تكوين

ما الحداثة؟ هل يمكن عد الحداثة إنتاجًا غربيًا لا علاقة لنا به؟ أم أن الحداثة قبل أن تكون أيديولوجية فهي ثقافة إنسانية تحاول تحرير الإنسان من قيود الطبيعة ودفعه إلى فهم ذاته والعالم من حوله في أفق توسيع رحبة الوجود؟ لماذا نشهد مقاومة شرسة ضد الحداثة في مجتمعاتنا؟ هل تلك المقاومة هي حقًا ضد الحداثة أم ضد صورة مُفبركة عن هذه الأخيرة؟ هل الحداثة والتحديث الشيء نفسه؟ أم أن الفرق بينهما ضروري لفهم الحداثة بوصفها فكرًا من جهة وبوصفها ممارسة وإنجازات من جهة أخرى؟ كلها تساؤلات سنحاول مقاربتها في مقالتنا هذه تحت عنوان “الحداثة بين الفكر والممارسة“.

أنواع الحداثة

الحداثة بين الإنتاج الغربي والامتداد الكوني

لا بُد بداءة من تحديد التعريفات المُعطاة للحداثة ليتم التوافق على معنى كوني لها بعيدًا عن كل ما يُمكن أن يَعْلَق بها من أيديولوجيات وسياسات. إن الحداثة بوصفها مصطلحًا بدأ مع الثقافة الغربية منذ القرن السابع عشر خاصة مع أبو الحداثة ديكارت، لَمَّا جعل الفكر أساس الوجود بمقولته الشهيرة:

أنا أفكر إذن أنا موجود

وكذا بجعله العقل أساس كل شيء، فالعقل يُمكن السيطرة على الطبيعة واستغلال خيراتها، ومن هنا بدأ التوجه الوضعي المادي للطبيعة، فتطورت بذلك العلوم ووصل الإنسان إلى كشف الحجاب عن بعض أسرار الطبيعة.

يمكن عد هذا الشق هو الجانب العقلاني الأداتي للحداثة، لكن ثمة شق آخر يتأسس على الحرية الفردية في بناء العلاقات الاجتماعية والرفع من قيمة الفرد، وهذا ما أسهم في تطوير ما سُمي فيما بعد بالنزعة الإنسانية التي تجعل الإنسان وكرامة الإنسان فوق كل شيء.

على أساس هذا وذاك يُمكن القول إن الحداثة الغربية ترتكز كما يقول المؤرخ المغربي عبد الله العروي على ثلاث مقومات: العقل، الفرد، الحرية. وهذه المقومات في الحقيقة ليست حكرًا على الثقافة الغربية، بل هي مقومات كونية تشترك فيها جميع الثقافات الإنسانية.

من هنا نقول إن الطرح الذي يرى أن الحداثة غربية وليس لنا بها حاجة طرح ما يزال يحتاج إلى إعادة فهم روح الحداثة وليس الحداثة في إمكانها الغربي، في هذا الإطار، عد المفكر المغربي طه عبد الرحمن الإبداع هو روح الحداثة، وأكد أن لكل أمة حداثتها وأن ثمة إمكانات أخرى للحداثة، وبهذا المعنى أعطى للحداثة ثلاث سمات: مبدأ الرشد، مبدأ النقد، مبدأ الشمول.

إن الحداثة ليست ماركة مسجلة أو منتوجًا استهلاكيًا، إنها تلك الروح النقدية والفكر الثاقب الذي يحاول فهم الإنسان وتوسيع إمكاناته والبحث عن آفاق تحريره وتنويره.

الحداثة العربية

سوء فهم لدى المناهضين للحداثة

إن سوء الفهم الذي طال تيار دعاة التقليدانية ضد كل حداثة، هو في العمق خلط تاريخي بين الحداثة بوصفها تحريرًا للإنسان والحداثة بوصفها إيديولوجيا استعمارية، هذا ما أكده المفكر محمد أركون عندما بَيَّنَ أن الغرب قد أعطى إلى العالم العربي الإسلامي صورة سلبية عن الحداثة لمّا ربطها بالإمبريالية والاستعمار، فكان رد الفعل هو المقاومة باسم الماضي والتقليد. من هنا يجب بداءة فصل المقال فيما بين الحداثة والاستعمار من الانفصال.

علاوة على ذلك، فالحداثة ليست مشروعًا كاملًا ومكتملًا، بل هو كما أكد ذلك المفكر التواصلي هابرماس مشروعًا لم يكتمل، أي ما يزال يُجدد نفسه ويراجع ملفاته محاولًا توسيع رحبة الوجود الإنساني في جميع جوانبه المادية والرُوحية سواء.

في هذا الإطار لا بُد من أخذ الحيطة والحذر في مسألة تلخيص الحداثة في الجانب المادي الذي تقدمه لنا وسائل الإعلام (اللباس، الأكل، التكنولوجيا، الاستهلاك…)، ونسيان الجانب السلوكي والفكري (محاربة الخرافة، تطوير السلوكيات والمعاملات، فتح باب التفكير والتعليم والتثقيف…)، وغيرها من الجوانب التنويرية التي تحرر الإنسان.

بين الحداثة والتحديث

من الضروري الوقوف على مسألة التمييز بين الحداثة والتحديث، فهذا الأخير ليس سوى إفرازًا من إفرازات الحداثة، فإذا كان التحديث مرتبطًا أساسًا بالجانب المادي، فالحداثة هي الأساس الفكري والعلمي لهذا الأخير.

إن الحداثة في هذا الصدد، هي لحظة تاريخية كانت وراء انبثاق الوعي بالذات وبالطبيعة وبإمكان التفسير العلمي لهذه الأخيرة، في حين كان التحديث نتيجة بعدية لعملية تطبيق الحداثة في أرض الواقع في جانبها المادي.

الحداثة إذن فكر وتغيير ثقافي، أما التحديث مرتبط بالبنيات التحتية وبالتغيير المادي، ولا يجب بأي حال من الأحوال إسقاط إفرازات إحداهما على الآخر، إلا إذا أخذنا في الحسبان البنيات الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية التي استغلت جانب الحداثة مثلًا لتبرير إمكان من إمكانات جانب التحديث والعكس بالعكس.

الحداثة والتاريخ

قولنا إن الحداثة لحظة تاريخية، لا يعني كونها لحظة تاريخية خاصة بفترة معينة وبشعب محدد، وعدها معجزة غربية لا علاقة لباقي الشعوب بها، بل على العكس من ذلك هي إمكان إنساني كان للغرب فضل اكتشافه لا أكثر ولا أقل، ولباقي الشعوب الأخذ به ما دام نتاجًا لتدافع إنساني بشري محض.

الحداثة من هذا المنظور هي فوق التاريخ، بمعنى أننا لسنا على مسافة بعيدة أو قريبة من الغرب، وذاك يختلف عن التصور الكرونولوجي الذي يرى الغرب في مرحلة متقدمة بعدة قرون وأن على الشعوب الأخرى أن تقطع هذه المسافة لتصل إلى ما وصل إلى الغرب. إن هذه النظرة التاريخانية ترى أن اللاحق يَفْضُل السابق، وأن الماضي قد انتهى ولا جدوى من ورائه لأن الإنسان بطبعه يتطور نحو الأمام.

إن الحداثة في تصورها المعاصر، قد تجاوزت هذه النظرة التراتبية الوضعانية، ومن ثمة يجب تكوين نظرة جديدة عن الحداثة، ضد نظرة التقابل حداثة/تقليد، قصد عد الحداثة نمطًا في التفكير والسلوك يسمح لصاحبه الانخراط في روح عصره، في محاولة لتجاوز كل ما يحد من حرية الإنسان وإبداعه، وبذلك نكون في المسار الحداثي نفسه مع الغرب بانخراطنا في الإشكالات الراهنة التي تجد لها جذورًا في الماضي، بل يُمكن أن نجد في الماضي جوانب أكثر حداثة من حاضرها، ومن ثم يكون مشروعنا هو تحقيق كرامة الإنسان، وكل ما  يمكن أن ينخرط في هذا النطاق سواء أكان من الماضي أم من الحاضر، فهو عين الحداثة ورُوحها.

أساس الحداثة

يُمكن تلخيص الحداثة في عبارة الفيلسوف الألماني كانط بخصوص الأنوار، يقول كانط:

“الأنوار هي خروج الإنسان من حالة الوصاية والحجر التي يُعد المسؤول الأول عنها، التي تتمثل في عجزه عن استخدام فكره دون توجيه من غيره.”

هذه العبارة تؤكد لنا أن شعار الحداثة والأنوار هو الإقدام على استعمال العقل واستخدام الفكر ضد أي وصاية تحد من إبداعه.

من هذا المنظور، تُصبح الحرية والمسؤولية أساسان للحداثة، وليس الفوضى كما قد يتوهم البعض، أو كما يحكم على سلوكيات أفراد معينين باسم الحداثة.

إلى أي حد نحن حداثيون

يمكن أن نعد أنفسنا حداثيين بمعنى أننا أقدر على استعمال فكرنا الخاص، من طريق الخروج من أشكال الحجر والدفاع عن حرية الإنسان وكرامته بوصفهما مبدأ أسمى؛ نحن حداثيون عندما نستطيع أن نتبنى الاختلاف ليكون جزءًا من هُويتنا ونرى الحقائق نسبية فقط، لأن هناك من يؤمن بعكس ما نعتقده.

لنعطي في هذا الصدد ثلاث مسائل تُبين لنا مجالات تبني الحداثة:

  1. أولًا، مسألة التعامل مع من يختلف معنا داخل المجتمع (تفكير، سلوك، توجه، دين)
  2. ثانيًا، مسألة امتلاك ملكة النقد ضد كل الخطابات سياسية كانت أو أيدولوجية.
  3. ثالثًا، مسألة اتخاذ الواجب والمسؤولية بوصفها مبدأً في الحياة وليس بوصفها إكراهًا خارجيًا، مع العمل لتوسيع مجال الحرية الإنسانية ضد السياسات التي أحيانا تقدم الأمن على حساب حرية الأفراد.

الدين والحداثة، أية علاقة؟

ثمة قول سائد وشائع يقول: إن الحداثة ضد الدين، لأن الحداثة أساسها العقل أما الدين أساسه الإيمان، نرى من جهتنا أن هذا القول يبقى نسبيًا لأنه ينفي كون العقل جزءًا من الدين وكون الإيمان جزءًا من الحداثة.

في هذا الإطار، يجب فهم الدين في لحظته التاريخية لتبيان إلى أي حد كان العقل والمنطق والتدبير البشري حاضرًا بقوة.

مثال الإسلام في هذا الصدد قد يوضح لنا هذا المعطى، إذ كان يُمثل عند انبثاقه التاريخي لأول مرة لحظة حداثية بامتياز، لأنه غيَّر نمط تفكير قبائلي وعشائري، وخير مثال نورده هو وضع المرأة، فقد نقلها الإسلام من شيءٍ إلى كائن مُستقل له حقوقه وواجباته، لقد كان حقًا محطة تغيير وتحريك لعجلة التاريخ، والحداثة كما رأينا تعني بثَّ الحيوية والإبداع في التاريخ.

إلا أننا اليوم نلاحظ كيف أن الإسلام اختُزل في فتاوي وآراء فقهية قد كانت حداثية مقارنة بعصرها، في حين الآن تحتاج إلى مراجعة عن طريق التصالح مع الحاضر الذي كان نقطة التغيير في تاريخ الإسلام. أضف أن الدين جاء عمومًا لإصلاح النفوس وتربية الأفراد روحانيًا، إذ إنه يخص الفرد في علاقته بالمطلق وبالله، وهذه التربية الرُوحية هي ما سوف يُساعد في تنظيم العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع أي في البعد السياسي، أما أن يكون الدين قهرًا للمخالفين، وإبعادًا لغير المعتقدين به، وإرغامًا لمعتنقيه باتباع توجه سياسي دون آخر، فهذا في الحقيقة يُفقد الدين قوته الرُوحية المؤثرة وحداثته المُحركة، وذلك باستعماله بوصفه ورقةً أيديولوجية ضد حرية الأفراد.

إن الفكرة المحورية في هذا الأفق، هي أن الحداثة ليس ضد التقليد، ولكن توسيعًا لرحبة الوجود الإنساني، من طريق تبني مبدأ الحرية والكرامة الإنسانية بوصفها معيارًا تُقاس به كل أشكال فهم الطبيعة الإنسانية وتسيير العلاقات الاجتماعية بين الأفراد.

ختامًا، أتمنى أن أكون قد لامست في هذه المقالة الجوانب المهمة في الموضوع، وقاربت قدر الإمكان المبادئ التي على أساسها تنبني الحداثة بوصفها فكرًا وإنتاجًا ثقافيًا والتحديث بوصفه إنتاجًا ماديًا، بالإضافة إلى مسألة ضرورة عد الحداثة بوصفها نمطًا في التفكير قوامه إعمال العقل والخروج من أشكال الوصاية والحجر، وتوسيعًا لنطاق الحرية والكرامة الإنسانية، وليس فترة زمنية في عصر مُحدد تحكم على ما سبقها بالظلام والتخلف. فلنكن إذن حداثيين بمعنى أكثر انفتاحًا على الآخر وفكره، وأعمق فهمًا للذات وتاريخها، وأكثر دفاعًا عن الإنسان وحرية الإنسان وكرامة هذا الإنسان.

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete