الحريم في بنية العقل العربي وتحولات السلطة

تكوين

مقدمة:

يُعَدُّ مفهوم “الحريم” من المفاهيم المثيرة للجدل في الخطابات الثقافية والاجتماعية، سواء في الشرق أو الغرب. يتجاوز هذا المصطلح كونه وصفًا لمكانٍ ماديٍّ أو فضاءً معيشًا ليصبح رمزًا لحدود السلطة والسيطرة، ودلالة على الديناميات الاجتماعية المرتبطة بالهيمنة الأبوية. في السياقات الشرقية، غالبًا ما يُفهم الحريم بوصفه نظامًا تاريخيًا واجتماعيًا عُزلت فيه النساء داخل نطاقٍ معين، بيد أن هذا العزل لم يكن مجرد ممارسة ثقافية، بل جزءًا من بنية أعمق للسيطرة الذكورية على الحياة الاجتماعية والسياسية. في هذا المجال استُخدِمت النصوص الدينية والثقافية حتى أبرر تقييد أدوار النساء وتحجيم حركتهن ضمن نطاقات محددة.

الحريم في الفكر الغربي

في المقابل يكون مفهوم الحريم في الفكر الغربي بعدًا مختلفًا، فغالبًا ما يُستغل هذا المصطلح بوصفه صورةً نمطية عن المرأة الشرقية، تُستخدم في الخطاب الاستشراقي من أجل ترسيخ فكرة الاستعباد والانعزال. هنا يصبح الحريم رمزًا للشرق الذي يُختَزل إلى مجرد فضاءٍ غامض ومغلق، خاضع للسيطرة الذكورية. هذه الصور المستوحاة من الأدبيات الغربية تعكس في بعض الأوقات توجُّهات تحقيريه تُبَسِّط واقع المرأة المسلمة وتُثَبِّت في الأذهان تصوَّرات سلبية عنها، ما أسهم في تعزيز الخطابات الاستعمارية.

من طريق هذا السياق تتعدد القراءات لمفهوم الحريم، فيمكن التعامل معه بوصفه إطارًا مركبًا يتطلب تفكيكًا وتحليلًا متأنيًا لتحدياته المتنوعة، يتناول الخطاب النسوي العربي والإسلامي مفهوم الحريم بنقدٍ معمق، مشيرًا إلى أنه ليس فقط انعكاسًا للقيود الاجتماعية والدينية، بل جزءًا من نظام أكبر تديره هياكل السلطة التي تشمل السياسي والاجتماعي، كما أثار عديد من المفكرين والمفكرات العربيات التساؤلات عن العلاقة بين الحريم وتاريخ الاستعمار، والتي يتقاطع فيها القمع الجنسي للنساء مع أشكال الهيمنة الاستعمارية والهيمنة الذكورية بطريقة متماثلةٍ.

بناءً على ما سبق تهدف هذه الدراسة إلى استكشاف مفهوم الحريم في السياق العربي، وتحليل كيفية توظيف صورة الحريم في الاستشراق الغربي من أجل تكريس تصورات سلبية عن المرأة الشرقية، إلى جانب البحث في إمكانيات الخطاب النسوي في تحدي تلك التصورات وتقديم فهم أكثر تعقيدًا للعلاقة بين الجنسين في المجتمعات الإسلامية.

الحريم بوصفه فضاءً اجتماعيًّا/ سياسيًّا

يتجلى مفهوم “الحريم” بوصفه عنصرًا محوريًا في تجربة النساء في المجتمعات التقليدية التي تهيمن عليها السلطة الذكورية، فيعبر الحريم عن حدود مادية ورمزية تُفرض على النساء. تجربة النساء في هذا السياق لا تقتصر على الحبس في فضاء مادي مغلق، بل تتضمن تكيفًا مع نظام اجتماعي يحكمهُ الرجال. في هذا السياق تُعد “حياكة الكلمات”([1]) وسيلة للتكيف تُستثمر فيها النساء لتلبية متطلبات النظام الأبوي الذي يسعى في تقييد أدوارهن داخل إطار اجتماعي ضيق. هذه القدرة على التكيف تُظهرها تجربة فاطمة المرنيسي التي ردت والدتها عليها: بقول غامض على سؤال طفلتها عن سبب تعلم النساء لرواية القصص من أجل إرضاء ملك ما، مشيرة إلى واقع تاريخي طويل من تطوير النساء لمهاراتهن ضمن الحريم باعتباره مجالًا “محميًا”([2]).

لا يُفهم الحريم هنا كونه فضاء مادي فقط، بل كونه نظام ثقافي واجتماعي يعكس انقسامًا صارمًا بين المجال الداخلي الأنثوي والخارجي الذكوري، ويعزز البنية الأبوية التي تحكم المجتمعات.”([3]) يُمثل الحريم تقسيمًا جندريًا يُقيّد حرية المرأة باسم “الحماية”، ويحتفظ بها داخل حدود مغلقة ومستترة عن الرجال “باستثناء السيد”([4]). في هذا السياق ترى المرنيسي أن مفهوم الحريم لا يرتبط بالبهجة، بل بالعقاب والحرمان، فهو يحيل في جميع الثقافات إلى (الحرام) أي الممنوع والحرام.”([5]) وهو ما يجعل من الصعب ربطه بأي نوع من الفرح أو الحرية. يتضح من هذا التفسير أن الحريم يمثلُ تقسيمًا صارمًا للمساحات بين الداخل الأنثوي المغلق والخارج الذكوري المفتوح، وهو تقسيم يرسخ البنية الأبوية التي تحكم المجتمعات الإسلامية.

يتضح أن النصوص الدينية وُظفت تاريخيًا حتى تبرر امتيازات الرجال السياسية والجنسية، فقد أُوِّلَت بطريقة تخدم تعزيز السلطة الذكورية. لكن من طريق البحث في المصادر الإسلامية، يظهرُ أن جذور معاداة النساء” لا يمكن إرجاعها إلى النبي محمد (ﷺ)، الذي جاء برسالة ترفض الهرمية الاجتماعية وتنادي بالمساواة بين الرجال والنساء على حد سواء.”([6]) وتُبرز المرنيسي في دراساتها المتعلقة بـ “الحرمة” الحيادية والموضوعية في طرحها، فهي لم تقتصر على نقد وضعية المرأة في العالم العربي الإسلامي فقط، بل توسعت لتحليل وضعية المرأة في المجتمع الغربي، كاشفةً عن العبودية المقنعة التي تعيشها النساء هناك، تُعامل فيها المرأة بوصفها دمية معدة للاستغلال. من أبرز ما تناولته المرنيسي في بحثها المتواصل هو تفكيك الصورة النمطية التي رسخها الاستشراق عن النساء الشرقيات، فقد صورهن المستشرقون بوصفهم كائنات سلبية مجردات من الفعل والفاعلية.

دروب الفهم والتجلي

في تحليل النصوص الدينية ودورها في تحديد مكانة المرأة في المجتمع الإسلامي، يتضح أن تمثيل النساء في القرآن يعكسُ توازنًا متساويًا بين الجنسين في ميادين الإيمان والعمل الصالح. يظهر هذا في الرد الإلهي عن سؤال أم سلمة بخصوص غياب ذكر النساء في القرآن، فقد جاءت الآية لتضع المرأة جنبًا إلى جنب مع الرجل: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)(*) هذه الاستجابة الإلهية لم تكن ردًّا على تساؤل بسيط فقط، بل أكدت مكانة المرأة كونها شريكًا مساويًا للرجل في العمل والجزاء.

تُبرز النصوص القرآنية التحول الجوهري في مكانة المرأة ضمن المجتمع الإسلامي، وهو ما يظهر بوضوح في التشريعات المتعلقة بحقوق النساء، مثل آية الإرث ((لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا)) (**) كان لهذه الآية وقعٌ كبير بين سكان المدينة لا سيما الذكور، فقد كانت تمثل تحدٍّ للأعراف الاجتماعية التي حكمت العلاقات الجندرية في فترة الجاهلية..” ([7]) في هذا السياق تمثل هذه الآية لحظة فارقة في تأريخ حقوق النساء، لأنها منحت المرأة نصيبًا قانونيًا واضحًا في الإرث، وهو ما لم يكن معهودًا في الفترات السابقة. ويعكس هذا التحول اعترافًا بمكانة المرأة كونها شريكًا أساسيًّا داخل المجتمع لا كونها تابعًا أو عنصرًا ثانويًّا فقط.

على الرغم من ذلك نجد في بعض الأحاديث النبوية التي نُقلت من البخاري (***) من طريق رواية أبي هريرة تمييزًا ضد النساء، مثل حديث (الكلب والحمار والمرأة تقطع الصلاة إذا مرت أمام المؤمن، فاصلة بينه، وبين القبلة). وتتسأل المرنيسي: لماذا قال الرسول (ﷺ) مثل هذا الحديث الذي يؤلمني؟ علمًا أن هذا النوع من الأقوال لا يتناسب في شيء مع حياة النبي محمد (ﷺ)؟ ([8]) يروي ابن مسروق (*)، أن عائشة ردت عندما ذُكر الحديث أمامها، قائلة: (تقارنوننا الآن بالحمير والكلاب، والله لقد رأيت النبي (ﷺ) وهو على أهبة إقامة صلاته، وكنت هنالك، ممده على الفراش، بينه وبين القبلة، ولكي لا أشرد ذهنه، كنت اتحاشى أن أتحرك…)، مؤكدةً على مكانتها العالية كونها مرجعية دينية، وهو ما انعكس في قول النبي (خذوا جزءًا من دينكم عن هذه الحميراء)([9]).

وفيما يتعلق بحديث “سوء الحظ يوجد في أشياء ثلاثة: البيت، المرأة، الفرس..”، تشير الروايات إلى أن عائشة عدَّت أبا هريرة لم يتلقْ دروسه تلقيًا جيدًا، قائلة: لقد دخل علينا في حين كان الرسول في وسط الجملة فلم يسمع سوى النهاية. كان الرسول (ﷺ) قد قال: قاتل الله اليهود، إنهم يقولون: ثلاثة أشياء تحمل سوء الحظ للبيت، المرأة والفرس.”([10])

إقرأ أيضاً: المرأة بين الوحي والعرف

رغم الدور القوي الذي لعبته النساء في العقود الأولى الإسلامية، بدأت هذه المكانة تتراجع تدريجيًا مع بروز مفهوم السلطة المطلقة وتغلغل التأثيرات القبلية في النظم الاجتماعية والسياسية. فقد طغت “الأسرة والعشيرة والقبيلة التقسيمات المجتمعية بطابعها ظهر المجتمع الذكوري، وهذا ما كان سائدًا عند العرب في زمن البعثة النبوية. حين كان يجري حل الأمور السياسية على أساس (القبيلة، العشيرة)، مما نفهم معه لماذا كانت المرأة عندهم عنصرًا ثانويًا لاحقًا، ومن هنا نفهم أخيرًا سبب الذكورية الأبوية التي سيطرت على الفقه الإسلامي في زمن التدوين والتأصيل، والتي ما تزال تسيطر على فكرنا الفقهي”([11]).

كثير من المؤرخين أهملوا الاعتراف بالمكانة التي كانت تشغلها النساء في زمن النبي (ﷺ) وخفي أثناء العقود الأولى الإسلامية، والتي لعبت فيها النساء أدوارًا مهمة إلى جانب القادة السياسيين والدينيين. إلا أن هذه الأدوار اختفت تدريجيًا مع استيلاء السلطة الذكورية المطلقة على المشهد الاجتماعي، مما أسهم في تهميش النساء وتقييد مشاركتهن الفاعلة.”([12]هذا التغيير يعكس التباين بين رؤية النبي (ﷺ) الذي كان يطمح إلى مجتمع يتأسس على المساواة الروحانية والتآزر بين الأفراد والتصورات الفقهية التي نشأت في نظام اجتماعي هرمي تحكمه القيم القبلية، وهو ما أسهم في استمرار هيمنة النظام الأبوي على الفكر الفقهي عبر التاريخ.

تكشفُ النصوص القرآنية عن رؤية متساوية بخصوص المرأة والرجل في مجالات الإيمان والعمل الصالح، تُعامل فيها المرأة كونها شريكًا كاملًا وفاعلًا في المجتمع. ومع ذلك أثرت تفسيرات الفقه الإسلامي في العقلية القبلية السائدة عند العرب، مما أدى إلى بناء هياكل قانونية واجتماعية كرَّست هيمنة الرجال وأبعدت النساء عن أدوارهن الحقيقية. هذا الانحراف عن المقاصد القرآنية أدى إلى ظهور مفهوم “الحريم” ليس فقط بوصفه فضاءً مادي مغلق، بل بوصفه نظامًا رمزيًّا يُعبّر عن قيود اجتماعية وأخلاقية تُفرض على المرأة، تحدُّ من حركتها وتضعها في إطار معيَّن يخدم مصالح السلطة الذكورية.

جاءت النصوص القرآنية لتحد الأعراف القبلية بمنح المرأة حقوقًا غير مسبوقة مثل حق الميراث، لكن الهيكل الاجتماعي التقليدي الذي أثر في التدوين الفقهي أسهم في ترسيخ نظام اجتماعي يرى المرأة بوصفها عنصرًا ثانويًا. بمرور الزمن تحولت مفاهيم مثل الحجاب والحريم إلى أدوات للتحكم الاجتماعي، فهي لم تعد تُستخدم فقط من أجل حماية الخصوصية كما حدث مع النبي (ﷺ)، بل من أجل ترسيخ النظام الأبوي الذي يفرض حدودًا صارمة على وجود المرأة في المجالين العام والخاص. ليبقى السؤال ما هو سبب استمرار هذه العقلية الذكورية التي تؤثر في مجتمعاتنا العربية بعد أكثر من أربعة عشر قرنًا؟ وهل كان بإمكان الفقه الإسلامي أن يتطور تطورًا مختلفًا إذا استُوعبت الأفكار الكلية التي جاء بها النص القرآني؟

الحجاب بين الرمزية والتحرير

في تحليلها لقضية الحجاب تقدم فاطمة المرنيسي رؤية مغايرة عن السائد، فهي ترى أن مفهوم الحجاب في النص القرآني لا يرتبط بما هو متعارف عليه اليوم من غطاء جسدي، بل كان يعني في الأصل حاجزًا ماديًا ومعنويًا يفصل بين زوجات النبي (ﷺ) والعامة، من أجل حماية خصوصيتهن. تشير المرنيسي إلى أن الآية التي نزلت في السنة الخامسة للهجرة627هجريا، وتحديدًا عقب زواج النبي (ﷺ) من زينب بنت جحش، جاءت كي تضع قواعد تضمن حماية الحياة الزوجية الخاصة بالنبي.

تنقل المرنيسي قصة أنس بن مالك الذي دُعي إلى حضور وليمة عرس زينب بنت جحش، عندما تأخر بعض الضيوف في المغادرة واستمروا في التحدث بعد انتهاء الدعوة، مما دفع النبي (ﷺ) إلى مغادرة الغرفة احترامًا لخصوصية زوجته. عندما عاد النبي (ﷺ) ووجد الضيوف لا يزالون في حديثهم، نزلت آية الحجاب التي دعت المؤمنين إلى مراعاة الخصوصية وعدم التدخل في حياة النبي. يقول النص القرآني: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ولكن إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذلكم كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا)(*) ترى المرنيسي أن الحجاب هنا ليس ستارًا ماديًّا فقط، بل يمثلُ حاجزًا ثلاثي الأبعاد. أولًا، حاجز بصري يحمي خصوصية النبي وزوجاته من أعين الغرباء. ثانيًا، حاجز مكاني يخلق مسافة بين الحياة الخاصة والحياة العامة. وأخيرًا، حاجز أخلاقي يضبط السلوكيات المحرمة ويحدد الحدود الأخلاقية ([13]).

الحجاب في النص القرآني لم يتعلق بتغطية جسد المرأة فقط، بل كان جزءًا من نظام اجتماعي وثقافي يهدف إلى خلق حاجز أو فصل بين الحياة العامة والخاصة، خصوصًا فيما يتعلق بحياة النبي (ﷺ) وزوجاته. من طريق هذا الفهم يمكن ربط الحجاب بالحريم كونه مفهومًا معقدًّا يجمعُ بين البعد المكاني والاجتماعي، يُمثل فيه الحجاب حاجزًا يحمي خصوصية النساء في المجال الخاص، كما يُنظّم تفاعلهن مع المجال العام.

وفي هذا السياق ترى المرنيسي أن “الحريم” في هذا السياق هو فضاء مغلق أو حاجز متعدد الأبعاد يشملُ جوانب بصرية ومكانية وأخلاقية. فالحجاب جزء من هذا الحاجز الذي يحمي خصوصية الحياة الزوجية للنبي (ﷺ) وزوجاته من تدخل العامة، مما يجعله نوعًا من “الحريم” الذي يفصل بين العالمين الداخلي والخارجي. على المستوى البصري يُعَد الحجاب ستارًا يحجب الرؤية المباشرة، أمَّا على المستوى المكاني يُحدد الحجاب المسافة بين الحياة الخاصة للنبي (ﷺ) وزوجاته والحياة العامة. ينعكس هذا المفهوم في النص القرآني عندما تأتي آية الحجاب ويُعزِّزُ فيها تحريم الزواج من زوجات النبي (ﷺ) بعد وفاته، ما يمنحهن مكانة خاصة ضمن البنية الاجتماعية الإسلامية. إذًا يمثلُ الحجاب في هذا السياق أكثر من مجرد رمز مادي، فهو يعكس منظومة أوسع تهدف إلى تنظيم العلاقات المجتمعية وَفق قواعد أخلاقية ودينية، وهو ما يجعل الحجاب والحريم جزءين من نظام أوسع يسعى في ضبط التفاعل بين الجنسين. إن إعادة قراءة هذه النصوص تتيح إعادة تصور مكانة المرأة بطريقة تتخطى الحدود التي فرضتها الهياكل الأبوية، وتفتح المجال أمام تفسير جديد يعيد النظر في علاقة المرأة بالخصوصية والسلطة، بطريقة يتناغم مع متغيرات الواقع الاجتماعي المعاصر، دون الانفصال عن الجذور التاريخية والدينية للنصوص.

يطرحُ نصر حامد أبو زيد فكرة أن الخطاب السائد بخصوص المرأة في العالم العربي المعاصر يعكس بنية طائفية عميقة الجذور، لأنه يُعالج موضوع المرأة بوصفه قضيةً مطلقةً مقابل الرجل بوصفه كيانًا مطلقًا آخر، مما يسهم في ترسيخ علاقة ثنائية متقابلة، هذه العلاقة تُبنى على افتراض أن أحد الطرفين عادةً الرجل، يجب عليه أن يكون المسيطر يُخضعُ الطرف الآخر وهو المرأة، لسلطته. هذا النمط من التفكير ينتجُ خطابًا طائفيًا وعنصريًا بأبعاد اجتماعية وثقافية متعددة، وهو ليس مقتصرًا على الخطاب الديني فقط، بل يتجلى بوضوح في الخطاب الشعبي والإعلامي العربي السائد، الذي يعزز هذا التصور ويديمه. ([14])

وفي سياق مماثل، تشير فاطمة المرنيسي إلى أن “ما يُثير قلق الأصوليين ليس فقط قضية تحرير المرأة بحد ذاتها، بل الحقيقة القائلة بأن استقلال المرأة لم يؤدِ إلى خلق طبقة جديدة يكون فيها كل شيء خاضعًا للذكور”. ([15]) هذا التحليل يعكس نظرة أعمق إلى دوافع الخطاب التحرري في العالم العربي، فترى المرنيسي أن تحرير المرأة لم ينبع من وعي حقيقي بمكانتها المتدنية أو من التزام بمبدأ المساواة بين الجنسين، بل جاء كونه رد فعل استراتيجي من أجل تحرير إمكانات المرأة الانتاجية التي أصبحت ضرورة اقتصادية لا يمكن الاستغناء عنها.

بهذا الفهم يُفسر دفاع الإصلاحيين العرب عن تحرير المرأة على أنه جزء من استراتيجية أوسع تستهدف استغلال طاقاتها في المجالات الاقتصادية، بدلًا عن كون هدفه تحقيق العدالة والمساواة بين الجنسين، وتؤكد المرنيسي ذلك بقولها: “إذا إدّعى البشر أنهم جديرون بربّهم وأنهم يستطيعون تماماً فهم الحقيقية بمفردهم، إذاً فما هي فائدة الخليفة والإمام والعنف الذي يمارسانه؟ فلم يكن قرار قتل الحلاج بالنسبة للخليفة سهلًا لأن ما كان يقوله ذو معنى بالنسبة لناس كثيرين. فقد أحرق الحلاج حيًا وهو ينشد (أنا الحق). من يريد التذكر”؟ ([16])

وتشيرُ المرنيسي إلى ظاهرة مثيرة للدهشة وهي إعادة طباعة كتاب (أحكام النساء لابن الجوزي) من القرن الثالث عشر، موضحة أن طباعة هذا الكتاب “لم تكن أبدًا عملًا معزولًا، إنه يشكل جزءًا من حملة حقيقية. فقد تم طباعة 35 مجلدًا من الفتاوي، هدفها تساعدنا نحن النساء المسلمات، بأن تضع تحت تصرفنا في مجلدًا واحدًا يسهل تداوله ومحاربة أولئك الذين يتكلمون في أيامنا عن حرية النساء.”([17]) وهكذا تنخرط المرنيسي في نقد متعدد الجبهات، لا يستهدفُ الخطاب الاستعماري والديني فقط، بل الخطابات التقدمية مثل القومية والماركسية والنسوية، وهنا يتجلى التناقض بين الشعارات التحررية والواقع الاجتماعي، مما يعكس أن الخطاب المتعلق بالمرأة لا يزال محصورًا ضمن أطر طائفية واقتصادية تهدف إلى توظيف المرأة كونها أداةً إنتاجية أكثر من كونها إنسانًا له حقوق متساوية مع الرجل.

الخاتمة

تتجلى أهمية إعادة النظر في الخطابات التحررية المتعلقة بالمرأة في العالم العربي والإسلامي، إذ يتضح أن تلك الخطابات لم تفلح دائمًا في تجاوز الحواجز التقليدية أو تحرير المرأة من قيود الهياكل الاجتماعية والاقتصادية السائدة. إن تحقيق تحرير حقيقي وشامل للمرأة يتطلب تحولًا جذريًا في كيفية تصور علاقتها بالسلطة ومكانتها في المجتمع، بما يتجاوز النظرة الأداتية لها بوصفها عنصرًا إنتاجيًّا. يكمن التحدي في تطوير مقاربة تحررية جندرية تستند إلى العدالة والمساواة، ولا تقتصر على الإصلاح السطحي الذي يخدم الأطر الأبوية القائمة.

ومن تساؤلات المرنيسي عن إمكانية تحقيق تحرير حقيقي للمرأة في ظل الأنظمة التي تربط بين الدين والسياسة والاستعمار، سوف يتناولُ الجزء الثاني من هذه الدراسة وضع المرأة العربية في ظل الهيمنة الاستشراقية والتحديات القومية وسيركزُ على تحليل كيفية تفاعل المرأة مع الخطابات الاستشراقية، التي سعت إلى تكريس صورة نمطية عنها بوصفها موضوعًا للتهميش والهيمنة، في الوقت ذاته سوف تُكتَشفُ التحديات التي واجهتها ضمن مشاريع التحرر القومي، والتي رغم شعاراتها التحررية لم تتمكن دائمًا من تحرير المرأة من القيود المفروضة عليها أو من إعادة إنتاج هيكلية السلطة الذكورية بطرق جديدة.

 

الحواشي والمراجع:

([1]) فاطمة المرنيسي، أحلام النساء الحريم، حكايات طفولية في الحريم، ترجمه: ميساء سرّي، ط1، 1997، الناشر، ورد للطباعة دمشق، ص 29،35،36.

(([2] المرجع نفسه، الموضع نفسه.

([3]) فاطمة المرنيسي، السلطانات المنسيات، ترجمة فاطمة الزهراء أزرويل، المركز الثقافي العربي، ط1، 2000م، ص99

([4]) فاطمة المرنيسي، هل أنتم محصنون ضد الحريم ؟، ترجمة: نهلة بيضون، المركز الثقافي العربي، ص9.

(([5] فاطمة المرنيسي، الحريم والغرب. ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2001. ص 2

([6]) الحريم السياسي، النبي والنساء، ترجمة/ عبد الهادي عباس، دار الحصاد، دمشق، ص21

(*) (سورة الأحزاب- 35)

(**) (سورة النساء- 7)

([7]) فاطمة المرنيسي، الحريم السياسي، مصدر سابق، ص144، 145.

([8]) المرجع نفسه، ص 85.

(*)  أبو العباس أحمد بن محمد بن مسروق الطوسي، أحد علماء أهل السنة والجماعة ومن أعلام التصوف السني في القرن الثالث الهجري، وصفه أبو عبد الرحمن السلمي. بأنه من قدماء مشايخ القوم وجلّتهم، ووصفه الذهبي بـالشيخ الزاهد الجليل الإمام شيخ الصوفية. أنظر إلى: أبو عبد الرحمن السلمي، طبقات الصوفية، دار الكتب العلمية، 2003، ص189-193.

([9]) فاطمة المرنيسي، الحريم السياسي، مرجع سابق، ص 91، 98.

([10]) المرجع نفسه، ص95، 96.

([11]) محمد شحرور، الإسلام الأصل والصورة، للثقافة والنشر والإعلام، ط1، 2014م، بيروت، ص105.

([12]) مريام كوك، النساء يطالبن بإرث الإسلام، ترجمة/ رنده أبو بكر، المركز القومي للترجمة، 2015، ص118.

(*) (سورة الأحزاب-53).

([13]) فاطمة المرنيسي، الحريم السياسي، مرجع سابق، ص 108.

(([14] نصر حامد، دوائر الخوف، قراءة في خطاب المرأة. القاهرة: المركز الثقافي العربي، 1999، ص 30 (منقول بتصرف).

([15]) فاطمة المرنيسي، ما وراء الحجاب، الجنس كهندسة اجتماعية. ترجمة: فاطمة الزهراء أزرويل. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1987، ص53.

([16]) المرجع نفسه، ص 28.

([17])  المرجع نفسه، ص 119- 120- 121.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete