تكوين
تختلف السرديات التاريخية باختلاف المرجعيات الفكرية، واختلاف وجهات زوايا النظر، فضلا على اختلاف تطلعات الجماعات البشرية الى المستقبل، وهناك أمور أخرى كثيرة ومتعددة من وراء تعدد وتباين السرديات التاريخية. وهذا يعني أن مختلف الأحداث والوقائع التي حدثت في التاريخ بين مرجعيتين مختلفتين قد تكون من وراء تشكل سرديتين مختلفتين لنفس الوقائع والأحداث. وكل ما يراه الطرف الأول عين الحقيقة يعتمده الطرف الثاني على العكس من ذلك، لأن كل طرف يعمل على تضخيم منجزاته السياسية والاجتماعية والحضارية، ويتجاهل مختلف العثرات والتراجع والسقوط. صحيح بكون الطرفين يتفقان بشكل عام على وقوع الكثير من نفس الوقائع والاحداث في نفس المكان والزمن، لكن القراءة والتصور والاسترجاع السردي يختلف بين الطرفين. نتيجة اخلاف زوايا وجهات النظر.
ما هي انواع السرديات؟
فمن البديهي أن ينظر الغرب إلى مختلف حملاته الاستعمارية عبر العالم، بدء من القرن التاسع عشر، الى أنها حملات غايتها نشر الحضارة عبر العالم، فالحركة الاستعمارية في نظره، هدفها إخراج مختلف الشعوب من دائرة التخلف إلى دائرة التحضر…فمجمل نصوص الاستشراق الاولى فيها تبخيس للآخر ولمختلف الشعوب والثقافات التي تم استعمارها. لماذا؟ لأن الغرب حينها في حاجة لسردية كبيرة تشكك وتحط من تاريخ وثقافة الدول المستعمرة وتعلي من قيمة كل ما يقبل عليه، من ابتزاز واحتلال وقتل وتدمير…فالسردية الغربية عن الآخر ستضخم كل النقط الجزئية والصغيرة التي في حاجة لنوع من العناية والترشيد والتقويم، مثلا سيتم اختزال مختلف ما له صلة بالتطبيب والعلاج لثقافة معينة في دائرة الشعوذة والسحر، لأنها تتضمن جانبا هامشيا من الشعوذة والحرافة. وتبعا لهذا تم تبخيس ثقافة الطب في الهند والصين…وقد يتم اختزال نظام تعليمي بأكمله، في دائرة عدم الاهتمام بالعقل والمنطق وقواعد التفكير…لأن البعض من المحسوبين عليه يعتمدون أقوال تقلل من قيمة المنطق. فمثلا تم اختزال العالم الاسلامي بأنه ضد الفلسفة بتضخيم مواقف الغزالي اتجاه أقوال وأراء الفلاسفة، رغم أن مشكلته ليس مع الفلسفة بقدر ما هي مشكلة مع أراء وتصورات الفلاسفة. ومن البديهي أن تنظر مختلف الشعوب المستعمرة الى الاستعمار، بكونه حركة متسلطة استغلالية همها النهب والاستغلال…فكل ما هو قادم من الغرب شر محض. الامثلة التي جئنا على ذكرها هي بهدف تقريب فكرة بأن السرد التاريخي ليس بالضرورة في كثير من جوانبه يكون موافقا ومطابقا للواقع، نتيجة نزعة التضخيم أو التحجيم والاختزال والتهميش والنسيان، وهي مقتضيات ليست بالضرورة أن تكون مقصودة وواعية بل تفرضها مقتضيات وتحولات اجتماعية وسياسية لشعب أو لجماعة من الجماعات البشرية. فالفعل الانساني في بعده الجماعي لا يتقوى ويتكتل بمعزل عن قراءة الماضي، فليس هناك حضارة أو ثقافة كتب لها الحضور والازدهار انطلقت من لا شيء.
(2)
فمن غايات علم التاريخ، نزع القداسة على الماضي وعلى تصورات الناس لماضيهم وتاريخهم، وخلق نوع من التوازن الموضوعي ما بين الأحداث والوقائع التي حدثت في التاريخ وبين تصورات الناس عنها، والعمل على استثمار التاريخ لينير طريق الانسان في الحاضر وهو يستشرف المستقبل، ليتجنب مختلف الأخطاء التي وقع فيها من قبل.
فالتاريخ مثلا، في نظر ابن خلدون لا يعني الاكتفاء بمعرفة الوقائع والاحداث دون تحليل ونظر وأخد للعبرة، فالتاريخ في نظره ظاهره لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق. وتبعا لمطلب التحقيق هذا تشكلت وظهرت مختلف النظريات التي تعنى بفلسفة التاريخ، ومرة أخرى تختلف قراءة السرديات، تبعا لاختلاف تلك المدارس.
أهم ما ينتج عن المعرفة التاريخية الموضوعية، هي أنها تأخذ البعض الى الخروج عن السرديات المسلم بها، ولا نقصد هنا الخروج من أجل الخروج ذاته، أو من أجل الخروج المتحيز لسردية أخرى ومقولات جزئية. وسنقف عند نموذج للخروج عن السرديات المسلم به.
سردية الفتح الاسلامي
من بين السرديات المسلم بها بين طرفين يختلفان في المرجعية الفكرية والتصورية، مسلمة الفتح الاسلامي للجزيرة الإيبيرية وهي سردية يقول بها العالم الاسلامي، مقابل سردية الغرب التي تقول بالغزو الاسلامي والعربي للجزيرة الإيبيرية 711ه. فما يسميه المسلمون بسقوط الأندلس، يسميه الغربيين بحروب الاسترداد. فهل بالفعل وصل الاسلام الى الجزيرة الإيبيرية فتحا/غزوا، أم هناك مقتضيات وأسباب أخرى في ظهوره ووصوله؟ هل هناك بالفعل حروب استرداد أم هي سحق جماعة بشرية (المورسكيون) من لدن نفس الشعب والثقافة التي تنتمي إليها؟ هذه الاسئلة وغيرها كانت من وراء إجابة وحفر معرفي في مختلف المسلمات التي يقول بها الغرب والتي يقول بها الشرق، وهي مسلمات متضادة ومتعارضة، بين مفهومي: الغزو والفتح.
هناك مقاربة خرجت بالكامل عن السرديات المعروفة وهي للإسباني إغناسيو أولاغي (-1974م) صاحب مؤلف “العرب لم يغزوا اسبانيا ثورة الاسلام في الغرب” ومفاد طرحه بأن “الوجود الاسلامي في الاندلس لم يكن فتحا عسكريا أو جهادا مسلحا، مبتغيا تمددا دينيا، بل كان حركة أفكار متصارعة ومتشابكة، تقدمت فيها الفكرة/ القوة التي عمقت رؤية العالم للإسلام على أنه دين الفكرة والحضارة”[2] فإغناسيو من خلال طرحه هذا “ينفي حدوث استعمار عربي لإسبانيا حيث يعتبر أن نشأة الحضارة الاسلامية في الاندلس كانت نتيجة تقبل الاسبان لها، بسبب التقارب الكبير بين العقيدة المسيحية الأريوسية التي كانت سائدة قبل مجيئ المسلمين لأن اعتقاد الاسبان بتلك العقيدة التوحيدية ترفض الثالوث، جعلهم يرون في الاسلام دينا منسجما مع تصورهم الاعتقادي، مما سهل نفوذه في وجدانهم الديني”.[3]
إقرأ أيضاً: المسجد الأقصى قراءة ثانية في السردية الإسلامية الجزء الثاني
لا شك أن مضمون الكتاب وطرحه، مثير للجدل وللوجدان الاسباني، ومثير للجدل كذلك للوجدان والتاريخ العربي الاسلامي، لأنه يشكل خروج على سرديتين مختلفتين ومتعارضتين، وتقوي إحداهما الأخرى بشكل غير واعي وغير مقصود، فالسردية الاسلامية التي تقول بالفتح، فيها تضخيم للذات الاسلامية التي ترى في نفسها، أنها استطاعت في لحظة زمنية نشر الاسلام وثقافته، والسردية التي تقول بالغزو، تخفي واقع ثقافي وديني كانت عليه الجزيرة الإيبيرية قبل 711م جعلها تقترب من ثقافة الاسلام ورسالته. مضمون الكتاب شكل انقلابا جذريا على كثير من المسلمات التي ركزها التوجه الكلاسيكي اليميني المحافظ في الثقافة الاسبانية، نتيجة تصوراته الأيدلوجية للتاريخ ولبناء المجتمع الاسباني القائم على الأحادية في الدين والثقافة وفي كل شيء. بينما ثقافة الاندلس كانت تقوم على التنوع والتعدد والاختلاف، وهي سمة أصيلة في الجزيرة الإيبيرية تماشيا مع تحليل الكاتب، الأمر الذي جعل من وصول الاسلام أمرا سهلا وسلسا. وهو أمر يدعوا الى الخروج من الانسداد الذي وقعت فيه إسبانيا في نظرتها للذات للآخر، بوهم أن ما وقع في القرن الثامن الميلادي يعد استعمار إسلامي للأراضي الاسبانية الكاثوليكية الرومانية، وهو قصد ضمني وتبرير لطرد مسلمي الأندلس بداية القرن السادس عشر الميلادي من طرف الملكان فيرديناند الثاني وأليزابيت الأولى.[4] الكتاب يأخذنا الى نتيجة مفادها أن طرد المورسكيين ليس بالضرورة طرد للعرب أو المسلمين، بل هو طرد لمواطنين وأناس من أصل الجزيرة الإيبيرية، وهذا لا ينفي أن من بينهم من تعود أصولهم الى الجنس العربي والأمازيغي.
(3)
أمر بديهي ان تواجه الأفكار والمقاربات التي خرجت عن السرديات المألوفة، بالكثير من التهميش وعدم القبول، خاصة إن ظهرت في سياق لا يشجع على إعادة النظر في المألوف والمسلم به، بتجديد فهمه وقراءته من جديد.
لم يجد إغناسيو أولاغي دار تنشر كتابه في اسبانيا وخارجها وانتظر حتى سنة 1969م بفضل تدخل الفرنسي بروديل / وتم اعاة نشره في اسبانيا 1974م لكن ليس بنفس عنوان الكتاب الأصلي “العرب لم يغزوا اسبانيا ثورة الاسلام في الغرب”
يؤكد إغناسيو بأن وثائق الأندلس أتلفت، وبأنه وجد صعوبات كثيرة لتعليل أفكاره، فكل ما بحوزة القارئ والباحث اليوم هي كتابات جاءت متقدمة بعقود من سنة 711م، فهو يدعو الى إعادة قراءة هذه اللحظة التاريخية برؤية ناقدة تأخذ بعين الاعتبار كل ما تبقى من تاريخ إسبانيا الوسيط في مختلف المجالات، وقد استعان إغناسيو في بناء أطروحته بمعطيات تخص الجغرافيا والهندسة المعمارية وعلم الحفريات والإثنوغرافيا.[5]
هناك رأي آخر يحفر في التاريخ الاسباني، باستثمار طرح إغناسيو ويتعلق الأمر بكتاب “عندما كنا عرباً” لمؤلفه الإسباني إيميلو غونزاليس فيرين فهو يرى أن كلّ من درس وقرأ التاريخ في إسبانيا، لا بدَّ أنّه يعرف. قصة الغزو العربي الاسلامي للجزيرة الإيبيرية 711م، لكن الحقيقة هي أنَّ المصادر التاريخيّة ليست واضحة. فالنّصوص الإسلاميّة التي تتناول الغزو “إسبانيّاً”، والفتح “عربياً”، تأخرت مدة قرن ونصف، والمصدر اللاتيني الوحيد، مجهول المؤلف، والذي يحمل عنوان “تأريخ عام 754م”، يروي حادثة دخول المسلمين، ولكنه لا يتعاطى مع الأمر ببعدٍ دينيٍّ، كما أنّه، وبشكلٍ يتّفق عليه الجميع، لا يتحدّث عن غزوٍ باسم الدّين ونشر الديانة الإسلاميّة. دفع هذا الأمر المؤرخين إلى التشكيك في الرواية المهيمنة والتأكيد أنَّ ما حدث في شبه الجزيرة العربية لم يكن غزواً ناتجاً عن حربٍ مقدسة، بل كان سلسلة من موجات الهجرة التي ولّدت عملية تعريب للمنطقة.[6]
المراجع
[1] كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.
[2] العرب لم يستعمروا إسبانيا؛ ترجمة، علي المنوفي، طارق شعبان، مركز نهوض، ط.1، 2019م، (مقدمة الكتاب مصطفى الفقي) ص.9
[3] نفسه، ص.13-14
[4] نفسه، ص.13
[5] نفسه، ص.14
[6] مقال: لجعفر العلواني، “حين كنّا عرباً” لـ إيميليو غونزاليس فيرين: تحرير تاريخ الأندلس، موقع العربي الجديد، بتاريخ: 21 يوليو 2020م/ https://www.alaraby.co.uk/