الحبّ على بساط المثنّى: غزارة المتن و خصوبة الصيغة

تكوين

يُجمع الكثيرُ من الباحثين في ماهيةِ الحبّ وفنونِه و من المُبْحِرين على أشرعته والمنسيينَ على شطآنه على أنه أفهومٌ إشكاليٌ و خلاّقٌ في آن معاً،يتحركُ حقلهُ الدلالي بين الإطلاق والتقييد،و يُفصح في كلِّ مقامٍ من مقاماته الكثيرةِ  عن قربٍ مخصوصٍ يختبرُه الناسُ في علاقاتِهم اليومية،.من عُبابه تغتذي الحياةُ،وعلى ناره،تختمرُ التجاربُ الانسانيةُ،تتنقّى ثَمَراتُها وتنجلي قيماً يستهدي بها نُشَّادُ الخيرِ والسعادة.من فيضِ الحبِّ، تحيا،تعيشُ وتستمر عصيةً على منازعِ البغضِ والكراهيةِ ومسالكِ السوءِ  الخادعةِ و القبيحة.وعليه،فكلُّ بحث في الحبّ أومقاربةٍ لحمولته المعنوية المركبةِ،وإشكاليتِه المشدودةِ بين حدَّي المطلقِ والنسبي،تبقى محكومةً بشروط تبدّيه في تجاربِ الانسانِ المتنوّعة و في علائقه الاجتماعية المسكونةِ بألوان من الميول والرغباتِ والعواطف لا تُعَدُّ ولا تُحْصى،وفي هذا السياق،يستقرّ الحبُ في هذه المقالة،على معنى العلاقةِ الطيّبةِ بين متلاطفَيْنن،متآنسين ابتداءاً،ويستوي متناً،تتوالدُ من غزارته  أشكالُها وأحوالُها، يتقدّم معه المثنى ،صيغةً مفهوميةً مشتقّةً من الثَنْيِ(الضمّ) لغةً، ومستلّةً من علم الصرفِ اصطلاحاً، وممهورةً بقولة  القدماء(أفلاطون) في الحبِّ المنعقدِ على تلاقي النصفين،لتترجمَ اعتمالاتِه،وتجسّدَ أحاسيسَه وانفعالاتِه وتشي بتفاعل خصبٍ بين ذاتين،قلّ “بتذاوتٍ”، يتجلى في الكثير من منازله.يستوي طرفاه ، مغامرين متوادّين،يخوضان في ساحة المعنى،تمارينَ الوضعِ والإنجاب،لكأن في المصدرين بعضٌ من سرّ انوجاده بين مفردٍ تائه وجمعٍ منقسمٍ على نفسه، مؤنثاً سالماً،إلا من الغُبْن… ومذكراً سلّطه النحاةُ على حواءمن الوريد إلى الوريد،فسطا حضورُه على ألف امرأة وامرأة…وتكسيراً،كسر أصلَ المفردِ زيادةً أونقصاناً،ليجمعَه على طريقته، بعيداً من قواعدِ شريكيه في الجمع والتعليل.

١-الحب والمثنى:وجه العلاقة.

في قعر المثنّى،يثوي الضمُّ،بل الوصلُ مقاماً راسخاً من مقاماتِ الحب،مأخوذاً بتوائمه المختلفةِ والدافئةِ في آن،

والحبُ في فضاء العربية، هو المحبةُ إذا عمَّ ، و العشقُ إذا أفْرَطَ،و الوجدُ إذا اشتدّ،و الشغفُ إذا بلغ شغافَ القلبِ وهو الخُلّةُ إذا اختصّ الصداقةَ وتخللَ باطنَ القلبِ، و الصبابةُ إذا ازدادت رقتُه وارتفعت حرارتُه،و الغرامُ إذا أورثَ العذابَ المقيمَ والمستديم …(لسان العرب)هو جنسٌ لأنواع من المسمَّياتِ والمعاني،تتدرّج من أسماها إلى أدناها، من حبّ الله المنزّه وتنتهي بحبّ ما يودي إلى منفعةٍ أو مصلحة،ولعلّ شعرَ غيلان ابن شجاع في حبّ التمر( في لسان العرب)مثالٌ يعبّر بعفوية ساذجةٍ و بليغة في آن، عن هذا الجانب النفعي في العلاقة :أحبُّ أبا مروانَ من أجل تمره/وأعلمُ أن الجار َبالجار أرفَقُ//فأُقسِم لولا تمرُه ما حببتُه/وكان عياضٌ منه أدنى ومشرقُ(١).

تبقى جميعُ هذه المسميات، على كثرتها و تمايز دلالاتِها وتفاوتِ منسوب الشعور العاطفي فيها، متواطئةً على جذوةِ الوصلِ هذه، الكامنةِ في كلٍّ منها، تتناسلُ اتساقاً مع درجاتِ الحمى التي تلسعُ طرفي المثنى وتدبّ في رفديه.

قلتُ الوصلَ، لأن في كل معنى من معانيها،على ما بينها من  فرقٍ في كثافةِ المدلول ،ميلٌ إلى وصلٍ ما،قد يكون،في العبادة بين عابد و معبود،وفي العشق بين عاشق  و معشوق،وفي الرغبة بين راغب و مرغوب،وفي الحب بين محِبّ و محبوب،وفي الزواج والنكاح،على ما بينهما من فرق، بين رجل وامرأة،وفي الأبوّة بين أبٍ وابنه  وفي الأمومة بين أمٍّ وأولادها،وفي الإشتهاء بين مشتهٍ ومشتهى…إلى غيرها من المثاني،المعربةِ عن علاقة طيبة ومثمرة،والثَمَراتُ،منها ما يكون أحوالا باطنيةً وانفعالاتٍ جوانيةً ومنها ما يتعيّن في ظهورٍ برّاني وواقعً محسوس.

٢–في الأحوال الجوانية.

وإذا كان لا بدّ من الإشارة إلى نماذجَ من هذه الأحوالِ الجوانية، والتعيُّناتِ البرانية ،فإن التراث العربي يحفل بالكثير من النصوص الحاملةِ لتجاربَ في الحب الإلهي والعشقِ الصوفي،تُفضي في ذروة صدقها وإخلاصها إلى مواجدَ و أحوالٍ،هي ثمَراتٌ جوانية، لعل جوهرها  يكمن في قول أبي حسين الوراق في المحبة” المحبةُ في القلب نارٌ تحرق كلَّ دنس” وفي دعوةِ الغزالي المريدَ السالك والواجد،إلى اللوْذ بالصمت و عدمِ البوحِ واجتنابِ الدعوى،عند حضورِ المحبوب في قلبه،والاكتفاءِ بالقول:

وكان ما كان مما لست أذكره

فظنّ خيرا ولا تسأل عن الخبر

أما أصحاب الدعوى،ممّن امّحت في نفوسهم الصفاتُ البشرية  أو كادت، وخلت قلوبُهم مما سوى الله،فقد ذهبوا في إخلاصهم للّه وعشقهِم له والسكرِ به حتى الفناءِ فيه،مثل البسطامي أبي يزيد، الذي بلغ  في حبه للّه حدَّ ادّعاءالاتحادِ به، أصبحَ هو والله ذاتاً واحدة،هو الله والله هو…يسبِّح  اللهَ ويعظمُ شأنَه في تسبيح نفسِه وتعظيمِها(٢).(،سبحاني ما أعظم شأني،لوائي أعظم من لواء محمد،لوائي من نور)(الجيلي،الإنسان الكامل،١٦).والحلاج،صاحبُ القولِ بالحلولية، وقد ادعى في ذروة وجده أن اللهَ قد حلَّ فيه فصرخ:أنا الحقّ،وقال:أنا من أهوى ومن أهوى أنا/نحنُ روحان حللنا بدنا-فإذا أبصرتَني أبصرتَه/وإذا أبصرتَه أبصرتَنا،وشيخ العرفانيين ابن عربي الذي أحبّ الله في خَلقه،والموجِدَ في موجوداته،فالحب دينُه وإيمانُه(٢)،مقامٌ إلهي هو،وصف الحقُّ به نفسَه،فالحبُ الذي لا يُفنيك عن نفسك…لايعوّلُ عليه،وكل شوقٍ يسكنُ باللقاء لا يعوَّلُ عليه،فشهوةُ الحب لا تنقطع كما لا تنطفئ لوعتُه ولا يسكنُ شوقُه والمحبُ في طلب دائم لمحبوبه…

 

هذا النوعُ من اختباراتِ العشقِ الإلهي،وأحوالِه الوجدية،جاورته نماذجَ أخرى من التجارب العاطفية،تقوم في حقيقتها على أحوالٍ باطنية واستجاباتٍ نفسية، وقَفَ متيّموها عند حدودِ العذرية،كيف للعاشق أن يُحِبَّ ويبقى عفيفاً بمعزلٍ عن الظروف التي تحيط به؟وضعَ هذا المبدأُ  المحِبين العذريين بين حدّي العفافِ والإثارةِ،فإذا بهم يَنذُرون العفةَ اختياراً،ويكتفون برواية معاناتهم مع من أحبوا  والتعبيرِ عن اشتياقهم له وعشقهم  المسكونِ باللوعة وألم الحرمان، بالكلام البليغِ والشعرِ الرقيق،والأمثلةُ كثيرةٌ عن جميل وبثينة وقيس وليلى وغيرِهم من أصحاب الحبِّ العذري،فرسانِ العشق النبيل وشهدائه.لقد ألهمت هذه التجاربُ العاطفيةُ المروية،الكثيرَ من أهل الفن،رسّامين وشعراء وروائيين وسينمائيين،و مغنّي الأوبرا،كما عبَرَت روايةُ مجنون ليلى،بحسب المؤرخين، ضفافَ الثقافةِ الغربية،فظهرت ملامحُها في رواية روميو وجوليات لشكسبير،وحديثا في مجموعة “مجنون  Elsa”للشاعر لويس أراغون(1897-1982).لكن هذه العذريةَ المحصنةَ بالعفاف،تديّنا أو زهداً(٣)،ازدادت تسامياً وروحانيةً بعد أن تزيّنت مع ابن الفارض(١١٨١–١٢٣٥)بنفحاتٍ من العطر الصوفي،فإذا العشاقُ، بثينة وليلى وقيس وجميل ما هم إلا الذاتُ الإلهية وقد تعيَّنت في صورة كلٍ منهم،فأصبح واحدُهم هو العشق و العاشق والمعشوق في آن معاً(٤).

 

لا يخفى ما لهذا الحبِ في اختباراته العذريِّةِ والصوفية من دلالةٍ على الوجه المتمرّدِ و الرافض للسائدِ الغالب ،في تاريخ الثقافة العربية والإسلامية،لقد ذهب مجنونُ ليلى بعيداً في التمرّدِ على تقاليدِ  الحبِّ  والتزاوج في قبيلته،تعبيراً عن عشقه المفرِطِ لمحبوبته،فعاش حقيقةَ هذا الحبّ علانيةً وجهاراً،مفاخراً به،متجاوزاً سلطةَ العرف و سلطانَ الأهلِ في تقرير  مصيره (ه)،والتجاوزُ أو الشطحُ كان جوهرَ طريقةِ أصحابِ الدعوى من المتصوفة،فبلغ حبُّهم لله مبلغاً دفع بهم  إلى تجاوزِ الوسائطِ بينهم وبينَ الله وتقديمِ الحقيقةِ على الشريعة(٦)،ها هو ابن عربي،فيلسوفُ أهلِ الباطن بلا منازع،وخيرُ من يمثّل هذه الطائفة،يوصي بأن يضعَ العارف نفسَه في منزلة النبي محمد،فيتلقّى مثله عن جبريل، إذا هو أراد أن يحصلَ لديه أكملُ فهم للقرآن،لأن أكملَ الفهمِ هو فهمُ القلبِ الذي نزل فيه وهو قلبُ الرسول،…الفهمُ عن الرسول المبلِّغِ  بلسان عربي مبين، هو أقلُّ كمالاً من الفهمِ النازل على قلب العارف…ما يعني أن فهمَ الصحابةِ للقرآن كما سمعوه من النبي،هو أقلُّ كمالاً من فهم العارفِ المتصوف كابن عربي وأمثاله…ما يتعارض مع الرؤيةِ التي تجعلُ فهمَ الصحابةِ للقرآن أكملَ وأصحَّ من أي فهمٍ يحصلُ لأي إنسان من بعدهم (٧).

تقع هذه الإشاراتُ إلى الحب الصوفي والحبِ العذري في باب إثارة الانتباه إلى نمطٍ من الحبّ،يتقدّم فيه الوصلُ الروحي على ما سواه، بين طرفي المثنى ،فنتعرّف إذّاك، إلى واحدٍ من معانيه،ينشغل معه المحبُّ بالمحبوب انشغالاً كلّياً،منصرفاً إليه،شوقاً واشتياقاً يبلغ مداه ما أن يشعرَ أنه امتلأ منه امتلاءاً يكفي قوتهَ ويروي ظمأه،وهيهاتِ هيهات منه  الاكتفاءُ والارتواء!

٣–في التعيّنات البرّانية.

لكن ثمة معنى للعلاقة بين طرفي المثنى،يتحرك فيها منسوبُ الحب،قلّْ الميلُ القائم فيه ابتداءاً،صعوداً وهبوطاً،وتُعرِبُ عن نفسها في تجاربَ تختلط فيها المشاعرُ والأحاسيس الجسدية والنفسية، اختلاطاًعجيبا يفضي إلى أشكالٍ من الإرتباط المثمرِ في كلِّ حال،بغضِّ النظرِ عن الشروطِ المحيطة بهذا الشكل أو ذاك من الإرتباط،إننا أمام مستوى آخر من العلاقةِ العاطفية، يتبوّأ فيها الجسدُ،موقعاً متقدماً،غالباً ما تنتهي إلى زواج أو مساكنةٍ أو  تمتّعٍ عابر،أو غيرِها من صيغ التحاببِ والمعاشرة،والتراثُ العربي حافل بهذه المثاني الوِدادية،الغنية بدلالاتها الثقافية والحضارية،والتي يصحُّ أن نشيرَ إليها ب”ثقافة الفراش”.

يحتلّ الجنسُ باعتباره واحداً من أركان العلاقةِ العاطفية، حيّزاً وازناً في هذه الثقافة،وبعيداً عن البحثِ في عناصر  المشروعية لهذه الأشكال،أوفي درجةِ الحبِّ  الذي يتخللُ كلاً منها،تبقى مقاصدُ الفاعلين فيها،إما الرغبةَ في  إنجاب الولد،أو طلبِ المتعة الجنسية لذاتها لاسيما عند أصحابِ العلاقاتِ العابرة،التي قد ينتجُ عنها عرضاً،آثارٌ اجتماعية ونفسية مضنية بحق المرأة وطفلها، فهي عاهرةٌ وهو لقيطٌ،أو مكتومُ القيدِ في أحسن الأحوال،في نظرِ مجتمعٍ محكوم بتقاليدَ وأعرافٍ وقوانينَ،لا تراعي مبادئَ حقوق الانسان،ولا  القيمَ الإنسانية بعامة،وللمفارقة،يطيب لي أن أشير استطراداً في هذا السياق تحديداً،إلى حديث لعائشة حول أنواع النكاح في الجاهلية،أورده البخاري،اللافت فيه أن المرأة، في هذه الأنواع  الأربعة التي مرّت بها،كانت سيدةَ قرارها على جسدها ومالكةَ حقّها في حفظ كرامتها وحماية طفلها إن ولَدَت،بنسبته إلى من تراه من الرجال الذين عاشرتهم(٨).

استمرّت ثقافة الفراش،حاضرةً بثباتٍ في أرض الإسلام ،وإذا كان حبُّ النساءِ وما رافقه من طقوسِ التبرّجِ واستعمالِ العطور وغيرِها من الأمور الملازمة لهذه الثقافة،قد بدا واقعاً مستكرَهاً لدى أقليةٍ متزمتةٍ من المتديّنين،فإن ثمةَ إجماعاً بالمقابل، على أن النبيَّ،هو القدوةُ في أقواله وأفعاله،و الأنموذجُ المتقدّمُ للحياة الحبّيةِ والجنسيةِ الناجحة والصائبة في آن،كلُّ مسلمٍ ملتزمٍ، مدعوٌّ شرعاً إلى الإقتداءِ به،وهو الذي أعلن أن اللهَ جعله محباً ومشتهيا للنساء والعطور”حُبِّبَ إليّ من دنياكم ثلاث:النساءُ والطيب وجُعِلَت قرّةُ عيني في الصلاة”(٩)،والمسلمون الأوائل،لم يعيروا اهتماماً كبيراً للتمييز والفصلِ بين حياتهم الروحية المتصلةِ جوهريا بالمسجد وبين حياتهم العاطفية والجنسية،لأن حياةَ المسلمِ واحدةٌ،ولأنّ اللهَ حاضرٌ في جميع أفعاله،و النصوصُ المقدّسةُ قد أحجمت عن إدانة الجنس…وتطرَّق القرآنُ في الكثير من الآياتِ إلى مواضيعَ تتناولُ المرأةَ والزوجةَ وحورياتِ الجنة والغلمانَ والزواجَ والطلاقَ والزنا والنِكاح،ألم يقلْ الله تعالى في الآية ٢٢٣ من سورة البقرة”نساؤكم حَرْثٌ لكم فأْتوا حَرثَكم أنى شئتم…”وفصّل جملةً من المسائلِ المتصلة بالجنس مثلَ المتعةِ والوضوء والتطهّر واللواط، ونقع في سورة يوسف على مقطعٍ متّقدٍ يصفُ اشتهاءاً عنيفاً تُعْرِبُ عنه امرأةٌ لرجل،فتراودُه عن نفسه،وتطلبُ منه أن يواقعَها،وتُمسِكُ  به وتجذبُه إليهاوتشقّ قميصهَ عندما حاول أن يتخلّصَ من إلحاحها(١٠).

لقد شكّلَ الشرعُ فيما مضى جزءاً من التربية التي كانت تُسدى للناس،فلعب الأئمة دورا مهماً في تدبير شؤون العلاقةِ بين المتزوجين،وذلك من بابِ تقديم النصحِ إلى الأزواج،كأن يكونوا لطفاءَ مع زوجاتهم،يُبدون لهنَّ كلَّ حبٍّ وطيبة عند معاشرتهنَّ،ويستفرغون الوسعَ في سبيل تحقيقِ المتعةِ لهنَّ عند الجُماع،ويرد عند البخاري ما معناه”إذا بلغتَ متعتَكَ قبلَ شريكتِك،فكنْ حريصاً على إكمال ما بدأت بسخاءٍ عاطفي،حتى تنالَ حقها..”.

وعليه،يبدو أن الفعلَ الجنسيَّ،باعتباره لذاته،متعةً أو مسياراً أو سواهما من صيغِ المعاشرة المؤقتة،أو لكونه أحدَ عناصرِ العلاقةِ الحبّيةِالثابتة ،مع ما يرافقه من متعلقاتٍ،غالباً ما كان بمنأى عن التشدّد الأخلاقي وتعسّفِ الرقابةِ المجتمعية،ومنذ أن استرسلَ الفقهاء في وصفِ وتفسير مضامين هذا الجانب والتعبيرِ عنه بعلم النكاحscience du coït،حتى ظهرَ ما يكفي من العلاماتِ الدّالّةِ على النضج الذي رافقَ الاسلام في مقاربته للعاطفةِ الجسدية وانفعالاتِها.في كتابه”حلية المتّقين”أجابَ الإمام محمد باقر مجلسي(١٦٢٧–١٦٩٩)عن جملةٍ من الأسئلة المتعلقةِ بالحياة الجنسية،اتَّسمَت الأجوبةُ عنها بالصراحةِ،وعدمِ التردد في الدعوةإلى ممارسةجميعِ ما يُسهمُ، من أشكال المداعبةcaresse وغيرهامن السلوكياتِ الجنسية،في تحقيقِ اللذة للشريكين،ما يقعُ جملةً في باب الوعي المتبادلِ لأدب المعاشرةِ بينهما ،لعلّ العبارةَ الأكثرَ وروداً في الأدب القرآني”أنكحوا…”(٢٣ مرةفي ٦سُوَر)(١١)تختزلُ هذه الثقافة وتشي بمعنى من المعاني أن النكاحَ فعلٌ من أفعال الإحسان.ويردُ عند الغزالي في بابِ الحياة الجنسية بين الشريكين ما يؤيدُ هذه السلوكيات ضماناً لصحةِ الحياة الجنسية وسلامة ديمومتها(١٢).

٤— الحبُ لذاته واجبٌ للّه

لكن من الفقهاء من ذهب في رؤيته للحبّ أبعدَ من وقائعِ المعاشرةِ العاطفية،فانهمَّ بالتمحيص النظري،معتبراً الحبَّ والإرادةَ هما في أصلِ كلِّ فعلٍ يقوم به الانسان،فمَن أحبَّ شيئاً أرادَه،وحبُّ الأشياء نوعان،حبٌّ يكون لها لذاتها،وحبٌّ لما تؤدي إليه،إذ قد يفعلُ الإنسانُ بعضَ الأشياء التي لا يحبها من “بعض الوجوه”لكنه يحبها ويريدها من الوجه الذي يحقق له نفعاً أعظم(حب الدواء لنفعها في الشفاء من المرض،لا لذاتها)،أما الأشياء التي تُحَب لذاتها،فنفى ابن تيمية أن يكون هناك في الوجود شيئاً يمكن أن يُحَب لذاته غير الله(١٣).

٥-أنواع الحب في تصنيف مسكويه

و إذا كان ثمة من تعامل بحذر وتعقّل مع الحب،مثل أبو بكر الرازي على سبيل المثال الذي نادى بضرورة الابتعاد عن العشق،وهو نوع من الحب غالباً ما يقع لقليلي الحظ ولمن رجحت عندهم الرغبات الحسية على الروحية، وابن سينا، الذي ذهب إلى اعتبار الحب علة ومرض،يشتت الذهن ويفسد المخيلة،ويودي بصاحبه إلى الحزن والاكتئاب،فإن بن مسكويه(٩٣٢-١٠٣٠) وجد في تجارب الوصل العاطفي والعشق الروحي والرغبة الجنسية بكل مسمياتها وخلاصاتها، مادةً ملائمة لتصنيف عقلاني لأنواع الحب،صاغه انطلاقا من معايير ثلاثة : الخير واللذة والمنفعة،فهناك الحب السريع في انعقاده وانحلاله،يتوخّى اللذة دون سواها،والحبُ السريع في انعقاده والبطيء في انحلاله،يقوم على الخير وينتجُ عنه المحبةَ الدائمة،والحبُ البطيء في انعقاده والسريع في انحلاله،يهدفُ إلى المنفعة بوجوهها كافة،وأخيراً،الحبُ البطيء في انعقاده والبطيء في انحلاله،وهو الذي يجمع بين الخير واللذة والمنفعة،وهو المؤدي إلى الزواج،و اقتصارُ الحب على اللذة والمنفعة يعجِّل في انحلاله لأن اللذةَ تأتي سريعاً وتغيبُ سريعاً،والمنفعةَ تأتي بطيئاً وتنتهي سريعاً،والمركّبَ منهما مآلُه إلى الانحلال والزوال(١٤).

خاتمة

أخلُصُ مع هذا التصنيف لابن مسكويه لأقولَ

أن هذه الإضاءات على تجليات العلاقة العاطفية ،أدناها و أسماها،استطاعت أن تكشفَ سعةَ المساحة التي يحتلها الحبُ بوجوهه وأحواله المختلفة في فضاء الثقافة العربية والإسلامية، وتؤكدَ أصالتَه في أرض العرب والمسلمين وتُبرِزَ  المثنّى صيغةً حيّةً و أصلاً ولاّداً لهذه التجارب،يعطي كلُ طرفٍ من طرفيه ما عندَه،قلّ يتعاندُ عنداه،تعانداً مثمراً،في حركةٍ،آيلةٍ إلى إنضاج التجربة،والنضج هو المآل، إلى انجلاء الحبّ واعتلانه،أو إلى خفوته فامحائه.

