تكوين
بعد أكثر من قرنين على صدمة الحداثة لا تزال البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العالم العربي تتعثّرفي طريقها إلى قلب المجتمع وروحه، ولا تزال معالم التحديث وهياكله تبدو وكأنها أجسام غريبة زرعت في أرض غير أرضها وفي بيئة غير بيئتها، أو كأنها بدعة وافدة من خارج التاريخ العربي تحاول عبثاً الالتصاق به والاندماج فيه.
لا يغير شيئاً في هذا الواقع ما يكدّسه العرب من تقنيات حديثة وأدوات عصرية، حيث تبلغ معدلات الاستيراد أرقاماً قياسية، ويظل العالم العربي في طليعة الدول المستوردة للتكنولوجيا الاستهلاكية والعسكرية من الغرب، فإلى جانب التلفزيون والفيديو والخليوي والانترنت لا نزال نعاني من عقلية البداوة وذهنية القبيلة والعشيرة، وإلى جانب المؤسسات الاعلامية الكبرى لا تزال تقوم أعراف القرون الوسطى وقيمها وتقاليدها، ومع ثقافة ما بعد الحداثة لاتزال رائجة ثقافة القرون الهجرية الأولى وانماطها الفكرية. وإلى جوار مئات الجامعات العربية، حيث تدرس آخر نظريات الفكر السياسي الغربي وما تبشّر به من قيم الديمقراطية والعدالة والتعاقد الاجتماعي، لا تزال روح الإقصاء والتسلط والمبايعة الفوقية هي السائدة، إذ لم يجر في العالم العربي طيلة القرنين تداول حقيقي للسلطات يخرج عن النمط التاريخي المألوف في الحضارة العربية.
نشأة الحداثة عند العرب
بالفعل ووجهت الحداثة منذ ولوجها الأول إلى العالم العربي مطلع القرن التاسع عشر بأشكال شتى من الممانعة، تراوحت بين رفضها بالكامل أو قبولها مجتزأة مبتورة من سياقها التاريخي، وصولاً الى محاولات تأصيلها في التراث العربي الاسلامي باسناد القيم والمبادىء التي بشّرت بها إلى أصول ثانوية في هذا التراث تؤكد أسبقيته وريادته وتبرر تالياً تبنيها والاخذ بها، لا باعتبارها جديدة ووافدة بل بوصفها وجهاً من وجوه حضارتنا المتعددة الوجوه والجوانب والحاوية لكل القيم والمبادىء الإنسانية والاجتماعية والفكرية.
في هذا الإتجاه ذهب بعض النهضويين الأوائل، فقال رفاعة الطهطاوي أن ” الافرنج يعترفون لنا بأننا كنا أساتيذهم في سائر العلوم وبقدمنا عليهم، ومن المقرر أن الفضل للمتقّدم” ورأى خير الدين التونسي أن “مخالطة الأوروباويين للأمة الاسلامية المتقدمة عليهم في التمدن والحضارة كان ابتداء التمدن عندهم” واعتبر فرنسيس المراش أن كل ما يفخر به الغرب من علوم وآداب وطب وحساب وعمران وزراعة، إنما أخذ عن العرب سرقة واختطافاً، وذهب محمد عبده إلى أن مدنية الإسلام كانت السبب الرئيس في نهوض أوروبا من عثرتها وكبوتها، فيما رأى رشيد رضا أن “الحكم الدستوري هو أصل من أصول ديننا فنحن قد استفدناه من الكتاب المبين، ومن سيرة الخلفاء الراشدين لا من معاشرة الأوروبيين”.
إذا كان لهذا الإتجاه ما يبرره في مرحلة بدايات النهضة العربية نظراً للوعي الشقي الذي أحدثه تفاعل العرب مع المنظومة الحضارية الغربية المختلفة في الفكر والرؤى والأهداف، إلا أن استمرار المراوحة في التعامل مع الحداثة والقيم الحداثية على النمط المعهود من مرحلة البدايات أوائل القرن التاسع عشر إلى هذا القرن، واستعادة ردود الفعل الإشكالية نفسها، يكشف عن خلل عميق في بنيتنا الحضارية وعجزها عن استيعاب مقولات الحداثة والإتجاه في الوقت نفسه إلى المشاركة الفعلية في توجهاتها وابداعاتها. فقد ذهب الشيخ راشد الغنوشي في “العلمانية والممانعة الاسلامية ” إلى أن قيم الحداثة ما هي إلا “بضاعتنا ردّت إلينا”، ورأى أحمد شكري الصبيحي في “مستقبل المجتمع المدني في الوطن العربي” أن ” التجربة التاريخية في العصر النبوي تعتبر أول تجربة في التعاقد المدني عرفها التاريخ وقد سبقت نظرية “العقد الاجتماعي” لروسو، وهذه التجربة تكشف أن مفهوم الاجتماع المدني ليس البتة غريباً عن ثقافتنا العربية الاسلامية ، كما ذهب حسنين توفيق إبراهيم في “النظم السياسية العربية” إلى أن مفهوم المجتمع المدني له دلالاته في الاسلام، بل إن القيم التي يستند اليها هذا المجتمع، أي قيم الحرية والمساواة والقبول بالتعدد والاختلاف موجودة في الاسلام.
إقرأ أيضاً: الحداثة ما بعد العلمانية
وثمة من لا يزال يرى إلى الآن أن الديمقراطية الليبرالية ما هي إلا شكل من أشكال الشورى الاسلامية، فاحمد الموصلّي في “جدليات الشورى والديمقراطية” يعتبر أن حقوق الانسان في الاسلام سبقت المنظومة الغربية لحقوق الانسان، وأن الأسس النصية المستمدة من القرآن والسنة لا تتعارض مع أشكال الحكم الديمقراطي ومناهج حقوق الانسان، كما أن التفسيرات الحديثة للشورى تستوعب الديمقراطية ومبادىء القانون الطبيعي والتعددية. وهذا ما كان جمال الدين الافغاني وعبد الرحمن الكواكبي ورشيد رضا قد سبقوا الموصلّي إليه بقرن أو أكثر باعتبارهم الصيغة البرلمانية مساوية في مضمونها وجوهرها لصيغة أهل الحل والعقد التراثية.
وفق هذا المنحى الذي لا يزال يبدي قدرة استثنائية على الاستمرارية يطرح محمد عابد الجابري وجوب العمل على ” تبيئة وتأصيل قضايا الحاضر وقيم الحداثة وأسس التحديث في ثقافتنا، وذلك بايجاد أصول لها تستطيع تأسيسها في وعينا”. أما التأصيل الثقافي الذي يقترحه فيتعلق أساساً ببناء جسور تنقل “الحاضر” إلى الماضي ليتأصل فيه، وذلك يتم بإعادة بناء تاريخنا الثقافي بصورة تجعله يستجيب لاهتماماتنا المعاصرة ويكون مرجعية لنا في الإتفاق والاختلاف، في الإقتباس والإبداع. وفقاً لذلك يعتبر الجابري أن الأسس النظرية التي تقوم عليها حقوق الانسان في الثقافة العربية الاسلامية لا تختلف جوهرياً عن الأسس الفلسفية التي قامت عليها حقوق الانسان في الثقافة الغربية، وأن الاختلافات ترجع إلى “أسباب النزول ” أي المعطيات الظرفية التي توخاها الشارع من نوع الحكم الذي أصدره في هذه القضية أو تلك. ومن هذا المنظور الايديولوجي، فإن النظرة الرشدية إلى العلاقة بين الدين والفلسفة، وفق الجابري، هي “نظرة صائبة فعلاً، ملهمة حقاً”.
من المفارقة فعلاً أن يطرح صاحب مشروع “نقد العقل العربي” وأحد رموز الفكر الأيديولوجي العربي الراهن، الماضي مرجعية للحاضر، وأن يرى أن لا إمكانية للتجديد إلا من داخل التراث وبالاحتكام إليه، مستخدماً كلمة “النزول” المرتبطة بالثقافة العربية الإسلامية، المختلفة بأسسها الفلسفية اختلافاً جوهرياً عن الثقافة الغربية التي أناطت كل القيم السياسية والاجتماعية والاخلاقية بالإنسان وحده، بإعتباره المرجعية الأولى والأخيرة وليس بأية مرجعية خارجة عنه متعالية عليه.
لكأنما الزمن الأيديولوجي العربي، كما يقول الجابري نفسه، “زمن جامد ميت” زمن يدور في حلقة مفرغة مقيتة، يكرر ذاته على الدوام، مستعيداً مقولاته إياها من قرن إلى قرن، ومن حقبة إلى أخرى، يلوك قضاياها وإشكالياتها من دون أن يقوى على كسر استبدادها المرجعي وثقلها التاريخي. فهل يجوز بعد كل الثورة المعرفية التي لا تفتأ تحطم كل المسلّمات، أن يبقى التراث، على غناه وأصالته، مرجعية لحاضرنا في زمن العولمة والانترنت والثورة الجينية؟ وهل يمكن حل العلاقة بين الدين والفلسفة كما انتهت إلينا اليوم، بالعقل الرشدي نفسه؟ وهل الأسس التي قامت عليها حقوق الانسان في الفلسفتين الغربية والعربية هي حقاً واحدة؟ وهل يصلح التراث فعلاً لإبداع ما نحن في حاجة إليه من قفزات حضارية كبرى لتغطية عجزنا وتخلّفنا التاريخي عن ثورة الحداثة؟
أن الإصرار على تأصيل الحداثي في التراثي والقول بأصول مزعومة له فيه إنما يدل دلالة محزنة على منحى إيديولوجي يرهن التاريخ بتصوّر ستاتيكي يرى إليه ثباتاً وسكوناً وتكراراً أبدياً، لا تبدلاً وتحولاً وتطوراً وصيرورة، ما يحوّل الإبداع إجتراراً لا انجازاً، والتقدّم تطلّعاً إلى الماضي لاالى المستقبل.
إن مكمن الخطأ في رأينا في اعتبار الديمقراطية وحقوق الانسان وسواهما من قيم الحداثة ذات أصول في الماضي تجعله مرجعية للحاضر والمستقبل، بينما الفضاء المرجعي الذي تنتمي إليه هذه القيم يختلف جذرياً عن الفضاء التراثي العربي الاسلامي، إذ هي تكونت وتبلورت في الفكر الغربي نتيجة تطورات غير مسبوقة طاولت الانسان وموقعه في الكون ،والعقل الانساني وأولويته وحريته، والسلطة وشرعيتها، ما شكّل عالماً جديداً بكل أبعاده السياسية والاجتماعية والفكرية، نشأت معه المفاهيم المؤسسة للمجتمع الحديث، مفاهيم الفرد والمجتمع المدني والعقد الاجتماعي التي تتناقض بالكامل مع مجتمع ما قبل الحداثة والتي لا يمكن أن نقحمها جنباً إلى جنب مع مفاهيم الشورى والتسامح والتكافل، كما مفاهيم الإنسان والعدل والحق والحرية، التي لها جميعاً في التراث دلالات مختلفة بل متناقضة مع دلالاتها الحداثية.
إن استمرار سجال الحداثة والتراث إلى هذا القرن واستعادة مقولات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين التوفيقية والتأصيلية، ما هو إلا دليل على المخاض العسير للحداثة العربية التي لن تتم ولادتها من دون الخروج من أوهام التأصيل والإفلات من أسر المرجعيات واستبدادها، لمعانقة روح التجدد والابداع وخوض مغامرة المستقبل بكل ما تنطوي عليه من مفاجآت معرفية قد لا يبقى معها ثابتاً كل ما عدّ حتى الآن فوق التحوّل وفوق التاريخ.