] ابن سعد، الطبقات، ج1، ص172.
[5] الطبقات، ج1، ص187.
[6] – فكأن” جهنم انعكاس لعالم العذاب الذي كانت تحياه الأرض مذ شقت الخلافة الأموية الطريق إلى العذاب العنيف المنظم” وحيد السعفي، العجيب والغريب، ص674.
[7] – ” ابن كثير، البداية والنهاية، ج3، ص32.
[8] – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نضب ” ابن كثير، البداية والنهاية، ج3، ص32.
[9] – ابن كثير، البداية والنهاية، ج3، ص35.
[11] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج6، ص291.
[12] -الطبري، جامع البيان، ج18، ص394.ولم يجزم الطبري بأن المقصود بالآية عذاب القبر وإنما ذكر أن ذلك فهم ممكن.
[13] – الرازي، مفاتيح الغيب، ج 22، ص 113. وقد ذكر الرازي أن تأويل ” المعيشة الضنك” بعذاب القبر هو إمكان من إمكانات الفهم والتأويل أقر به مجموعة من السلف هم: “عبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عباس ورفعه أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم”
[14] – الزمخشري، الكشاف، ج 2، ص451.
[15] – من ذلك الآيات:” أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ، ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ” انظر تفسيرها عند الطبري تجد أنه يؤولها بعذاب القبر. جامع البيان، ج24، ص580.
[16] – متصورات عذاب القبر من أكثر التصورات الجزائية الرائجة المستخدمة للترهيب منذ الطفولة إلى الأكبر سنا، يستخدم الخطاب الديني الترهيبي هذا المتصور للتخويف وفي ذلك كتب صفراء عديدة غرضها التوعد وبناء علاقة الخوف والانصياع. انظر مثلا: رياض الصالحين، كتاب التخويف من النار لابن رجب، وأهوال القبور لابن رجب، والكبائر للذهبي، الترغيب والترهيب للمنذري. وغير ذلك كثير.
[17] – توجد اليوم مشاهد مصورة تتناقلها أجهزة الهاتف النقال فيها صورة قبر يضطرم نارا ويقال إنها صورة التقطت بالفعل من أحد القبور. وهذه الصور تعبر عن القلق والشعور بالضيق والخوف.
[18] – تحدث عن تلك المسائلة القُرطبي وأشار إلى أنه توسع في بيان الأمر في كتابه “التذكرة في أحوال الموتى”. انظر الجامع لأحكام القرآن، ج9، ص363.
[19] – روى التفسير قصصا عديدة في سياق الترغيب بثواب القبر أي تثبيت المؤمن وتخليصه من سؤال منكر ونكير. “روي أن يزيد بن هارون مات وكان واعظاً زاهداً فرؤي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي وأول ما سألني منكر ونكير فقالا: من ربك؟ قلت: أما تستحيان من شيخ دعا الناس إلى الله تعالى كذا وكذا سنة فتقولان له من ربك؟ وقيل للشبلي عند النزع: قل لا إله إلا الله فقال: إن بيتاً أنت ساكنه … غير محتاج إلى السرج” الرازي، مفاتيح الغيب، ج3، ص45.
[20] – مع أن لفظ عذاب القبر مشهور أكثر من ثواب القبر إلا أن التفسير يتحدث عن ثواب القبر وعذابه ويقول الرازي مبررا ذلك: “وإذا ثبت عذاب القبر وجب القول بثواب القبر أيضاً لأن العذاب حق الله تعالى على العبد والثواب حق للعبد على الله تعالى، فإسقاط العقاب أحسن من إسقاط الثواب فحيثما أسقط العقاب إلى يوم القيامة، بل حققه في القبر، كان ذلك في الثواب أولى” الرازي، مفاتيح الغيب، ج4، ص133.
[21] – هي سلطة يحللها الفلاسفة وعلماء الدين ويرون أن الميث يعبر عنها أفضل تعبير. انظر في ذلك كتاب: Jean Francois Balaudé, Les théories de la Justice dans l’antiquité,
[22] عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاء. رواه البخاري 3241 ومسلم 2737.
[23] – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيأتوني، فأضرب بيدي على صدري، ثم أقول: أنا لها! ثم أمشي حتى أقف بين يدي العرش، فأثني على ربي، فيفتح لي من الثناء ما لم يسمع السامعون بمثله قطُّ، ثم أسجد فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، سل تُعطَه، واشفع تُشَفَّع! فأرفع رأسي فأقول: رب، أمتي! فيقال: هم لك، فلا يبقى نبي مرسل ولا ملك مقرَّب إلا غَبَطني يومئذ بذلك المقام، وهو المقام المحمود. قال: فآتي بهم باب الجنة، فأستفتح فيفتح لي ولهم، فيُذهب بهم إلى نهر يقال له “نهر الحيوان”، حافتاه قَصَب من ذهب مكلل باللؤلؤ، ترابه المسك، وحصباؤه الياقوت، فيغتسلون منه، فتعود إليهم ألوان أهل الجنة وريح أهل الجنة، ويصيرون كأنهم الكواكب الدرّية، ويبقى في صدورهم شامات بيض يعرفون بها، يقال لهم: “مساكين أهل الجنة” الطبري، جامع البيان، ج12، ص470.
[24] الطبري، جامع البيان، ج12، ص470.
[25] – الأصل المحوري الأول في فكرة المحاسبة أن يقضي الله بين المخلوقات بالعدل فيساوي بين جميع الخلق: “عن عثمان بن عفان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الجمّاء لتقتص من القرناء يوم القيامة، كما قال الله عز وجل: “وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا”(الأنبياء: 47)” الطبري، جامع البيان، ج1، ص32.
[26] – “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمّا أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يَحْيَون، ولكن أقوامًا أصابتْهم النارُ بخطاياهم أو بذنوبهم، فأماتتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحمًا أُذِنَ في الشفاعة” الطبري، جامع البيان، ج1، ص552.
[27] – “عن عبد الله بن الحارث بن نوفل (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ) قال: القتل بالسيف، كلّ شيء وعد الله هذه الأمة من العذاب الأدنى إنما هو السيف”. الأمة المعنية هي أمة محمد. الطبري، جامع البيان، ج20، ص191.
[28] – تحدث عن ذلك محمد بالطيب في كتابه عن التصوف، في فقرة من فصل أول عنوانها: “الانتقال من خشية الله إلى محبته “فانظر بيان ذلك في: وحدة الوجود في التصوف الإسلامي في ضوء وحدة التصوف وتاريخيته. دار الطليعة، بيروت، 2008.
[29] انظر السجال بين المعتزلة والأشاعرة حول إثبات أو نفي الشفاعة وقد نقله الرازي مفصلا في تفسيره حين فسر آية 48سورة البقرة: ” وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ” تفسير الرازي، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، (3/ 494).
[30] – يقول بول ريكور:” الصفح ليس مستحقا، بل هو رجاء” وهو يعتبره تطهيرا وشفاء وتحطيما للدينونة. انظر ذلك في: العادل، ج1، ص247.
[31] – يشترط الزمخشري اتباع محمد لتحقيق السعادة والخلاص:” أرسل صلى الله عليه وسلم “رَحْمَةً للعالمين” لأنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه. ومن خالف ولم يتبع فإنما أتى من عند نفسه حيث ضيع نصيبه منها. ومثاله أن يفجر الله عينا غديقة فيسقي ناس زروعهم ومواشيهم بمائها فيفلحوا ويبقى ناس مفرطون عن السقي فيضيعوا، فالعين المفجرة في نفسها نعمة من الله ورحمة للفريقين، ولكن الكسلان محنة على نفسه حيث حرمها ما ينفعها” الزمخشري، ج3، ص23.
[32] – عند بن عربي يتوب الله على الجميع باستثناء أربعة طوائف: المتكبرون على الله أمثال فرعون، والمشركون به، والمعطلة الذين نفوا وجوده، والمنافقون الذين أظهروا الإسلام للقهر وهم يعتقدون أحد اعتقادات الطوائف المذكورة. فكل من اتبع محمدا معتقدا به وموحدا ربه نجا. الفتوحات المكية، مج 4، ص393-394.
[33] – وهي أمة محمد التي كتبت لها السكينة والخلاص والنجاة إلى درجة أن موسى تمنى لو كان من أتباع محمد. انظر القرطبي، ج13، 161.
[34] – القرطبي، 9، 114.
[35] – “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ”فصلت41/46. “وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ” الجاثية45/22.
[36] – “وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون وخلصت فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة فتهلك إحدى وسبعون فرقة وتخلص فرقة واحدة، قالوا: يا رسول الله من تلك الفرقة الناجية؟ قال: الجماعة الجماعة الجماعة ” فتبين بهذا الخبر أن المراد بقوله تعالى: “وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ” الجماعة المتمسّكة بما بيّنه الله تعالى في هذه السورة من التوحيد والنبوات، وأن في قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الناجية إنها الجماعة إشارة إلى أن هذه أشار بها إلى أمة الإيمان وإلا كان قوله في تعريف الفرقة الناجية إنها الجماعة لغواً” الرازي، ج22، ص190.
[37] – انظر كيف انزاح التفسير مثلا بمفهوم الشفاعة فاعتبروا أن كل الآيات التي نزلت تخبر بعدم وجودها في الآخرة هي آيات تخص الكفار لا المؤمنين. فابن كثير مثلا يقول: “بَطَلت هنالك المحاباة واضمحلت الرَّشى والشفاعات، وارتفع من القوم التعاون والتناصر، وصار الحكم إلى عدل الجبار الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها “ابن كثير، التفسير، ج1، ص256.(هو قول نقله عن الطبري فإن شئت عد إلى جامع البيان تجده في ج1، ص35) وهذا قول في ظاهره يتناغم مع التصور القرآني ولكنه في الحقيقة لا يفعل، وللقارئ أن يعود إلى السياق فيرى كيف أن المقصود بذلك الكفار دون المؤمنين في حين أن الآيات القرآنية لم تحدد إن كان عدم قبول الشفاعة يخص الكفار وحدهم أم الناس جميعا والدليل على ذلك هذه الآية: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ”البقرة2/ 254. وقد أقر الطبري بأن هذه الآيات عامة ومع ذلك فقد خصصها بما نقل عن الرسول من حديث فيه إقرار بالشفاعة: “وهذه الآية وإن كان مخرجها عاما في التلاوة، فإن المراد بها خاص في التأويل لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي” وأنه قال: “ليس من نبي إلا وقد أعطي دعوة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وهي نائلة إن شاء الله منهم من لا يشرك بالله شيئا” فقد تبين بذلك أن الله جل ثناؤه قد يصفح لعباده المؤمنين -بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لهم- عن كثير من عقوبة إجرامهم بينهم وبينه وأن قوله: “ولا يقبل منها شفاعة” إنما هي لمن مات على كفره غير تائب إلى الله عز وجل “الطبري، جامع البيان، ج1، ص33.
[38] – انظر قصة الأعراف وكيف أن محمدا شفع للقوم فقط لأنهم من أمته وإن تعاظمت ذنوبهم:”قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيأتوني فأضرب بيدي على صدري ثم أقول: أنا لها! ثم أمشي حتى أقف بين يدي العرش، فأثني على ربي، فيفتح لي من الثناء ما لم يسمع السامعون بمثله قطُّ، ثم أسجد فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك سل تُعطَه، واشفع تُشَفَّع! فأرفع رأسي فأقول: رب، أمتي! فيقال: هم لك، فلا يبقى نبي مرسل ولا ملك مقرَّب إلا غَبَطني يومئذ بذلك المقام، وهو المقام المحمود. قال: فآتي بهم باب الجنة، فأستفتح فيفتح لي ولهم، فيُذهب بهم إلى نهر يقال له “نهر الحيوان” حافتاه قَصَب من ذهب مكلل باللؤلؤ ترابه المسك، وحصباؤه الياقوت، فيغتسلون منه، فتعود إليهم ألوان أهل الجنة وريح أهل الجنة، ويصيرون كأنهم الكواكب الدرّية، ويبقى في صدورهم شامات بيض يعرفون بها، يقال لهم: “مساكين أهل الجنة” الطبري، ج12، ص 470.
[39] – يقول الطبري مفسرا الآية التي تنفي الشفاعة إطلاقا:” وهذه الآية وإن كان مخرجها عاما في التلاوة، فإن المراد بها خاص في التأويل لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي” وأنه قال: “ليس من نبي إلا وقد أعطي دعوة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وهي نائلة إن شاء الله منهم من لا يشرك بالله شيئا” الطبري، ج1، ص33.
[40] – الأنبياء 105.
[41] – الطبري، ج18، ص549.
[42] – يعرّف محمد أركون هذه الأمة من خلال استقراء التراث قائلا: “يرى التراث أن الأمة البشرية المثالية هي الأمة المحمدية: أي مجموع الأتباع القليلي العدد في البداية والضعيفين والمهددين ولكنهم سرعان ما كبر عددهم بفضل النجدة المباشرة الآتية من قبل الله وبفضل عمل النبي المستنير دائما بالوحي. وبعد موت النبي راح نوابه من خلفاء وأيمة يحمون الميراث الروحي بكل تقوى وصرامة كما راحوا يوسعون من دائرة انتشار الإسلام ويرسّخون في التاريخ الأرضي مواقع الأمة ورسالتها بصفتها مستودع الوحي الأخير الذي أوحي لخاتم الأنبياء وبصفتها الشاهدة عليه والعاملة لنشره” أركون، الفكر الإسلامي. نقد واجتهاد، بيروت، دار الساقي،” 1998، ص112.
[43] – “أكثر المفسرين على أن المراد بالعباد الصالحين أمة محمد صلى الله عليه وسلم” القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج11، ص349.
[44] – “ثبت أيضاً أنه تعالى قد أسقط عقاب من يجوز عقابه عقلاً وشرعاً، وذلك أيضاً خلاف قول المعتزلة، وإذا ثبت أنه تعالى عفا عن كفار قوم موسى فلئن يعفو عن فسّاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم مع أنهم خير أمة أخرجت للناس كان أولى” الرازي، مفاتيح الغيب، ج3، ص 72. ولا يغرنك ما في هذا الإقرار من تسامح ديني فإن المفسر يوظف فكرة الرحمة متى شاء ويتشدد في التخويف بالجحيم متى شاء.
[45] – فاطر32.
[46] – الطبري، جامع البيان، ج20، ص465.
[47] – الطبري، جامع البيان، ج20، ص466.
[48] – ذكر ذلك الطبري نقلا عن محمد بن الحنفية. الطبري، جامع البيان، ج20، ص467.
[49] – من ذلك تكفيرهم لبعضهم بعضا:” وسئل سهل بن عبد الله عن الصلاة خلف المعتزلة والنكاح منهم وتزوجهم. فقال: لا ولا كرامة! هم كفار، كيف يؤمن من يقول: القرآن مخلوق، ولا جنة مخلوقة ولا نار مخلوقة، ولا لله صراط ولا شفاعة، ولا أحد من المؤمنين يدخل النار ولا يخرج من النار من مذنبي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا عذاب القبر ولا منكر ولا نكير، ولا رؤية لربنا في الآخرة ولا زيادة، وأن علم الله مخلوق، ولا يرون السلطان ولا جمعة، ويكفّرون من يؤمن بهذا” القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج7، ص141.
[50] – “أرض الأمم الكافرة ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالفتوح” القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج11، ص 349.
[51] – الدليل على أن المفسر يعتقد أن العاصي لا يخلد في النار قول القرطبي: “والذي عليه الأكثر من العلماء أن جهنم أعلى الدركات، وهي مختصة بالعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي التي تخلى من أهلها فتصفق الرياح أبوابها” القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج10، ص30.
[52] – “Le religieux vise toujours à apaiser la violence, à l’empêcher de se déchainer. Les conduites religieuses et morales visent la non violence de façon immédiate dans la vie quotidienne et de façon médiate dans la vie rituelle, par l’intermédiaire paradoxal de la violence” R. Girard, La violence et le sacré, p38.