———————————

قائمة الهوامش والمراجع:

١–راجع:ابن منظور،لسان العرب،مادة”حبَبَ”

٢–لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي

إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

فمرحى لغزلان ودير لرهبانِ

وبيت لأوثانٍ وكعبة طائفٍ

وألواح توراة ومصحف قرآنِ

أدين بدين الحب أنى توجهت

ركائبه فالحب ديني وإيماني

٣–راجع:شكري فيصل،تطوّر الغزل بين الجاهلية والإسلام،من امرئ القيس إلى بن أبي ربيعة،دار العلم للملايين،بيروت ١٩٨٦.

٤–راجع:محمد مصطفى حلمي،إبن الفارض سلطان العاشقين،المؤسسة المصرية العامة للتأليف والطباعة والنشر،١٩٦٣.

٥–راجع:Malek chebl,L’érotisme arabe,Robert Laffont,2014.

٦–البسطامي ناعياً علماء الشريعة:أخذتم علمكم ميتاً عن ميت،وأخذنا علمنا عن الحي الذي لايموت،حدّثني ربي،وأنتم تقولون حدّثني فلان،وأين هو؟تقولون مات.

٧–راجع:محمد عابد الجابري،بنية العقل العربي…(ص.٣٠٢).

يقول ابن عربي”أنظر في القرآن بما نزل على محمد…لا تنظر فيه بما أُنزِلَ على العرب فتخيب عن إدراك معانيه،فإنه نزل بلسان رسول الله…لسان عربي مبين،نزل به الروح الأمين جبريل…على قلب محمد…فكان من المنذرين،أي المعلمين.فإذا تكلمت بالقرآن بما هو به محمد…نزلت عن ذلك الفهم إلى فهم السامع من النبي…فإن الخطاب على قدر السامع لا على قدر المتكلم،وليس سمع النبي وفهمه فيه فهم السامع من أمته فيه إذا تلاه عليه”

٨–حديث،لافت في هذا السياق، رواه عروة،يقول فيه،” أن عائشة أخبرته أن النِكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: منها أولاً نكاح الناس اليوم.يخطب الرجل إلى الرجل وليتَه أو ابنتَه فيصدقها(يقدّم الصداق أو المهر) ثم ينكحها.وثانٍ،كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه،فإذا تبيّن حملها أصابها زوجها إذا أحبّ،وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد،فكان هذا النكاح يسمى نكاح

الاستبضاع.وثالث،يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم فيصيبونها،فإذا حملت ووضعت ومرّ ليال بعد أن تضع حملها،أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يتمنّع حتى يجتامعوا عندها،فتقول لهم قدعرفتم،الذي كان من أمركم،وقد ولدت فهو إبنك يا فلان،فتسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها ولا يستطيع أن يمتنع منه الرجل.و رابع،يجتمع الناس الكثير،فيدخلون على المرأة،ولم تمتنع ممن جاءها وهنَّ البغايا ينصبْن على أبوابهنّ الرايات،وتكون علماً،فمن أرادهنّ دخل عليهنّ،فإذا حملت إحداهنّ ووضعت(.)ألحقوا ولدها بالذي يَرَوْن ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك.فلما بعث الله محمداً بالحق هدم نكاح الجاهلية كلّه إلاّ نكاح الناس اليوم”رواه البخاري،صحيح البحاري،ص٥١٢٧ وأبوداوود(الشوكاني،نيل الأوطار،ج٦،ص٣٠٠).

٩–حديث صحيح…رواه أحمد النسائي والبيهقي والطبراني….

١٠–راجع سورة يوسف،الآيات:٢٢-٢٣-٢٤-٢٥.

١١-النساء/الأحزاب/البقرة/الممتحنة/النور/القصص….راجع:المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم…وضعه محمد فؤاد عبد الباقي…دار الجيل-بيروت-لبنان.

١٢-راجع:LE POINT Références,Aimer,l’art et la manière,Juillet-Août2015.

١٣-راجع:رائد السمهوري،جريدة الوطن،٢٨آب٢٠١٧

١٤-راجع:وليد الخوري،حاجتنا اليوم إلى الفلسفة:ضمير الجماعة وما بعده،حوليات،منشورات اللجنة الوطنية اللبنانية للأونيسكو،العدد الثاني٢٠١٣//شاكر النابلسي،من معاني الحب في الثقافة العربية،موقع الحوار المتمدّن ٢٠١٣/٦/٢٨.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete