خَلَقَ الَذكَرَ والأنُثَى كِليهمَا معًا على صورتِهِ قصة “الخلق الأول” بين التفسير الجندري والتفسير القيمي

تكوين 

مقدمة:

على الرغم من الأصل الأسطوري لقصة الخلق الذي حاول القرآن نفيه من طريق اكتفاءه -بنحو ما أقر الشيخ محمد عبده في تفسيره- ببيان موضع العبرة في خلق آدم واستعداد الكون لأن يتكمل به، وكونه قد أُعطي استعدادًا في العلم والعمل لا نهاية لهما ليُظهر حكم الله ويقيم سننه في الأرض فيكون خليفة له، قاصدًا عدم التطرق إلى بيان كيفية الخلق “أي خلق آدم وحواء“، للفت النظر إلى ما وراء القصة من عبرة وموعظة تنحصر بالأساس في تأكيد طاعة الله وعدم معصيته وما يترتب عليهما من ثواب وعقاب، إذ تنطوي القصة كلها كما وردت في القرآن في بيان كيف نال آدم عقاب ربه بعد أن عصاه واتبع الشيطان.

إلا أن التصور الذي ما يزال شائعًا إلى الآن، هو التصور الميثولوجي للخلق الأول الذي فحواه أن الله قد خلق آدم من طين ثم خلق حواء من ضلع آدم، فالذكر هو المخلوق الأول وهي الآخر، بل هي قطعة منه وهو المخلوق لذاته وهي المخلوقة له ومن أجله، فهي شيطانه غواية لأنها رفيقة إبليس، وأخرجت آدم من الجنة، فهل يتفق القرآن مع روايات العهد القديم في هذا الشأن المتعلق بالمرأة؟ هل مَيَّزَ القرآن بالفعل بين خلق الرجل والمرأة بما يُشير إلى تدنِّ خَلْقِها، وقَصَر قدرتها على دور أحادي محدد بيولوجيا؟! وبما يترتب على ذلك بالضرورة من تحديد وظائف خاصة بها بحكم فطرتها التي خُلقت عليها؟ وهل آدم في القرآن هو آدم الذكر، وهل خُلقت حواء حقًا من ضلعه؟

القصص القرآني، علائقية ملتبسة

إذا نحن أجلنا النظر في التوراة والإنجيل نجد أنهما اشتملا على كثير مما اشتمل عليه القرآن ولا سيما ما كان له تعلق بقصص الأنبياء عليهم السلام، وذلك على اختلاف في الإجمال والتفصيل، فالقرآن إذا عرض إلى قصة من قصص الأنبياء مثلًا، فإنه ينحو فيها ناحية يخالف بها منحى التوراة أو الإنجيل، فتراه يقتصر على مواضع العظة ولا يتعرض إلى تفصيل جزئيات المسائل، فلا يذكر تاريخ الوقائع ولا أسماء البلدان التي حصلت فيها، كما أنه لا يذكر في الغالب أسماء الأشخاص الذين جرت على أيديهم بعض الحوادث، ولا يدخل في تفاصيل الجزئيات، بل يتخير من ذلك ما يمس جوهر الموضوع وما يتعلق بموضع العبرة([1]).

وهكذا يبدو أن موقف القرآن إزاء القصص (قصص الأنبياء والأمم الغابرة) موقفًا مُلتبسًا، إذ تكاد تبدو للوهلة الأولى أنها أي (القصص القرآني) متشابهة تمامًا مع ما يرويه أهل الكتاب، ولكن من ناحية أخرى يبدو القرآن مقتضبًا جدا، بل ومتباينًا في بعض الأحيان مع تلك الروايات اليهودية التوراتية، ومن ثمَّ فلا سبيل إلى محاولة فك هذه الإشكالية إلا باستدعاء السياق التاريخي الذي ارتبط  بتشريع هذه القصص في القرآن، فيقول النيسابوري في سبب تشريع قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا} (الكهف: 83): “قال قتادة:

إن اليهود سألوا نبي الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذي القرنين، فأنزل الله تعالى هذه الآيات”([2]).

ويفسر ابن كثير هذه الآية فيقول:

“يقول -تعالى- ذكره لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (ويسألونك) يا محمد (عن ذي القرنين) أي: عن خبره. وقد قدمنا أنه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب يسألون منهم ما يمتحنون به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: سلوه عن رجل طواف في الأرض، وعن فتية لا يدري ما صنعوا، وعن الروح، فنزلت سورة الكهف”([3]).

وبذلك مضى أهل الكتاب من اليهود والنصارى يحاجُّون النبي -صلى الله عليه وسلم- في نبوته، وذلك بقياس القصص القرآني بما لديهم من أخبار متعلقة بشأن هذه القصص، أما المشركون فقد راحوا يؤكدون أن هذه القصص ليست من الوحي بشيء، علاوة على وصفها بأساطير الأولين: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (الفرقان:5)”

وانطلاقًا من هذا فيبدو أن سياق التشريع المرتبط بالقصص القرآني سياق سجالي بالأساس جرى بين النبي من جهة واليهود من أهل الكتاب ومعهم المشركين من جهة أخرى. وفحوى السياق أن المشركين قد أُرسلوا من اليهود إلى النبي يسألونه عن بعض القصص يتثبتوا منها أنه نبي أم مُدَّعٍ للنبوة.

بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك حين تصورا أنهم يستطيعون الإتيان بمثل هذه الأساطير، ويُصور القرآن هذا الحوار والجدال، في قوله: “وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا ۙ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ” (الأنفال:31)، وقوله: “قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا” (الإسراء:88).

القصص الحق، سياق البرهان على النبوة

مضى القرآن في -سياق البرهان على النبوة- يُقر بأنَّ القصص القرآني تتضمن معانٍ دينية تُرشد إلى الحق في قوله تعالى: {إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ…} (آل عمران:62)، وذلك نحو ما أقر “فخر الدين الرازي” في تفسيره لهذه الآية فيقول:

“فالقصص هو مجموع الكلام المشتمل على ما يهدي إلى الدين ويرشد إلى الحق ويأمر بطلب النجاة”([4]).

ويعزُّز الرازي قوله هذا ببيان الفرق بين القصة (الحكاية ذاتها) وبين المغزى من ورائها، فيقول في تفسير قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (يونس:38):

“أنهم كلما سمعوا شيئًا من القصص قالوا: ليس في هذا الكتاب إلا أساطير الأولين ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس هو الحكاية نفسها، بل أمور أخرى مغايرة لها، فأولها: بيان قدرة الله -تعالى- على التصرف في هذا العالم، ونقل أهله من العز إلى الذل، ومن الذل إلى العز، وذلك يدل على قدرة كاملة”([5]).

كما جاء في تعريفه للحق في تفسيره لقوله تعالى: {وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ} (هود:120)، بأنه: “إشارة إلى البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوة“([6])، فإن ذلك يعني -وفق الرازي- أن صفة الحق الذي وَصَفَ به القرآن القصص، لم تتضمن القصة ذاتها، بل المقصد الديني والأخلاقي الكامن وراء القصة.

ويمضي الأستاذ الإمام “محمد عبده” إلى أبعد من ذلك حين يقول عند تفسيره لقصة هاروت وماروت من سورة البقرة:

“إن القصص جاءت في القرآن لأجل الموعظة والاعتبار، لا لبيان التاريخ ولا للحمل على الاعتقاد بجزئيات الأخبار عند الغابرين، وإنه ليَحكي من عقائدهم الحق والباطل ومن تقاليدهم الصادق والكاذب ومن عاداتهم النافع والضار لأجل الموعظة والاعتبار، فحكاية القرآن لا تعدو موضع العبرة ولا تتجاوز مواطن الهداية، ولا بد أن يأتي في العبارة أو السياق وأسلوب النظم ما يدل على استحسان الحسن واستهجان القبيح”([7]).

ولعل ما يحقق ذلك هو ذكر القصص في كثير من الآيات على أساس أنها من الأمثال: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا…} (يس: 13)، (التحريم 10)، والمَثل يُوصف بالحق لأنه شارح للحق مبينٌ له، ولأنه مُقرٌّ للحق ومؤكدٌّ له، “والمَثل في اللغة: الشبه والشبيه، وضربه عبارة عن إيقاعه وبيانه، وهو في الكلام أن يُذكر لحال من الأحوال ما يلائمها ويشابهها ويُظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفيا، ولما كان المراد به بيان الأحوال كان قصة وحكاية، واختير له لفظ الضرب لأنه يأتي عند إرادة التأثير وهيج الانفعال، كأن ضارب المثل يقرع به أذن السامع قرعًا ينفذ أثره إلى قلبه وينتهي إلى أعماق نفسه، ولكن في الكلام قلبا حيث جعل المثل هو المضروب وإنما هو مضروب به، ثم ذكر -تعالى- إن الناس في ذلك فريقان (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم) لأنه ليس نقصا في ذاته، وقد جاء في كلامه -تعالى-، فهو ليس نقصًا في جانبه وإنما هو حق، لأنه مُبين للحق ومُقررٌ له وسائق إلى الأخذ به بما له من التأثير في النفس، وذلك أن المعاني الكلية تعرض للذهن مجملة مبهمة، فيصعب عليه أن يحيط بها وينفذ فيها فيستخرج سرها، والمثل هو الذي يفصل إجمالها ويوضح إبهامها“([8]).

إقرأ أيضا: حتى لا تُخْتَطَف معاني القرآن الكريم: الجزء الأول نحو بناء وعي علمي غيرِ مُؤدلج بالقرآن الكريم

هذا الذي يقال في المَثل يُقال في القصة، لا لأن المَثل قد يكون قصة أو أن القصة قد تجيء مَثلًا فحسب، بل لأن هذا الذي يقال في التمثيل من ناحية شرح المسائل والتمكين لها في الأنفس، يقال مثله وأكثر منه في القصة. ولقد صرح القرآن الكريم في كثير من المواطن، بأن أخبار الأنبياء والمرسلين وأقاصيصهم لم ترد في القرآن إلا على أساس أنها من الأمثال([9]).

والذي نستنتجه أنَّ الأمثال المضروب بها القصص -كما وضح الإمام محمد عبده– ليست هي الحق في ذاتها، وإنما شارحه للحق مؤكدة له، إذ يُعْنَى القرآن بالأساس من وراء هذه الأمثال التي يضربها للناس بالمعاني الدينية الأخلاقية.

ويبدو أنَّ إبراز هذه القيم الدينية والأخلاقية لعلها هي الدافع الأساسي وراء اقتضاب، بل وتباين القصص القرآني في كثير من الأحيان عن القصص التوراتي ومرويات أهل الكتاب، أما عن التشابه، فإنما ورد في سياق المساجلة بين النبي من جهة، والمشركين ومعهم اليهود من جهة أخرى -تلك التي أوضحناه أعلاه-

بل إن جاز القول فإن إيراد القرآن للقصص في الأصل ربما خاضع لهذا السياق، وذلك وفقًا لقول الرازي في تفسير قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (يونس: 38).

“ثم إنه -عليه الصلاة والسلام- أتى بهذا القرآن، فكان هذا القرآن مُشتملا على أقاصيص الأولين، والقوم كانوا في غاية العداوة له، فلو لم تكن هذه الأقاصيص موافقة لما في التوراة والإنجيل لقَدحوا فيه ولبالغوا في الطعن فيه وقالوا له إنك جئت بهذه الأقاصيص لا كما ينبغي، فلما لم يقل أحد ذلك مع شدة حرصهم على الطعن فيه، وعلى تقبيح صورته؟ علمًا بأنه أتى بتلك الأقاصيص مطابقة لما في التوراة والإنجيل، مع أنه ما طالعهما ولا تتلمذ على أحد فيهما، وذلك يدل على أنه -عليه السلام- إنما أُخبر عن هذه الأشياء بوحي من الله -تعالى-“([10]).

ويُعزِّز الطبري هذا القول في تفسيره لقوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88) فيقول: “ذُكِر أن هذه الآية نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب قوم من اليهود جادلوه في القرآن، وسألوه أن يأتيهم بآية غيره شاهدة له على نبوَّته، لأن مثل هذا القرآن بهم قُدرة على أن يأتوا به، فقالوا: أخبرنا يا محمد بهذا الذي جئتنا به حقّ من عند الله عزّ وجلّ ، فإنا لا نراه متناسقا كما تناسق التوراة، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أما وَالله إِنَّكُمْ لَتَعْرِفُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ الله تَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدَكُمْ، وَلَو اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ على أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ ما جاءُوا بِهِ، فأنـزل الله عزّ وجلّ فيهم وفيما قالوا: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)([11]).

ولعل الحاصل من كلّ ما تقدّم أنَّ العرض القرآني المقتضب لقصة آدم كما وردت في قوله -تعالى- في سورة البقرة الآيات (30-38): {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدم الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ..}، إنما يكشف عن المغزى الجوهري الكامن وراءها، الذي يمكن وصفه -إذا صح التعبير- بجدل المعصية والتوبة، الخير والشر، الهداية في اتباع أوامر الله والشقاء في معصيته.

فالقصة القرآنية للخلق توضح هدفًا أخلاقيًّا مُحددًا يتمثل في تصوير تلك الثنائية بين الكفر والمعصية من جهة، والإيمان والطاعة من جهة أخرى، فالمعصية تقود إلى الضلال والمشقة، في حين أنَّ الطاعة والتوبة تؤدي إلى الإيمان والهداية، فآدم بعد أن عصى ربه، بإغواءٍ من الشيطان {وَعَصَىٰ آدم رَبَّهُ فَغَوَىٰ} (طه: 121)، تاب من معصيته، {فَتَلَقَّىٰ آدم مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 37)، بعد أن عاقبه الله بطرده من الجنة إلى الأرض يَكِدُّ ويتعب ليحصِّل فيها قُوْتَهُ، مشيرا بذلك إلى هدايته {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 38).

التفسير الذكوري، التمييز في الخلق

ونظرًا لاقتضاب القرآن بخصوص القصص، فقد راح المفسرون يبحثون عن سندٍ آخر يكشف عن كثير مما طواه القرآن، فوجدوا في الإسرائيليات معينًا لا ينضب من الإجابات التي تتلاءم مع ثقافاتهم وواقعهم التاريخي، فقد كان أهل الكتاب  بين العرب يومئذ لا يتميزون عنهم في بداوتهم وثقافتهم ومستواهم العقلي، وذلك على النحو الذي أقره “ابن خلدون” بقوله:

“إن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود، ومن تبع دينهم من النصارى، وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب ومعظمهم من “حمير” الذين أخذوا من اليهودية فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها، مثل أخبار بدء الخليقة، وما يرجع إليه من الحدثان والملاحم وأمثال ذلك، وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم، وفى أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم وليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى فيها الصحة التي يجب العمل بها، وتساهل المفسرون في مثل ذلك، وملأوا الكتب بهذه المنقولات وأصلها كما قُلنا أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلون من ذلك”([12]).

وانطلاقًا من هذه الثقافية الذكورية والبنية المجتمعية التمييزية، عوَّلَ المفسرون على رواية واحدة من روايات العهد القديم -وهى الرواية القائمة على التمييز الخَلقي بين آدم الذكر وحواء الأنثى- وذلك على الرغم من وجود روايتين متباينتين أشد التباين في قصة الخلق، فالرواية الأولى المذكورة في الإصحاح الأول من سفر التكوين توضح أن الله قد خلق في البداءة السماء والأرض، وخلق السمك والطيور ومعظم الكائنات التي تعيش في الماء والهواء، ثم خلق معظم الكائنات التي تعيش على الأرض، وأخيرًا خلق الذكر والأنثى كليهما معًا على صورته: “وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم، وعلى جميع الأرض، وعلى كل الدبابات التي تدبُّ على الأرض، فخلق الله الإنسان على صورته، وعلى صورة الله خلقه، ذكرًا وأنثى خلقهم، وباركهم الله وقال لهم أثمروا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها، وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض”([13]).

أما الرواية الأخرى  فتوضح أن الله قد خلق في البداءة السماء والأرض، ثم أعقبهم بخلق الإنسان الأول “آدم“، وبعده خلق جميع الحيوانات، لتكون لآدم مُعينًا نظيرًا، ثم في النهاية خلق الله المرأة من ضلع آدم لتؤنس وحشته، فهي منه ولأجله، بعد أن عجزت الحيوانات عن مؤانسته، “وجبل الرب الإله آدم ترابًا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفسًا حية، وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقًا، ووضع هناك آدم الذي جبله ،….، وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها، وأوصى الرب الإله آدم قائلًا من جميع شجر الجنة تأكل أكلًا، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت، وقال الرب الإله ليس جيدًا أن يكون آدم وحده، فاصنع له مُعينًا نظيره، وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها، وكل ما دعا به آدم ذات نَفْس حية فهو اسمها، فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء وجميع حيوانات البرية، وأما لنفسه فلم يجد مُعينًا نظيرهُ، فأوقع الرب الإله سباتًا على آدم فنام، فاخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحمًا، وبنى الرب الاله الضلع التي اخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم، فقال آدم هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي، هذه تدعى امرأة لأنها من امرء أخذت، لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسدًا واحدًا، وكانا كلاهما عريانين آدم وامرأته وهما لا يخجلان“([14]).

فشرَع المفسرون يفسرون بعض الآيات الواردة في القرآن التي تؤكد خلق الناس جميعًا من نَفْس واحدة وهم حصرًا ثلاث آيات يقترن فيها لفظ “النفس” بلفظ “الزوج” وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}(النساء:1).

وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}(الأعراف: 189).

وقوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ}(الزمر: 6). بما جاء في التوراة على أن النَّفْس الواحدة هي آدم “الذكر”، وزوجها حواء “الأنثى” قد خُلقت من ضلع من أضلاعه، وذلك على النحو الذي أقره الطبري في تفسيره لهذه الآيات أن هذا ما بلغه عن أهل التوراة من أهل الكتاب، فيقول: “عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ الله من معاتبة إبليس، أقبل على آدم وقد علمه الأسماء كلها فقال: “يا آدم أنبئهم بأسمائهم” إلى قوله: “إنك أنت العليم الحكيم” قال: ثم ألقى السنة على آدم (فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة)، وغيرهم من أهل العلم، عن عبد الله بن عباس وغيره، ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر، ولأم مكانه لحما، وآدم نائم لم يهب من نومته، حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء، فسواها امرأة ليسكن إليها. فلما كشف عنه السِنة وهبَّ من نومته، رآها إلى جنبه، فقال فيما يزعمون والله أعلم: لحمي ودمي وزوجتي، فسكن إليها. فلما زوجه الله تبارك وتعالى، وجعل له سكنا من نفسه، قال له، قبيلا {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين}([15]).

ولهذا كانت المرأة عوجاء، لأنها خلقت من أعوج وهو الضلع. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن المرأة خلقت من ضلع – في رواية: وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه – لن تستقيم لك على طريقة واحدة فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها”([16]).

وتأسيسًا على هذا المعنى يبدو أن المفسرين قد تبنوا المفاهيم والروايات الإسرائيلية التي تتفق مع عقليتهم وثقافتهم القائمة على التمييز بين الذكر والأنثى، وذلك على النحو الذى جعل “فخر الدين الرازي” يُقر بأن المرأة ضعيفة الخلق سخيفة، وأنها خُلقت كالدابة من أجل أن ينتفع بها الرجل، فـ الرازي في تفسيره لقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم: 21)، يقول: “قوله: {خلق لكم} دليل على أن النساء خلقن كخلق الدواب والنبات وغير ذلك من المنافع، كما قال تعالى: {خلق لكم ما في الأرض} (البقرة : 29)، وهذا يقتضي أن لا تكون مخلوقة للعبادة والتكليف، فنقول: خلق النساء من النعم علينا وخلقهن لنا وتكليفهن لإتمام النعمة علينا لا لتوجيه التكليف نحوهن مثل توجيهه إلينا وذلك من ناحية النقل والحكم والمعنى، أما النقل فهذا وغيره، وأما الحكم فلأن المرأة لم تكلف بتكاليف كثيرة كما كُلف الرجل بها، وأما المعنى فلأن المرأة ضعيفة الخلق سخيفة فشابهت الصبي، لكن الصبي لم يكلف فكان ملائم أن لا تُؤهل المرأة للتكليف، لكن النعمة علينا ما كانت تتم إلا بتكليفهن لتخاف كل واحدة منهن العذاب فتنقاد للزوج وتمتنع عن المحرم، ولولا ذلك لظهر الفساد”([17]).

ولعل الأمر لا يقف عند مجرد جعل النساء كالدواب، بل تجاوز ذلك مع القرطبي الذي راح يُعلل أوجه الشبه بين المرأة والدابة وذلك في تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ…} (ص: 23) فيقول: “كُني بالنعجة عن المرأة، لما هي عليه من السكون والمَعْجَزَةِ وضعف الجانب. وقد يُكنى عنها بالبقرة والحجر والناقة، لأن الكل مركوب”([18]). وقد مضى يؤكد أن الغرض الأساسي من خلق المرأة، إنما لينتفع بها الرجل، فهي إنما خُلقت فحسب من أجله، فيقول: “ومعنى {خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها} أي نساء تسكنون إليها. من أنفسكم أي من نطف الرجال ومن جنسكم. وقيل: المراد حواء، خلقها من ضلع آدم، قاله قتادة: {وجعل بينكم مودة ورحمة} قال ابن عباس ومجاهد: المودة الجماع، والرحمة الولد، وقاله الحسن: وقيل: المودة والرحمة عطف قلوبهم بعضهم على بعض. وقال السدي: المودة: المحبة، والرحمة: الشفقة، وروي معناه عن ابن عباس قال: المودة حب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها بسوء. ويقال: إن الرجل أصله من الأرض، وفيه قوة الأرض، وفيه الفرج الذي منه بُدئ خلقه فيحتاج إلى سكن، وخلقت المرأة سكنا للرجل، قال الله تعالى: {ومن آياته أن خلقكم من تراب}. وقال:{ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها}، فأول ارتفاق الرجل بالمرأة سكونه إليها مما فيه من غليان القوة، وذلك أن الفرج إذا تحمل فيه هيج ماء الصلب إليه، فإليها يسكن وبها يتخلص من الهياج، وللرجال خلق البضع منهن، قال الله تعالى: {وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم} فأعلم الله عز وجل الرجال أن ذلك الموضع خلق منهن للرجال، فعليها بذله في كل وقت يدعوها الزوج، فإن منعته فهي ظالمة وفي حرج عظيم، ويكفيك من ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها”. وفي لفظ آخر: “إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تُصبح”([19]).

وعلى هذا النحو يبدو أن الخطاب التفسيري قد مضى في ترسيخ التفاوت والتمييز الجندري بين الذكر والأنثى، وذلك بوقوفه أولًا في تفسيره للقصص القرآني على أساس التاريخ، وليس على المقصد الكلي من قيم دينية وأخلاقية تدعوا إلى الهداية والإرشاد والموعظة، وآخرًا وهذا –بيت القصيد- تفسيره لقصة الخلق قصة أصول الإنسان، تفسيرًا جندريًا([20]).

خلق آدم، النوع الآدمي (الجنس البشري)

لقد فسر المفسرون فيما سبق، النَّفْس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النساء:1)، بأنها آدم عليه السلام، بيد أن الإشكالية إنما تكمُن بالضرورة في التعبير عن النَّفْس التي هي “آدم” بألفاظ النوع([21](، بما يعنى تفسير مفردة النَّفْس تلك على أنها آدم “الذكر”.

وذلك في حين أن الخطاب القرآني لم يعبر عن آدم بألفاظ النوع، بالإضافة إلى أنه لم يشي على الإطلاق بكيفية خلق آدم، وإنما ذكر القرآن في سياق الحوار الذى دار بين الله عز وجل من جهة والملائكة من جهة أخرى، أنه تعالى خالق بشرًا من طين، بدليل قوله: “إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ” (ص: 71)، وإذا كان هذا البشر قد كُنِي به في آيات أخرى بلفظ آدم، وذلك لأنه خُلق من أديم الأرض، فهذا لا يُحيل بالضرورة إلى أن آدم ذلك البشر الذى خلقه الله من طين هو ذكرٌ أو حتى أنثى، وإنما “المراد بآدم النوع الآدمي“([22])، بما يعنى أنه يعبر عن الجنس البشرى على العموم، فآدم هو كناية عن الإنسان الذي خلقه الله من تراب أو طين، فكأن آدم هو تعبير مجازي عن أصل الإنسان الذي هو التراب.

وآية ذلك أن القرآن قد راح يؤكد أن أصل جميع البشر واحدٌ، قد خُلقوا من حقيقة واحدة وطبيعة، ذكورًا كانوا أو إناثًا، وذلك بتشريعه آيات تُبين أن ماهية الجنس البشرى (ماهية الإنسان على العموم) واحدة وذلك في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} (الأنعام: 2) {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا…} (غافر: 67)([23]).

ويُحيل السياق الخطابي لهذه الآيات بالطبع إلى نفي التمييز بين الناس على أساس الخلق، وهذا بدليل أن الخطاب في الآيات موجه إلى البشر جميعًا بصيغة الجمع المُعَبر عنها بلفظ “خلقكم”، فإن ذلك يعنى أن الله قد خلقكم أيها الناس (ذكورًا أو إناثًا) من تراب، فأصلكم واحدٌ، وخلقكم واحدٌ، فالخطاب موجه إلى الجنس البشرى على العموم.

وضمن هذا السياق فإن النَّفْس التي جرى المفسرون على تفسيرها بأنها آدم الذكر، قد يبدو أنها وردت في القرآن للدلالة على غير هذا المعنى، فقد ورد اللفظ بهذه الصيغة فقط التي هي (النفس) حصرًا في القرآن (ثمانية وخمسين مرة) بالإضافة إلى الثلاثة آيات السالفة([24])، وفى هذه الآيات المتعددة تأتى النَّفْس شاملة الذكر والأنثى معًا، فالخطاب في الآيات خطابًا للإنسان (للجنس البشرى) على العموم، بل لعل المثير للغرابة أن المفسرين قاموا بتفسير هذه الآيات وفق هذا المعنى!

ولعل مثالًا على ذلك قوله تعالى: {كُلُّ نَفْس ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (العنكبوت 57) يقول ابن كثير: “أي: أينما كنتم يدرككم الموت، فكونوا في طاعة الله وحيث أمركم الله، فهو خير لكم، فإن الموت لا بد منه ولا محيد عنه، ثم إلى الله المرجع والمآب، فمن كان مُطيعا له جازاه أفضل الجزاء، ووافاه أتم الثواب” ([25])، فالموت ليس خاصًا بنفس الذكور دون نف الإناث، بل هو مدرك كل الناس.

وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْس هُدَاهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (السجدة: 13) يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: “قال محمد بن كعب القرظي: لما قالوا: ربنا أبصرنا وسمعنا فأرجعنا نعمل صالحا إنا موقنون رد عليهم بقوله: ولو شئنا لآتينا كل نَفْس هداها يقول: لو شئت لهديت الناس جميعا فلم يختلف منهم”([26])، ففُسرت النَّفْس بوصفها إشارة إلى الناس جميعًا.

وقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْس عَن نَفْس شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُون} (البقرة: 48) يقول الطبري: “فإنه تحذير من الله تعالى ذكره عباده الذين خاطبهم بهذه الآية عقوبته أن تحل بهم يوم القيامة وهو اليوم الذي لا تجزي فيه نَفْس عن نَفْس شيئا ولا يجزي فيه والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا”([27])، فالعقاب شامل كل نَفْس ذكرًا كانت أو أنثى.

وقوله: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْس تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْس مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)(النحل: 111) يقول الطبري: ( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ) تخاصم عن نفسها، وتحتجُّ عنها بما أسلفت في الدنيا من خير أو شرٍّ أو إيمان أو كفر، (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْس مَا عَمِلَتْ) في الدنيا من طاعة ومعصية، (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) يقول: وهم لا يفعل بهم إلا ما يستحقونه ويستجوبونه بما قدّموه من خير أو شرّ، فلا يجزى المحسن إلا بالإحسان ولا المسيء إلا بالذي أسلف من الإساءة، لا يعاقب محسن ولا يبخس جزاء إحسانه، ولا يثاب مسيء إلا ثواب عمله.
واختلف أهل العربية في السبب الذي من أجله قيل تجادل، فأنَّث الكلّ، فقال بعض نحويِّي البصرة: قيل ذلك لأن معنى كلُّ نفس: كلُّ إنسان، وأنَّث لأن النَّفْس تذكر وتؤنث”([28]). وبهذا المعني فـ النَّفْس هي الإنسان بشقيه (الذكر والأنثى)، فهي أصل مشترك بين الناس جميعًا.

وإلى جانب ذلك فإن لفظ “نفس” “في كلام العرب يجري على ضربين: أحدهما قولك خرجت نَفْس فلان أي روحه، وفي نَفْس فلان أن يفعل كذا وكذا أي في روعه، والضرب الآخر معنى النَّفْس فيه معنى جملة الشيء وحقيقته”([29]).

وبتأكيد حضور هذه الدلالة فإذا كانت النَّفْس الواحدة عُبر عنها في دلالة القرآن في بعض الأحيان كونها آدم، فإن ذلك يعنى أن آدم هو تعبيرٌ عن الجنس البشري على العموم، هو كناية عن أصل الإنسان الذي خلقه الله من تراب، فلفظ النَّفْس هنا ليست بالضرورة لفظًا مُذكرًا “كما هو مُسلم به”، لأنها تُمثل الإنسان ذكرًا أو أنثى.

خلق حواء: من الطبيعة والجنس نفسه

وبالمثل فسَّرَ المفسرون لفظ زوج في قوله تعالى: “وخلق منها زوجها” في الآيات الثلاثة السالفة التي تقرن بين لفظ نَفْس ولفظ زوج، تفسيرًا جندريًا، فإذا كان لفظ النَّفْس هو آدم الذكر، فلفظ زوج هنا، فُسرَ بوصفه الأنثى “حواء“، والتي خُلقت بالطبع من النَّفْس، وإذا كان القرآن لم يُبين كيفية خَلق آدم، فما بالنا بكيفية خَلق حواء التي لم يرد ذكرها مطلقًا في القرآن، بوصفها خُلقت من ضلعٍ من أضلاع آدم!

وعلى المنوال نفسه وفى المسار نفسه يَرِدُ لفظ “زوج” في القرآن، مثل لفظ “نَفْس” فهو ليس بالضرورة لفظًا مؤنثًا، فهناك آيات يأتي فيها لفظ الزوج إشارة إلى الذكور، في قوله: {َإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } (البقرة: 230)، وقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (المجادلة: 1). فلفظ “زوج” ليس بالضرورة ذكرًا أو أنثى، ولكنه يُعبر على أن لكل نَفْس زوجٍ لها من النوع نفسه، أي من الجنس والطبيعة نفسها.

وعلى هذا النحو يختلف “فخر الدين الرازي” عن معظم المفسرين القدامى، فراح يتساءل مُندهشًا ومتعجبًا بقوله: “أي فائدة في خلق حواء من ضلع من أضلاع آدم!، مؤكدًا أن الله تعالى طالما قادر على خلق آدم من التراب كان قادرًا أيضًا على خلق حواء من التراب. ولتأكيد هذا المعني يستشهد بقول “أبي مسلم الأصفهاني“: الذي يفسر قوله تعالى: {وخلق منها زوجها} أي من جنسها وهو مثل قوله تعالى: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجًا} (النحل: 72)([30]).

وطبقًا لقول فخر الدين الرازي الذي يتفق به مع قول أبي مسلم الأصفهاني من أن حواء قد خُلقت من الجنس نفسه الذي خُلق من آدم “المَعني به الجنس البشري على العموم”، ولما كان الله قادرًا على خلق آدم من تراب كان قادرًا أيضًا على خلق حواء من تراب، فماهية الخلق واحدة، فإن لفظ زوج في الاستخدام القرآني ليس لفظًا جندريًا يَشي بالتمييز بين الذكر والأنثى، وفَرْض تبعية الأنثى للذكر لأنها خُلقت منه وهو أصلها، بل هو لفظٌ عام يأتي بمعنى الرفيق أو الشريك الذي به تتم علمية الخلق سواء خلق الإنسان أو حتى خلق النباتات والحيوانات، فاللفظ بمشتقاته يرد في القرآن (إحدى وثمانون مرة)، ليؤكد أن من كل شيء خُلق زوجين {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الذاريات: 49).

فخُلق من الجنس البشرى زوجين وذلك في قوله: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ} (النجم: 45)، {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ} (القيامة: 39)، أي “أنه ابتدع إنشاء الزوجين الذكر والأنثى، وجعلهما زوجين، لأن الذكر زوج الأنثى والأنثى له زوج فهما زوجان، يكون كلُّ واحد منهما زوجًا للآخر”([31]).

وكذلك من النباتات والحيوانات زوجين في قوله: {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ..} (الرعد: 3)، {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} (الشعراء: 7)، {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ…} (هود: 40)، {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج: 5). فسنة الله في الكون أنه خلق كافة المخلوقات من زوجين، {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} (الزخرف: 12)، {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} (يس: 36)، وذلك لاستمرار الحياة وتعمير الكون.

وتبعًا لذلك (فخلق منها زوجها) أي من الطبيعة والجنس نفسه، كما أن النَّفْس هي أصل الشيء وطبيعته وجنسه، كما في قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 128)، لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (آل عمران: 164).

وإن ما يثير الغرابة حقًا هو أن نجد من المفسرين “كابن كثير” يُفسر: “(من أنفسهم) أي: من جنسهم ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع به”([32])، بل نجده في تفسيره للآيات التي تقرن بين لفظ نَفْس ولفظ زوج ولكنها تأتي بصيغة الجمع وهم حصرًا (ثلاثة آيات) يتوافق مع هذا القول الذي ينفى أي تمييز بين خلق الذكر والأنثى، فيقول في قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ …} (النحل: 72) أن الله تعالى “يذكر نعمه على عبيده، بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجًا من جنسهم وشكلهم وزيهم، ولو جعل الأزواج من نوع آخر لما حصل ائتلاف ومودة ورحمة، ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكورا وإناثًا، وجعل الإناث أزواجا للذكور”([33])، ويقول في تفسير قوله {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا…} (الشورى: 11) “أي: جعل من جنسكم وشكلكم، ذكرا وأنثى”([34])، والمعنى نفسه من تفسير قوله {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}  (الروم: 21).

ومنبع الغرابة هنا أن تفسير ابن كثير لهذه الآيات، يتناقض بالكلية مع ما فسره من قبل -متفقًا مع غيره من المفسرين- بأن النَّفْس الواحدة هي آدم، وزوجها حواء قد خُلقت من ضلعه الأعوج وهو نائم وذلك وفقًا للآيات التي تأتى فيها النَّفْس والزوج بصيغة مفردة([35])، كما رأينا الرازي الذي يؤكد أن أصل خلق آدم وحواء واحدٌ وهو التراب، إلا أنه قد يرى أن خلق النساء كخلق الدواب، فلماذا إذًا هذا التفاوت والتناقض بين أقوال المفسرين في عملية الخلق؟!

وَخَلَقَ الذكر والأنثى، المساواة في الخَلْق

وإذ يبدو هكذا أن الخطاب القرآني لم يكتف فحسب بتأكيده أن أصل الإنسان واحدٌ، وأن الناس جميعًا متساوون في الخلق دون تمييز بينهم، فقد مَضى يُشرعُ آيات تؤسس المساواة التامة بين الذكر والأنثى على أساس الخلق، لا سيما تحمل هذه الآيات لفظي (الذكر والأنثى) مباشرة، بمعنى (استخدامه لألفاظ النوع تحديدًا في هذه الآيات)، وهم حصرًا (أربع آيات) وذلك في قوله:

  • {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13)
  • {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ} (النجم: 45)
  • {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ} (القيامة: 39)
  • {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ} (الليل: 3)

وقد تكشف القراءة المتأنية للتفسيرات المختلفة لهذه الآيات، عن درجة التناقض الذي وقع فيه المفسرون في تفسيرهم للآيات المتعلقة بمسألة الخلق، ففي آية الحجرات يقول الرازي: “وقوله تعالي (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى)، فيه وجهان: أحدهما، من آدم وحواء، وآخرهما، كل واحد منكم أيها الموجودون وقت النداء خلقناه من أب وأم، فإن قلنا: إن المراد هو الأول، فذلك إشارة إلى أن لا يتفاخر البعض على الآخر لكونهم أبناء رجل واحد وامرأة واحدة، وإن قلنا: إن المراد هو الآخر، فذلك إشارة إلى أن الجنس واحد، فإن كل واحد خُلق كما خُلق الآخر من أب وأم، والتفاوت في الجنس دون التفاوت في الجنسين، فإن من سنن التفاوت أن لا يكون تقدير التفاوت بين الذباب والذئاب، لكن التفاوت الذي بين الناس بالكفر والإيمان كالتفاوت الذي بين الجنسين، لأن الكافر جماد إذ هو كالأنعام بل أضل، والمؤمن إنسان في المعنى الذي ينبغي أن يكون فيه، والتفاوت في الإنسان تفاوت في الحس لا في الجنس، إذ كلهم من ذكر وأنثى”([36]).

وهنا يؤكد الرازي أنه ليس هناك تفاوت ولا تمييز بين الناس على أساس الجنس (على أساس الخلق)، فالناس جميعًا أصلهم واحد متساوون في خلقهم من ذكر وأنثى([37]).

وفى قوله: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ}، {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ}، (وما خلق الذكر والأنثى) يقول القرطبي: “وفي المراد بالذكر والأنثى قولان: أحدهما، آدم وحواء قاله ابن عباس والحسن والكلبي. الآخر، يعني جميع الذكور والإناث من بني آدم والبهائم، لأن الله تعالى خلق جميعهم من ذكر وأنثى من نوعهم. وقيل: كل ذكر وأنثى من الآدميين دون البهائم لاختصاصهم بولاية الله وطاعته”([38]).

ولعل هذا التناقض الذي وقع فيه المفسرون في تفسيرهم للآيات القرآنية المتعلقة بالخلق راجعًا إلى اتكائهم على الموروثات الثقافية من أساطير العهد القديم ورواياته، وتجاوزهم للنص القرآني الذي وقف عند حدود القصد من هذه القصة وغيرها من القصص التاريخي، على موضع الموعظة والعبرة، متباينًا في ذلك مع الأسطوري التاريخي ومتجاوزًا له في آن.

وإجمالًا يسعنا القول إن الدَّالَّ في الخطاب القرآني حينما يتنزل في سياق الحديث عن المرأة وعلاقتها بالرجل، إنما يُحيل بالضرورة إلى مبدأ المساواة، في مقابل الخطاب التفسيري -الذكوري- الذي انحاز إلى سطوة التقليد الاجتماعي وإكراهاته، فأسقط بعض المدلولات الزائفة على الدَّوال اللُّغويَّة في النص لفرض فكرة دونية المرأة ونقصانها.

 

 الحواشي والمراجع:

[1] ) محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، مكتبة وهبة، القاهرة، ج1، ص122.

[2]) النيسابوري: أسباب النزول، ص156

[3]) ابن كثير، تفسير ابن كثير، دار طيبة للنشر والتوزيع، تحقيق: سامي بن محمد السلامة، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1999م

[4]) فخر الدين الرازي، التفسير الكبير، دار الحديث، ج4، 297

[5])) الرازي، مفاتيح الغيب، ج9، ص94

[6])) الرازي، مفاتيح الغيب، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1981م، ج18، ص82

[7]) انظر، محمد أحمد خلف الله، الفن القصصي في القرآن الكريم، الطبعة الأولى، 1950، ص13، 14

[8]) انظر، محمد عبده، تفسير المنار، سبق ذكره

[9]) محمد أحمد خلف الله، الفن القصصي في القرآن الكريم، الطبعة الأولى، 1950، ص8

[10]) الرازي، مفاتيح الغيب، ج9، ص91.

[11]) الطبري، جامع البيان، ج17، ص547.

([12]) عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ت: على عبد الواحد وافى، لجنة البيان العربي، الطبعة الأولى، 1960م

ومن الجدير بالذكر في هذا الشأن أنَّ الجاهليين قد تلقفوا بعض العادات اليهودية بما يرتبط بمدى تواصلهم مع يهود الجزيرة، كعادة نجاسة المرأة في حيضها “فتضمنت البينة الاجتماعية أعرافا راسخة لا يساكن بها الجاهليون حائضا، ولا يسمح للحائضة بدخول الكعبة أو بالطواف بها لأنها غير طاهرة، كما تتجنب المرأة في فترة الحيض أن تضبغ رأس الرجل أو أن تؤكله طعامه” انظر، جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج5، ص556.

وذكر المفسرون أن “بعض العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب الحاذض ومساكنتها، فلما سألوا الرسول (ص) عن الحيض، أنزل الله تعالى: “ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض” انظرن القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج3 ص81.

([13] ) الكتاب المقدس، سفر التكوين، الإصحاح الأول

([14]) الكتاب المقدس، سفر التكوين، الإصحاح الثاني. ولعل الجدير بالذكر أن الرواية التوراتية التي تم التعويل عليها من قِبل المفسرين، هي رواية ذات طابع أسطوري، لا سيما أن فكرة خلق آدم وحواء وعلاقتهما بالحية والشجرة لها جذورا عميقة في ميثولوجيا الفكر الإنساني تمتد لآلاف السنين، فأصل فكرة خلق حواء من ضلع من آدم أو من أحد أجزائه يعود إلى ميثولوجيا بعض الحضارات الشرقية القديمة، ففي إحدى أساطير السومريين، “تذكر أن “ننخرساج”  وهى (الآلهة الأم) العظمى عند السومريين ولعلها (الأرض الأم) في أصلها، قد نطقت بلعنة الموت على إله الماء السومري العظيم “أنكى” بعد أن أكل النباتات التي سبق وأن أنبتتهم الآلهة الأم، وبدأت صحة أنكى تتردى ومرضت ثمانية من جوارحه، وتوسل الثعلب إلى الآلهة الأم، لكى تشفى إله الماء المشرف على الموت، فأوجدت ثماني آلهات شافية خصصت كلًا منها بأحد الأعضاء التي حل بها المرض، وكان أحد أعضاء الاله أنكى الذى أصابه المرض هو “الضلع”، والكلمة السومرية للضلع هي “تي”، ودُعيت الآلهة التي خلقت من أجل ان تشفى ضلع أنكى باسم (نن- تي)، أي “سيدة الضلع”، وهكذا صارت سيدة الضلع فدى الأدب السومري تعنى أو تطابق بطريقة التورية “السيدة التي تحيي”، أي حواء في الأصل التوراتي” انظر، صمويل كريمر، من ألواح سومر، ترجمة: طه باقر، مكتبة المثنى، بغداد، ص242_244.

كما “يُروى الكثير من أساطير الخلق السومرية والبابلية عن زوجين بدائيين، وفى أسطورة آدابا البابلية عدد من العناصر الأساسية لقصة آدم، فآدابا والاسم هنا شديد الشبه باسم آدم، هو الإنسان الذى خسر الخلود بسبب غلطة ارتكبها، وفى ملحمة جلجامش وجدنا في انكيدو صورة عن الإنسان الأول الذى تم خلقه من طين، وعاش في الطبيعة، قبل أن يلتقى بالمرأة التي نقلته بعد الفعل الجنسي إلى حياة الجماعة، ووجدنا في آدم الأول تركرا لانكيدو، فآدم قد خلق من طين وعاش في الطبيعة، إلى ان جاءت حواء وأطعمته من ثمرة الجنس المحرم، وكما كانت الحية مسؤولة في ملحمة جلجامش، عن خسارته للنبتة التي تجدد الشباب، كذلك كانت في قصة آدم التوراتية، مسؤولة عن خسارتهما للحياة الخالدة في جنة عدن” انظر، فراس السواح، قراءة في ملحمة جلجامش، سومر للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1987، ص289- 291، وأنظر ايضًا ستيفن ميلر، وروبرت هوبر، تاريخ الكتاب المقدس، ترجمة: وليم وهبة، دار الثقافة، ص14.

([15]) الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار المعارف، ت: محمود محمد شاكر، مصر، ج7، ص515، وانظر، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، دار الفكر، ج1، ص285، 286

([16]) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، دار الفكر، ج1، ص285، 286

([17]) فخر الدين الرازي، التفسير الكبير، أو مفاتيح الغيب، دار الحديث، ت: سيد عمران، القاهرة، ج13، ص، 109

([18]) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، دار الفكر، ج15، ص155

([19]) القرطبي، سبق ذكره، ج14، ص17

[20]) الجندر Gender: يشير هذا المصطلح إلى التمييز بين الرجل والمرأة، لا باعتباره تمييزًا بيولوجيا فحسب، بل يُحيل إلى اعتبار هذا التمييز البيولوجي، هو أساسًا جوهريًا لشتى التمييزيات الاجتماعية والثقافية المترتبة عليه بالأساس، ولئن كان هذا المصطلح متزامنًا بالطبع مع ظهور الفلسفة النسوية الحديثة والمعاصرة، المعنية بقضايا النساء التي دأبت على تأكيد المساواة بين الجنسين، واعتبار التمييز بينهم هو تمييزًا ثقافيًا إيديولوجيًا بالأساس، فإنه بما يحمله من هذا المعنى نراه قد تجذر داخل المنظومة التراثية الدينية منها بوجه خاص، وإذا كانت سمة الديني، هي وصف للأفكار والمعتقدات الخاصة بهذا المنظومة والتي مضت تروجها هي ذاتها على أسس وأصول دينية.

([21]) وذلك إلى جانب التفسير الأسطوري لخلق آدم، انظر، الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار المعارف، ج1، ص459_461، وبجانب الرواية الأسطورية التي يرويها الطبري، هناك روايات أخرى، قد تضيف أبعادًا دينية عقائدية، فتربط بين خلق آدم، وخلق محمد (ص) وسائر الأنبياء، وتوضح أفضلية خلق محمد على جميع المخلوقات، وجميع الأنبياء، بما فيهم آدم ذاته، انظر، (أبو إسحاق الثعلبي، قصص الأنبياء، عرائس المجالس، دار الكتب العلمية، بيروت)، وروايات أخرى تضيف أبعادًا اجتماعية سياسية، كما في روايات خلق آدم الشيعية، التي تختلف عن الروايات السنية، وبالتالي فبعض الأساطير قد امتزجت بالتفسير لأسباب عقائدية وخلافات مذهبية في إطار قضية الخلافة والسلطة، ومن ثم إلى أي مدى نستطيع أن نتحدث عن موروثات ثقافية تاريخية، وليست موروثات دينية؟!

([22]) محمد عبده، المنار، ج1، ص234

[23] )) انظر كذلك قوله: {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} (الرحمن: 14(، {وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا…} (فاطر: 11(، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} (الروم: 20)

([24]) (النساء: 1)، (الأعراف: 189)، (الزمر: 6)، والتي تم تفسيرها على أن النفس هي آدم، وحواء الزوج (الأنثى) قد خُلقت من ضلعه.

([25]) ابن كثير، تفسير ابن كثير، دار طيبة، ت: سامي محمد السلامة، 2002م، ج6، ص291

([26] ) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، سبق ذكره، ج14، ص90

([27] ) الطبري، سبق ذكره، ج2، ص27

([28]) الطبري، سبق ذكره، ج17، ص308، 309

([29]) لسان العرب، مادة (نفس)

([30] ) فخر الدين الرازي، التفسير الكبير، سبق ذكره، ج5، ص155

([31] ) الطبري، سبق ذكره، ج22، ص548

([32] ) ابن كثير، تفسير بن كثير، دار طيبة، ت: سامي بن محمد السلامة، ج2، ص 158

([33]) ابن كثير، التفسير، سبق ذكره، ج4، ص586

([34]) ابن كثير، التفسير، ج7، ص194

([35]) كقوله: “هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا…} (الأعراف: 189) حيث يقول في تفسير هذه الآية: “يقول تعالى آمرا خلقه بتقواه، وهي عبادته وحده لا شريك له، ومنبها لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة، وهي آدم، عليه السلام (وخلق منها زوجها) وهي حواء، عليها السلام، خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه وهو نائم، فاستيقظ فرآها فأعجبته، فأنس إليها وأنست إليه” انظر، ابن كثير، التفسير، سبق ذكره، ج2، ص206

([36] ) فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، سبق ذكره، ج14، ص397

[37] ) يتفق ابن كثير مع الرازي في تفسير هذه الآية، إذ يقول: “يقول تعالى مخبرا للناس أنه خلقهم من نفس واحدة، وجعل منها زوجها، وهما آدم وحواء، وجعلهم شعوبا، وهي أعم من القبائل، وبعد القبائل مراتب أخر كالفصائل والعشائر والعمائر والأفخاذ وغير ذلك، فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية، وهي طاعة الله ومتابعة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضا، منبها على تساويهم في البشرية: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)  أي: ليحصل التعارف بينهم” انظر، ابن كثير، تفسير القرآن الكريم، دار طيبة، ت: سامى بن محمد السلامة، ج7، ص385

ابن كثير في هذه الآية يؤكد أن الناس جميعًا قد خُلقوا من نفسٍ واحدة، وخُلق من هذه النفس زوجها وهما (آدم وحواء) على السواء، وليست حواء الأنثى هي الزوج الذى خُلق من ضلع آدم النفس الذكر، وهذا الذى أقره ابن كثير مع معظم المفسرين كما رأينا، في تفسيره لقوله: “{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النساء:1).

([38]) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ح20، ص72، 73

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete