تكوين
مقدمة:
مواصلةً لسلسلة المقالات الموسومة بـ: أسئلة عن الفكر العربي المعاصر*، كان يمكنُ تسمية هذه المقالة بــ: سؤال الموضوع، ذلك أن تحديد الموضوع مسألة ضرورية في الحديث عن أي مجال معرفي، غير أن هذا التحديد مُتعذرٌ من جهة التنوع الكبير للموضوعات التي خاض فيها المفكرون العرب المعاصرون، وتغير هذه الموضوعات عبر الزمن مجاراة لما يحدث في العالم العربي بخاصة والعالم أجمع بعامة، حتى أنهُ يمكنُ المجازفة بالقول أن لكل عقد أو عقدين من الزمن موضوعاته الرئيسة، فقد انتقل الفكر العربي المعاصر من مناقشة قضايا الثورة والوحدة والقومية والاشتراكية، إلى مناقشة قضايا الدولة والإسلام السياسي والديمقراطية والعلمانية ثم قضايا العولمة وحوار الحضارات والهوية والتعايش والاختلاف…، مع ملاحظة لا بُدَّ منها، وهي طغيان موضوعات الدين والفلسفة السياسية على اهتمامات المفكرين العرب المعاصرين مقارنة بموضوعات فلسفة العلوم وفلسفة الفن والجمال.
من هذا المنطلق فإن أي حديث عن موضوع الفكر العربي المعاصر فهو إما يكونُ حديثًا عامًا، ومن ثمَّ لن يقدم شيئًا ذا قيمة كبيرة للقارئ، أو يكونُ حديثًا خاصًا بموضوعات كل مفكر منفردًا، وقد يكون الأمرُ أكثر دقة حين يُركزُ على الموضوع الرئيس، الذي شَكَّلَ محور اهتمام هذا المفكر أو ذاك، فغالبًا يكونُ لكل مفكرٍ موضوع محوري تدورُ حولهُ باقي الموضوعات أو ترجع إليه، وهو مثل الخيط الناظم لمختلف فصوص العقد كما يقال.
الإشكالية:
تُعدُّ الفلسفة التي نَظرَ إليها الفيلسوف المصري الكبير عثمان أمين تحت مسمى “الجوانية” إحدى الفلسفات التي يُمكنُ اعتبارها تأسيسية بالنسبة للفكر العربي المعاصر كما حددناهُ في مقالٍ سابقٍ، فقد ظهر الكتاب الشارح لها (الجوانية: أصول عقيدة وفلسفة ثورة) في عام 1964، وهي فلسفة حاول عن طريقها الإجابة عن سؤالٍ طالما شغلهُ وأرقهُ، ويتعلقُ بالبحث عن سبل نشر المبادئ التي تُؤسسُ للحياة الكريمة الراقية الواعية لا للنخبة والمثقفين فقط، ولكن لجميع الناس، يقولُ في هذا المعنى: “ألا توجد فلسفة حياة تجاوز الحدود الضيقة، حدود المذاهب المغلقة التي تدرس في الكتب والجامعات، فيمتدُّ أثرها إلى الشعب وإلى الجماهير؟ بعبارة أخرى “ألا توجد فلسفة تضع لنا مبادئ عامة لتربية جديدة فتوقظ الشعور الوطني في أبناء الأمة، وتجعلهم يأبون حياة الضيم والمذلة، ويحققون حياة الحرية والكرامة؟”[1].
هذا السؤال الكبير والمهم جاء نتيجة احتكاكه بالغرب ومعايشته له في أرضه، وتعرفه عن قرب على أساليب أخرى للحياة غير تلك التي عاشها في مصر، ويعيشها كلُّ إنسان في العالم العربي عمومًا، ومن ثمَّ كانت فلسفة عثمان أمين نموذجية في النزوع إلى التوفيق بين الأصالة والمعاصرة أو الأنا والآخر(الغرب)، ذلك ما سنحاول التفصيل فيه ضمن هذه الورقة، مع التركيز على الموضوع المحوري في هذه الفلسفة، وهو موضوع الدين والتدين، فما المقصود بالجوانية؟ وإذا كان الدينُ عمادها ومقومها الأساس، فبأي معنى نظرت للدين؟ بعبارة أخرى أي تدين حاولت الجوانية تكريسه؟
1/ عثمان أمين، الالتزام والانفتاح:
وُلدَ الفيلسوف المصري عثمان أمين في عام 1908 بقرية مزغونة التابعة إلى محافظة الجيزة، دَرَسَ في قريته ثمَّ انتقل إلى القاهرة حتى حصل على ليسانس في كلية الآداب قسم الفلسفة (1930)، وتتلمذَ على يد أبرز الأساتذة في تلك الفترة، مثل مصطفى عبد الرازق ويوسف كرم وأحمد لطفى السيد وطه حسين…، تَحَصَّلَ على بعثة دراسية إلى فرنسا، وفي جامعة السوربون بباريس قضى سبع سنوات، تَكونَ في أثنائها على يد كبار أساتذة الفلسفة أمثال، أندريه لالاند وإيميل بريهيه وغيرهم، وحصل على درجة دكتوراه فلسفة عام 1937، بأطروحة عن أعمال محمد عبده (1849–1905). ثم عاد إلى مصر واشتغل بالتدريس في جامعات مصرية عديدة، كما انتُدِبَ إلى جامعات أخرى خارج مصر (ليبيا، السودان، باكستان…)، وعاش بقية حياته منشغلًا بالبحث العلمي تأليفًا وترجمةً وتحقيقًا، وتُوفي في عام 1978 تاركًا وراءهُ أثرًا مهمًا في الفلسفة العربية الإسلامية والغربية.
كان عثمان أمين كما وصفهُ أحد أصدقائه المقربين، وهو الأستاذ ابراهيم مدكور: “باحثًا دقيقًا وعميقًا، تعددت أهدافه وتنوعت مراميه، ألف وترجم وشرح وحقق، وأتاح لقرائه أن يقرؤوه في العربية أو الفرنسية أو الانجليزية”[2]، ذلك أنه كان يُتقن اللغة الفرنسية والإنجليزية والألمانية، وكان له حظٌ كبيرٌ في إتقان اللغتين اليونانية واللاتينية، تَرجمَ لديكارت وهيدغر وياسبيرز، وحققَ كتاب “إحصاء العلوم للفارابي وكتاب “تلخيص ما بعد الطبيعة” لابن رشد، كتب عن الرواقية ومحمد عبده ومحمد إقبال وكانط وديكارت وشيلر وفيشته…، غير أن أهم كتاب بَسَطَ فيه فلسفتهُ الخاصة هو كتاب “الجوانية”، الذي يمكنُ اعتبارهُ نوعًا من السيرة الذاتية العلمية، وصف فيه عثمان أمين بدقةٍ تطور أفكارهِ منذ المراحل الأولى للدراسة، مستحضرًا تلك الشذرات التي كان يدونها كلما اقتنص فكرة مهمة من كتاب أو محاضرة أو وصفًا لواقعة معينة، كلُّ شذرةٍ منها تعدُ لبنةً في بناء واحدٍ هو الجوانية. فقد كانت حياة عثمان أمين انعكاسًا لفكره فقد نظر إلى الجوانية وعاش جوانيًا بعيدًا عن الأضواء والالتزامات غير العلمية، ولعل أهم من نقل لنا صورةً عن حياته هو إبراهيم مدكور الذي عاشرهُ ثلاث سنوات في باريس، يقولُ عنهُ: “كان صادقًا في قوله، لا يخشى لومة لائم فلا يداري ولا يماري، يأبى على نفسه الملق والزلفى، ويؤثر البعد عن ذوي النفوذ والسلطان، وكان في وسعه أن ينال منهم ما يريد (..) كان سعيدًا في جوانيته لأنه كان ينتصر للحقيقة (..) لقد كان جوانيا في مسلكه، يعيش معظم وقته مع أفكاره…”[3].
أهمُّ ما مَيَزَ حياة عثمان أمين هو الالتزام بقضايا المجتمع العربي، والعودةُ إلى التراث العربي الإسلامي مع الانفتاح على الفكر الغربي، لذلك فهو لم ينظر لمذهب فلسفي محدد ومغلق على ذاته، بل يمكن القول أنهُ حاول تدشين طريقة في التفلسف، تحاولُ استيعاب الماضي والانفتاح على الآخر دون عقدة، وكلُّ ذلك من أجل الخروج من الأوضاع المتردية للمجتمعات العربية الإسلامية، فالفلسفة عنده ليست مجرد تأملات نظرية، إنما هي ربط بين النظر والعمل والفكر والسلوك[4]، مع الوعي والروية واستبعاد الأهواء، يقولُ في ذلك: “إن الثقافة والحضارة لا يرتجلان ولا يستعاران والشعوب لا تثقف ولا تحضر إلا في أناة وتريث وعكوف، ولن تبلغ من ذلك ما تريد إلا بالتعهد والرعاية والعناية، وكلها تتنافى مع العجلة والتهور والاندفاع”[5].
2/ الجوانيةُ، المفهومُ والمرجعيةُ:
يُعرفُ عثمان أمين الجوانية بقوله: “الجوانية اسم أطلقتهُ منذ سنين على فلسفة اهتديت إليها بعد إطالة النظر في أمور النفس، ومتابعة التأمل في بطون الكتب مع مداومة التعرض لتجربة الوقائع والمعاناة لشؤون الناس”[6]، فهي فلسفةٌ إنسانيةٌ مستقاة من مصادر متنوعة (النفس والكتب والواقع) ومنفتحةٌ على الفكر القديم والحديث عربيًا إسلاميًا كان أو غربيا، وهي ضد الانغلاق النسقي، حيث يحضر فيها الفيلسوف المثالي بجانب الفيلسوف الواقعي، ويجتمع فيها النظر والعمل مع الذوق والحدس، وتستأنس بالمثال والواقع، وتهتم بالذات والموضوع، فــ “عقيدة الجوانية إذن عقيدة تأبى الركون إلى “مذهب” أو الوقوف عند “واقع”، وتتجه إلى “المعنى” و”القصد” من وراء “اللفظ” و”الوضع” وتنحو إلى “الفهم” و”التعاطف” لا إلى الحفظ والتقرير، وتدعو إلى العمل البنًّاء المؤسس على النظر الواعي، وتلتفت إلى الإنسان في جوهره وروحه لا في مظهره وأعراضه وتدرسه في حياته الداخلية لتنفذ إلى ما هو فيه أصيل”[7]. فهي فلسفة تؤمن بأن الحقيقة يجب عليها أن تُلتَمس وراء المظاهر الخارجية للأشياء والأشخاص، لذلك فهي لا تقنع بالمظهر ولا بالخارج ولا بالكم، بل تتجه صوب الداخل والكيف والماهية والجوهر.
يحددُ عثمان أمين الغاية من “الجوانية”، أو الجانب العملي منها، مؤكدًا ذلك العنوان الفرعي للكتاب، أنَّها فلسفةُ ثورة؛ الهدفُ منها هو التغيير الشامل للأوضاع التي تعيشها المجتمعات العربية الإسلامية، بغرض تحقيق التطور والخروج من حال التخلف الذي تعيشه، وهذا يتطلب وفق فيلسوف الجوانية القيامُ بمهمتين كبيرتين: أولًا، العودةُ إلى الماضي لمراجعته وسبر أغواره حتى يتضح غثه من سمينه، آخرًا، الاتجاه إلى المستقبل والإعداد لبنائه كما يجب، والمبادئ الكبرى التي يجب توفرها للقيام بهاتين المهمتين فقد استقرأها عثمان أمين بواسطة تجارب من أسماهم برواد الوعي الإنساني في الشرق الإسلامي وهم على التوالي: جمال الدين الأفغاني ويتمثلُ دورهُ في الدفاع عن كرامة الإنسان، محمد عبده وكانت مهمتهُ تنويرُ الأذهان، بينما دافع عبد الرحمن الكواكبي عن صيحة الحرية، في حين كان تركيز محمد إقبال على فلسفة الذات[8]. ومن ثمَّ تكون الجوانيةُ دعوة مفتوحة لا تعرف الوقوف أبدًا في سبيل إعادة بناء وعي الإنسان العربي عن طريق الدفاع عن مبادئ الكرامة والحرية والعقلانية وغيرها من القيم السامية.
إذا عُدنا للمرجعية الفكرية للفلسفة الجوانية، فهي كما أشرنا آنفًا، ثريةً ومتعددةً، فعثمان أمين يغرفُ من كل معين عربيًا كان أم غربيًا، فقد حاول تأصيل دعوته إلى الجوانية عن طريق حشد العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تبين أهمية الباطن واللب على المظهر والسطح، بخاصة قوله تعالى (سورة البقرة: الآية 177) لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ”، كما يرجعُ إلى التراث العربي الإسلامي بخاصة نصوص ابن سينا والغزالي التي تدعم أفكاره، بالإضافة إلى تأثرهِ الكبيرُ بالشيخ محمد عبده وأستاذِه المباشر مصطفى عبد الرازق وعباس محمود العقاد وغيرهم، أمَّا في الفكر الغربي فتحضرُ أفكار ومفاهيم للعديد من الفلاسفة أمثال: أفلاطون وديكارت وكانط وفيشته وشيلر وبرغسون بدرجة كبيرة، باختصار حاول أن يستفيد من مختلف التيارات والمفكرين دون أية عقدة أو تخندق في جهة ضد أخرى، يقول عن علاقته بمراجعه المتعددة: “أعجبت بالغزالي وديكارت وفشته ومحمد عبده وبرغسون؛ ولم يخطر ببالي قطُّ أن أعارضهم، أو أن ألتمس مواطن الزلل عندهم: لقد هيأت للجوانب الجميلة فيهم أن تؤثر في أثرها، ومضيت بنفسي في الطريق”[9].
3/ التدينُ البرانيُّ والتدينُ الجوانيُّ:
اهتمَّ عثمان أمين في كتاباته بمواضيع فكرية واجتماعية عديدة، مثل الأخلاق والقومية والحرية والعدالة واللغة والأمة…، إلا أن الموضوع الأساسي الذي ترجعُ إليه كل الموضوعات هو الدين وأشكاله، بالنظر إلى حضور الدين والتدين بالنسبة للإنسان عبر تاريخه وفي كل الحضارات، و”نستطيع أن نقول مع برجسون إن الإنسان حيوان ديني”[10]، فالدين يعبرُ عن الموضوع الجوانيُّ في الإنسان، والبعدُ الروحيُّ الذي لا يمكن إهماله في أي محاولة لإصلاح الوضع الإنساني، يقول: “الدين شأن من شؤون الروح لا تستطيع روح الإنسان أن تستغني عنه كما لا يستطيع بدنه أن يستغني عن التنفس، والدين في جميع الأزمان واحد، لأنه شعور فطري، وحاسة عامة لدى البشر أجمعين”[11]. وهذا يعني أن مرد الاختلاف بين البشر في هذه المسألة يكمنُ في التدين أو طريقة فهمهم للدين وانعكاسه في سلوكهم.
من هذا المنطلق يميز عثمان أمين، متأثرًا في ذلك ببرجسون**، بين التدين البراني الشكلي السطحي الذي يتوقفُ فيه المتدين عند الحركات والطقوس المتعلقة بالدين، والتدين الجواني العميق الذي يجعلُ صاحبه يعي المقاصد السامية المبتغاة من هذه العبادات، فـــ “مفاهيم الصلاة والصوم والصدقة والصبر والبر والأجر، تكونُ أوسعُ وأعمقُ في الاستعمال على المعنى الجواني المستور مما تكون لو قصرنا الاستعمال على المعنى البراني المنظور”[12]، ويبدو أن بذور هذا التمييز ظهرت لديه منذ صغره، فقد امتعض كثيرًا من التدين البراني لفقيه الكتاب الذي كان يرغمهم على الحفظ عن ظهر قلب دون فهم، وقلما كان يُصغي إليهم حين يقرأون القرآن، بينما كان يركزُ جُلَّ اهتمامه على تفتيش جيوبهم عله يجد فيها ما يستولي عليه[13]. كما أنهُ عانى برانية والده كثيرًا في صغره –وكثيرًا من أهل قريته- الملتزم بأداء الفرائض من صلاة وصوم..، ولكنه تزوج على والدته وأهمل أولاده، وهو ما تسبب في قطيعة شبهُ نهائيةٍ فيما بعد بينه وبين والده. وزاد امتعاضهُ ومقتهُ لهذا النمط من التدين في شبابه بسبب اكتشافه أنهُ غير مقتصرٍ على قريته، بل هو واسع ُالانتشار في كل مكان، بخاصة حين انتشر خبر استيلاء جماعة دينية ممن يصفهم الناس بـ “مشايخنا العلماء الأعلام” و”مصابيح الهدى ومنائر كتاب الله”، على ثلاثة آلاف جنيه من أموال الأوقاف، فكتب مقالًا يفضحُ هذا التدين السطحي المغشوش، وكان عنوانه “افتوني”، ورد فيه: “ما رأيكم، دام فضلكم في ثلاثة آلاف من الجنيهات تبتز من أموال الأوقاف الخيرية لغايات خاصة غيرُ خفية، وتحت ستار الدين، والدين منها براء؟ أحلال هذا أم حرام؛ أم فيه قولان؟ … كنا نود أن نعتقد أن الفضيلة تعمر قلوب “أصحاب الفضيلة”. لكنها أمنية لم تتحقق مع الأسف الشديد؛ فإن ما تكشف لنا الأيام من أمركم لدليل على أن التقوى لا تعرف سبيلا إلى القلوب إلا حين يتدفق المال إلى الجيوب..”[14].
يضيفُ في موضعٍ آخر مُبينًا الفرق بين التدين البراني والجواني قائلًا: “أي سادتنا الأتقياء الأبرار. علام هذه الضجة كلها؟ أرسلوا اللحية أو لا ترسلوها، واحملوا المسابح أو لا تحملوها، والبسوا العمائم حمرا أو خضرا.. افعلوا ما شئتم، فليس يعنينا صنيعكم في قليل أو كثير. ولكن شيئا واحد نحب أن تفهموه: ذلك هو “روح الدين. ذلك هو “الضمير” و”الإخلاص” في معاملة الله ومعاملة الناس. نظفوا القلوب، وطهروا النفوس: ذلكم أزكى لكم وأجدى على الدين، أما التزمت في إقامة الشعائر، والجدل العنيف حول المظاهر، فسخرية وعبث: إنما الدين دين القلوب”[15]. هناك نصوص كثيرةٌ -لا يتسعُ فضاء هذه الورقة لإيرادها كلها- تفضحُ هذا التدين البراني الذي تتعارض فيه الأقوال مع الأفعال، مثلما كتب أحدهم مازحًا: “مع استمرار ظاهرة التدين الشكلي التي زاد انتشارها هذه الأيام فإن سائقي التاكسي يشغلون القرآن ومع ذلك لا يشغلون العداد”، وهو ما يفضحُ آليات استغلال الدين لقضاء مآرب خاصة والحصول على امتيازات وتبرير ممارسات، قد تتنافى مع أحكام الدين، لاسيما حين يتعلقُ الأمر بممارسات السلطة السياسية، أي يتحول رجل الدين متكئًا لتبرير وشرعنة القرارات التي تخدم مصالح الفئة المهيمنة.
لعل القيمة الحقيقية لهذه الصور والوقائع التي أوردها عثمان أمين للتدليل على التدين البراني، تكمنُ في استمرار هذا النمط من التدين في وقتنا الحالي، فكأنهُ يتحدثُ عن فئات من المتدينين في زماننا، فالكثير من الجدالات المحتدمة بخصوص الدين لا تتعدى مناقشة: حلق اللحية وتقصير القميص والاستواك قبل الصلاة والسدل والقبض وتأخير السحور والاحتفال بالمولد النبوي والفرقة الناجية…، وتنتهي في الغالب إلى حشد أسلحة السماء والأرض-كما يقول أحد أساتذتنا في جامعة الجزائر- لتكفير المخالف أو تبديعه (من البدعة)، أما قضايا العقل والتخلف والتنمية والحرية فهي غير مهمة بالنسبة لهؤلاء، وفي الغالب يتوقفون عن التفكير فيها، وفي أحسن الأحوال يحيلونها لشيوخهم ويلتزمون بما أقروه دون نقاشٍ أو جدالٍ.
وخطورة التدين البراني تكمنُ في كونهُ سبيلًا للتعصب في الرأي والاعتقاد الجازم بامتلاك الحقيقة، وإذا ما اعتقد طرفٌ أنه يُمثلُ الحقيقة، فإنه يعتقدُ بالضرورة أن الآخر المخالف له على ضلال، ومن ثمَّ يجبُ علينا إعادته إلى “طريق الحق”، وهذا مدخل الانغلاق والجمود الذي يتحول بمرور الوقت إلى عنف واقتتال وحروب “مقدسة” باسم “الحق المبين” لإعلاء “كلمة الله”، وقد عانتها المجتمعات العربية الإسلامية عبر تاريخها ولا تزال تعانيها في كثير من المناطق.
في مقابل هذا التدين البراني الجامد، يتسمُ التدين الجواني كما بَيَنَهُ فيلسوف الجوانية بالعمق والانفتاح والتسامح والتعاطف، يقولُ في هذا المعنى: “إن الإنصاف يقتضي ملاقاة الأشخاص والأشياء بقدر من الود والاستلطاف (..) إن ما يميزُ المدنية عندي خلق التسامح والبعد عن التحيز وتجنب الميل مع الهوى”[16]. ويضيفُ موضحًا السبيل إلى التسامح وقبول الآخر المختلف قائلًا: “التعاطفُ مع الغير ومشاركته مشاركة روحية، ومن اتجه إلى فهم الناس وإدراك حقيقته أوضاعهم استعد للتسامح وتهيأ تهيؤا نفسيًا لقبول أعذارهم”[17].
خاتمة:
تأسيسًا على ما سبق يمكنُ القولُ إنَّ عثمان أمين حاولَ الدعوةَ إلى منهجٍ في التفكير والسلوك، حاولَ فيه التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، دون عقدة تفوق لطرف على آخر، ناقشَ باستخدامه عديدًا من القضايا التي تهمُّ المجتمعات العربية الإسلامية في زمنه، وكان لموضوع الدين المكانةُ الرئيسة في كتاباته، وقد اجتمعت لديه عواملُ عدة للتنظير لهذا المنهج أو الطريقة في النظر للقضايا، لعل أبرز هذه العوامل، نبوغهِ في الدراسة منذ صغره وانكبابه على مطالعة ذخائر التراث العربي الإسلامي والفكر الغربي قديمهُ وحديثهُ، ثمَّ سفرهُ الطويل في فرنسا ومعايشته لأحوال الغرب في حياتهم وطرائق تفكيرهم، وأخيرًا تفرغهِ وانعزالهِ للبحث والتأليف والتدريس، وهذا ما يجعلُ الجُوانية بوصفها بحثًا عن الحقيقة خلفَ ظواهر الأشياء تبدو تجربة نخبوية خاصةً ومسلكًا مثاليًا –أو صوفي- لا يمكنُ تعميمهُ على مختلف شرائح المجتمع، لأن العوامل التي اجتمعت لدى عثمان أمين لا يمكنُ أن تجتمع لدى كافة الناس، والتفكير خلف المكاتب أسهل بكثير من التفكير في زحمة الوقائع، وهو نفسهُ يعترفُ بصعوبة إدراك “جوانية” الأشياء، يقول: “لا بُدَّ للفكر من الخُلوة، أو العُزلة الإرادية حتى يستطيع أن يُبدع وأن يصل إلى جوهر الأشياء، ولكن هذه العزلة عن البراني الطاغي ليست ميسورة لكل إنسان والوصول إليها يتطلب كفاحًا ومعاركًا”[18]، فتحت ضغط مطالب الحياة وتعقيداتها التي يعيشها المواطن العربي البسيط يوميًا، من الصعب عليه أن يتجاوز برانية الأشياء، لذلك فهو يبقى عُرضةً لتلاعب البرانيين وتتقاذفهُ مصالحهم ومخططاتهم من أجل الهيمنة عليه، وقد عايشنا –ولا نزال- حروبًا أهلية دمرت مجتمعات وقسمت دولًا، وكان من أسبابها المباشرة أو غير المباشرة التدين البراني.
الإحالات:
المقالات منشورة على موقع مؤسسة تكوين الفكر العربي، وهي: سؤال التسمية، سؤال التأريخ والتحقيب، سؤال المنهج.*
عثمان أمين: رواد الوعي الإنساني في الشرق الإسلامي، القاهرة: دار القم، ط1، 1961، ص47.[1]
إبراهيم مدكور (وآخ): دراسات فلسفية مهداة إلى روح عثمان أمين، القاهرة: دار الثقافة للطباعة والنشر، 1979، ص02.[2]
[4] عاطف العراقي: العقل والتنوير في الفكر العربي المعاصر، القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1998، ص 360.
[5] عثمان أمين: الثقافة والحضارة، مجلة المسلم المعاصر، القاهرة: العدد 03، 1975.
عثمان أمين: الجوانية: أصول عقيدة وفلسفة ثورة، القاهرة: دار القلم، ص 09.[6]
عثمان أمين: رواد الوعي الإنساني في الشرق الإسلامي، ص 3.[8]
[9] عثمان أمين: الجوانية، ص 16.
يميز برغسون في كتابه منبعا الأخلاق والدين، بين الدين السكوني والدين الحركي.**
عثمان أمين: رواد الوعي الإنساني في الشرق الإسلامي، ص 39.[16]
عثمان أمين: الجوانية، ص 238.[17]