الخطاب النقدي:زرْعٌ في تربة مالحة

تكوين

تُحرّك الثقافة المناهضة لقيم الحرية والعقلانية، والمتمادية في استعدائها للآخر المختلف، جملةً من الأسئلة حولَ الخطابِ النقدي عموماً، ومدى تأثيره في إعداد الوعي المجتمعي العربي وتحضيرِه لاستقبال مقتضيات معرفية حديثة، تمهيداً للانخراط في مشروع النهوض والتجديد.

يستحضر  البحث في مآلات هذا الخطاب، النقاشَ حول مصدرية المعرفة، باعتبارها الجذرَ الاشكالي، الذي استحكم بتاريخ  الفكر العربي، واحتلّ الموقعَ المتقدّم بين الإشكاليات التي واجهها، منذ البداياتِ الوسيطية، إلى اليوم، لقد انعقدت قراءةُ غالبيةٍ من المسلمين على يقين دامغٍ، يقطع بامتياز أهلِ الاسلام على غيرهم، بكتاب أنزله اللهُ على نبيهم، يرعى بأحكامه حياتَهم في الدنيا والآخرة، فيه مبادئُ الدين القويمِ، وقواعدُ الدولةِ العادلة، وهو المصدرُ المعصومُ للقيم الأخلاقيةِ ولشتّى المعارفِ والعلوم، نظامٌ متكاملٌ لكل زمانٍ ومكان، مكتوبٌ على المؤمنين العيشَ في كنفه، درءاً لهم عن المعاصي، وإنقاذاً من الضلال.

هذه الحقيقةُ التاريخيةُ الراجحة، لا تنفي وجوداً تاريخياً آخرَ لخطاب نقدي مختلف، يعيدُ فتحَ النقاش في المنطلقات التي ينبني عليها هذا التسليمُ لقراءة متيقّنةٍ، يصلُ منسوبُ القطعِ فيها إلى حدّ التهويلِ والقدحِ في كلّ رأي مخالفٍ لها أو نقدٍ مشكّكٍ في سلامة المقدّماتِ التي تستلّ منها أحكامَها.

١—مسار العقلانية النقدية

بدأ النظر النقدي، في أركان الثقافة الاسلامية السائدة، ينجلي، بحلّته العقلانية الناصعةِ، مع المعتزلة، فكان مذهبُها في أصالة العقل وحريةِ التفكير، وخلقِ القرآن، ومواضعةِ اللغة، تأسيساً لقراءة مختلفة، رافضة للمناخ الفكري الذي أرسى دعائمَه الغزالي الأشعري، ومن باب توثيقِ هذا التقابلِ والافتراق بين الفكرين، وعلى سبيل المثال، أشير إلى نصّ أشعري مكرّس، ينتسب إلى علم أصول الفقه، أحد العلوم الاسلامية الأصيلة والمتكاملة، غايةً ومنهجاً، حول مفهوم الحكم الشرعي، ورد في كتاب المستصفى من علم الأصول للغزالي يقول فيه:”الحكم عبارة عن خطاب الشرع إذا تعلّق بأفعال المكلّفين، (فالواجب هو المقول فيه إفعلوه ولاتتركوه مع إشعار بالعقاب على الترك…والمحظور هو المقول فيه إتركوه ولا تفعلوه مع إشعار بالعقاب على الفعل…والمباح هو المقول فيه إن شئتم فافعلوه وإن شئتم فاتركوه…) ولا حكم للأفعال قبل ورود الشرع، والعقل لا يحسّن ولا يقبّح ولا يوجب شكر المنعم”، أما المعتزلة، فتذهب مذهباً نقيضاً، تقول فيه قطعاً”، العقل يحسن ويقبّح…من الأفعال ما يدركها ضرورة… ومنها ما يدركها بالنظر، ولا حاجة له للاستنارة بغير نوره، ليدرك حقيقتها ويحكم  بشأنها تحسيناً أو تقبيحاً، ولا حاجة للتذكير بالمصير الذي لقيته المعتزلة جراء تبنّيها لهذه الأفكار وانتصارها للعقل وجعله الأصلَ المتقدّم في بابي النظر والعلم، ولا حاجة للقول أيضاً أن هذين  المذهبين المختلفين في النظر إلى العقل ومباني التفكير، أورثا أثراً بالغاً، في يوميات الفكر العربي والاسلامي وفي مسيرته التاريخية.

حفظ لنا تاريخُ الفكر الاسلامي، واقع انتصار المذهب الأشعري، فرسم خطاً فاصلاً بين ثقافة غالبة ومهيمنة، تعتصم بالنصّ الديني وتنهل من معينه، جاعلةً منه أصلاً لكل نظرٍ واعتبار، وبين ثقافةٍ، مختلفةٍ، قلقة وسؤولة، يتقدّم فيها العقل على سواه، باعتباره ملكةً منتجةً للمعرفةِ وناقدةً لها.

مسارُ العقلانية النقدية، هذا، تنامى على وقع الفلسفة اليونانية والمنطقِ الأرسطي تحديدا، فاستفاد الفلاسفةُ العرب (الفارابي، ابن سينا، ابن وشد…)، من مبادئها ومناهجها، في ترسيخ الرهانِ على العقل، والتعويلِ عليه في تبيئة البرهانِ  الأرسطي وحدِّه  الأوسط المنتج، وسببيتِه الفاعلة، وفي وضعِ المفاهيم الكلية والتعبيرِ عنها بمصطلح عربي، على خلافِ ما هو سائد من اعتبارٍ يرى الى السببِ أمارةً أو علامةً نصبها الشارعُ، يحصُل الفعلُ عندها لا بها، وإلى الكلّي مرتبةً من المعنى محفوظةً للدين، والعقلُ صفةُ للعاقل، يقف دورُه عند حدود قياس الجزئي على الجزئي…أو قياس المثل أو الاستدلال بالشاهد على الغائب، ما حدا بالغزالي، جراءَ هذا النظر الفلسفي “المتطلّب والطموح”، إلى وضع كتابِ “تهافت الفلاسفة”، ضمّنه ما ضمّنه من حجج وأدلة، سعى معها، إلى تقبيح الفلسفة وأهلها وتهفيتِ أفكارهم، بعد رميهم بالبدعة والكفر، ومحنةُ ابن رشد، عقب وضعه كتاب “تهافت التهافت”، دحضاً لآراء الغزالي، تتصدّر المحن التي مرَّ بها المناصرون للعقلانية الفلسفية.

حاول روادُ عصر النهضة العربية، المتأثرون، بنِسَبٍ

متفاوتة، بالقيم المعرفية والثقافية والأخلاقية التي أنتجتها الحداثة الغربية، إعادة الاعتبار للعقلانية، بعد النكبة التي حلّت بها على يد الأشاعرة ،فكتبوا في شروط تفعيلها،المنعقدة على الحرية والديمقراطية والعدالة،فكان منهم العلمانيون المجددون على النسق الغربي،(فرح أنطون وشبلي الشميّل ويعقوب صروف…)،والاصلاحيون الماضويون(الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبدو…)…،لكن هذه الأفكار لم تلقَ صدىً مرحباً يليق بحمولتها التحديثية،فظلّت غريبة عن الثقافة العامة،فأخذ منها البعض ما أخذ من الأفكار  التقدّمية،تعزيزاً لفكر قومي أيديولوجي،تجلّى تقصيرُه وفشلُه في الأنظمة السياسية الاستبدادية التي خرجت من رحمه، عاجزة عن بناء دولة عصرية،تتوسل بالديمقراطية في إنتاج مؤسساتها،و تنهمُّ بمصالح شعبها ورفاهيته،،فاستشهدت تلك الأفكار المتصلة بالعقلانية والحرية والعلمانية والعدالة،تحت وطأة السياسات المنبثقة من فلسفة الأمن القومي ومصلحة الدولة العليا.

المرأة المسلمة والعقل النقدي

لم تُفلِح أفكار النهضويين في تكوين ثقافة مجتمعية تثق بالعقل وبالحرية باعتبارهما ركني التقدّم والازدهار والتنمية،بل ازداد الاطمئنان إلى الدين،والأفكار الدينية الموجهة وحياة التديّن اليومية،وذلك عقب تنامي العصبانيةِ القوميةواستفحال تجرؤها على الحريات العامة وحقوق الانسان،ما أفضى إلى تنامي ما عُرِفَ بالإسلام السياسي وتمدّده تحت راية الإخوان المسلمين ومن ذهب مذهبهم في الاعتقاد بالحاكمية،مفهوماً تأسيسياً،لأيديولوجيا دينية،كان قد صاغ مبتنياتها المفكر والداعية الاسلامي أبو الأعلى المودودي(١٩٠٣-١٩٧٩)،ترى أن الحكم للّه،ولا حَكَم إلا الله،وكلّ حكم بشري هو تعدّ على حقوق الله،بل هو مشاركةُ الله في ألوهيته،ومحاربتُه واجبة،وتقبيحُ  القيَم السياسية والأخلاقية التي أسهمت في انتاجه،من الضرورات الشرعية والفروض الدينية.

هذه الخلاصات الموجزة،لمسار العقلانية،تكشف مكانةَ الحضور الطاغي للنص الديني،وقوّةَ سلطته وعمقَ رسوخه في الثقافة العربية و الاسلامية،ومدى تغلغله في طبقاتها،وفي العلو م التي نمت على هامشه،وانضبطت بمقاصده، وانشغلت في شرح أحكامه شرحاً بيانياًوتفسير المتشابه منه أو تأويله،تأويلاً لا يخلّ بقواعد اللسان وسلامة الإيمان ،كما تُبرز  هيمنة العقل الذي يتخذ هذا النصّ، مقدمّة كبرى،ينطلق منها ويبني عليها في النظر إلى الطبيعة،ما عليها، وما بعدها.

٢—الخطاب النقدي المعاصر

لم تكن حظوظُ الفكر العربي المعاصر،في نقده الخطاب الاسلامي السائد،أفضل مما سبقه،،يكفي أن  نشير،على سبيل المثال، إلى المقاربات التفكيكية لمحمد أركون ونصر حامد أبو زيد،ذهب أركون في نقده للنص الديني والفكر الإسلامي عموماً، مذهباً جذرياً،منطلقاً من تمييز حادٍ،بين الوحي والمدوّنة النصية(القرآن)،فقرأ المدوّنة باعتبارها نصاً تاريخياً،متوسلاً بمنهجيات علوم الانسان والمجتمع(قراءة الآية الخامسة من سورة التوبة)،نازعاً عنها سمات التقديس،فأخرج بأدواته المنهجية،إلى السطح، معالم التحالف بين الله والنبي والمؤمنين في زمكنة الخطاب الالهي،وإنجاز التاريخ الاسلامي باعتباره ثمرةَ هذا التواطؤ،معبّراً عنه بترسيمةٍ سيميائية،ترصدُ حركةَ الرسالة ،بين المرسِل الأول والمرسَل إليه الأول والمرسَل اليه الثاني ( راجع:معنى المعنى في ميزان المعرفيات الشارحة،تكوين،وليد خوري).في حين كان مفهوم الحاكمية،لبَّ المقاربة النقدية للخطاب الديني لأبي زيد،وهو مفهوم تأسيسي،يمكن استشعار طيفه في الفكر الاسلامي السائد،بتجلّياته المختلفة،لكنّه استقرّ في صورته الأخيرة والمنجزة، جوهرَ  خطاب الاسلام السياسي عموماً والإخوان المسلمين،كما سبقت الاشارة.

مع طغيان الثقافة المتديِّنة التي رعاها مفهوم الحاكمية، على المشهد الثقافي العربي المعاصر،من المفيد التوقّف عند أبرز ما جاء في المقاربة النقدية،التي تفرّد بها،نصرحامد أبو زيد لهذا المفهوم،وهو المفكر المصري العربي المسلم،والإنساني قبل كلّ انتساب،صاحبُ التجربة المضرّجة بنهج الحاكمية المكفّر والالغائي(التفكير في زمن التكفير)،  قدّم صاحب “التفكير في زمن التكفير”في نقديته للخطاب الديني،وتفكيك مبتنياته،،أنموذجاً معاصراً لعقلانية صارمة،تحاكي في قراءتها لإشكاليات النصوص التراثية،وآليات تأويلها،الحداثة بنظمهاالمعرفية وقيمها الإنسانية الجامعة.

٣—أبو زيد ونقد مفهوم الحاكمية

في كتابه”نقد الخطاب الديني”يتناول أبو زيد مفهومَ الحاكمية من باب تسليط الضوء على محاولات إلغاءِ العقل لحساب النص.كانت البدايات مع حادثة رفع المصاحف على أسنَّة السيوف والدعاء إلى “تحكيم كتاب الله” من جانب الأمويين في موقعة “صفين”،استطاعت هذه الحيلة الايديولوجية بتعبير أبي زيد، أن تنقل الصراع من المجال السياسي الاجتماعي إلى مجال الدين والنصوص الدينية،ما يعني،مع هذا التحوّل،تحويل العقل إلى تابع للنصّ،بحيث يستقرّ دوره عند استثمار النص لتبرير واقع أيديولوجي معيَّن ،وعليه،ينتهي تحكيم النصوص في الصراع السياسي والاجتماعي،إلى شمولية، بلغت حدّ الهيمنة على الخطاب الديني،كما عبّر عنها مفهوم الحاكمية في هذا الخطاب.

يعتبر أبو زيد أن انشغال الخطاب الديني بمفهوم الحاكمية انطلق من كتابات سيد قطب مفكرِ جماعة الإخوان المسلمين،في فترة الستينيات،عقب الصدامِ الذي وقع مع السلطة السياسية والذي عُرِفَ بحادثة”المنشية”،وجرت على أثره محاكمةُ أعضاءِ هذه الحركة،وصدورُ أحكامٍ على أفرادها بالإعدام أوالسجن،بالرُغم من نفيهم لأي دورٍ لهم فيها،معتبرين ما حصل عبارةٌ عن حادثة مدبَّرةٍ للإيقاع بهم.لكن نشاطَهم استمرّ على نحو “سرّي”،لقد وجد حسن حنفي أن الكثير من الدارسين ربطوا ارتفاع سقف الخطاب الديني عند سيد قطب وبلوغه حدّ الذهاب بمفهوم الحاكمية إلى تكفير المجتمع وتجهيله،ومحاكمة الأنظمة السياسية والأنساق الاجتماعية والفكرية في تاريخ البشرية، “بالاضطهاد”الذي أصاب هذه الحركة وحلّ بأهلها(حسن حنفي:أثر الامام الشهيد سيد قطب على الحركات الدينية المعاصرة…،١٦٩-١٧٠).لم يكن هذا الموقف مقنعاًلأبي زيد،فاعتبره نوعاً من التبرير للخطاب أكثر منه تفسيراً للحدّة التي رافقته،لاسيما بعد تأكيده على أن مفهوم الحاكمية محايثٌ للخطاب الديني الذي ساد تاريخ الاسلام الثقافي، وكامن في تشكّله البنيوي ،ويصل أبو زيد في تعليقه إلى القول”إن عقدة الاضطهاد قد تصلُحُ لتفسير الظواهرِ السلوكية عند بعض الشباب الذي حمل أفكارَ قطب وتشرّبها داخل السجون وخرج بعد ذلك ليحوّلَها إلى واقع ولو بالاستشهاد…وإذا كان لعقدة الاضطهاد أن تفسّرَ تجلي المفهوم في خطاب قطب،فإنها لا تفسّره في المصدر الذي اعتمد عليه قطب،وهو خطاب أبي يعلى المودودي…”(نقد…٧١).ومهما يكن،فإن مفهوم الحاكمية قد فعل فعله في ترسيخ علاقة تعارضية متعسّفة(استعدائية)مع العقلانية الفلسفية ومع الثقافة الغربية وقيمها الحداثية أفضت إلى مهاجمة الذين دعوا إلى التحرير الفكري والعقلي،على النسق الغربي،مثل سلامة موسى وطه حسين…،وإلى رفض التراث الفلسفي العقلي في الثقافة الاسلامية،بعدما اعتبره وليدَ الفلسفة الإغريقية وظلاً من ظلالها،معلناً أن للإسلام فلسفتُه الأصيلة الثاوية في نصوص القرآن والحديث وفي سيرة النبي وسنته العملية(نقد الخطاب الديني ٧٢).

شدّد مفهومُ الحاكمية،بحسب أبي زيد، على نفي التعدديةِ الفكرية والسياسية وعلى معاداةِ الديمقراطية،”إن هناك حزباً واحداً للّه لا يتعدّدُ وأحزابٌ أخرى كلُّها للشيطان والطاغوت”(معالم في الطريق٤٥)(نقد الخطاب الديني٧٥)،وأسقط كل اجتهاد أو تشريع إلا بعد الإقرار بمبدإِ الحاكمية وسيادتِه لأنه لبُّ العقيدةِ وجوهرُها(نقد…ص ٧٥).ما يعني استواءَ النص بمنطوقه ومفهومه مرجعيةَ الحكم الوحيدةِ، بل الحاكمَ المنفردَ والمدبّرَ الحكيم، لشؤون الناس في الدنيا والآخرة.

أزمة استبعاد العقل النقدي ودوغما التلقين والقياس في نظم التعليم

يتابع أبو زيد نقدَه مفهومَ الحاكمية، باستجلاء أثر القياسِ وتفنيدِ دوره في توسيع شموليةِ النصوص “التي تعني في التحليل الأخير تكبيلَ الانسان بإلغاءِ فعاليته ِوإهدارِ خبرته…”(الشافعي،تأسيس اللأيديولوجيا الوسطية…ص٢٢)،ما يفتح البابَ أمام تمدّدِ سلطةِ هذا المفهوم وبسطِ نفوذه،والقياس كما وضعه الشافعي وحدّد شروطه،وأبرز صرامة العلاقة بين أركانه(الأصل،الفرع،العلة،الحكم)،عبارةٌ عن نظام معرفي داعمٍ ومؤازر،لهيمنةِ ثقافة النصّ بالصيغة التي أوجبتها الحاكمية،هو شكل من أشكال إلغاء للعقل بالعقل،استقرّ في بنية الفكر العربي الاسلامي،ترسخ فيها،وبات النظر بواسطتها أمراً بدهياً إذا جاز التعبير، وثابتةً معرفية،هي بمثابةِ عائقٍ معرفي أمام تطوّرِ هذه البِنيةِ، وتجدّدِ آليات اشتغالها.

٤—في غربة الخطاب النقدي وأسبابها

تكشف هذه الإشاراتُ في مسار الخطاب النقدي،المناصرِ للعقلانية وآلياتِ اشتغالها،وللحريةِ وقيمها،أن أثرَه في المشهد الثقافي المهيمن،وفي ثقافة المجتمع،كما في مؤسساته التدبيرية عموماً، يكادُ يكون غائباً،بل يمكن القولُ أنه خِطابٌ حطَّ في بيئةٍ اجتماعية وثقافية “معادية”، تلقتْه بحذرٍ،يصلُ إلى حدّ الرفضِ،بل رفَضَته لكونه جديداً،والجديدُ على التقليد دخيلٌ،وغريب،كأنه نبْتٌ زُرِع في الوعر أو بذارٌ وقعَ في تربةٍ مالحة،فلا حياة له فيها.

تلك هي المعضلة-التحدّي…،معالجةُ،الأرض قبل الزرع،إعدادُ المجتمع،وتحضيرُه،لكي يتقبّل خطاباً  يعيد النظر في مسلّمات ثقافية نشأ عليها وتربّى،وعاش في ظلها وفكّر بواسطتها،وقد باتت كأنها عائقٌ يمنع انسلاكَه في ركب الحداثة ومقتضياتِ المعاصرة.

لا شك أن تحقيقَ هذا الأمر ،يستدعي اعتمادَ جملةٍ من السياسات الإصلاحية، التربوية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية الكفيلة،بانتشال الانسان في مجتمعاتنا العربية، من المآسي التي يرزحُ تحتها،ويعاني من قسوتها في حياته اليومية،وتمكينِه من قراءة محفوظات الذاكرة الجماعية بعقلانية منزّهة عن إغراءات العصبانية المدمّرة.

-قلتُ التربية ابتداءاً،لأنها الأصلُ في إعداد المجتمع وتربيته على ثقافةٍ معينة،ونظامِ تفكير مخصوص،وعليه، فلا مناصَ في معركة تحقيقِ النهوض والتحديث،وإعادةِ  تشكيل معنى الحياة والإنسان  في وعي الأفراد والجماعات، من وضع برامجَ تربويةٍ وتعليمية،مدرسيةٍ وجامعية، تعيدُ الاعتبار  للعقلانية،وتجلياتها في العلوم وقوانينها،وللحرية وقيمها المتجسدة  في حق الانسان بالاختلاف والتفكير والتعبير،وللآخر المغاير باعتباره جزءاً من الهوية الانسانية الجامعة،وذلك تأسيساً لثقافة مجتمعية،تعترف بالتعددية وتصون المعية،تعلي من شأن قيم المحبة والتسامح،تتحوّل معها،بحسب الجابري،العقيدة إلى رأي والقبيلة إلى مجتمع ديمقراطي والغنيمة إلى مؤسسات اقتصادية منتجة، ثقافة،ترتاح إلى تعميم المساءلة النقدية،و تحفظ للإنسان الفرد كائنيته المخصوصة،وللمختلف القريب والبعيد الاعتراف له بما هو عليه.

-إلى التربية،لا بدّ من اعتماد سياسة اقتصادية-اجتماعية،تراعي في استثمارها للموارد الطبيعية والبشرية،تفعيل الإنتاج وتطويره،بإنشاء المؤسسات، وخلق فرص العمل أمام الأجيال الجديدة،وذلك تحقيقاً للخير العام،وللعدالة الاجتماعية،فتخفيض نسب الفقر  المدقع والأمية المرتفعة، والعمل على رفع منسوب الوعي في المجتمع،تبقى شروطاً لا بد من تحقيقها،توفيراً لسبل التقدّم والتحديث.

وقبل الذي تقدّم وبعده،يبقى المسلكَ الآمن لخطاب نقدي واثق ومسموع،

-تكوينُ قناعة راسخة عند أهل المسؤولية في الساحتين الدينية والمدنية وعبر المؤسسات التي بشرفون عليها،بضرورة إنجاز قراءة معاصرة للنصوص الدينية،تتقدّم فيها المعاني الانسانية الجامعة، و يكون تشريع الفصل بين الديني والسياسي غايتَها و محورَها،والعمل على إمداد المجتمع بثقافة تتبنى هذه القناعة،تبنّياً جازماً وصادقاً،تبشر بها،تشجع الناس على الاستنارة بمقاصدها البنّاءة في نشاطهم الفكري وحياتهم اليوميةوتحثهم على اكتشاف محاسنها في مسيرة تحقيق التقدّم المنشود.

لا أعتقد أن مجتمعاً يفتقر  إلى مثل هذه الرؤية الإصلاحية،يستطيع أن يتقبّل بسهولة،المحمول الحداثي للخطاب النقدي،، فالقراءة  التفكيكية  لأنظومات  الفكر التقليدي،شكّلت،ربما، تحدّيا واستفزازاً إذا جاز التعبير،  لمجتمع  عاش مئات السنين، ولا يزال،يعيش مطمئناً ،حياة مسوّرة بتلك الثلاثية التي تناولها الجابري في نقده للعقل السياسي العربي،ولا غرابة في استهجان هذا المجتمع،على سبيل المثال، تمييز  الخطاب النقدي بين الوحي و القرآن واعتبار الأخير، مدونة نصية ومنتج ثقافي وظاهرة تاريخية،والقرآن في مجتمع إسلامي متديّن،كتاب الله المنزل،المقدّس،المتعالي على التاريخ، المحفوظ في القلوب والعقول،ولا يمسّه إلا المطهرون.

أو لا غرابة أيضاً في رفضه، ترسيمة سيميائية(قراءة الآية(٥)من سورة التوبة)،تمسّ بجوهر العقيدة،إذ تستغني عن ذكر الله والنبي والمؤمنين،والاكتفاء بالإشارة اليهم بكنايات وظيفية،مثل المرسِل الأول،والمرسَل إليه الأول،والمرسَل إليه الثاني،متجاهلة وقع إسم الله والنبي في وجدان الناس وفي طقوس تديّنهم ومنازل إيمانهم، وذلك،سعياً لإحداث مسافة تحرر القارئ من سلطة الرموز الدينية،في الوقت الذي نشأ فيه و تربّى على ضرورة التحرر مما سواها.

خاتمة الكلام

يبقى أن أشير في خاتمة هذا المقال، إلى أن الخطابَ النقدي،خطابٌ اختلافي في الأصل والاختلافُ، بحمولته الثقافيةِ الثرية والنشطة،لم يبارح في وعي الجماعاتِ وفي مخيالها، منطقةَ”الشواذِ المستقبح”،معاقرتُه،مجلبة”لوجع الرأس”كما يقال،ومدعاةٌ لضروب من الاشتباه لا تحصى،أما الاقتداء والتشابه والتماثل،والنسج على منوال السائد،مسمّيات متعددة للتعبير عن مسمّى واحد،هو التقليد،ناظم الحياة في مجتمعاتنا،ألِفت عشرتَه واعتادت العيشَ مع وجوهه وأحواله في سكون واستقرار ،أين منهما سكون المياه الآسنة واستقرارها.

وعليه

فإن تحدّيات الخطاب النقدي، تحدّياتٌ مركبّةٌ،بالغةُ التعقيد،وتفكيكَها،يحتاج إلى الكثير من الجهود الفكرية المخلصة والسياسات المتنوّرة،وإلى الكثير الكثير من الصبر  و الإصرار على إحداث التغيير المنشود في وعي المخاطَبين وفي إدراكهم لقيمة الحياة التي يرعاها عقلٌ حرّ وحريةٌ عاقلة…والسلام.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete