تكوين
الملخص التنفيذي:
ركّزت الدراسات الاستشراقيّة على ظاهرة الجهاد في التجربة الإسلاميّة التوحيديّة، وكان الجدل حادّا في مُحاولة لفهم جدليّة النّص والسّيف في انتشار الإسلام المبكّر، وما بين الدراسات التبجيليّة والدراسات الهجوميّة على الإسلام، تراوحت الدراسات الاستشراقيّة في تباينها حسب خلفيات تياراتها ومدارسها وغاياتها.
كان المستشرق البريطاني وليام مُونتغمري وات (1909-2006) علامة بارزة في دراسة التجربة النبويّة في كتاباته التي أفرد منها كتابا لسيرة النّبي محمّد في جزأين: “محمد في مكة” و”محمد في المدينة“، وأردفهما بكتاب “محمد النّبيّ ورجل الدولة”، مستفيدا من المصادر الإسلاميّة القديمة، ومستعينا برموز الدراسات الاستشراقية التي أعادت صياغة التاريخ الإسلامي كتابة وتفسيرا وتأويلا.
كان “مُونتغمري وات” أكثر المستشرقين حذرا في إعادة كتابة السيرة النبويّة، وكان أمينا إلى حد كبير في نقل ما ذكرته المصادر القديمة في علاقة بالعُنف الحربي الذي مارسته الدّعوة المحمّدية تجاه قُريش والأعراب وتجاه اليهود وتخوم الروم، ولكنّ “مُونتغمري وات” حافظ على فكرتين مركزيتين في مشروعه:
- الأولى تتعلّق بعظمة النّبي محمد وتلبيسه صورة الملك السياسي
- والثانية تتعلّق بقوميّة الدّين الإسلامي عربيّا وليس إنسانيّا
وهو بذلك يمنح مجالا محدودا للدين المحمّدي في سياق الخط التوحيدي الإبراهيمي إلى جانب المسيحيّة واليهوديّة.
لم يمارس “مُونتغمري وات” محاكمة أخلاقيّة لمفهوم الجهاد النّبوي، وعدّه من ضرورات الفعل السياسي للمشروع التوحيدي العربي عقائديا وتنظيميّا، وهو بذلك يبتعد عن الكتابات الاستشراقية المنحازة، وبهذا تأسست فكرة “مُونتغمري وات” على مفهوم تاريخيّة الدّعوة المحمّدية وتاريخية الفعل الحربي الجهادي، وهو ما يعني عنده دراسة كل الغزوات والحروب في بيئتها وضمن شروطها التاريخيّة لإثبات الحقائق الأخلاقيّة والدينيّة، وأنّ الوحي بذاته كميتافيزيقيا لا يحتوي الحقيقة التاريخيّة المطلقة، وعليه فإنّ الجهاد المقدّس كان عمليّة إرغام للعرب على تأسيس كيان سياسي في جغرافية العرب.
الكلمات المفاتيح: الاستشراق – الجهاد – الإسلام – العُنف –”مُونتغمري وات”
مدخل:
لم يكن الإستشراق عمليّة تكديس لمعارف الشّرق ونشرها، بل كان مُحاولة جادة لفهم هذا الشّرق زمن الحروب الصليبيّة في القرن الحادي عشر في باب معرفة العدو، وبلغ الاستشراق ذروته مع غزو القسطنطينة سنة 1453، وأخيرا كان الاستشراق خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عمليّة معقّدة لفهم الُبنى الثقافيّة والاجتماعيّة والحضاريّة لذلك الشرق حين صار مجالا للإستعمار والسيطرة وبسط نفوذ الحماية لوراثة الامبراطورية العثمانيّة، وكانت هذه الموجات الثلاثة مُحاولة لفهم مكامن قوّة الشرق الذي غزا العالم وسيطر على الطرق التجاريّة البريّة والبحريّة، ثم صار مجرّد مستعمرات متفرّقة بين القوى الإستعماريّة الغربيّة الكبرى، ولكنّ هذا الغرب كان يحاول التوغّل في التاريخ الكوني ووراثة الحضارة الإسلامية، كما كان الغرب في حاجة لتجميع تاريخه العتيق الروماني عبر ثقافة الشرق وحضارته.
من السهل القول بنفعيّة الدّرس الاستشراقي، ولكنّ العاقل يجب أن يعترف بفضل الإستشراق في الحفاظ على رصيد معرفي وثقافي كان مهدّدا بالزوال والاندثار، وما أُخذ تجميعا لتلك المستعمرات لجسد إسلامي مشتّت جغرافيّا وسياسيّا يصعب إعادة توزيعه، وما كنّا لننسى أنّ الكنيسة لعبت دورا مهمّا في توجيه بعض النزعات الإستشراقيّة وهي ترعى تجميع العلوم والمعارف لوأد ثغرة تاريخيّة عاشها الدين المسيحي لعقود طويلة، من الإجحاف أن يُقذف الاستشراق في سلّة واحدة من التجريم والرّفض بدعوى الإنحراف والتحيّز والذّاتيّة، فرغم هناته وثغراته قدّم الاستشراق بمختلف مدارسه قراءة تاريخيّة للإسلام المبكّر تميّزت بالثراء والتنوّع مستفيدا من القفزة التي عرفتها العلوم الإنسانية والإجتماعيّة والأنتربولوجيّة في الجامعات الغربيّة.
فكان الاستشراق سبّاقا في الكشف عن أهم المخطوطات العربيّة المنسيّة معيدا ترتيبها وتحقيقها ودراستها وفق رؤية علميّة إستكشافيّة، وقد شملت الدّراسات الاستشراقيّة تراث الإسلام والمُسلمين عقائديّا وسياسيّا وثقافيّا، وليس هناك موضوع أكثر حساسيّة للضمير الإسلامي مثل البحوث التي تعلّقت بصورة النّبيّ محمد وأفعاله في التجربة التأسيسية المبكّرة أو ما سمُّى السيرة النبويّة، فحين ظلّ الضمير الإسلامي يجترّ سيرة تبجيليّة كتبها إبن إسحاق وشذّبها إبن هشام ولخّصها الفقهاء دون إجتهاد أو تدبير أو تحقيق ونظر، كان الاستشراق قد إهتم بذات النّبيّ محمّد وصورته المرجعيّة والمتخيّلة في المصادر الإسلاميّة برؤية نقديّة لا تخلو من الإنحراف أحيانا.
كان للاستشراق السّبق في إعادة كتابة السيرة النبويّة ضمن سياق معرفة الآخر(1)، وكان السؤال المركزيّ لهذا السبق: هل كان محمّد نبيّا مُرسلا من عند الله؟ وهل القرآن كلمات الله؟ وهل كان الفعل النّبوي وحيا أم تقديرا بشريّا؟ وفي النهاية هي بحث عن العلاقة بين الوحي والتاريخ في تأسيس الكيان السياسي الأول لدين الإسلام، ومن ثمة كان التعاطي الاشكالي مع مسألة الحرب المقدّسة التي خاضها النّبيّ محمد من أجل الدين والدّولة.
تثير مسألة “الجهاد النبوي” إشكالا عميقا لدى الرؤية الاستشراقيّة للتاريخ الإسلامي، ومردّ هذا الاشكال زاوية الرؤية التاريخيّة وطبيعة المسافة الفاصلة بين الذّات والموضوع، فالجهاد باعتباره عُنفا حربيّا مارسه النّبيّ محمد زمن التأسيس المديني يطرح حرجا أخلاقيّا والتباسا عقائديّا بين المشروعيّة الدينيّة والتفويض الإلهي وبين المشروعيّة السياسيّة والتفويض النبوي/البشري، وهو ما جعل الاستشراق رؤية مُدانة ومُستهجنة من طرف الضمير الإسلامي الذي يرفض أحيانا مجرّد التفكير في ماهية “الجهاد” من زاوية عقلانية، فكثافة الحروب التي خاضتها الدّولة الإسلاميّة جعلت الاستشراق الحديث يختزل صورة الحرب المقدّسة الإسلاميّة في التجربة النبويّة المدينيّة، ومن هنا ستكون معالجتنا لصورة الجهاد النبوي في المنظور الاستشراقي من خلال المستشرق الإنجليزي ويليام مُونتغمري وات (1906-2006) في كتابه المركزي “محمد في المدينة”(2) حين قام بإعادة قراءة حروب دولة الرّسول وعلاقتها بالوحي والتّاريخ، أو ما يمكن أن نسمّيه “عُنف النبوّة”، وهذا الكتاب هو الجزء الثاني بعد كتابه “محمد في مكّة” في مُحاولة لقراءة السيرة النبويّة وتاريخ الإسلام المبكّر.
- إشكالية المصادر:
ظلّ مُونتغمري وات وفيّا لمصادره التاريخيّة التي رشّحها لإعادة قراءة صورة النّبيّ المحارب المجاهد، ولقد تعامل مع تلك المصادر بنوع من التفاضليّة والانتقائيّة، فمن خلال النص القرآني الذي يعتبره وثيقة تاريخيّة نهضت كتابة السّيرة، ومنح الحديث النبوي نوعا من الوثوقيّة في تحرّي أفعال النّبي وأقواله، ثمّ رشّح مُونتغمري وات سيرة إبن هشام (ت218ه) مصدرا رئيسيّا وأساسا لأفعال النّبيّ الحربيّة، ثمّ أسند هذه السّيرة بمغازي الواقدي (ت207ه)، ثم استعان بطبقات إبن سعد (ت230ه) باعتباره مصدرا للفاعلين الرئيسيّين في التجربة النبويّة وهم الصحابة، في حين جعل مُونتغمري وات بقيّة المصادر ثانويّة مكمّلة لما غاب في مرويات الإخباريين(3)، وهي مصادر تاريخيّة ذات أهميّة اخباريّة ودقّة علميّة من حيث التحرّي والتدقيق نذكر منهما أساسا تاريخ الطبري (ت310ه) وأنساب الأشراف للبلاذري (ت279ه)، ويبدو أنّ هذا الاهمال والتفضيل كان قصدا، فقد أراد أن يمنح نفسه مجالا من الشكّ والحيرة والتأويل لأقدم المصادر التاريخيّة التي عالجت سيرة النّبيّ محمد، وقد كان بإمكانه أن يستعين كثيرا بالمجهود الإخباري لكلّ من الطبري والبلاذري في تحقيق بعض الرّوايات والتدقيق فيها وترشيح البعض الآخر ممّا يقبله عقل المُؤرّخ في آواخر القرن الثالث للهجرة، فروايات الإخباريين من طينة الواقدي وإبن إسحاق تعبق بالعجيب الخلاب والخارق المدهش الذي يُعطي لمُونتغمري وات فرصة لاِعمال العقل العلمي والشك في المصادر والروايات في مُحاولة تأويليّة تريد أن تثبت التداخل العنيف بين المرجعي والمتخيّل في مسعى لتقديم سيرة عقلانيّة علميّة للنّبي محمّد في حروبه وفتوحاته.
إنّ كتابة السيرة النبويّة لا يمكن أن تنهض من روايات الإخباريين وحدهم في القرنين الأول والثاني، بل إنّ مجهودات المُؤرّخين في القرن الثالث كان ثمرة فحص وتدقيق لمختلف المرويات والإخباريات بما يشبه عملية تهذيب علميّة للسيرة النبويّة، بل إنّ تنزيل مؤرّخي القرن الثالث لسيرة النّبيّ محمد في سياق مدوّنات التأريخ العام للحضارة العربيّة الإسلاميّة كان اعترافا ضمنيّا بأنّ الفعل النبوي هو فعل تاريخي في سياق التاريخ البشري مهما حفّه من هالة تقديس لعب فيها المخيال العجيب دورا في الضمير الإسلامي، ومن هنا كان يمكن لمنتغمري وات أن يؤسّس رؤيته بناء على ما تمّ تجاوزه في المصنّفات الكبرى من غريب الأخبار وعجيب الأفعال في سيرة النّبيّ محمّد، وفي النهاية لقد بدت مصادر مُونتغمري وات محدودة في التنوّع والتعدّد فغابت المقارنة لتصبح الرّواية الواحدة محلّ نقد وتشكيك وتأويل.
إقرأ أيضًا: ماهو الاستشراق؟
وبالنسبة للمراجع الحديثة، فقد أفاد مُونتغمري وات كثيرا من المستشرقين المتميّزين يوليوس فلهاوزن (1844-1918) وليون كايتاني (1869-1926)، وهما مرجعان متميّزان من الناحية العلميّة في تأريخهما للإسلام المبكّر، ويكون مُونتغمري وات قد أهمل قصدا الكتابات الاستشراقيّة الأخرى التي حاكمت التجربة الدينية السياسيّة النبويّة وأجحفت في تحريف المعطيات التاريخيّة التي صنعت تاريخ الإسلام، بل ذهبت إلى درجة التشويه لصورة النّبيّ محمد بدوافع ذاتية دينيّة حين جعلت من غزوات دولة الرسول نوعا من الهمجيّة الحربيّة والعُنف الأهوج الذي فرضه النّبيّ محمد على كل خصومه من القرشيين والوثنيين، وعلى الشعوب المجاورة ممّن كانت ضدّ المسيحيّة أو اليهوديّة(4)، ومن ثم فقد كان مُونتغمري وات واعيا بضرورة الإعتماد على الاستشراق الموضوعي الذي حقّق الأحداث التاريخيّة وفسّرها دون أن يحرّفها، وفي النهاية يقدّم مُونتغمري وات قراءة تأويليّة لتاريخ الإسلام المبكّر في مُحاولة منه لفهم أسرار نجاح تجربة النّبيّ محمد في بعث نواة للدولة الإسلامية في نجد والحجاز.
-
مفهوم الجهاد:
ينظر الاستشراق “للجهاد في سبيل الله” بوصفه عنفا ماديّا سلّطه رجل “عظيم عبقريّ” على خصومه من أجل تأسيس الدولة-الأمّة، في حين لن يستطيع الضمير الإسلامي الفصل بين الجهاد بصفته مفهوما دينيّا عقائديّا وبين القتال بصفته فعلا حربيّا وحشيّا، فلم يتعامل مُونتغمري وات مع مفهوم الجهاد بشيء من الخشوع الإسلامي تقديسا وتبجيلا بل هو القتال والحروب التي خاضها الإسلام الناشئ كما خاضتها بقيّة الشعوب والأديان من أجل الحفاظ على الطائفة وتأسيس المدينة الحصينة، ولا يمكن لمُونتغمري وات أن يتقبّل الشعور الإسلامي تجاه مفهوم الجهاد من موقع “المُؤمن اليقيني”، كما لا يمكننا أن نطالبه بذلك، فهو الباحث المفكّر ذو المرجعية المسيحيّة المستقيمة الذي يرى في محمد رجل سياسة وحكم، وهو في نظره رجل صادق لأنّ “القول بأن محمدا كان صادقا لا يعني أنّ القرآن وحي حقّ وأنّه من صنع الله”(5)، وبالنسبة لمُونتغمري وات كان محمد رجلا حكيما ذو طموحات سياسيّة ورغبات توحيديّة للقبائل العربيّة، فصورة النّبيّ محمد عند مُونتغمري وات كانت صورة رجل طموح تطوّر حضوره من زعيم للمسلمين في المدينة “مساويا لزعماء القبائل والعشائر.. وأن لا شيء سوى القليل يميّز النّبيّ عن سائر الزعماء القبليين”(6) إلى زعيم للجزيرة في نجد والحجاز، والتي كان يهدف بالقتال والجهاد نحو “توحيد العرب تحت سلطته والتوسّع بهم نحو الشمال”(7).
ينظر مُونتغمري وات إلى محمّد بصفته زعيما سياسيا ومحاربا مناضلا يحمل دينا قوميّا خاصّا بالعرب دون غيرهم وما كان ليكون نبيّا لكل البشريّة، فقد راوح النّبيّ بين الدّعوة والقتال لإخضاع سائر أجزاء الجزيرة العربية وأطرافها الشمالية حيث سارت الهجرات العربية القديمة، لكنّ مُونتغمري وات يذهب نحو تحجير الإسلام في المجال العربي وحده ليكون مرادفا للأديان التوحيديّة المسيحيّة واليهودية، فلئن كان موسى وعيسى مُرسلان لبني إسرائيل، فإنّ محمد مُرسل لأمة العرب، و”يتّفق هذا المشروع مع الفكرة القائلة بأنّ كلّ نبي يُرسل إلى أمّة معيّنة، فيكون محمد قد أرسل إلى العرب”(8)، وهذه الفكرة لن يستسيغها المُسلم المُؤمن الذي يعتقد أنّ المشروع التوحيدي المحمّدي جاء للبشريّة كافة، وأنّ الإسلام يجبُّ ما قبله من ديانات أصابها التحريف والتشويه، وما بين الموقفين يسعى مُونتغمري وات إلى مساواة الدين الإسلامي مع بقيّة الأديان التوحيديّة نازعا عنه صفة الدين المفرد الأبديّ خاتما لمسار النبوّة التوحيديّة، فالنّبيّ محمد عند مُونتغمري وات هو فاصلة توحيديّة في تاريخ الأديان نهلت من بعضها نفس الأفكار، لكنّ السياق التاريخي العربي أوجد لدى محمّد طموحات سياسيّة في تأسيس دولة الإسلام بدستورها وجيشها المحارب، ومثلما كان للنبي محمد آيات وسور كانت له درع وسيف، فحدث التماهي بين الدين والدولة في مجال الجزيرة العربيّة وعيونه نحو الشمال لوضع حدود قصوى على تخوم الشام.
إقرأ أيضًا: العدالة، والجهاد، والواجب: المفهوم القرآني للقتال
لم تكن الدّعوة للإسلام في شكلها السلمي كافية لتحقيق كل طموحات النّبيّ محمد، فكانت الهجرة فيصلا وتحوّلا من قوّة الخطاب إلى خطاب القوّة، من دعوة الترغيب بالضعف إلى دعوة الترهيب بالقوّة، فصار النّبيّ محمد مقاتلا بإمتياز وصار التاريخ في المدينة مرتبطا بالعُنف الحربي “ولذلك كان من الطبيعي تأريخ حادث ما بغزوة من الغزوات، ولقد وقعت من بين الأربع وسبعين غزوة، حسب قائمة الواقدي، سبع غزوات في الثمانية عشر شهرا الأولى بعد الهجرة.. والشيء الجدير بالملاحظة هو أنّ المُسلمين قاموا بالهجوم”(9)، غير أنّ النّبيّ محمد لم يبتكر شكلا جديدا للعنف الحربي، بل تماثل أسلوبه في القتال والحرب مع السياق الأنتربولوجي للجزيرة العربيّة في نجد والحجاز، وبمجرد وصوله للمدينة افتتح دور الغزوات التي لا تختلف مطلقا عن الغزوات الوثنيّة القائمة على السلب والنهب، لكن هذه الأفعال المشينة تكتسب مشروعيّة دينيّة حين تكون حاملة لمشروع مستقبلي وليست سلبا للحاجة ونهبا للقوافل، بل إنّ هذه المشروعيّة الدينيّة ستُعطي الأفعال الحربيّة مسميّات جديدة من قبيل الجهاد والغنائم والأنفال، وستنزل سورة “الأنفال” بعد معركة “بدر” مباشرة لتحدّد مشروعية الغنائم وكيفيّة تقسيمها وتوزيعها.
-
النّبيّ المسلّح:
اتجه العُنف الحربي النّبوي نحو ثلاثة إتجاهات: قُريش ومن والاها، واليهود والمنافقين، والروم شمالا، وهي إتجاهات تُعبّر عن رؤية مُونتغمري وات لصورة النّبيّ المحارب المكافح من أجل تأسيس دولة دينيّة، هذه الإتجاهات كانت تُعبّر عن طموحات النّبيّ ورغباته في التوسّع وبسط النفوذ بوصفه صاحب سلطة سياسيّة ومشروعيّة دينيّة، فحسب مُونتغمري وات أظهر النّبيّ محمّد نوايا قتاليّة هُجوميّة منذ هجرته للمدينة، وهي نوايا لا تُعبّر عن رغبة في الإنتقام من قُريش التي طردته وشرّدته، أو من اليهود الذين نازعوه السيطرة والنفوذ على يثرب، ولكنها رغبة في نشر الدين الجديد بواسطة دولة مركزيّة قويّة، فهي جماعة إسلاميّة مقاتلة تبسط سيطرتها وتنشر الدّين، بل إنّ مرويات السيرة النبويّة تلحّ كثيرا على أنّ النّبيّ محمد كان يغرو قُريش بمغريات السيطرة على كنوز كسرى وملك الروم، ومع ذاك فقد سعى مُونتغمري وات إلى تجاوز ما يمكن أن يدخل في سياق الأدبيات التبجيليّة الأسطوريّة للسيرة الحربيّة النبويّة محاولا فهم مجريات الوقائع لتقديم الصورة القياديّة للنبي محمد، لأنّ مُونتغمري وات لم يكن معنيّا بطبيعة العلاقة بين محمد والوحي بقدر ما كان معنيّا بطبيعة علاقته بالبشر والأرض ومشروع التأسيس للجماعة الإسلامية المُحاربة والتي صارت دولة فإمبراطورية.
- قُريش: سيف ليّن
حسب مُونتغمري وات لم يكن النّبيّ محمد قادرا على الدخول في مواجهة مباشرة مع قُريش، بقدر ما سعى عبر غزوات محدودة نحو المناوشة وتحيّن الفرصة “ويبدو في هذه المغازي الأولى أنّ الفرصة المواتية لم تتح لهم، غير أنّ سنوحها لم يدفع المُسلمين إلى المخاطرة في القيام بهجوم وجها لوجه، بل كانوا ينسحبون بكل بساطة”(10)، فأما عن الدوافع فيطرح مُونتغمري وات فرضيتين “هل كان هدفه سلبيّا وهو تحطيم تجارة قُريش؟ أم كان ينظر إلى أبعد من ذلك وهو فتح مكّة”(11)، ويبدو أن هذه الفرضيات إما هي إجحاف في وسمها بالسلبية تهديما لتجارة مكة وقُريش، أو هي فرضيات إستباقية لمخططات النّبيّ المستقبليّة، ولا نظنّ أنّ النّبيّ محمد قد إستبعد مكّة من حساباته منذ هجرته نحو يثرب، والمهم أنّ هذه الغزوات كانت ترمي لتحقيق جملة من الأهداف أهمها بداية تشكيل نواة لقوة عسكريّة بأخلاق دينيّة جديدة تقطع مع السلوكات “الجاهلية” العتيقة، وثانيها مُحاولة إثبات الحضور وبروز محمد باعتباره قوّة محليّة صاعدة لها طموحات عسكرية إقليميّة، ويبدو مُونتغمري وات مدفوعا بسؤال جوهري حول نوايا النّبيّ محمد لتأسيس دولة عربيّة في المجال العربي أسوة بالدول المجاورة إلى الشمال، وهو في ذلك ينخرط في جدل إسلاموي حول ماهيّة الإسلام: هل كان دينا أم دولة؟
كانت معركة بدر موقعة فاصلة في الصراع بين محمد وقُريش، وحسب مُونتغمري وات لم تكن للمسلمين نيّة في القتال “لم يكن المُسلمون ينتظرون الدخول في معركة عند سيرهم.. فلو علم المُسلمون أنه سوف تحدث معركة لامتنعوا عن السّير”(12)، وهذا التصوّر مناقض للروايات التاريخية ولطبيعة الجيش الذي جهّزه النّبيّ محمد وخرج فيه بنفسه قائدا عسكريّا معبئا للأنصار مستعدّا للقتال حين يعترض أهم قافلة لقُريش ستكون محمية بجيش من الفرسان، فمُونتغمري وات يعتمد على روايات آحاد وضعيفة لدفع نوايا جيش محمد في القتال، والمهم أن الواقعة لم تكن دمويّة بإعتبارها حربا بين بني العمومة والأقارب، فلم يتجاوز عدد القتلى 70 قتيلا في صفوف قُريش، وقد أظهر النّبيّ محمد قدرة عسكريّة فائقة في إدارة المعركة رغم جهله بفنون الحرب وتقنياتها، ثمّ عدّد مُونتغمري وات أسباب النّصر في موقعة بدر مراوحا بين القُدرات القيادية للنبي محمد وحماسة جيشه وبين القدرات الروحية العقائدية التي جعلت المُسلمين أكثر تماسكا ونُضجا، وقد برزت صورة النّبيّ قائدا عسكريّا عادلا وحكيما في توزيع الغنائم، وفي حُسن معاملة الأسرى مُدركا “أهمية إكتساب قلوب المكّيين بالنسبة إليه”(13)، غير أنّ أهم نتيجة عند مُونتغمري وات في علاقة بمعركة بدر أن المُسلمين صاروا يؤمنون بنبوّة محمد ويثقون في وحيه تماما(14)، وهذا موقف غريب، ذلك أن المهاجرين آمنوا بنبوّة محمد في زمن الإضطهاد القرشي ولم يكن يدور في أذهانهم مستقبل هذه الدعوة هجرة وحربا، كما آمن بهذه النبوّة الأنصار ودخلوا في قطيعة مع العرب واليهود شركاء يثرب، وربما سيدخل دافع الغنيمة في الحوافز التي تنجز تعويضا للمهاجرين عن خسائرهم وتمنح الأنصار حافزا للإندفاع نحو المشروع المحمّدي، ولذلك وجب التمييز بين الدوافع الروحيّة والحوافز الماديّة.
في معركة بدر كان النّصر عسكريّا أثبت فيه النّبيّ محمد قدراته التكتيكيّة والعسكريّة، وأثبت أنه مقاتل ماهر في إدارة فنون الحرب، لكنّ المُسلمين تقبّلوا النّصر بإنبهار وإعجاب لأنّ القدرة الإلهيّة تدخّلت فيه، لكنّ هذه القدرة الإلهيّة تخلّت عنهم في معركة أُحُد لتضعهم أمام اختبار الاعتماد على الذّات من ناحية، وضرورة طاعة النّبيّ محمد من ناحية ثانية، وقد حاول مُونتغمري وات تفسير أسباب الهزيمة تفسيرا تاريخيّا، فأشار إلى أنّ الرسول قد أُكره على القتال بعد مشاورة أصحابه، كما ساهمت في الهزيمة رجوع المنافقين عن الخروج للقتال، غير أن مُونتغمري يُعطي تفسيرا غريبا لهذا التراجع قائلا “ويمكن القول بأنّ عبد الله بن أبي إنسحب بالإتفاق مع محمد للدفاع عن المكان الرئيس أي المدينة ضد هجوم من العدو منتظر”(15)، وهذا التبرير لا يجد له سندا في أغلب المرويات التاريخيّة، وسوف يذهب مُونتغمري وات إلى الدّعوة بضرورة تجاوز التفسير الإيماني الغيبي لأسباب الهزيمة، ومال نحو مُحاولة تفسيرها بالإستناد إلى وقائع تاريخية محضة، وعبر مقارنة فنية بين القدرات الحربية لفرسان قُريش وإنسحاب رماة المُسلمين من الهضبة كما أوصى بذلك قائد الجيش النّبيّ محمد، وهو التفسير المادي القادر على تقديم رؤية علمية منطقيّة للوقائع والأحداث بدل الرواية الرسمية المفعمة بالغلو والحماس والغيبيات، فحتّى الوحي الربّاني ما كان ليتنزّل قبل الوقائع التاريخيّة في معركة أُحُد، بل تنزّل على الرسول بعد المُنجز التاريخي ليفسّر ويبرّر ويُعطي الموعظة والدرس المستخلص للمسلمين، ومن هنا كانت مقولة مُونتغمري وات “بأنّ الرواية الرسميّة الإسلاميّة يجب أن تتغيّر إعتمادا على هذه الأسس”(16)، وهي الأسس الماديّة التاريخيّة لولادة النبوّة وونشأة الإسلام.
في السرايا الحربيّة المحدودة كان النّبيّ محمّد يعقد اللواء في كل سريّة لأحد الصحابة تأهيلا لهم بصفتهم قادة عسكريين، وفي الغزوات الكبرى كان النّبيّ ينزع عباءة الدّعوة والعبادة ليتسلّح بالسيف والدّرع قائدا عسكريّا، وهي الصورة التي أراد أن يجمع فيها بين شرعيّة الدّين ومشروعيّة الدولة، وما كانت الدّعوة السلميّة لتمنحه أكثر ممّا منحته من أتباع مخلصين لم يتكاثر حجمهم بحجم طموحات النّبيّ محمد في زمن قياسي، لذلك كان السيف أسرع فعلا وأنجع تطويعا لقُريش والقبائل العربيّة بدافع الغنيمة وأحلاف القبيلة، وحين يركّز مُونتغمري وات على مهارات النّبيّ في توجيه السرايا وإدارة الغزوات فهو يغلّب صورة النّبيّ المجاهد صاحب المشروع السياسي على صورة النّبيّ المرسل بقيم متعالية وأخلاق شافية لأمراض القبائل العربية، وهذا ما جعله يستخلص من الوحي الذي نزل بعد الهزيمة “أنّ المُسلم العادي بعد أُحُد إستغرق في قلق روحي عميق، لأنه وجد أن بعض معتقداته المفضّلة قد إنهارت”(17)، وهذا أمر عادي للمسلم البسيط الذي حصل له اليقين بعد معركة بدر أنّ محمد سيخوض بهم سلسلة من الإنتصارات الربانيّة، لكن ما يهمله مُونتغمري وات في هذا السياق هو القدرات القياديّة لمحمّد في تجاوز الهزيمة ومحو آثارها النفسيّة والماديّة، ولا تذكر المصادر موجة ردّة أو هروب من معسكر النّبي محمد بعد هزيمته في أُحُد، بل العكس تماما، فقد نزح في استقطاب مؤمنين جدد بمشروعه.
لم تخرج صورة النّبيّ محمّد عند مُونتغمري وات عن صور القادة العسكريين الأسطوريين فهو ينتصر وينهزم ويعقد الصلح في الحديبيّة، لكنّ المهم عند مُونتغمري وات أن النّبيّ محمد كان يخرج دائما منتصرا سياسيّا وإستراتيجيّا في كل المواجهات مع قُريش حتى تلك التي خسرها عسكريّا، وفي الحديبيّة حقّق النّبيّ محمد بالصلح ما لن يحقّقه بالحج إلى مكّة، لأنّ شروط الصلح ومواده “تدلّ على أن الفريقين يعاملان على قدم المساواة، وهو اعتراف من القرشيين بمساواة محمد لهم”(18)، ومع ذلك لم تبلغ حدّة العُنف الحربي بين محمد وقُريش منتهاها، وكما تقول الروايات فالغالب في المعارك الجرح والمطاردة دون القتل والتنكيل، فلم يسقط عدد كبير من القتلى بين الجانبين في أغلب المعارك، ويعود ذلك لقلة عدد الجيوش: ألف وثلاثمائة في بدر، أربعة آلاف في أُحُد.. ولم يكن هناك قتال في الخندق وفتح مكّة، وما لم يُفصّل فيه مُونتغمري وات أنّ الجهاد المحمّدي تجاه قُريش لم يبلغ قسوته المُطلقة، فكان السّيف ليّنا تجاه أبناء العم والقبيلة الواحدة، ألم يلتق الأب وإبنه، والشقيق وشقيقه، والرجل وصهره بين الجيشين المتحاربين؟ بل حاول النّبيّ محمد أن يُلجم في عديد المناسبات سيف الأنصار رحمة بالعشيرة والقبيلة، وطموحات محمد في تطويع مكّة والسيطرة عليها جعلته يُشهر سيفه تجاهها ترهيبا وتخويفا لا سفكا وتنكيلا بها، وفي غزوة مكّة كان النّبيّ محمد رحيما بقبيلته متسامحا لدرجة كبيرة حتى تجاه من آذوه ونكّلوا به، وهذا التسامح كانت له فوائد إستراتيجيّة مستقبليّة، فقد كان بحاجة لكل السيوف العربيّة من قُريش إلى أعراب القبائل حتى يؤمّن مستقبل الدولة الإسلامية ويدفع بها تجاه طرق القوافل وأطراف شبه الجزيرة العربيّة.
يشيد مُونتغمري وات بقدرات محمد العسكرية في كل المواجهات مع قُريش، فقد “كان المُسلمون منظّمين تنظيما حسنا.. وكان سبب فشل المكّيين من الناحية العسكرية استراتيجية محمد الذكيّة، وتفوّق قلم إستخباراته وعملائه السرّيين..”(19)، وقد حاول مُونتغمري وات جاهدا البحث في مختلف الروايات التاريخية عن العناصر العسكرية والاستخباراتية والاقتصادية لفهم قوّة محمد القياديّة، لأنه كان مدفوعا برغبة تجاوز التصوّر الإسلامي الرّسمي القائم على التبجيل والتصوّر الشعبي القائم على التّخييل نحو تصوّر مبني على حقائق علميّة ووقائق مادية تقبل التفسير والتأويل والشك والتحقيق، ولم يفلح مُونتغمري وات في الكشف عن مصادر خبرة النّبي محمد في إدارة حروبه، فقد نشأ النّبي في فضاء قرشيّ مدني لا خبرة له في الحروب مع المدن الأخرى أو القبائل، بل إنّ الحروب والغزوات ارتبطت أساسا بقبائل الأعراب في فضاء نجد والحجاز بعيدا جغرافيا عن مملكة المناذرة والغساسنة، ولم يكن حضوره الجديد في يثرب ليمنحه خبرة الصراع بين الأوس والخزرج في اقتتالهم العبثي الفوضوي، ولا تذكر مصادر السيرة أن النّبي محمد كان فارسا أو مقاتلا أو حتى هاويا للسيف زمن شبابه قبل الدّعوة.
-
اليهود: سيف متوحّش
يتّسم الجهاد النبوي تجاه اليهود بكثير من الشدّة والقسوة، وهو أشبه بحملة تطهير يثرب من التنوّع الدّيني، فكان مصير اليهود إما القتل وإما الإجلاء، وهي قسوة تجد مبرّراتها في حجم الخطر الذي قد يُهدّد المشروع النبوي من الدّاخل، ممّا قد يعصف بالوحدة والإنسجام الذي حاول النّبيّ محمّد أن يؤسّس عليه مشروع نواة المدينة/المركز، فالخطر من داخل المركز أشدّ وطأة من الأخطار المحيطة بالمدينة سواء كانت قُريش أو قبائل الأعراب، وقد إعترف مُونتغمري وات بمخاطر يهود يثرب “إذ إستمرّ المشتركون من اليهود في محالفة مكّة في مؤامراتهم فقدّموا مساعدة عسكريّة مقابل المال إلى قبائل عربيّة”(20)، وكان يهود يثرب حسب بومنتغمري وات عيون قُريش على محمد وأصحابه ينتهزون الفُرص لإزاحته عن المدينة، وتقويض سلطته المتنامية بسرعة فائقة.
يقلّل مُونتغمري وات من شأن الدّوافع الدينيّة التي جعلت النّبيّ محمد يقاتل اليهود ويجليهم عن يثرب، ولكنّه يستحضر الدّافع المادي باعتباره أحد الحوافز لهذا القتال، فهم أهل زراعة وتجارة ومال وفير تحتاجه الدعوة لإطعام المهاجرين والتعويض عن غنائم هزيمة أُحُد، فمع بني النضير “ربّما فكّر محمّد بأنّ على اليهود أن يدفعوا أكثر في ديّة القتيلين.. وراق لليهود أن يدفعوا أقل..”(21)، وعندما يستحضر مُونتغمري وات دوافع هجوم النّبيّ محمد على اليهود يرغب في الخروج عن ذلك التبرير الرّسمي العام حين يعمّم الدوافع تحت عنوان “نقض اليهود للعهود والمواثيق”، ويسعى في كل مواجهة للبحث عن الدوافع المباشرة للمعركة عبر التحقيق التاريخي المادي وليس التبرير اليقيني الإيماني، وكلمة نقض العهود التي تبنّاها مُونتغمري وات جعلته يستسلم للرواية الرسميّة للسيرة ولا يشكّك فيها، وكأنها أعطته حلاّ سهلا لمعضلة تفجّر الصراع بين النّبي محمد واليهود ودرجة وحشيّة المصير الذي لقيه اليهود.
يتوقّف مُونتغمري وات عند وحشيّة العُنف الحربي في مواجهة النّبيّ محمد ليهود بني قريظة، “فقد ظلّت هذه القبيلة أثناء حصار المدينة على الحياد، فيما يتعلّق بالعمل العسكري، ولكنّها قامت بمفاوضات مع أعداء محمد”(22)، ولسنا نعلم حسب مُونتغمري وات هل كان بإمكان يهود بني قريظة فعلا تقديم المساعدة العسكريّة لقُريش ومن والاها في حصار المدينة، أم أنها لم ترغب في كسر المعاهدة مع النّبيّ محمد، سوف يذهب مُونتغمري وات أعمق من ذلك في تحليله الشكّي والظنّي، فيتساءل: “هل كانت هناك معاهدة بين النّبيّ محمد وبني قريظة؟ وإن كانت هناك معاهدة فلماذا لم تُضمّن في دستور المدينة؟”(23)، وضمن هذا السياق الظنّي يمكن أن نساير ما ذهب إليه بعض المُؤرّخين من كون دستور المدينة لم يشمل كل القبائل والبطون التي إستوطنت يثرب، فقد يكون النّبيّ قد خصّص لها عهودا منفصلة لم تحفظها كُتب التاريخ، ولم تدرج في ما يسمى “دستور المدينة”، فمن الغريب أن لا تحتوي معاهدة المدينة أهم القبائل اليهودية بني قينقاع وبني النضير وغيرهم، ولن نستسلم لتخمينات مونتغمري وات في التشكيك بوجود المعاهدة من عدمها، وهو تشكيك قد يطال الشفوي منها دون المكتوب الذي شمل اليهود أصحاب الكتاب، ولأنّ النّبيّ محمد الذي لم يُهمل العهد مع بطون القبائل فهل تُراه سيغفل عن معاهدة القبائل الكبرى لتحصين جبهته الداخلية(24).
المهم أنّ حصار النّبيّ محمد لبني قريظة جعلهم يستسلمون وينزلون على حُكم حليفهم من الأوس سعد بن مُعاذ، وما كان للأوس من شفاعة لدى سعد بن مُعاذ، وهنا يُعرّج مُونتغمري وات لهذه الشفاعة ليعتبر أنّ الولاء للقبيلة كان أقوى من الولاء للأمة الإسلاميّة(25)، ولا يُعدّ ذلك نقيصة في الإيمان، ولكنّ الروح القبليّة لن تمحوها العقيدة الجديدة في لمح البصر، فقد حافظ الولاء والحلف القبلي على حضوره في الدعوة الإسلامية وقام النّبي محمد بتوظيفه في دعوته، ولكنّ النّبيّ راهن على الزمن والتعايش ليُضعِف الرابطة القبليّة لصالح الرابطة الدينيّة، وربّما كانت الرابطة القبليّة في خدمة الرابطة الدينيّة، فشفاعة الأوس إحترام لولاء قديم وثقه النّبيّ في معاهداته، لكنّ سعد بن مُعاذ الذي فوّضه الطرفان للحُكم، “حكم بأن تُقتل الرجال وتُقسّم الأموال وتُسبى الذّراري والنساء وقد نفذ هذا الحُكم… وإنتقد بعض الكتاب الأوروبيين هذا الحُكم ووصفوه بأنه وحشي وغير إنساني”(26)، وقد بلغ عدد القتلى من الرجال حسب مُونتغمري وات ومن خلال المصادر التاريخيّة الموثوقة 600 رجل، وتنفيذ حكم القتل في هذا العدد الهائل الذي إستسلم هو مجزرة لسنا بصدد تقييمها أخلاقيّا، لكن سياسيّا في تجارب الأمم والدول يكون القتل عقابا للخيانة، ويبدو أنّ مُونتغمري وات لم يناقش هذا الأمر مثلما ناقشه غيره من المستشرقين الذين راحوا يُحاكمون التجربة النبويّة من خلال مصير بني قريظة، فحافظ مُونتغمري وات على حذره في تجذير طبيعة الصراع بين النّبي محمد واليهود، وهو يُدرك جيّدا أن هذه القراءة ستُلقي بظلالها على الحاضر زمن تأليف الكتاب.
إنّ الجهاد العقائدي الذي خاضه النّبيّ محمد ضدّ اليهود كان ينذر بمرحلة الجهاد المادي، وقد ذهب مُونتغمري وات إلى الإعتقاد بأنّ النّبيّ محمد كان يطمع في إستقطاب اليهود نحو الدّين الجديد بعد أن قام بتحييدهم ساعة دخوله ليثرب، مُعلنا أنه على درب الخط التوحيدي للأديان الكتابيّة، وأنّ بيت المقدس هو قِبلة مُشتركة، غير أنّ العقيدة اليهوديّة المُغلقة صارت تُمثّل في القرآن خطرا على العقيدة الإسلامية الناشئة التي لم تترسّخ في قلوب وعقول سكّان المدينة، وممّا زاد من تعقيد الأوضاع وصار تهديدا لمصير الدّعوة هو الخيانات اليهوديّة للعهود والمواثيق والتآمر على المدينة وقائدها الجديد، ومن ثمّ لم يتأخّر محمّد في الردّ وهاجم اليهود فكان مصيرهم القتل أو الأسر والإجلاء عن المدينة، وهي خطوة ضروريّة كانت يثرب المدينة في حاجة إليها لخلق الوحدة الدّينيّة والإجتماعية لتشكيل قوّة عسكريّة لا تختزن مواطن الضعف وخطر الإنحلال، وقد تخيّل مُونتغمري وات “ما كان ليحدث لو أنّ اليهود انضمّوا إلى محمد بدلا من معاداته، وكان بإمكانهم في بعض الأوقات أن يحصلوا منه على شروط مفيدة لهم جدّا، ومنها الاستقلال الدّيني فتقوم على هذا الأساس امبراطوريّة عربيّة يؤلّف اليهود جزءا منها، ويصبح الإسلام بذلك طائفة يهوديّة؟”(27)، وهو استناج حالم لعالم يتجاوز حقيقة لا عبرانيّة النّبي الجديد وعدم انحداره من سلالة بني إسرائيل.
إنّ هذه الفرضيّة تقوم على تقديم صورة النّبيّ السياسي المقاتل الذي يحمل مشروعا لتوحيد العرب مهما كانت دياناتهم، وهي فرضيّة يمكن مناقشتها، فالنّبيّ لم يجاهد من أجل توحيد العرب تحت سلطته السياسيّة برغبة ملوكيّة كما الحال مع ملوك بني إسرائيل، ولكنّ هذا المشروع الدّيني التوحيدي كان يحتاج إلى قوّة عسكريّة وإقتصادية ووحدة إجتماعيّة كي يتحقّق ويستمرّ في فضاء العبث والفراغ، وهذه القوّة لا يمكن أن تحصل مع “مدن” متفرّقة وقبائل مشتّتة متناحرة، ولا يمكن إستلهام هذه القوّة إلاّ من مفهوم الدولة كإطار تنظيم وتسيير وإخضاع وسيطرة، فوحدة النبوّة كانت في حاجة لوحدة القيادة، وحدث الإلتباس بين القيادة الدّينية والقيادة الدنيويّة السلطويّة لدى مُونتغمري وات، فحاول جاهدا أن ينتصر لفكرة أنّ النّبيّ محمد رجل دولة بطموحات توسعيّة مع مرجعيّة دينيّة أشبه بملوك اليهود(28)، والحقيقة أنّ المستشرقين في أعماقهم يقدّمون النّبي محمد بصفته رجلا حكيما وزعيما مؤسسا لدولة وحضارة، ويدفعون نحوه كل صفات التمجيد والثناء كرجل خارق دنيوي للتخفيف من تناول مسألة النبوّة وعلاقته بالوحي والسماء.
لم يستغرق مُونتغمري وات في تفاصيل المواجهة بين النّبي محمد واليهود التي عبّرت عن وحشيّة حربيّة في القتل والسبي والإجلاء، واستسلم لرواية السيرة الرسميّة ومغازي الواقدي وحصر جذور الصراع وتجلياته في مفهوم الخيانة ونقض المواثيق، وهي رواية رسميّة قرآنية تصف اليهود عبر التاريخ، ولن يكون جديدا عليهم أن ينقُضُوا معاهداتهم مع النّبي محمد، حتى يكون ذاك مصيرهم بثمرة أفعالهم وظلمهم لأنفسهم، هنا سيوصف مُونتغمري وات من طرف المُسلمين بالحياد العلمي، ولكن هذا الحذر وغياب الشجاعة العلميّة سيجعله مستشرقا موضوعيّا لا يمارس محاكمة التاريخ الدّيني بمنطق الحاضر وصراعاته بين الغرب والشرق، وبين الإسلام واليهوديّة، كل ذلك وما نعرفه عن صرامة مُونتغمري وات العلميّة تجاه الكتاب المقدّس في عهديه القديم والجديد.
-
الروم: السيوف الجائعة
لم يستسلم مُونتغمري وات لمقولات الإسلام الرّسمي من أنّ الجهاد خارج المجال الحجازي ونجد كان بدافع نشر الإسلام وإعلاء كلمة الله في الأرض، بل سعى إلى تفسير هذا العُنف الحربي تفسيرا إقتصاديّا وإجتماعيّا، فقد “نظر محمد إلى المستقبل ووجد أنّه يجب توجيه غرائز السلب والنهب عند العرب نحو الخارج، نحو المجتمعات المجاورة لشبه الجزيرة العربيّة، كما أدرك إلى حدّ ما أنّ نمو طريق سورية هو إعداد للتوسّع”(29)، ويبدو هذا التفسير مقنعا إلى حد بعيد، فما بين فتح مكّة ووفاة النّبيّ محمّد كان الإسلام قد إستقطب أغلب القبائل العربيّة، وتوافد على المدينة آلاف المقاتلين، ونصبوا خيامهم على أطراف يثرب، وما كان للمدينة وقدراتها الإقتصادية أن تستوعب هذا العدد من الوافدين الجدد، فكان على النّبيّ أن يدفع بتلك الجيوش خارجها بإتجاه الشمال السوري حيث طريق القوافل التجارية لتأمينها والخصوبة لتعميرها، وربّما كان من تكتيكات النّبيّ محمّد بسط سيطرته على طرق القوافل التجارية نحو الشمال لتأمينها وحمايتها وادخالها في دورة اقتصاديّة ترث منظومة الإيلاف التجارية، كما يشكّك مُونتغمري وات في رسائل النّبيّ محمد إلى الحكّام والملوك دون سند علمي في ذلك فيقول عن تلك الرسائل “فهذا شيء غير معقول إذا كانت الرسائل دعوة للدخول في الإسلام والإعتراف بمحمد كزعيم ديني، لأنه لا يمكن تصوّر إمبراطور الروم ونجاشي الحبشة يستجيبان لهذه الدّعوة”(30)، أي أنّ تلك الرسائل كانت كتابة تاريخيّة بعديّة تمجيديّة لمشروع ديني دنيوي نجح في الإطاحة بحاميات الأمبراطوريات المجاورة للمجال العربي، وإعلانا بخروج الجموح العربي من سياقه الصحراوي البدوي إلى سياق حضري مدنيّ، فجاءت تلك الرسائل لتفسير اللاحق بمشروعيّة السابق.
يعتقد مُونتغمري وات أنّ نوايا النّبي محمد التوسّعيّة قد كشفت عن نفسها منذ غزوة مؤتة، يقول: “تدلّ ضخامة غزوة مؤتة وأهميتها على أنّ هدف النّبيّ محمد نحو سنة 629/8، كان توحيد العرب تحت سلطته والتوسّع بهم نحو الشّمال، ولم يكن فتح مكّة إذن غاية بذاتها”(31)، فلو كان للنبي محمد طموحات دينيّة فحسب، لكان مكث في مكّة بعد فتحها، لكنّ النّبيّ محمد قرّر أن تكون مكّة مجالا دينيّا مقدّسا وعاد إلى يثرب على أن تكون يثرب العاصمة السياسيّة والعسكرية، ومن أطراف المدينة ستنطلق الفتوحات العسكريّة والنّبيّ محمد على فراش الموت يلهج بجملته الشهيرة “أنفذوا جيش أسامة”، قد كان النّبيّ محمد على وعي حاد بتكدّس المقاتلين في يثرب وما حولها مع ندرة الموارد ولا غنائم بين المُسلمين بعد إسلامهم، وكان الشمال مغريا بثرواته وخيراته التجارية والفلاحيّة ودافعا للمقاتلين العاطلين لممارسة الغزو والإستقرار في مناطق تعجّ بالخيرات هلالا خصيبا (الشام) وأرضا سوادا (العراق).
لا نشكّ أنّ النّبيّ محمد لم يكن مطلعا على حال الإمبراطوريتين البيزنطيّة والساسانيّة بعد عقود من الصراع، فقد كان يحلم بأن يكون وريثا لهذين القوتين، وإن قلّلنا من طموحات النّبيّ محمد فربّما كان يحلم بدولة إسلامية لها قدرات إقليميّة تحفظ للعرب مصالحهم التجاريّة والإقتصادية، ولكن مُونتغمري وات لم يفسّر لماذا تقصّد النّبيّ محمد الشمال السوري مع الإكتفاء بمناوشة الشرق الفارسي، فقد كانت عيون النّبيّ تتجه نحو الشمال لعدة أسباب: أولا المنزلة الدينيّة للقدس وفلسطين ومنافستها لمكّة التي ما زالت مجرّد مركز لتجمّع وثني لا تضاهي مركزية فلسطين لدى اليهود والمسيحيين، ثانيا سوريا هي الخط التجاري الرئيسي بالنسبة للتجارة المكيّة(32)، يضاف إلى ذلك الهجرات العربية القديمة التي كانت نحو الشمال، وكأنها امتداد للعنصر العربي المتحضّر.
أدرك النّبيّ محمد أن مستقبل الدعوة الإسلامية مرتبط بصلابة الدولة الإسلامية المركزيّة وقوتها، وهذه القوّة كانت رهينة سيف الفتوحات الذي سيغري المقاتلين بالإندفاع نحو الجهاد التوسّعي من أجل الغنيمة، وتلك الغنائم ستزيد كلما توسعت الفتوحات وأسّست الأمصار في ديناميكيّة مرتبطة بتاريخيّة التحوّل ما بعد النبي محمد نحو الخلافة القرشيّة، ومن هنا تتنزّل وصايا النّبيّ للمسلمين بمواصلة مسيرة الجهاد من بعده على الحقيقة أو وضعا للأحاديث على لسانه لتشريع الفعل الحربي بالغزوات، ففي السياق الحضاري للقرن السابع وما بعده القائم على حروب المصالح والغنائم والسيطرة، كان النّبيّ يدرك جيّدا أن تقوقع الدعوة والدولة يعني زوالها، فكانت الحرب الهجومية حفاظا على الدعوة قبل الدولة، لأنّ الفضاء النجدي الحجازي لم يكن مغريا للإمبراطوريات المجاورة بالغزوات، بقدر ما كان فضاء حرّا للأعراب الذين يقع لجمهم بحاميات المناذرة والغساسنة.
-
الجهاد: الوحي والتاريخ والأسطورة
ثلاثة عناصر رئيسيّة تتحكّم في مفهوم الجهاد: ما أسّسه الوحي تنزيلا إلاهيّا يرتبط بالمقدّس والإيمان وأن سيف المجاهد هو سيف الله المسلول ضدّ أعداء الله، ثانيا ما وقع في التاريخ باعتباره فعلا حربيّا فيه القتل والإغتيال والسبي والذبح انسجاما مع السياق العام للحروب في العُمق الصحراوي القائم على القتل من أجل البقاء، وثالثا وأخيرا ما كتبه المخيال الإسلامي وتلذّذ به مشفوعا بالأساطير المؤسسة للبطولات والمعجزات، غير أنّ مُونتغمري وات المُفكّر المُؤمن حاول أن يتسلّح برؤية نقديّة ماديّة تقلّل من قيمة الوحي كفاعل رئيسي للفعل الجهادي ولكنها لا تنفي حضوره، وتطرد الروايات المشبعة بالأساطير والمخيال الشعبي والضمير الإسلامي، وحتى نفهم منهجه يمكن الإستشهاد بمقدمة الكتاب الأول حين يقول: “هذا الكتاب يهمّ ثلاث طوائف من القراء على الأقل: الذين يهمّهم الموضوع كدارسين للتاريخ، والذين يتناولونه لأنهم مسلمون أو مسيحيون، وعلى أية حال فهذا الكتاب موجه أولا وبصفة رئيسيّة للمهتمّين بالتاريخ، ولقد حاولت المحافظة على الحياد في المسائل اللاهوتيّة (الدينيّة) التي يدور حولها بين المسيحيّة والإسلام، فمثلا لتجنّب الجزم بما إذا كان القرآن كلام الله أم لا، فقد تحاشيت إستخدام التعبير “يقول الله” أو “يقول محمد” واستخدمت التعبير “يقول القرآن”، ومع ذلك فإنّني لا أتبنّى المنظور المادي بحجّة إلتزامي بالنزاهة التاريخيّة، فأنا أكتب كمؤمن بالتوحيد.. فقد حاولت، مع الإلتزام بالمقاييس العلميّة التاريخيّة الغربيّة، ألا أقول شيئا يفهم منه رفض أي مبدأ من مبادئ الإسلام الأساسيّة”(33)، فهو بذلك يقف على أرض رخوة بين المُؤمن الذي لا يملك أن يشكّك في ما يعتقده المُؤمن المُسلم وبين المُؤرخ المادي الذي لا تعنيه سوى الحقائق التاريخيّة كما وقعت، والحقيقة أنّ هذه المنزلة تُعبّر عن مُحاولة تأويليّة من داخل النّسق التوحيدي، وقد استثقل التصريح أنّ تجربة النّبيّ محمد مثل المسيحيّة هي في الأصل حركة تصحيحيّة يهوديّة خاصة بالمجال العربي الوثني، ما يعني خارج تاريخ بني إسرائيل، ولذلك كان قد افترض لو أن اليهود لم ينقُضُوا العهد مع النّبي محمد، فلم يحاربهم، وكأنه يفترض أن لليهودية القدرة على هضم الدين الجديد وكتابته سفرا من أسفار الملوك.
في علاقة بالفعل الحربي والمُنجز النبويّ، لم يعتمد مُونتغمري وات على الوحي أي النّصّ القرآني باعتباره وثيقة تاريخيّة ثابتة، لأنّ القرآن بالنسبة إليه هو نصّ مُنحاز مُطلقا كما يقول في مقدمة كتاب محمد في مكة: “جرت العادة بعض الوقت بأن القرآن هو المصدر الرئيسي لفهم الفترة المكيّة، ولا شك أن القرآن معاصر لتلك الفترة ولكنه مُتحيز، ناهيك بصعوبة تحديد التسلسل الزمني لمُختلف أجزائه وما يحُوم حول كثير من النتائج من شك”(34)، لتصبح الواقعة التاريخيّة كما وقع تدوينها هي رؤية المُسلمين الذاتية عبر تأويلهم للنصوص القرآنيّة وفهمهم لها ومُحاولة كتابة التاريخ بما ينسجم مع الرؤية القرآنيّة المتعالية، ولن يستشهد كثيرا أو حتى قليلا بآيات الجهاد، لأن مُفردة “الجهاد” مُشبعة برؤية عقائديّة دينية وليست تاريخيّة بمعنى الغزوات والحروب، ويرى أنّ أغلب النصوص التي تعلّقت بالغزوات الحربيّة تنزل بعد الموقعة الميدانيّة لتفسّر تفسيرا عقائديّا إمّا سبب النّصر أو سبب الهزيمة، ومع ذلك فهو لا يُخفي إعجابه بالقرآن ويرى فيه جاذبيّة جعلت النّبيّ محمد يحسن التأطير والتنظيم ودفع المُسلمين في سلسلة الحروب المكلّلة بالنّصر، زادتها قدرته على إمتصاص الصدمات والهزائم وتحويلها إلى انتصارات سياسية، وكأنّ النصّ القرآني لا يكتفي بالتدوين البعدي للواقعة، بل يأتي ليُسند النّبي محمد في أفعاله الحربيّة وسلوكه السياسي بعد الهزيمة والنّصر، وكذلك في توزيع الغنائم ومعاملة الأسرى وفتوى القتل.
لم يُسطّر الوحي الفعل التاريخي ولم يتكهّن بتفاصيله في كل المعارك، بل ينزل الوحي لإعلاء الفعل التاريخي المُنجز ويقوم بتصعيده في لغة شفافة متعالية عن الواقع، فبعد كل غزوة نصرا أو هزيمة تأتي الآيات تفسيرا للحدث وتمجيدا للمجاهدين وتعزيرا للهاربين وترهيبا للمشركين وترغيبا في الشهادة أو الغنائم، وبالتالي يبدو منهج مُونتغمري وات سليما في عدم الإعتماد على الآيات باعتبارها مصدرا رئيسيّا في رسم ملامح الأحداث وتفاصيلها، وكل ذلك يُعطي للنبي محمد قدرات قياديّة تتّسم بالذكاء والحكمة والعقلانيّة في التعامل مع الحروب والغزوات، فلم يتّكل محمد على الوحي إلا بما هو سند روحي نفسي للمسلمين، ولكنّه اتّكل على العقل والحيلة والخبرة التي يمتلكها بعضا من أصحابه في إدارة الحرب وفنونها.
يُدرك مُونتغمري وات أنّ الجهاد الإسلامي التأسيسي حقّق إنتصارات إعجازيّة، ونشوة النّصر المُتسارع حقّقت في ظرف وجيز ما لم تحقّقه الإمبراطوريات طوال عقود طويلة، وهذه النشوة ستجعل المخيال الإسلامي يختلق الأساطير المؤسّسة للمجد الإسلامي، فعندما يصير العُنف الحربي جهادا عقائديّا له مشروعيّة دينيّة تتدخّل أساطير الأقوال والأفعال والأحوال فتجبر المُؤرّخ في القرن الثالث للهجرة على تدوين هذه الأساطير، ففي معركة بدر يتجاوز مُونتغمري وات أسطورة الملائكة التي تقاتل إلى جانب المُسلمين، كما يتجاوز إخباريّة أنّ علي بن أبي طالب قد قتل لوحده 35 مشركا، وينتقي من الروايات ما يقبله العقل المادي لمعركة صغيرة بين جيشين متفاوتين في العدد والعدّة: جيش كبير غير منظّم، القيادة فيه مشتّتة بين زعماء قُريش، وجيش صغير منظّم القيادة فيه موحّدة بيد الزعيم الديني والدنيوي النّبيّ محمد(35)، وفي كل معركة لا يخفي مُونتغمري وات إعجابه بمفهوم “عظمة محمد”، وهي عظمة محمد كقائد ميداني سياسي وعسكري وليست عظمة النبوّة والوحي.
في كل حروب النّبيّ محمد لا يعترف مُونتغمري وات بالعناية الإلهيّة التي تتدخّل في سير المعركة الحربيّة، بل هي قدرات عسكريّة وذكاء بشري خارق، ولم يذهب إلى إدانة النّبيّ محمد في عدّة مواقع عدّدها غيره من المستشرقين: منها الحرب في الأشهر الحرم، فأوجد تبريرا منطقيّا بقوله: “لقد كان طابع شهر رجب المحرّم مرتبطا بالديانة الجاهليّة التي كان محمد يُحاربها، ولهذا كان خرق الشهر الحرام كتحطيم الأصنام”(36)، أو في ما يتعلّق بالإغتيالات لزعماء اليهود الذين كانوا خطرا يهدّد الإنسجام الإجتماعي في يثرب ويضعفون الجبهة الداخلية، وأخيرا ما أثير حول مجزرة بن قريظة وحكم سعد بن معاذ فيهم، فهذه الحوادث الحربيّة وغيرها خضعت لمحاكمة المستشرقين وفق عقلية حديثة أو معاصرة لم تقرأ الأحداث في سياقها التاريخي للتجربة النبويّة.
لم يجعل مُونتغمري وات الوحي مدخلا لفهم الظاهرة الجهاديّة، بإعتباره تنزيلا مقدّسا سيحرم المُؤرّخ من القراءة التفهّميّة للظواهر الإسلاميّة التي كانت قريبة من الإيمان، فنحن لن نستطيع أن ننكر أنّ الضمير الإسلامي رأي في الجهاد ركنا من الدّين، كما لم يستسلم مُونتغمري وات للأسطورة المؤسّسة للمخيال الإسلامي في تصوير بطولات الفتوحات والغزوات، وفي النهاية كان وفيّا للتاريخ وتفاصيله مهما كان هذا التاريخ محرجا للضمير الإسلامي والإنساني، لقد كانت قراءته موضوعيّة إلى حد كبير فلم ينظر للجهاد بنوع من التقديس الإيماني كما لم ينظر إليه بوصفه وحشيّة بربريّة، ورأى في محمّد نبيّا مرسلا لدى المُؤمنين وعليه أن يحظى بالإحترام والتقدير بما يملكه من وعي صادق وفكر توحيدي تقدّمي تجاه الوثنيّة البدائيّة، ولكنّ محمّد أيضا كان قائدا ميدانيا سياسيّا وعسكريّا وظّف الغريزة الحربيّة والقدرات القتاليّة لمشروع تنويري وحضاري يخرج أمّة العرب من الحياة على هامش التاريخ إلى الحياة في صلب التاريخ بصناعته وكتابته، فقام بصقل وحشيّة الأعراب والقبائل سلبا ونهبا وعنفا، وحوّلها إلى آلة حربيّة تحكمها ضوابط المقاتل النّبيل الذي يحمل رؤية وهدفا من خلال قتاله للخصم، فالجهاد عند مُونتغمري وات هو القتال من أجل المعنى.
الخاتمة
رغم موضوعيته في أغلب ثنايا ما كتب عن سيرة النّبيّ محمّد، لم يسلم مُونتغمري وات من الإدانة والرّفض لدى أغلب الدّارسين المُسلمين(37)، وما كان لمُونتغمري وات أن يقدّم قراءة إيمانيّة لسيرة شخصيّة تاريخيّة لعبت دورا في تغيير الموازين الإقليميّة والدوليّة في القرن السابع ميلادي، فالدّعوة وحّدت العرب نواة لدولة النّبي محمد وبالسيف أخضع الأقاليم محقّقا مشروع إمبراطوريّة إسلاميّة في ظرف وجيز جدّا، وقد لخّص مُونتغمري وات عظمة النّبيّ محمّد في ثلاثة صفات: الموهبة العرفانيّة، الحكمة السياسيّة، والمهارة الإداريّة، وهذه الصفات هي التي صنعت عظمة محمّد كنبيّ له خيال مبدع، وقد كان مُونتغمري وات على وعي بأهميّة العُنف الحربي في إخضاع المجال الجغرافي العربي لتوحيد القبائل العربيّة تحت دولة الإسلام، وإستطاع النّبيّ محمد أن يوظّف غريزة العُنف لدى تلك القبائل نحو الخارج لتوسيع مجال السيطرة والإخضاع.
يلحّ مُونتغمري وات على أنّ الجهاد هو عنف حربي حامل لمشروع ومعنى، ولو كان ذلك العُنف بلا معنى ما كان له أن يحقّق الإنتصارات المتتالية، فحتى الهزائم تتحوّل قيميّا وأخلاقيّا إلى محنة نفسيّة سرعان ما يعالجها النّبيّ محمد ليستثمرها مستقبلا، فتنسى الهزائم بسرعة وتظل الإنتصارات مكسبا تلو المكسب، ومن هنا كان مفهوم الجهاد ملتبسا بين العقيدة والغنيمة بما يحقّق للمشروع التوحيدي مستقبله، كما أنّ البطل الديني صار أكبر من البطل القبلي ووريثا للبطل الأسطوري، ليهزم سيف الأديان سيف الأوثان.
حاولت هذه الدّراسة أن تقرأ أحد رموز الإستشراق في كتابة الإسلام المبكّر، وهو مونتغمري وات، وأن تقرأ في كتاباته أخطر الإشكاليات التي لم ينقطع حولها الجدل بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، وهي إشكالية العنف الديني في السياق التأسيس للدّعوة المحمديّة، والتي كانت مدخلا للتمجيد من جهة وللتشنيع من جهة أخرى، ولكن المقاربة التاريخيّة هي السبيل لفهم التاريخ الإسلامي، والتي حاول مونتغمري وات أن ينتهجها بأدوات معرفيّة ممكنة، هذا ما جرى وعلينا فهمه وتفسيره، لا تمجيده أو تحقيره، وبذلك يكون مونتغمري وات قد قطع الطريق أمام تلك القراءات المتطرّفة معرفيّا في السياق الغربي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش والمراجع:
- أنظر: عبد الله النعيم: الاستشراق في السيرة النبويّة، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الرياض- السعودية، ط1 سنة 1997، وهو كتاب ظلّ أسير الرؤية الرّافضة لأغلب آراء المستشرقين في البحث عن مواطن التمجيد والتقديس دون مواطن النقد والتشكيك، خاصّة وأنّ الكتاب يقدّم نفسه باعتباره قراءة مقارنة بين ثلاثة مستشرقين: مُونتغمري وات، وكارل بروكلمان، ويوليوس فالهاوزن، والتقييم نفسه ينطبق على كتاب: مجموعة من المؤلفين : مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية، بحث لعماد الدين خليل، بحث مقارن في منهج المستشرق البريطاني المعاصر مُونتغمري وات، مطبعة مكتب التربية العربي لدول الخليج ، الرياض، ط1،1405 -1985 م، ولكنّ التقييم العلمي للإستشراق في الدّراسات الإسلاميّة نجده في كتاب: محمد أركون ومكسيم رودنسون ومجموعة من المؤلفين: الاستشراق بين دعاته ومعارضيه، ترجمة خليل أحمد خليل، دار الساقي- لندن ط1 سنة 1994.
- ويليام منتغمري وات: كان قسّا في الكنيسة الاسكتلندية وتخصّص في الآداب والحضارة العربية الإسلاميّة، حتى إستطاع أن يشغل خطة أستاذ محاضر في جامعة إدنبرة باسكتلندا في الدراسات العربيّة من سنة 1948 إلى سنة 1964، تقلّد الكرسي الشرفي للدراسات العربية الإسلامية حتى تاريخ تقاعده سنة 1979، ومن أهم منشوراته التي تتعلّق بالإسلام التأسيسي: محمد في مكة نشره سنة 1953، محمد في المدينة نشره سنة 1956:
- Montgomery. Watt : Muhammad at Mecca ; Oxford University Press. London. 1953.
- Montgomery. Watt : Muhammad at Medina ; Oxford University Press. London. 1956.
ونشر كتاب “محمد نبي ورجل دولة” سنة 1961، وسنعتمد في دراستنا على النسخة المعرّبة: مونتجومري وات: محمد في المدينة، تعريب شعبان بركات، منشورات المكتبة العصرية، صيدا/بيروت- لبنان، ط1 د.ت، يبقى أنّ أهم الكتابات التي درست مشروع مُونتغمري وات الاستشراقي بشكل علمي نذكر:
* هيثم مزاحم: مُونتغمري وات والدّراسات الإسلاميّة، دار جداول للنشر، بيروت- لبنان، ط1 سنة 2017.
* نبيل فازيو: الرسول المتخيّل، دراسة نقدية في صورة النّبيّ في الاستشراق: مُونتغمري واط ومكسيم رودنسون، منتدى المعارف، المغرب، ط1 2010.
- حول علاقة الرواة بالإخباريين فالمُؤرّخين وتطوّر المعرفة التاريخية عند العرب أنظر: حسين مؤنس: التاريخ والمُؤرّخون، طبعة دار المعارف، القاهرة – مصر، ط1 سنة 1984.
- أنظر: عبد المتعال محمد الجبري: السيرة النبويّة وأوهام المستشرقين، مكتبة وهبة، القاهرة- مصر، ط1 (د ت).
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، تعريب شعبان بركات، منشورات المكتبة العصريّة، صيدا/بيروت-لبنان، (دت)، ص496.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 349
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 309: يجب التفكير مليّا في صورة النّبيّ محمّد المتنامية عبر تجربته التوحيديّة، وهي متنامية وفقا لتطوّر سلطته من داعية في مكة وحوله أتباع محدودين إلى زعيم مدينة موالية لينتهي بسيطرته على المجال الحجازي ونجد وعيونه نحو الشام.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 308
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 5.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 5
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 8.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 20.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 352.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 34: يجب التأكيد أنّ مُونتغمري وات ينقّب في الإخباريات وما كان منها رواية أحاد يطرحها باعتبارها إحدى الفرضيات التاريخيّة، والمُؤرّخ النقدي لا يهمل مختلف الروايات مهما كانت ضعيفة المصدر والمحتوى.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 38.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 410.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 73.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص ص 56-57.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 65.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 322.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 326: لن تخجل المصادر التاريخية عن الحديث عن مجزرة في بني قريظة، لكنّ الدوافع هي التي تخفّف من حدّة مفهوم المجزرة، وما كان للنبي محمد أن يتساهل مع كل خيانة، يضاف إلى ذلك عمليات الإغتيال التي نفذت بأوامر صريحة أو مبطنة من طرف النّبيّ، وكل ذلك يجب تفهّمه في سياقه الحربي التأسيسي.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 58.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 346.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 228.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 327.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 334.
- مُونتغمري وات: محمدالنّبيّورجل الدولة، تعريب حمود حمود، دار التكوين دمشق-سوريا، ط1 سنة 2014.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 67.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 63.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 97.
- أنظر: فيكتور سحاب: إيلاف قُريش: رحلة الشتاء والصيف، المركز الثقافي العربي، بيروت-لبنان، ط1 سنة 1992، ص 8 وما بعدها، ويمكن العودة أيضا إلى كتاب: باتريشيا كرون: تجارة مكّة وظهور الإسلام، تعريف آمال محمد الروبي، منشورات المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة – مصر، ط1 سنة 2005.
- مُونتغمري وات: محمد في مكّة، تعريب عبد الرحمان عبد الله الشيخ وحسين عيسى، مراجعة أحمد شلبي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة-مصر، ط1 سنة 2002، مقدمة الكتاب ص9.
- مُونتغمري وات: محمد في مكة، م ن، ص69.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 21، وأنظر أيضا: سيد محمود القمني: حروب دولة الرسول، مكتبة مدبولي الصغير، القاهرة مصر، ط2 سنة 1996، ج1 ص48 وما بعدها.
- مُونتغمري وات: محمد في المدينة، م ن، ص 13.
- أنظر مثلا: – نعمات محمد الجعفري: العيوب المنهجيّة في سياق الروايات الحديثيّة عند المستشرق مُونتغمري وات من خلال كتابيه “محمد في مكة” و”محمد في المدينة”، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة الكويت، عدد97/ سنة 2014، ص ص 160-220.