تكوين
﴿وَلَا تَقۡرَبُوا۟ مَالَ ٱلۡیَتِیمِ إِلَّا بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ یَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُوا۟ ٱلۡكَیۡلَ وَٱلۡمِیزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۖ وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُوا۟ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ وَبِعَهۡدِ ٱللَّهِ أَوۡفُوا۟ۚ ذَ ٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ﴾ الأنعام ١٥٢
- قوة المجتمع واليُتم
ما زالت الآيات الكريمات تنص على الوصايا التي من شأنها أن تجعل المجتمع قوياً في تراحم أفراده وخلاياه الصغرى، وتوخّي القوّة الاجتماعية يقتضي معالجة الخلل بتدارك حقوق الفئات الضعيفة أو المستضعفة، ومنها اليتيم، وقد كان اليُتْم كثيرًا في المجتمعات العربيّة إذّاك؛ فالغزوات، وشن الغارات، وحروب الثأر، وطبيعة النظام الحياتي الجائر في بيئة شحيحة لا تعطي إلا تحت ظلال السيوف، كلّها تخلّف وراءها يتامى مهيضي الجناح، يأكل القويّ من ذوي القربى أموالهم إلى أمواله، وإذا قرّر أن يعطيه ماله فيستبدل الخبيث بالطيب، فالإبل الضعيفة لليتيم والإبل السمينة له
“فإنهم كانوا يأخذون الطيب من أموال اليتامى ويعوّضونه بالرديء من أموالهم، ولا يرون بذلك بأسًا”[1].
وبعض القبائل لا يورّث اليتيم، وما زال هذا السلوك حتى يومنا هذا سائدا في كثير من الأرياف الإسلامية، بغير وجه حق. وإذ تنهَى الآية عن قرب مال اليتيم ﴿وَلَا تَقۡرَبُوا۟ مَالَ ٱلۡیَتِیمِ إِلَّا بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ یَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ﴾ فهذا يعني أن ذلك الفعل كان مفعولا، ما يجعل القوة الاجتماعيّة غاشمة لا ترصد سبيلا إلى القوّة الحضارية التي يتعاضد فيها أبناء المجتمع على أساس القسط والعدل.
النهي هنا طلبٌ في سياق الإغراء “عليكم“، ليكسب هذا الطلب سمة الإلزام، فحفظ مال اليتيم ليس خيارا من اثنين، بل هو محض إعدام للقرب بقوة أسلوبَي الإغراء والنهي. ما يعني أن قوّة المجتمع لا تكون إلا بانتهاج ما يؤمّن حماية الضعيف والقوي على حدّ سواء. فالمجتمع الذي تتساهل مكوناته في هضم حقوق الضعفاء؛ سينفجر من داخله، بأساليب متعددة تختلف من زمن إلى زمن، ومن مكانٍ إلى مكان.
إقرأ أيضًا: التحريم نصّا: ثلاث وصايا بمثابة عقلٍ للمجتمع
إذا كان حفظ مال اليتيم أولِج للأوصياء والأولياء قديما، بات لزاما في القرن الحادي والعشرين أن تكون هناك مؤسسة مولجة بهذا الشأن حتى لا يظل هذا الحق خاضعًا للأمزجة المتقلبة والمختلفة. أما التصرّفُ بهذا المال فيمكن أن يكون متاحا للولي أو الوصي عبر المؤسسة بشروط تراها المؤسسة تنسجم مع قوله تعالى ﴿إلا بالتي هي أحسن﴾.
ما عليكم الالتزام به هو “أن لا تقربوا مال اليتيم”، ويستثنى من هذا الالتزام بالتزام آخر؛ ﴿إلا بالتي هي أحسن﴾، فالاسم الموصول “التي” وصف لما له علاقة بالقرب لتخصيصه بالأحسن، “هي الأحسن”، والضمير “هي” كناية عن نوع من القرب، ما يعني أن القربة الأحسن مستثناة من النهي، وهنا نسأل، من الذي يحدد القربة الأحسن؟ إنه العرف الاجتماعي الذي يوافق ضمنا على سلوكٍ يعود بحماية مال اليتيم أو تثميره، أو الضمير الحي عند الوصي أو الولي، وكلا الضامنَين لا يسلمان أو أحدُهما من الريب. لذا؛ تبدو الضرورةُ ماسّةً لوجود مؤسسة ليست لرعاية اليتيم، بل لحفظ ماله، وينبغي أن تكون مؤسسة رسمية من مؤسسات وزارة المال في الدولة.
أما ﴿حتى يبلغ أشدّه﴾، فالذي يحدد منتهى غاية حفظ المال هو النظام الذي يحدده المشرّع استناداً للواقع. فبلوغ الأشُدّ قد يكون باعتبار العمر بغض النظر عن البنية الذهنية، وقد يكون بالاثنين معا، وقد يكون بالاستناد إلى معيار آخر يجمع الاثنين إلى ما يراه المشرّعُ في اليتيم من أهلية أو حاجة إلى ما يمتّعه بالاستفادة من حقّه تحت نظر القانون أو من ينتدبه القانون.
إذن لتحقيق مقاصد الآية في تمكين المجتمع من صناعة قوته، وصيانتها، ونموّها وتطوّرها، لا بد من الانطلاق من واقع متغيّر يحفظ روح الالتزام ويكون مرنا في تطبيقه.
- كفاءة النفس وقوة المجتمع
﴿وَأَوۡفُوا۟ ٱلۡكَیۡلَ وَٱلۡمِیزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۖ﴾
الإيفاء هو الإتمام، بمعنى أن يكون كيلكم تاما وميزانكم كذلك، وقوله بالقسط التي تعني بحسب المفسرين العدل، يجعلنا نتساءل، لماذا قال القسط ولم يقل العدل، طالما أنهما بمعنى!
القسط: هو العدل البيِّن الظاهر، ومنه سمي المكيال قسطًا، والميزان قسطًا؛ لأنه يصور لك العدل في الوزن حتى تراه ظاهرًا، وقد يكون من العدل ما يخفى، ولهذا قلنا: إن القسط هو النصيب الذي بينت وجوهه، وتقسط القوم الشيء تقاسموا بالقسط”[2].ما يُفهم من هذا المعنى، هو أن يأخذ كل واحدٍ نصيبه.
أما العدل فهو بالأحكام، أو هو ما يجب أن يستقرّ في رحم النية والقصد، مرجعيّةً للسلوك الذهني أو الحركيّ؛ فأن توفوا الكيل والميزان، فذاك يحتاج إلى آلةٍ مستقيمة دقيقة، لذلك كان العدول عن لفظة “العدل” إلى لفظة “القسط” فهي تلبي الحاجة إلى التعبير عن إحقاق الحق في المعاملات المادية، وقوله عزّ وجل ﴿لا نكلف نفسا إلا وسعها﴾، فذاك هو العدل؛ إذ ليس من العدل أن يطلب أمرٌ ما من كل الخلق على السواء، مع اختلاف قدراتهم وطاقاتهم، فالوسع مناط التكليف، وهذا ما يقتضي إيجاده وترسيخه في النفس الإنسانية. وأنها وردت بعد الكلام على مال اليتيم ـــــــ والمال منه ما يوزن ومنه ما يُكال ـــــــ فإنّ الوسع هنا يتأتى من ترويض النفس على أداء الحقوق إلى أصحابها حكما أو عطاء.
القيمة الحضارية للمجتمع الذي يوفي الكيل والميزان بالقسط تتجلى في جوانب أساسية، منها:
- العدل:
إن الوفاء بالكيل والميزان يرمز إلى التزام المجتمع بالعدل والإنصاف في التعاملات، وهو أساس استقرار المجتمعات ورقيها وقوّتها الحضاريّة.
- الثقة بين الأفراد:
عندما يتحلى المجتمع بهذه القيمة، يسود جو من الثقة بين أفراده، ما يعزز العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وهذا مرتكز القوّة في المجتمعات.
- الأمانة والنزاهة:
الوفاء بالكيل والميزان يعبر عن أخلاق رفيعة تتجسد في الأمانة والنزاهة، وهما ركنان أساسيان في المجتمعات القوية، لبناء حضارة إنسانية راقية.
- الازدهار الاقتصادي:
عندما يلتزم المجتمع بالمعايير العادلة في التجارة والتعاملات، تتحقق بيئة اقتصادية صحية خالية من الغش والاستغلال، ما يعزز النمو الاقتصادي الذي يمكن المجتمعات من إحراز حضورها.
- الانسجام الاجتماعي:
تسود روح التفاهم والتعاون في المجتمع الذي يحترم حقوق الآخرين ولا يعتدي عليها، ما يؤدي إلى وحدة مجتمعية قوية.
باختصار، الإيفاء بالكيل والميزان هو علامة حضارية تدل على مجتمع يحترم القيم الأخلاقية ويضع أساسًا للتعايش السلمي والتنمية المستدامة، الأساس الحقيقي للقوة المجتمعية المتوخاة في هذه الآية الكريمة .
- العدل بالقول أو استقامة التواصل.
﴿وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُوا۟ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ﴾
الصحيح أنَّ كل لفظ له معنى هو قول، ولكن السياق هنا يجعل الفعل “قلتم” أداة تواصل بغض النظر عن الفحوى المراد توصيله للآخرين، وذاك أن الآيةَ تكشف عن احتمال أن يكون المقول له ذا قربى، ما يعني أنه من الممكن أن يكون من غير ذوي القربى أيضًا.
وتأتي لفظة الطلب بصيغة الأمر “فاعدلوا” لتشكل الضرورة التي من أجلها كان التركيب، فالعدل في القول هو الاستقامة في النصيحة أو الشهادة أو الموقف مع القريب وغير القريب. فنقع بهذا الفهم على أرقى وصيّةٍ من الوصايا التي شكلت مندرجات التحريم في الآيتين (151 و152)، لأنها تفضي إلى الاحترام والتقدير للإنسان بوصفه إنسانا، إذْ تشكل الكلمة المستقيمة بفعل قائلها عدلًا مع النفس والآخر ليكون مجتمعُ المتواصلين قويًا بتأثيرٍ من المعايير التي يوفرها القول الحسن المتنخّلُ قبل النطق به.
لو كنت ربّ عملٍ في حقلٍ أو مصنعٍ وأمامك عاملان يجدّان في عمليهما، أحدُهما قويّ البنية والآخرُ ضعيفُها، لا يجوزُ أن تتوجّهَ لهما بقول واحدٍ للاثنين من دون أي اعتبار للتمايز في القوة؛ إذْ إنَّ العدلَ يقتضي أن تقول لهذا القويّ اجتهد وللآخر تريّثْ. وهذا ما يجب توافرُه عند الجميع أن يكون صواب القول متكئاً على صواب التقدير للمقول له، ولو كان المقول له ذا قربى. في الآية “وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ“ (الأنعام: 152)، تأتي “لو“ حرف شرط غير جازم، وهو من الحروف التي تُستخدم في سياق الترجيح أو التوكيد، وتضيف معنى بلاغياً مهماً في الآية.
الآية تستخدم “لو“ في سياق الشرط، لكن فيها إيحاء غير جازم، أي أنها لا تشير إلى أن الجملة التي بعدها هي واقعة حتماً، بل هي محتملةُ الوقوع. ولو في اللغة العربية يُستخدم للتحقق من شيء غير محقق أو افتراضي. في الآية، تشير إلى أن العدل يجب أن يُلتزم به حتى لو كان المتواصلُ معه بالقول من الأقارب. واستخدام لو يؤكد ذلك فهي لتوسيع نطاق العدل ليشمل جميع الحالات، ويؤكد أنه لا يوجد استثناء حتى لو كان الشخص المعني أقرب الأقربين. فالكلام يوجه إلى فرضية أن المسألة قد تكون مع القريب، لكن العدل يبقى واجباً. فاللفظ “لو” يضيف نوعا من القوة والاحتياط في الحكم لكي يبقى الالتزام بالعدل واجبا. وبما أن “لو” تفترض وقوع الشرط في أي حالة، فهذا يعني أن العدل ينبغي أن يكون مستقلا عن العواطف والعلاقات أو المصالح الشخصية.
تأتي النزاهة من القيم الحضاريّة المستفادة من هذه الوصية بالذات، فهذا توجيه إلهي يعزز ثقافة النزاهة في المجتمعات. وواضح ما لهذه القيمة من أثرٍ في تحقيق السلام الاجتماعي ليكون المجتمع متماسكا وقويًا.
أما التطبيق الحضاري لهذه الوصية فهو المدخل الأوليّ للبناء فهي في المحاكم والقضاء تشكّل حضًّا للقضاة على الالتزام بالعدل كائنا من كانت أطراف النزاع أو المتنازع عليه.
وفي الإعلام والخطاب ووسائط التواصل تشكّل تأسيسا لمبدأ الحياد والموضوعية في نقل الأخبار أو التعبير عن الآراء.
وفي العلاقات الاجتماعية تشجع على الابتعاد عن المحاباة، ما يقوي الروابط القائمة على الحق والإنصاف.
بهذا، تعَدُّ هذه الوصية قاعدة أساسية لبناء مجتمع قويّ قائم على القيم الإنسانية العلا والعدالة المطلقة.
المراجع:
[1] خان، صدّيق حسن، فتح البيان في مقاصد القرآن، مراجعة عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، المكتبة العصرية ، صيدا ، لبنان، 1992، 3/ 12.
[2] العسكري أبو هلال، الفروق اللغوية، ص.428