الحرام نصا: الجزء الخامس…الالتزام بالمواثيق وإعمال الذهن بمحتوياته

 تكوين
  1. ﴿وَبِعَهۡدِ ٱللَّهِ أَوۡفُوا۟ۚ ﴾

يحمل هذا التعبير القرآنيّ عن الوصية أسلوبًا بلاغيًا مميزًا بتقديم “بعهد الله” على الأمر “أوفوا”. فالأمر الإلهي باستخدامه فعل الوفاء بصيغة الأمر يضفي على العبارة قوة وإلزامًا، ما يعزز أهمية الوفاء؛ ولكن تقديم العهد على الوفاء يحيل على التفكير ـــــ مقدّمًا ـــــ بمكانة العهد نفسه من كونه مضافا إلى الله للتوسّع الدلالي، ومن كون الوفاء أمراً موصولا به بواسطة “الباء” التي للملابسة أو للإلصاق، ومن كونه حاجةً مجتمعية يتوخاها النص لبيان مواطن القوة في المجتمع والحضّ عليها.

إضافة العهد إلى الله، وتقديمها على الأمر “أوفوا”، يستدعي الأذهان إلى الاهتمام بالعهد أولا، فهو يتطلّب النظر في العديد من الأبعاد الدينية والفلسفيّة، وكذلك في تأثيراته الحضارية والاجتماعية، إذ يحتمل هذا التقديم أن يكون العهدُ ما عهد الله به إلى الناس، كما يحتمل أن يكون ما عاهد الناس به اللهَ، ويحتمل أن يكون العهد بين الناس جماعةً أو آحاداً، ويحتمل الجميعَ إذ عدل عن تخصيص واحدة من هذه الاحتمالات ليكون ذكر العهد شاملًا كلّ الاحتمالات.

تعريف العهد

فعلى المستوى الروحي للعهد، يمكن أن نفهمه ميثاقًا دينيّا يتضمن الالتزام بما يتضمّنه مفهوم العبودية لله، بدءاً من الاعتراف بالربوبيّة وما يقتضيه هذا الاعتراف من التزامات في الحياة .

وكذلك العهد يتطلب من الإنسان أن يلتزم بمجموعة من القيم الأخلاقية التي تحض على الحق والعدل والمساواة والتعاون. هذا الميثاق لا يتعلق فقط بالعبادات الظاهرة (مثل الصلاة والصيام)، بل يشمل أيضًا التصرفات اليومية مثل الأمانة، والصدق، والتعاون مع الآخرين.

كما يشمل العهد التزام الفرد بالمسؤولية تجاه الله، وهذا يتطلب انضباطًا ذاتيًا في التزام الأوامر والنواهي، ما يعزز في الإنسان الإحساس بالمسؤولية الفردية والمجتمعية.

أما على المستوى الحضاري، يمكن فهم العهد على أنه ميثاق يعزز بناء مجتمع أخلاقي وقوي على مستوى الأفراد والجماعات، من خلال إشاعة قيم العدالة والمساواة؛ فالعهد يتطلب من الإنسان أن يتعامل مع الآخرين بصدق وعدل، ما يعزز القيم الاجتماعية مثل الإنصاف والمساواة، والمجتمعات التي تلتزم بهذه القيم ستشهد تماسكًا اجتماعيًا أكبر وتعاونًا بين أفرادها.

عندما يلتزم الفرد بالعهد، فإنه ينمو داخليًا من خلال تهذيب النفس والتقوى. ما يعزز الشعور بالسلام الداخلي ويحمي صحة الإنسان النفسية. كما أن الالتزام بالعهد يرسخ في النفوس مفهومي الحق والواجب. وفي هذا الإطار، يُفترض أن يكون الإنسان ملتزمًا بمساعدة الفقراء والمحتاجين، والابتعاد عن الظلم، مع أنه في زمننا هذا ينبغي أن تستمدّ القوانين الوضعية موادها المتعلقة بالعدالة من روح الدين، فمساعدة الفقراء مهمّةٌ بين الأفراد في المجتمع ولكنها ينبغي أن تكون من شؤون مؤسسات الدولة ذات الصلة وخاضعة لقوانين مرنةٍ قابلة للتطور بعيدا من الزبائنية الخطيرة جدا. هذا يساهم في تحقيق العدالة الاجتماعية وتقليل الفجوات بين الطبقات المختلفة.

أما على مستوى المجتمع، يُحسب العهد مبدأ أساسيًا يعزز التعاون والتضامن الاجتماعي، ويؤدي إلى بناء مجتمع يتمتع بالسلام والأمان. فهو يرسّخ الروابط الاجتماعية فلا يقتصر على العلاقة بين الفرد وخالقه فقط، بل يمتد ليشمل علاقات الناس ببعضهم البعض؛ فتنشأ علاقات أكثر تماسكًا وتعاونًا بين أفراد المجتمع .والمجتمع الذي يلتزم أفراده بالعهد مع الله أو أمام الله يبني بيئة تشجع على العمل الصالح لتصبحَ المسؤولية الاجتماعية جزءًا من الهوية الشخصية للمؤمن.

إنه صاحب ميثاق يتضمن التزام الإنسان بالعهد، ما يؤثر بشكل عميق على الجوانب الروحية والأخلاقية للفرد. وعلى المستوى الحضاري والاجتماعي، يساهم هذا العهد في بناء مجتمع تسوده العدالة والمساواة والتعاون، ويعزز تماسك العلاقات الإنسانية. العهد مع الله أو أمام الله ليس قيمةً محصورة في إطار ديني فقط، بل تتسع لتشمل أبعادًا اجتماعية وأخلاقية تنعكس إيجابيًا على الفرد والمجتمع والأداء الحضاري.

  1. ذلكم وصاكم به لعلكم تذكّرون

﴿وَلَا تَقۡرَبُوا۟ مَالَ ٱلۡیَتِیمِ إِلَّا بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ یَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُوا۟ ٱلۡكَیۡلَ وَٱلۡمِیزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۖ وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُوا۟ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ وَبِعَهۡدِ ٱللَّهِ أَوۡفُوا۟ۚ ذَ ٰ⁠لِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ﴾

النهي عن قرب مال اليتيم، وإيفاء الكيل والميزان بالقسط، والأمر بالعدل قولا مع النفس والآخرين من دون انحياز، والوفاء بالعدل ، هي كلها وصايا في سياق التحريم  معطوفة على الوصايا التي وردت في الآية السابقة (151)، وقد رصدنا مقاصد لهذا التحريم في كونها وصايا يؤدّي الالتزام بها إلى قوةٍ اجتماعية تمكّن من الأداء الحضاريّ الكفوء لصالح الإنسان في أيّ مجتمع. والذي يميّز هذه الوصايا في الآية (152) عن سابقاتها أنها اقتضت رجاءَ التذكّر، بينما الوصايا السابقة قد اقتضت رجاء التعقّل. وهنا السؤال المشكلة، بماذا امتازت الوصايا التي اقتضت التعقّل من الوصايا التي اقتضت التذكّر؟

إقرأ أيضًا: الحرام نصّـًا: الجزء الرابع حاجات القوة الاجتماعية والحضارية

الوصايا الأولى تنطوي على سلوكٍ حركي مرجعيتُه ضبطُ الحركة الفرديَّة أو عقلُها، ويحتاج فهمُها إلى أداء في المجتمع يتحوّل بالمراس إلى سجيّةٍ تسمُ ذاك الأداء بسمات تنعكس أمنا ذاتيا فرديا وسلاما اجتماعيا. وهذا هو العقل الذي يحفظ المجتمعَ من الفوضى الهدّامة الناجمة عن الولاء للمال أو المنصب أو الحسب أو النسب، وعن الإساءة إلى الوالدين، وقتل الأولاد من إملاق، وعن المبالغةِ في تقدير الأمور بما يفحشها، وعن قتل النفس التي حرّمَ الله. فلا ضمان ولا سلام في المجتمع؛ وبالتالي مجتمعٌ يمضي بلا عقال يضبط أداءه؛ كيف له أن يكون قويًّا؟

أمّا الوصايا التالية فتنطوي على ما ينبغي أن يقرّ في النفس البشريّة من تقديرٍ للتي هي أحسن لجهة القرب من مال اليتيم، ومن معرفة القدرات النفسية على القبول والرفض  أو التسامح في إيفاء الكيل والميزان بالقسط، وأن يقرّ معيار العدل في النفس قبل القول وأثناءه من دون انحياز، وأن تقَرَّ في النفس معرفة العهد وقيمته للوفاء به. إذا توافرت جميعها في المجتمع فإنّه مجتمع قوي يحاسب أفرادُه أنفسهم قبل أن يحاسبوا، ويتداركون سيروراتهم قبل تعثّرها، ويتراحمون أحرارا.

إذن، هذه الوصايا ينبغي أن تقرّ في الأذهان ، وينبغي على المجتمعات أن تتماسك في أفيائها، وإذا ما أعملَ الفردُ ـــــ بوصفه كائنا اجتماعيًّا ـــــ ذهنَه بمحتوياته فهذا هو التذكّر ، وهو بلا شك ليس مجرّد استرجاعٍ للمحتويات الذهنية ؛ إنما هو معالجةٌ يحتاج فاعلها إلى تحصيل علميّ ومنهجيّ رفيع قابل للتطور ومستمر.

العقل هو ضبط المجتمع وفق مرجعية سلوك حركي قابل للتعديل مع تطور العلاقات بين الإنسان والكون، أما التذكّر فهو إعمال للذهن بمحتوياته إعمالا مؤسسا على العلم والمعرفة والمنهج القويم الملائم القابل للتغير.

في الختام، تظهر الآيات الكريمة في سورة الأنعام دعوة صادقة لتأسيس مجتمع قويّ قائم على القيم الأخلاقية والعدالة الاجتماعية. إن حفظ مال اليتيم، والإيفاء بالكيل والميزان، والعدل في القول، والوفاء بالعهد، كلّها أسس ضرورية لبناء مجتمع متماسك يسوده التفاهم والتراحم والمساواة. لقد حرصت الآيات على التأكيد على ضرورة الالتزام بهذه المبادئ التي تضمن استقرار المجتمع وازدهاره، مع مراعاة الظرف الشخصي والقدرات الفردية لكلّ فرد. كما أن التذكّر والوعي بأهمية هذه القيم يمثلان العامل الأهم لاستدامة النهج السليم. وعليه، فإن هذه الوصايا التي حملتها الآيات ليست مجرد نصوص شرعية، بل هي خارطة طريق لتحقيق مجتمع راقٍ تسود فيه العدالة والمساواة، ويعزز من تماسكه وتقدمه على مختلف الأصعدة.

 

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete