(1)
الحوار؛ بمعنى مراجعة الأفكار ووجهات النظر ومختلف التجارب… بين طرفين حول موضوع محدد؛ بهدف الاهتداء والوصول إلى موقف ورأي؛ يتحقق معه مراعاة ما فيه خير ومصلحة للصالح العام. كثيرة هي الأفكار والمقاربات ووجهات النظر والنظريات والمناهج التي كانت من وراء الحوار والمحاورة بين مختصين في مجال معرفي أو في مجالات معرفية متعددة، وكثيرة هي الحلول والمبادرات التي كانت نتيجة لحوار مطول مع مختص في مجال محدد من مجالات المعرفة، ومن البديهي أن الحوار في مجال السياسة وما اتصل بتدبير أمور الناس يأتي دائما بالحلول الناجعة، فالحوار يمد جسور التواصل والاتصال بين مختلف الفرقاء والأطراف، ليجدوا أنفسهم يتجهون نحو الكلمة السواء التي تراعي الصالح العام، ويمكن القول بأن مختلف الأزمات التي تحدث بين مختلف الفرقاء والفاعلين في نظرتهم لأمر معين، تأتي نتيجة ضعف وخلل في الإقبال على الأخذ بمسالك الحوار والمحاورة، كما أن الغموض الذي بيننا وبين فهم نظرية أو فكرة أو اجتهاد … أحيانا يكون نتيجة الإعراض عن الحوار مع صاحب الفكرة أو المشروع أو مع الفكرة والمشروع.
وعليه لا حياة تتصف بالأمن والأمان والعلم والمعرفة والرقي الحضاري دون الأخذ بقيمة الحوار؛ وهي قيمة عليا تتفرع عنها الكثير من القيم؛ فالحوار بين المتحاورين تنتج عنه ثمرة المعرفة المتبادلة بين الأطراف، كما أن الحوار بين العالم والمتعلم يعد مدخلا لا غنى عنه في عملية العلم والتعلم، فضلا أن الحوار هو السبيل الأسلم في عملية التربية والتنشئة الاجتماعية… الحوار وسيلة وطريق لا غنى عنه في التعارف والتقارب والتعايش والتعاون بين الشعوب والأمم قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) ﴾ (الحجرات)
ترتبط قيمة الحوار في القرآن الكريم ارتباطا وثيقا بقيمة الشورى؛ هذا المفهوم تم اختزاله من لدن في بمجال السياسة، فهناك كتابات تجعل من الشورى موازية للديمقراطية ومنها ما تجعلها مخالفة لها، وهناك من يرى بأن الشورى أساس الحكم في الإسلام وغير ذلك، بينما في واقع الأمر فالشورى مسألة اجتماعية ترتبط بالفرد والأسرة والمجتمع، تتفاوت المجتمعات بشأن حضورها وغيابها، وذلك بإقبال الناس على القول بآرائهم فيما يخص أمر معين والتشاور بشأنها، والأخذ برأي المختصين في الأمر المتشاور حوله، فمثلا إن ظهرت مسألة تتعلق بصحة الانسان واختلف الناس حولها في الحي أو المدنية، فالكل من حقه أن يبدي برأيه بناء على ما لديه من معطيات اجتماعية أو علمية، ولكن الرأي الأهم سنجده عند المختصين في مجال الصحة من الأطباء وغيرهم، وإن حدثت مسالة تتصل بالقانون فالرأي الأهم سنجده عند المختصين في القانون والتشريع.
فإذا كانت الشورى تدور في مدار إبداء الرأي من لدن ذوي الاختصاص في مختلف مجالات الحياة؛ وفي مختلف قضايا الدين والدولة والمجتمع… فإن بسط مختلف الآراء ووجهات النظر؛ والتقريب فيما بينها؛ لا يتحقق إلا من خلال الإعلاء من قيمة الحوار والشورى؛ ما بين مختلف الفاعلين والمتدخلين بآرائهم ووجهات نظرهم؛ وقد جاء في القرآن الكريم قال تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (الشورى/38) قال تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر﴾ (آل عمران/159) وبالنظر في التراث العربي الإسلامي؛ نجده يزخر بمختلف الحوارات في مجال علوم الحكمة وعلم الفقه وأصوله وعلم الكلام وعلوم اللغة… وقد عرفت الثقافة الإسلامية بأدب المحاورة والمناظرة.
(2)
مع الانغلاق يحضر التشدد والتطرف والفهم المغلق والمتمركز حول الذات باسم الدين أو باسم العلم… ومع الانفتاح يحضر الحوار والتواصل والتعاون والتآخي والتراحم وينظر الانسان إلى أخيه الإنسان بمعزل عن دينه وثقافته ولونه وعرقه… وينظر إلى الطبيعة بكونها للناس جميعا فالإصلاح فيها يعنيهم جميعا والفساد فيها مضرة تعمهم جميعا؛ الانفتاح وسْع واتساع يسع الناس جميعا؛ وهو وجه من وجوه رحمة الله التي وسعت كل شيء قال تعالى: ” وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ”(الأعراف/156)
الحاضر امتداد وتفسير وفهم وتأويل للماضي؛ وفي الوقت ذاته؛ تطلع واستشراف للمستقبل؛ فمن لا ماضي له؛ لا حاضر له؛ ومن لا حاضر له لا مستقبل له؛ قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ”(الحشر/18) المفردات المفتاحية في هذه الآية الكريمة مفردة “النظر” ومفردة “العمل” وهما مفردتان متكاملتان فيما بينهما؛ فالنظر لا يتحقق إلا بالعمل؛ ولا عمل من دون نظر؛ وقد يتم ترشيد العمل وتقويمه بفعل النظر؛ أخذا بعين الاعتبار بأن كلا المفردتين “النظر والعمل” ينبغي لهما أن تدورا في مدار العمل الصالح والنفع العام. وقد ربط القرآن الكريم مجال النظر بالماضي قال تعالى: “قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ” (الأنعام/11) قال تعالى: “قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ”(النمل/69) وهنا تأتي أهمية مختلف العلوم الإنسانية التي تعنى بالمعرفة التاريخية. وربطه -مجال النظر- بالكون والكائنات قال تعالى: “قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”(العنكبوت/20) قال تعالى: “سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ”(فصلت/53) قال تعالى:” أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)”(الغاشية) وهنا تأتي أهمية مختلف العلوم؛ التي تعنى بدراسة الكون والكائنات ومختلف الظواهر. فالنظر إلى الماضي وإلى الكون والكائنات بهدف بلوغ العبرة والآية والتذكر…
كل ذلك ما هو إلا مقدمات علمية وأخلاقية؛ في فهم ما ينبغي أن يكون عليه غد الإنسان؛ الفرد والجماعة؛ وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة ” مَا قَدَّمَتْ ” وهذا لا يعني أن الإنسان سيعلم ما سيكون عليه غده كيفما يشاء؛ أو أنه سيعلم ما سيكون عليه حال غده؛ فلا يعلم الغيب إلا الله؛ ولكن هذا من باب المسؤولية الأخلاقية عند الإنسان فيما يقدم عليه في مجال النظر والعمل(الفعل) لأن حاضر الإنسان يحدد مستقبله. وقد أوصانا القرآن بالإقبال على النظر تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ”(البقرة/104)؛ والنظر في القرآن لا يتوقف عند الرؤية بالبصر أي العين المجردة؛ بل يتجاوزها الى الرؤية بالقلب قال تعالى:” أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ”(الحج). فالنظر في بعض من أوجهه حوار خلاق متواصل؛ بغاية معرفة وفهم الماضي؛ وبغاية معرفة وفهم الحاضر والكون والكائنات؛ وبغاية استشراف المستقبل وبتعبير القرآن الغد ” لِغَدٍ “؛ وهناك علم اسمه علم المستقبليات أو الدراسات المستقبلية.
حاضرنا اليوم قلق بشأن الحوار دوليا وإقليميا، ولا يخفى على أحد بأن الواقع العربي في حاجة الى خريطة طريق، بينة وواضحة المعالم، من أجل حلول لمختلف الملفات المختلف بشأنها، وهي ملفات تتباين بشأنها المصالح السياسية والاقتصادية، والمواقف الإقليمية، وبالرغم من مختلف الصعوبات والإكراهات المعقدة محليا ودوليا التي تجعل هذا الطرف أو ذلك، ينخرط في مبادرات لا تنسجم مع خيارات طرف آخر، فلا هروب للعالم العربي من التفكير في أفاق المستقبل، وهو مستقبل يستمد مشروعيته من المصير العربي المشترك.