تكوين

أما وقد اقتربتُ من نهاية مسيرتي الأكاديمية في الفلسفة، فقد زاد اهتمامي بما يلي: (أ) جعْل الأفكار الفلسفية متاحة لجمهور عام أكبر، (ب) موضوعات جديرة بالتحليل الفلسفي على الرغم من ندرة مناقشتها، (ج) استعمال هوامش أقل، وألا أقول سوى ما أريد قوله في المتن. تاريخيًا، لقد كَتَبَ كثيرٌ من الفلاسفة لجمهور عام أكبر، من بينهم فلاسفة كَتَبوا رسائلَ عبقرية عن الحب، لذا استقيتُ الإلهامَ من كثيرٍ من الفلاسفة، مثل: أفلاطون Plato وكيركجارد Kierkegaard، وهما أستاذان بارعان في التواصل الفلسفي (عن الحب)، وغالبًا ما يعتمدان على سرديةٍ في تطوير حجتهم.

كما استقيتُ إلهامًا من كتابٍ صَدَرَ حديثًا في العلم الإدراكيّ cognitive science يُثْبِتُ أن الناس نادرًا ما تُزحزحهم حجَّةٌ عن موقفهم الفكري، وأن تغيير الاعتقاد يُمكن إحداثه من طريق حَكْي قصة. وعلى الرغم من أنني لا أقتبس مصادر أو دراسات، تُبرز تلك المقالةُ كذلك دراساتٍ حديثة في علوم الدين الإدراكية cognitive sciences of religion وفي العنف وعلم النفس التطوري وتحيزات تفضيل جماعة/كراهية جماعة. يمكنكم القراءة عن العلم الإدراكي للدين في كتابي “الإله والدماغ God and the Brain”. وبينما ركَّزَت الفلسفةُ التحليلية المعاصرة على طبيعة اللغة والمعرفة والواقع وحدودهم، إلا أنها لم تُنفق وقتًا للتفكير في طبيعة الحبِّ، ليظل الحبُّ موضوعًا يتساوى في ثرائه -في سياق الفهم الفلسفي- مع أي موضوع في الميتافيزيقا والإبستمولوجيا.

وبالفعل إذ تُصبح الفلسفةُ المعاصرة تجريدية وباطنية على نحوٍ مُتزايد، وإذ يُصبح العالَمُ مُحَيِّرًا وفوضويًا على نحوٍ متزايد، يبدو إلزاميًا على نحوٍ متزايد التفكيرُ في الحب وتعبيراته في سياقات إنسانية واقعية. وأكرر القول بأنني إذ يتقدم بي العمر، يقلُّ اهتمامي برأي أندادي من الفلاسفة فيَّ وفي مواضيعي، ويزداد اهتمامي بكل ما هو مهم من أجل فهم ومساعدة عالَمنا اليوم. أخيرًا، أقاوم ميلي إلى الإكثار من الهوامش لدرجة تتجاوز المطلوب. فبينما قد يبدو إيرادُ الهوامش طريقَ الدراسة الجيدة، إلا أن هذا الفعل يتعارض تعارضًا واضحًا مع طريق التواصل الجيد.

بعد انقضاء نصف المدة المقرَّرَة لورشة دراسة امْتَدَّتْ لأسبوعٍ، مع أساتذة أكاديميين مسلمين ومسيحيين ويهود من حول العالَم حدث ذلك الأمر. وكانت المواضيع التي قدَّمَها الباحثون الاختصاصيون البارزون مثيرة للإعجاب وتثير التشاؤم: “Quantum Theory and Randomness”، و”Pragmatic Probabilities: Dutch-Book Theorems vs. the Many World Interpretation”، و”Fine Tuning in Cosmology”، لكنَّ أهمَّ تحدٍ (وهو أهم من محاولة فهم تلك العناوين) تَمَثَّل في تكسير حواجزنا القومية والثقافية والدينية العالية، من أجل تجسير بعضٍ من أعمق انقسامات عالَمنا وأشدها إيلامًا.

في اليوم الأول، وفي إعادة تمثيل للعداوات العميقة وطويلة الأمد، جَلَسَ المسلمان الإيرانيان معًا وتهامسا، وفي الجانب المقابل في الغرفة (وربما كان الجانب المقابل من العالَم) تَحَلَّقَ اليهود الإسرائيليون معًا.

لكن بعد بضعة أيام من تواجدنا معًا، كان ارتياحنا تجاه بعضنا الآخر يتزايد شيئًا فشيئًا، مُتَغَلِّبِين على مقاوماتنا الأوليَّة.

بحلول اليوم الثالث -بعد لَكْزِ الجميع برفقٍ[2] ليتقاربوا- بدأت الانقسامات تتشقق، وبدأت المجموعات في الاندماج، وبدأت الصداقات تتكون.

في نهاية اليوم الثالث، حدث ذلك الأمر الذي أشرتُ إليه قبل قليل[3]. سار واحدٌ من اليهود الإسرائيليين، في حين كان يشعر براحة ومزاجه مَرِح بإفراط، فاقترب من أحد المسلمين وسألَه: “تريد قتلي، أليس الأمر كذلك؟”.

ابتسم المسلم العطوف، ونظر إلى عينيه مباشرة، وقال: “لا”.

ثم شرع المسلم العطوف في الحديث على نحوٍ متأنٍ -دون ازدراء لليهودي الإسرائيلي- عن مشاعره تجاه اليهود (وهي مشاعر مُسْتَحْسَنَة وتؤيدهم)، وإسرائيل (وهي مشاعر غير مُسْتَحْسَنَة ولا تؤيدهم بدرجة كبيرة)، والإسلام والعنف (وكانت مشاعره مُعارِضَة للجمع بينهما).

سارا سويًا فوصلا إلى قاعة تناول الطعام، وتشاركا وجبة، وتسامرا طوال الليل.

كان لمآل الموقف أن يَكون أسوأ: في 2019، في مدينة كيبك Quebec City، توقَّف عليٌّ وهو سائق سيارة أجرة، لالتقاط راكبٍ، وعندما فتح الراكبُ البابَ، نظر إلى وجه عليٍّ Ali ثم إلى اسمه المُدوَّن على البطاقة [داخل السيارة الأجرة]. ثم سَأَلَ عليًّا إن كان مُسلمًا وإن كان ينوي “تفجير نفسه”. ثم اشتد سوء الأمور من هنا.

كنت على علمٍ بأن هؤلاء الأساتذة الجامعيين المتمرسين حقًا سوف يشاركون في ورشة العلم والدين مُسَلَّحين بمخاوفهم، كما علمت أن تلك المخاوف كانت تحوز القوة على تحقيق الفُرْقَةِ ثم السيادة، إذا ما تلقَّت العتاد الكافي، وأخيرًا علمت أن نجاح المشروع -في عملنا جميعًا ومعًا، على مسائل في العلم والدين ذات اهتمام مشتَرَك- سيعتمد على العمل معًا لمواجهة مخاوفنا.

يعتقد كثيرٌ من الأمريكيين واليهود أن المسلمين عنيفون بطبيعتهم، وأن الإسلامَ دينُ عنفٍ. وتُغَذِّي مثلَ هذه المخاوف الصورُ المبثوثة في الوسائل الإعلامية باستمرار، وهي صور العرب المتَّسِمين بالعنف. هناك صورٌ مُختارة بعناية، ولا تُمثِّل العرب حقًا، “تؤكِّد” الرسالة القائلة بأن الإسلام/المسلمين يريدون قتلنا (سواء أكنا أمريكيين أم يهودًا أم مسيحيين أم إسرائيليين). “إنهم” يريدون قتلـــنـــا”.

لكنَّهم لا يريدون قتلَنا.

إن كنا مثقَّفين تثقيفًا أكبر [فيما يتعلق بالإسلام والمسلمين]، لعرفنا أنهم لا يريدون ذلك. إذا كنا أفضل حالًا مما نحن عليه الآن، لعرفنا ذلك.

قلت إن الأساتذة الجامعيين كانوا متمرسين حقًا لذاك السبب: حتى الذين تلقوا أعلى درجات التعليم مُبْتَلون بالخوف، وهو الذي يحرّكهم ويحفّزهم. قد تظن أن الحاصلين على درجات تعليمية أعلى سيَكون من شأنهم -أو ينبغي لهم- تجاوُز مثل تلك الصور النمطية، لأنهم يحوزون معرفةً أكبر [أو يفهمون أكثر من غيرهم]، وأن الأساتذة الجامعيين من شأنهم -أو ينبغي لهم- التَّسَلُّح بثقافة أفضل، وأن الأساتذة الجامعيين من بين كل الناس، كان لهم التغلُّب بالفعل على مخاوفهم غير العقلانية.

لكن… لا.

في نهاية الأسبوع الذي قضيناه معًا، كنا جميعًا -مسلمين ويهودًا ومسيحيين- نتخبط منتظرين وسائل نقلنا إلى المطار.

ثم سار ذلك الشخصُ اليهودي (الذي سأل السؤالَ العجيب كما أخبرتكم) فبلغ ذلك الشخصَ المسلم (الذي يُدَّعَى كونه إرهابيًا)، وبابتسامة عريضة على وجهه احتضنه بقوة.

ثم تفشَّى الاحتضان بين الجميع.

حضن الإيرانيان والإسرائيليون بعضهم بعضا، على الرغم من أن دولتيهما تتصارعان الآن. وكان المسيحيون يحتضنون اليهود واليهود يحتضنون المسلمين والمسلمون يحتضنون المسيحيين. وتبادلوا جميعًا الأدوار [فصار كلُّ مُحْتَضِن مُحْتَضَنًا]. ثم انهمرَتْ الدموع.

لم نتوصل جميعًا إلى حالة اتفاق مع بعضنا الآخر (على الرغم من معرفتنا باتفاقنا على كثير من الأمور والمسائل). وكان الأمر بعيدًا عن ذلك، لكنَّ الحبَّ خَلَقَ جزيرةَ سلامٍ في بحر الاختلاف والخوف.

بعد انقضاء أسبوع من الشروع في بناء الجسور، وهي عملية مدروسة وكانت أحيانًا أليمة، وبعد انقضاء أسبوع من تحطيم الأسوار وفتْح قلوبنا وعقولنا، وتعلُّم الحديث قليلًا والإنصات كثيرًا، تَمَّ السِحْرُ: الحبُّ الذي تجاوز الخوفَ جَعَلَ من الأعداء أصدقاء.

أن تَكون ذلك الشخص المُزعج

في كل مرة أُعيد فيها سرد قصة ذلك الشخص اليهودي، يشهق الحاضرون وقد هالهم انعدامُ حساسيته.

لا يريد أحدٌ منا أن يَكونَ “ذلك الشخص المُزعج” (وأتحدث عمومًا)، لكن أحيانًا نَكون “ذلك الشخص المُزعج”. وعندما نَكون هو نحتاج إلى أن نَكون قادرين على قول ذلك، ثم نتحمل ضريبة ما قلناه، وبعد ذلك نُعِدُّ أنفسنا لتجاوزه.

أعرف أنني قد كنتُ “ذلك الشخص المُزعج”.

في أثناء رحلتي إلى إيران منذ بضع سنوات، أعلن الطيار ما يلي: “لقد عَبَرْنا الآن المجال الجوي الإيراني”. وتقريبًا صاح كلّ الرجال داخل الطائرة، في صوت واحد، “الله أكبر“.

كادت تصيبني أزمة قلبية، إذ كنت واثقًا أن الطائرة ستهوي بنا.

لقد أصبح وَقْعُ مقولة “الله أكبر“، في الأُذُن الأمريكية -بفضل الصحافة الرديئة وأفلام أسوأ حالًا- شعارَ المفجِّرين الانتحاريين قبل ضغطهم على زر التفجير مباشرة، لكن تذكروا أنني فيلسوف مثقف، وتلقيت تعليمًا عاليًا، وأبني الجسور بين المسلمين والمسيحيين، ولذلك أعرف أن “الله أكبر” تعبير شائع معناه “الله هو الأعظم“، وأعرف أن احتمال موتي من البرق أكبر مئات المرات من احتمال موتي بسبب مفجِّر انتحاريّ، لكنَّ خوفي العميق والمطمور من المسلمين تَغَلَّب على تعليمي وخبرتي ومنطقي. قالت مخاوفي إن قُنبلةً كانت على وشك الانفجار وأنني كنت سأموت.

تعلَّمتُ أن حصولي على تعليمٍ عالٍ بالإضافة إلى درايتي الكاملة، لم يُخففا عني عبء مخاوفي. خَفَقَ قلبي بقوة، وعَرِقتُ بشدة، وعبثًا طَفِقتُ أبحث عن المفجِّر الانتحاريّ.

رويدًا رويدًا هَدَّأتُ نفسي، وذَكَّرتُ نفسي بأنهم لم يريدوا قتلي.

اجتزتُ رسميًا المنطقة المُحايدة وصولًا إلى ما يُسمَّى بـ “محور الشر“، فدنوت من مسؤول جوازات السفر الإيراني في مطار طهران في 26 مايو 2014. وسألني من أين أتيت، فأجبته باستكانة قائلًا: “الولايات المتحدة الأمريكية“. وحين سألني عن سبب مجيئي إلى إيران، أخبرته أنني قد أتيت لأتحدث في مؤتمر للفلسفة ولإلقاء بعض المحاضرات في عدة جامعات. ثم سألني إن كنت أعرف أستاذًا جامعيًا صديقه في الولايات المتحدة، ثم سألني إن كنت أود إبلاغ صديقه رسالة منه. تحادثنا عن صديقه لفترة. في النهاية، وبقليل من الحماس حقًا، خَتَمَ على جواز سفري، وقال بابتسامة: “مرحبًا بك في إيران“.

تكرر سؤال غرباء لي عن موطني، وحين كنت أجيبهم، وجَّهوا إليَّ التحية مرة تلو المرة، قائلين: “مرحبًا”، مع ابتسامة (ابتسامة دافئة ودودة ولم تَكُن مُتَوَعِّدَة). كان الغرباء والطلاب والأساتذة الجامعيين ورجال الدين والأطفال يرحبون بي ترحيبًا ودودًا. وقد استقبلوني أحسن استقبال في الجامعات والمعاهد والمساجد والمنازل. تشاركنا الأفكار والوجبات المُعَدَّة في المنزل. ائتمنني الناسُ على آمالهم ومخاوفهم.

في المؤتمر الذي شاركتُ فيه، انفجر الجمهور في تصفيقٍ مُدَوٍّ دام لفترة طويلة. التفتُّ إلى صديقٍ إيراني وسألته عما قاله المتحدثُ، فأشار إلى النَصِّ الفارسي ثم ترجمه فقال: “سيجتمع كلُّ الناس والشعوب تحت راية الحرية والإنصاف”.

الحبُّ والسلام

في إيران كنت أتعلم كيف يُمكن للحب الانتصار على أعمق مخاوفنا، فيَجْمَعُ الناسَ في سلام.

لا أقصد حبي في هذا السياق، بل أقصد حبَّ أصدقائي الإيرانيين والمسلمين. شعرت أنهم يحبونني ويقبلونني ويحترمونني منذ أول ثانية هبطت حينها بالطائرة في إيران حتى آخر ثانية لي هناك.

حَوَّلني الحب والقبول والاحترام من الإيرانيين.

لا أقصد حقًا “الحب الإيراني” أو “حب المسلمين”، بل أعني الحب والصداقة اللذين أظهرهما لي رسول وسيمين ورضا وبَنَفْشِة وحامد و….

فوفق المألوف، يحصل الحب بين شخصين في لحظةٍ بعينها، نجد الحبَّ في أمٍّ تُهدهد طفلها الذي يعاني، وفي صداقة الملك داود بيوناثان [في الكتاب المقدس]، وفي الأرملة التي جادت بآخر فِلْس تملكه للفقير، وفي سَيْرِ يسوع إلى منزل القائد وشفائه لابنه، وفي كرم زوجة النبي مع الفقير الذي يطرق بابها.

يُمكن لله أن يُحِبَّ العالَمَ بهذه الطريقة (يوحنا 3:16[4])، لكنَّ خَلْقَ الله غالبًا ما يحبّون شخصًا واحدًا في لحظةٍ بعينها. يحبُّ الله -وهو الحبُّ- العالَم بسبب طبيعته المُحِبَّة. على الجانب المقابل، يلزم على خلق الله تعلُّم الحبِّ بالتغلُّب على الخوف، وأكرر أنه من المألوف تَغَلُّب خلق الله على الخوف من شخص واحد فحسب، في لحظةٍ بعينها.

وفي الجانب المقابل، يحبُّ الخوفُ الجماعاتِ. من السهل أن تخاف من جماعاتٍ (وأن تخاف من الأفراد المجهولين الذي يُكَوِّنون أيَّ جماعة). ثم ننتقل إلى التحيُّزات والأحكام المُسْبَقَة والكراهية، بل نصل إلى العنف.

على سبيل المثال، يخاف الرجل الأمريكي (الأبيض، المسيحي) العادي الأشخاص ذوي البشرة السوداء خوفًا تختلف مستوياته وطُرُقه، وكذلك يخاف المهاجرين والإرهابيين واليهود وذوي البشرة البُنية والصينيين والاشتراكيين والمسلمين والشيوعيين. تتزايد هذه المخاوف تزايدًا عظيمًا، حينما تتصل بأنواع أخرى من المخاوف، مثل وقوع الإنسان ضحية للعنف أو الموت أو إصابته بمرض خطير أو حين يفقد وظيفته. من السهل لوم جماعات الناس على حظنا العاثر.

إن إخفاقاتنا في الحُبّ (حُبّ السود أو المسلمين أو اليهود مثلًا)، وهي الإخفاقات التي يُذكيها الخوفُ، عقباتٌ في طريق السلام، وهي عقبات لرخائنا في المستويين الفردي والمجتمعي (ومثل هذا الرخاء المجتمعي هو ما يصفه الإنجيلُ العبري بـ “شالوم“؛ السلام). تُولِّد مخاوفُنا التراتبيات الاجتماعية وتقوّيها، كما تفعل ذلك مع غياب المساواة وتفعيل التحيُّزات والفقر والجيتوهات والفصل والإجهاد البيئي والصور النمطية الرائجة وغياب المساواة فيما يتعلق بالصحة والصحاري الغذائية[5] والمجاعات وإنفاذ العدالة من غير سبل السلطة، لا سلامَ هنالك.

التقيتُ أحمدَ، وهو لاجئ أفغاني، عندما استقبل أسرتي بترحاب في منزله، لنتشارك الإفطار في رمضان. وقبل أن نتذوق ملعقة من الطعام، كانت أسرة أحمد قد قَضَت اليوم في تحضير طعامهم اللذيذ، وقد شاركونا إياه بكلّ كرم. إذا دُعيتَ يومًا إلى منزل مسلمين للإفطار بعد صوم، اِقبل الدعوة! لا تُفوِّت الأطعمة والروائح المدهشة وخيوط المحادثات. ولقد علمتُ أن أحمدَ شخصٌ مذهل، وشجاع ومتواضع.

فرَّ أحمدُ من منزله في أفغانستان بسبب تهديدات بالقتل من طالبان. وأقول “تهديدات” لأن أحمدَ استحق حنقَ طالبان مرتين. وكانت أول مرة عندما تعرَّضَت للهجوم مدرسةُ الفتيات التي كان يُدَرِّس فيها، في كابول، وهي مدرسة مُخَصَّصَة لتمكين النساء من طريق التعليم. قُتِلَ أغلب المدرِّسين، وكثيرًا من الطالبات، وبالكاد تمكن أحمد من الفرار إلى بلده في الريف.

وبينما كانت طالبان تطارده، بدأ أحمد في العمل مُترجمًا للجيش الأمريكي (ومن هنا استحق حنقَ طالبان للمرة الثانية).

وباقتراب طالبان من الإيقاع به، هرب أحمد وأسرته هروبًا أليمًا شاقًا على النفس إلى تايلاند. وبعد ثلاث سنوات من الإقامة في مخيم، وصلوا أخيرًا إلى أمريكا حيث يعمل أحمد الآن بكَدٍّ أمينًا في المستشفى [يتولى تنظيف المستشفى وتعقيمها]. يدفع أحمد ضرائبَه ويربّي أبناءه ليحصلوا على تعليم جيد ووظيفة ملائمة ويرد الجَميل إلى بلده الجديد.

وإذ شارَكَنا بيته وطعامه الشهي وأسرته المُحِبَّة، كذلك شارَكَنَا أحمد امتنانَه، فهو ممتَن لأنه على قيد الحياة، وممتن لتلك الفرصة الثانية في الحياة، وممتن لازدهار عائلته ومستقبلها في أمريكا، وهو ممتن لأنه لا يحيا تحت حكم طالبان.

لدى أحمد الحبَّ الذي يهزم المخاوفَ الحقيقية والمميتة؛ هو الحب الذي يخاطر بالحياة نفسها لخلق السبل وتوفير التعليم للمحرومين وكسر أشكال الانقسام وتشارُك وجبة. [إنه] السلام.

كلنا أفضل حالًا، ولدينا سلام أكبر، بوجود أحمد وأسرته الرائعة.

سلامُك سلامي

السلامُ ازدهارُ المجموعةِ بأكملها، وهو ازدهار ينتشر من طريق كلِّ فرد. يحل السلام عندما يهتم واحدنا بالآخر اهتمامًا متبادَلًا ويعينه، لينتفع منه كلُّ إنسان من طريق الدعم المشتَرَك والمصادر والحماية وتقدير الذات والمكانة والقيم المشتَرَكَة. ولأن السلام يتضمن الاهتمامَ، والاهتمام يتطلب التعاطفَ[6] empathy -والخوف يُزيح التعاطف- يصبح الخوف عدوَّ السلام. لقد تعلَّمتُ أن ازدهاري تزايد تزايدًا كبيرًا من طريق حبِّ الناس المختلفين عني اختلافًا حقيقيًا. ولقد تذوقتُ طعامَهم الشهي، وشربتُ قهوتَهم ذات النكهة القوية، وبابتهاجٍ تناولت حلوياتهم، لكنهم يقدِّمون ما يزيد على الطعام.

لقد دُعِيت إلى بلادهم، وكذلك إلى منازلهم. ولقد شاركوني ثقافاتهم واعتقاداتهم وقصصهم.

لقد عرفتُ كثيرًا عن الإمبراطورية العثمانية والمسجد الأقصى والتاريخ الفارسي والراقصين الصوفيين وشِعر الرومي. وأعرف أن المسلمين يُصَلّون خمس مرات في اليوم، ولا يُصلُّونها اعتياديًّا في المساجد، وأن المساجد لا تؤدي لدى المسلمين، الدور الذي تؤديه الكنيسة لدى المسيحيين. ولقد تعلَّمتُ أن المسلمين مثلهم مثل المسيحيين، متنوعون في جميع المستويات، وأن “الإسلام”، مثله مثل “المسيحية”، خيمةٌ كبيرة (بالمعنى المجازي) لدرجة أن الحديث عن “المسلمين” لا معنى له، مثلما يَكون من اللغو الحديث عن “المسيحيين”. ليس هناك شيء ذو قيمة يُمكن للمرء قوله وينطبق على كل المسلمين في كل مكان، وفي كل الأزمان، من راعي الغنم في القرن الثامن إلى صاحب حانوت الكتب الصيني في القرن 19، وصولًا إلى مهندس من الولايات المتحدة الأمريكية في القرن الحادي والعشرين. لقد التقيتُ مسلمين يُصَلّون خمس مرات في اليوم، وآخرين يُصَلّون ثلاث مرات في اليوم، والتقيت بمسلمين لم يُصَلّوا قطُّ.

عالَمي أكبر وأفضل، لأنني تعلَّمتُ كيف تَرَبَّى أناسٌ مختلفون عني اختلافًا كبيرًا على اعتقادات وممارَسَات مختلفة اختلافًا كبيرًا عن اعتقاداتي وممارَسَاتي.

كما تعلَّمتُ أمرين مهمين إضافيين بالتفاعل عبر الحب الذي يتغلب على الخوف.

لقد بدأت أتعلم رؤيةَ العالَم -عالَم الله- من منظور أصدقائي المسلمين واليهود. حين افترض أن منظور ثقافتي الخاص، قاطعًا حاسمًا [أي الأصل الذي تقترب أو تبتعد عنه الثقافات الأخرى]، وهو ما يميل الناس إلى فعله، فإن ذلك يعني أنَّا لدينا رؤية محدودة للعاَلم، وهذا نوع من الغطرسة الثقافية، أقصد حين نرتفع بذواتنا وجماعاتنا فوق جماعات الناس.

لسنا آلهةً، نحن مخلوقات مُوحِلَةٌ في زمان ومكان مُحَدَّدَيْن. إذًا، كي تقترب هذه المخلوقات الفانية من منظور الله عن العالَم، فهي في حاجة إلى تحقيق النفع لأنفسها من منظورات كلّ مخلوقات الله الرائعة، ويشمل حديثي أيضًا مَن نخشاهم أو نحكم عليهم بأنهم أدنى منّا.

أحتاج إلى المسلمين كي أقترب من رؤية الله لعالَمنا المجيد.

والنفع الثاني من تعرُّفي على المسلمين يتمثل في أنني قد عرفت إلى أي مدى نتشابه. عندما تشرع في التعرُّف على الناس والتقرُّب منهم، تكتشف أنهم مثلك يريدون أن يعيشوا في سلام بين جيران وأصدقاء طيبين، ويريدون أن يعيشوا حياةً طويلة وسليمة، كما يريدون العمل بكدٍّ في وظيفة يحبونها وينامون دون أي توتُّر أو قلق في أَسِرَّتِهم، مع سقف يحميهم، ويريدون وقتًا للاسترخاء واللعب كما يريدون. والأهم من ذلك أنهم يريدون حيوات أفضل لأبنائهم.

إنهم مثلنا.

تتمثل أعظم فائدة في الحبِّ الذي يهزم الخوف في الصداقات التي أنضجتُها مع المسلمين. صداقتهم جزء من ازدهاري. ومن بين أصدقائي المسلمين، أفكِّر في:

  • أنيس، وهو فيلسوف شاب من مقدونيا، رافقني في عملي الساعي إلى الجمع بين المسلمين والمسيحيين واليهود.
  • فريال، وهي قطب من أقطاب الشحن في إسطنبول، وتتبرع بسخاء لإعانة المجاعات وصحة اللاجئين ومِنَح دراسية للطلبة المحتاجين.
  • أحمد وزينة، من الأردن، ويُطوِّعان ذكاءهما وجاذبيتهما الشخصية لإلهام آلاف الشباب المسلمين، كي يَدْرِسوا ويعملوا في العلم والتكنولوجيا.
  • نضال، وهو عالمُ فلك جزائري يعيش في الإمارات العربية المتحدة، واُختيرَ في 2021 من بين أكثر 100 قائد تأثيرًا في مجال اكتشاف الفضاء.

ليس كل أصدقائي المسلمين من أصحاب المكانة العالَميّة، أيًا كانت، وليس أغلبهم كذلك. وعلى الرغم من كون أغلبهم متعلمين، فإن أغلبهم مثلي، لن يبلغوا قوائم المئة شخص الأهم أو الأكثر تأثيرًا في أيّ مجال. وبينما قد يملكون حيوات وإنجازات عادية أكثر مما تملكها خبيرة الشحن أو عالِم الفلك، إلا أنهم أروني حُبًّا فائقًا للمعتاد، وأنا مُمتن لهم عليه.

الصداقة والامتنان؛ مفتاحان لحياة مزدهرة.

كما أفكر في ذاك السياق، في غزالة وبرونو وإسراء وذهبية ونوح وليلي وعاصف (الذي يخبرني أن أنطق اسمه كأنني أقول “as if”) ومصطفى ورينا و….

لقد أدخلوني في حيواتهم وعالَمهم.

السلام معهم سلامي، وازدهارهم ازدهاري.

الحب مَحليٌّ

حينما أتحدث عن السلام الإسلامي/المسيحي/اليهودي والرحمة، كثيرًا ما يسألني أشخاص من الحاضرين، بالأخص في الولايات المتحدة: “ما رأيك في قضية إسرائيل وفلسطين؟”

أتجنب السؤالَ لسببين:

أولًا، ليس هناك أحد مِمَن يُعْتَد بهم يأبه لرأيي فيما يتعلق بإسرائيل وفلسطين. وقد تصيبكم الدهشة من العدد الضئيل من مسؤولي الحكومة الذي اتصلوا بي وسألوني عن رأيي. ولأنه لا يبدو أن هناك شخصًا في موقع سلطة يهتم بآرائي، غالبًا ما أحتفظ بها لنفسي.

آخرًا، أرى أن التركيز على إسرائيل/فلسطين ينتقص من مسؤولياتنا المحلية الأشد إلحاحًا، ففي النهاية لديكم جيران مسلمين ومسيحيين. وإذا كنتَ مسيحيًا، فمن المرجَّح أنك لا تعرفهم كما ينبغي، وربما لا تعرفهم على الإطلاق. ويمكن لدولتنا الانتفاع من بعض التداوي الإسلامي/المسيحي/اليهودي.

دعوني أقترح، بدلًا من القلق حيال إسرائيل/فلسطين، أن نتمشى في شوارعنا ونلتقي بمسلم ومسيحي ويهودي أو أكثر. ادعوهم إلى شرب القهوة، ادعوهم إلى منازلكم لتناول العشاء، واطلبوا منهم أن يروكم مساجدهم أو كِنسهم [اليهودية] أو كنائسهم، تَمَشّوا معهم أو انضموا إليهم لبناء منازل للفقراء من طريق المنظمة الخيرية: Habitat for Humanity. بادروا باتخاذ الخُطوة الجَسُورة الأولى.

لأنَّ كلَّ الحب، أو أغلبه تقريبًا، محليٌّ.

بالتركيز في القضايا العالَميّة -على سبيل المثال: قضية إسرائيل/فلسطين أو الولايات المتحدة/داعش- ننسى أننا أيضًا لدينا مخاوفنا الخاصة التي تُسهم في إخفاقات الحبِّ المحلية. إن التركيز في إسرائيل يجعل من البادي أن الخوف والإخفاق في الحبِّ مشكلتهم، في حين هي مشكلتنا كذلك. في الأحياء التي نقطن فيها، يُخفِقُ المسلمون والسود واليهود والهسبان Hispanics (اختَرْ منهم خوفك المُفَضَّل) في أن يزدهروا نتيجة لإخفاقات في الحبِّ لا حصر لها. وازدهارهم ازدهاري.

من المُرجّح بدرجة كبيرة أن يشعر أعضاءُ الجماعات المُهَمَّشَة بالعزلة والتجاهل والإفقار أو أن يشعروا أنهم مسجونون أو أن يَكونوا معزولين وعرضة للتجاهل ومُفْقَرِيِن ومسجونين، ونتيجة ذلك أنهم غالبًا ما يحصلون على أوضاع معيشية أسوأ وفرص تعليمية أسوأ، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالصحة وخبرات الحياة وفرص العمل. لا يوجَد سلام. وخوفنا المحلي وإخفاقاتنا المحلية في الحبِّ يسهمون في ذلك الأمر. وكما قال جيمس جيليجان James Gilligan، في كتابه مَنْع العنف Preventing Violence: “لن نستطيع الشروع في منع العنف حتى نستطيع الإقرار بما نفعله بأنفسنا ويسهم في العنف، سواء أكان ذلك الإسهام إيجابي أم سلبي”.

لا تتعلق مسألة الخوف والإخفاق في الحب بهما، وأقصد، [قضية] إسرائيل/فلسطين والولايات المتحدة/داعش، بل تتعلق المسألةُ المعنيّة بنا، وتتعلق بي.

لذا فَكِّر في السلام والرحمة وَفق مقياس محلي، اِسعَ إلى التواصل مع جيرانك المسلمين والمسيحيين واليهود. اعثر على كل “غزالة” وكل “عاصف” (الذي يُنْطَق كقولك “as if”) أو كل “ذهبية” أو كل “ليلى”، أو حتى كل “محمد” من باب تحفيز الصوة النمطية، ومن باب تحفيز خوف ما احتمالًا.

لأنَّ كلَّ الحب، أو أغلبه تقريبًا، محليٌّ.

الحب وجيراننا اليهود

ما أزال أتحدث هنا عن إخفاقات الحب ونجاحاته، في الغالب بين المسلمين والمسيحيين. ولقد فعلتُ ذلك لأني مستقر بعمق، كوني بروتستانتيًا، أنجلو-ساكسونيًا، أبيض، في الأغلبية الدينية والعرقية والإثنيّة للولايات المتحدة الأمريكية. إن إخفاقاتي في الحب موجَّهَة أقوى توجيه صوب الذين أنظر إليهم بوصفهم تهديدات تطال أمريكا المسيحية البيضاء. ولقد شعرت قبيلتي في العقدين الأخيرين، أنها مُهددة تهديدًا متزايدًا وبخاصة من المسلمين والهسبان (المكسيكيين)، لذلك ركَّزتُ في قبيلتي ومخاوفنا، لكنَّ أصدقاءنا اليهود لم يهربوا من مخاوفنا وإخفاقاتنا في الحبِّ.

دعوني أولًا، أكُن صادقًا للغاية، وأن أتحلى بمبدأ الاعتراف. لدينا سجل خبرات غير منتظم عندما يتعلق الأمر باليهود. وهذا تقليل من شأن المسألة حقًا. غالبًا ما تَرِدُ الحروب الصليبية إلى الأذهان، لكنَّ تاريخَ المعاداة المسيحية للسامية يعود تاريخيًا إلى ما هو أبعد من ذلك، كما دام لفترة زمانية أطول بكثير.

إقرأ أيضا: التسامح بين ممكنات الواقع وفلسفة الاختلاف

منذ بداءة المسيحية تقريبًا، اعتُقِدَ أن اليهودَ متواطئون مع الشيطان ومسئولون عن موت يسوع. شرُعَ المسيحيون الأوائل الكبار في تهميش اليهود، واصفين إياهم بـ “المنبوذين” و”المبغوضين“. وطوال قرون أصبح اليهود في المستوى السوسيو-سياسي، شريدين ومُسْتَضْعَفِين وعُرضة للهجوم، وحتى عُرضة للقتل.

عندما أصبح اليهود كبش فداء الطاعون، بناءً على مخاوف مفادها أن اليهود سَمَّموا آبارَ المياه المسيحية، انتشرت مُعاداة السامية كالطاعون أيضًا، مما أسفر عن انتهاك اليهود وموتهم في أعقابها. وستصبح كتاباتُ المُصْلِح العظيم مارتن لوثر Martin Luther المُعادية للسامية مُعاداةً شرسة (والتي كانت مؤذية في وقتها)، ظاهرةً مرة أخرى في المذابح المُدَبَّرَة المعادية لليهود وفي الهولوكوست في أثناء حكم هتلر.

ماذا عن الآن؟

بينما قد يبدو التعصُّب الديني في الولايات المتحدة مُصَوَّبًا في الغالب إلى اليهود، تظل معاداة السامية في ازدياد. ومما يُؤسَف عليه أن معاداة السامية في الولايات المتحدة تَشْهَد ازديادًا، على الرغم من كون هذا الأمر تشريفًا مشكوكًا فيه. وأتى في أحدث مُراجَعَة لرابطة مكافحة التشهير (ADL) ما يفيد وجود تزايد مُدهش حقًا في حوادث معاداة السامية طوال سبع سنوات متصلة (2014-2020). وفي 2019، أبلغت الرابطة المعنيّة عن أعلى عدد من الحوادث السنوية، وعددها 2071 هجمة، منذ أن بدأت الرابطةُ الإبلاغَ في 1979. وتزايدت الهجمات بنسبة 56% في عام واحد فحسب، وهي في ازدياد دائم. ووَفق نظام الإبلاغ عن الجرائم الموحَّد (UCR) التابع لمكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، من المرجَّح بدرجة كبيرة ليهود الولايات المتحدة أن يَكونوا ضحايا جرائم الكراهية أكثر من أي تابعين لدين آخر.

من شواهد القبور المُطاح بها إلى “هجمات المعبد”، تظل معاداة السامية في ازدياد. وخذوا بعين الاعتبار بعض الحوادث الأخيرة لمعاداة السامية:

  • في مسيرة لذوي البشرة البيضاء الاستعلائيين بشارلوتسفيل Charlottesville، في 2017، هَتَفَ المتظاهرون “اليهود لن يحلوا محلَّنا“، ووضعوا الصليب المعقوف على لوحات، ونادوا بشعارات مثل “الدم وتراب الأرض“، وهي عبارة مُقْتَبَسَة من الأيديولوجيا النازية. ونادت مواقع إلكترونية بحرق كِنيس شارلوتسفيل.
  • في 2018 دَخَلَ روبرت د. باورز Robert D. Bowers كِنيسَ بيتسبرغ Pittsburgh وأطلق بندقيته المخصصة للهجوم، قاتلًا أحد عشر من مرتادي الكِنيس، متسبِّبًا في جرح ستة آخرين.
  • شَهِدَت 2019 هجمات دموية معادية للسامية في كِنيسٍ بكاليفورنيا، وفي بِقالة لبيع أطعمة “كوشر” [وهي الأطعمة المخصصة لليهود، المُعَدَّة طبقًا للشريعة اليهودية]، وحفلة عيد الأنوار (حانوكا) في نيويورك.
  • أبرَزَ منفذو هجمات 2021 على كابيتول الولايات المتحدة معاداتَهم للسامية باستخدام شعارات على قطع قماش مثل “معسكر أوشفيتس” و”6MWE” (التي تعني بالإنجليزية: 6 ملايين لم يكونوا كافين)، و”العمل يجعلك حرًا” (بالألمانية: Arbeit macht frei، وهو اقتباس من اللافتة التي كانت موضوعة على بوابات أوشفيتس).
  • يَستعمل الشخصُ المجهولُ “Q”، الذي يُمثل أتباعُه عديدًا من المهاجمين، استعمالًا روتينيًا مجازاتٍ مُعادية للسامية (الحشرات الطفيلية المُتَوَعِّدَة، ذات الأنف المعقوف)، ويهاجم الرأسماليين والمصرفيين اليهود بوصفهم السبب في كلِّ مشاكل الولايات المتحدة، فاليهود كما كَتَبَ “Q”، يخططون لإبادة جماعية للبيض.

كما تشهد الجامعات مستويات تُمثِّل أرقامًا قياسية جديدة من أنشطة معاداة السامية، وهي بلا منازِع، الأعلى مقارنة باي جماعة دينية. انهالت في صفحات “فيسبوك“، ونقاشات تطبيق “زووم“، وجدران المباني خَطَابَةٌ شرسة مثل:

  • أدولف هتلر.
  • فليذهب اليهود إلى الجحيم، حرروا فلسطين.
  • التحية النازية Sieg Heil.
  • اقتلوا اليهود.
  • ما حَدَثَتْ [واقعة] الهولوكوست قَطّ.
  • صلبان معقوفة وتهديدات بالقتل.

في 2017 أغلَقَتْ جامعةُ برانديز Brandeis (وهي مؤسسة تعليمية يهودية في ماساتشوستس Massachusetts) أبوابَ حرمِها الجامعي استجابةً لتهديد بتفجير قنبلة. وبعد ثلاث سنوات، كانت الجامعة نفسها محل تهديد آخر بتفجير قنبلة.

لا تقتصر معاداة السامية على الولايات المتحدة فحسب؛ إذ كَشَفَتْ “رابطةُ مكافحة التشهير“، في تصويت أجْرَته في 2014 أن أكثر من مليار إنسان عبر العالَم يتبنون رؤىً معادية للسامية. وربما ما يثير الانزعاج لأقصى مدى أن ثلثَي العالَم إما لم يسمعوا من قبل قَطُّ عن الهولوكوست أو سمعوا عنه، لكنهم ينكرون حدوثه. وهناك نسبة مقدارها 74% من الشرق الأوسط وإفريقيا الشمالية تتبنى مواقف فكرية معادية للسامية، ولا تعتقد إلا نسبة مقدارها 8% من تلك المجموعة أن الهولوكوست حدث بالفعل.

كما تَشْهَد ألمانيا إعادة ظهور عظيمة لجرائم كراهية مُعادية للسامية[7]. ولقد تزايدت مثلُ هذه الجرائم من 1799 جريمة من هذه الجرائم المعنية في 2018، إلى 2032 جريمة في 2019، إلى 2275 جريمة في 2020.

كما ابتُلِيَ مسقط رأسي بمعاداة السامية. في 2019 وصل صديقي الحاخام ميخائيل إلى كنيسه ليجد ملصَقَيْن معاديَيْن للسامية مُعَلَّقَيْن على الأبواب، وكان أحدهما يحتوي على صورة هتلر. وبعد عام من تلك الواقعة، كَتَبَ شخصٌ ما كلمةَ “MAGA [وهي اختصار جملة: اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى]” بسائل رشٍّ لونه أحمر على شواهد القبور في مقبرة محلية لليهود.

وكما هو الحال مع أغلب جرائم الكراهية المعادية للسامية، لم يُقْبَض على مرتكبيها قَطّ، لذا لا يلزم على اليهود أي شيء سوى العيش بمخاوفهم. لا عجب والأمر كذلك، حين نرى أن الخبراء ينصحون بوجود جماعة من الأمن المسلَّح في الكُنس [جمع كنيس].

لقد قلنا بعد الهولوكوست بوقار وهيبة “لن يحدث ذلك الأمر مرة أخرى أبدًا”، لكننا نحتاج إلى أن نقولها، وأن نعنيها هذه المرة، وأن نعيد تكرارها مرة تلو المرة.

المسيحيون بعد موت يسوع

في 2013 أعلَنَتْ المستشارةُ الألمانية أنغيلا ميركل Angela Merkel أن المسيحية “أشد الأديان تعرُّضًا للاضطهاد في العالَم”. وأكَّد تقريرُ روبرت شورت Rupert Shortt، لمركز “Civitas UK” البحثي، ادَّعاءَ ميركل، المسيحية مُهَدَّدَة تهديدًا لا يتعرض له أي دين آخر، إذ تَكون تلك منافسة لا يرغب أحدٌ في الفوز فيها، يُثْبِت تقريرُ شورت أن “المسيحيين مستهدفون أكثر من أي جماعة دينية أخرى”. إن شورت كاتب [تقرير] رُهاب المسيحية: دينٌ مُهاجَم Christianophobia: A Faith Under Attack؛ وهو الذي أعرب عن قلقِه من أن “200 مليون مسيحي (10% من إجمالي تعداد السكان العالَمي) محرومون اجتماعيًا أو مُعَرَّضون لمضايقات أو مُضطَّهَدون بسبب اعتقاداتهم”.

تواجه المسيحيةُ الإقصاءَ التامَ في موطنها الإنجيلي. ولقد رَحَلَتْ نسبةٌ تتراوح بين نصف وثلثَي المسيحيين في الشرق الأوسط أو قُتِلُوا، على مدار القرن الماضي. ويعزو شورت التعصُّبَ والعنف تجاه المسيحيين إلى بروز الأسلمة في بلدان الشرق الأوسط. وبعضُ الاضطهادِ تحظره الحكومةُ، ونصيب أغلبه تجاهُل الحكومة.

ينظر شورت إلى بلوى المسيحيين في الشرق الأوسط، دولة تلو دولة. وعندما يتعلق الأمر بالاضطهاد الديني، يُمكن للمرء القول بكمون الشيطان في التفاصيل.

في الموقع الإلكتروني السلفيّ التوجُّه “حرَّاس الدين Guardians of the Faith”، يمكنك أن تقرأ أن المسلمين أعلى شأنًا من مسيحيي مصر الأقباط لأن “كون الفتاة مسلمة، وتتأسى بزوجات النبي، اللاتي أُمِرن بارتداء الحجاب، أفضل من أن تَكون الفتاة مسيحية، وتتأسى بالعاهرات”، و”أن يَكون المرء مسلمًا يدافع عن شرفه ودينه أفضل من أن يَكونَ مسيحيًا يَسرق، ويَغتصب، ويَقتل الأطفال”. إذًا لا عجب في صبِّ المتطرفين غضبهم على المسيحيين في 2010، فقتلوا 13 عابدًا بخروجهم من خدمة في الكنيسة، ثم وضعوا قنابل في كنيسة بالإسكندرية، تسببت في قتل 20 وإصابة 70 آخرين.

إقرأ أيضًا: بنية السلطة الدينية داخل الكنيسة القبطية وتجلياتها.. مدارس الأحد أنموذجاً

في 1990 كان هناك أكثر من 1.2 مليون مسيحي في العراق، لكن بحلول 2013، صار هناك ما يقل عن 200000 (مئتي ألف) عراقي مسيحي. وفي 2010 شَنَّ مسلَّحو القاعدة هجومًا على كاتدرائية في بغداد، فقتلوا أكثر من 50 شخصًا وشوَّهوا عددًا أكبر. وفي ظلّ الانقسام العميق بين السُّنَّة والشيعة العراقيين، نجدهم مُتَّحِدِين في اضطهادهم للمسيحيين. لقد اختُطِفَ الأساقفة والقساوسة وعُذِّبوا، ووُضِعَت القنابل في الكنائس، فأدى ذلك إلى موت المسيحيين وإلحاق الإصابات بهم. الرسالة بَيِّنَة: “على المسيحيين الرحيل أو الموت”، وهي رسالة تُرْسَل أحيانًا في جواب يحوي رصاصة.

في 2011 قتلَت حركةُ “طالبان” الباكستانية شهباز بهاتي Shahbaz Bhatti لمعارَضَتِه القوانين الباكستانية المناهضة للتجديف. كان بهاتي وهو كاثوليكي، وزير الأقليات في باكستان. في الحقيقة غالبًا ما تُلقَى عقوبة الإعدام على أي باكستاني يمتلك القَدْرَ الكافي من الشجاعة فيقرر التحدُّث بوضوح دفاعًا عن الأقليات الدينية. وأمَرَ بهاتي القائمين على ترِكته بنشر فيديو عقب موته قبل الأوان، وفيه قال: “أحيا من أجل مجتمعي ولمعاناة الناس، وسأموت دفاعًا عن حقوقهم. أفضِّل الموتَ دفاعًا عن مبادئي والعدالة من أجل مجتمعي بدلًا من إجراء تسويات. أود أن أشارككم قولي إنني أؤمن بيسوع المسيح الذي بَذَلَ حياتَه من أجلنا. أعرف… معنى الصليب وأقتفي أثر يسوع عليه”. وفي سياق الحديث عن العدالة، لم تُوَجَّه تهمة القتل إلى قاتِلَيْه قَطُّ.

يُمكننا التحرك سريعًا عبر القرون، خذوا بعين الاعتبار قوانين الردَّة في المملكة العربية السعودية وموريتانيا وإيران والبحرين والأردن والكويت وقطر وعُمان واليمن والسودان وماليزيا. وفيما أقصده بالردَّة، اقرأوا “مسلمون يتحولون إلى المسيحية“. عن بلوى المُرْتَدِّين، قالت زيا ميرال (وهي باحثة تركية مقيمة في لندن): “المرتَدُّون مُعَرَّضون لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ذات مدى واسع، ما يتضمن جرائم قتل تُنفذُها عناصر تابعة للدولة أو عصابات، خارج نطاق القانون extra-judicial killings، وجرائم الشرف التي يرتكبها أفراد الأسرة، والاحتجاز والسجن والتعذيب والترهيب الجسدي والنفسي الذي تضطلع به قوات الأمن، ورفض التعامل مع الخدمات القضائية والاجتماعية، وإنكار فرص التوظيف أو التعليم المتساوية، والضغط الاجتماعي الذي يؤدي إلى فقدان المأوى والوظيفة، والتمييز اليومي وحرمان الحق في التعليم والتمويل والأنشطة الاجتماعية”.

وما فعلنا شيئًا -بالكاد- سوى خدش سطح العنف تجاه المسيحيين والتعصُّب ضدهم. وسرعان ما ستُباد المسيحية في موطنها إذا قُيِّضَ لها الاستمرار بمعدلها الحالي [على مستوى المعاناة وقتل المسيحيين]. وإذ تَكون الخسارة الثقافية مثيرة للقلق إثارة عميقة، سيثير النقصُ في الحرية القلقَ إثارةً أكبر، وكذلك الأمر مع التعصُّب، والعنف في البلدان الإسلامية.

وكما يذكِّرنا كبيرُ أساقفة كانتربري روان ويليامز (Rowan Williams)، ليست المسيحية من الواردات إلى تلك الدول. إن عُمْر تلك المجتمعات المسيحية المُهَدَّدَة، بل التي تُباد الآن يقترب حقًا من عُمْر العهد القديم نفسه. ولقد قال المسيحيون إن تلك البلدان موطنهم طوال ألفيتَيْن من الزمان، وليست المسيحية شأنٌ غربي مفروض على دول إسلامية تاريخيًا.

وبينما ينص القرآن صراحةً على عدم الإكراه في الدين، ويرفض عقوبات المرتَدِّين، إلا أن بعض أحكام الشريعة تُطالب بالقتل جزاءً للردَّةِ. ويتمثل التحدي الماثل أمام القادة المسلمين الآن في تقديم نقد دامغ لمثل تلك القوانين العنيفة والمعادية للقرآن، وأن يُقدِّموا نسخةً قرآنية مُقْنِعَة من الحرية والتسامح المُتَجَذِّرَيْن في الحبِّ.

نبذُ الخوفِ كُلِّهِ

ما أزال أتحدث عن الخوف والإخفاق في الحب دون أن أتحدث عن كيفية ارتباط الخوف والحبّ. وفق ما أفهم الأمر، الخوف والحب نقيضان. يَدَّعي البعضُ أن الحبَّ والكراهية نقيضان، وهما كذلك وَفق معنى ما سطحيته أكبر، ففي نهاية الأمر إذا كرهتَ شخصًا ما، فأنت لا تحبه، لكنّي أرى الكراهية تجسيدًا للخوف، بالأخص عندما يتعلق الأمر بمَن لا ينتمون إلى قبيلتنا. اِخدش كراهيةَ المتعصِب وستَكْشِفُ الخوفَ.

قبل تطرُّقي إلى مزيدٍ من التفاصيل، ينبغي لي قول إنني أرى الخوف ممَن لا ينتمون إلى قبيلتنا طبيعي وعادي تمامًا، إذ تتغلغل فينا منذ أزمان سحيقة، الجذورُ التَّطَوُّرِيَّة لانجذابنا الطبيعي وميلنا العاطفي لمَن ينتمون إلى قبيلتنا، وكذلك خوفنا الطبيعي مِن الذين لا ينتمون إليها.

يرتبط البشر بعضهم البعض ارتباطًا وثيقًا من طريق الروابط المتعاطفة للقرابة والقرابة الممتدة (مع الجار القريب). [وحين] ترى ابنك متألمًا، تغمر كلُّ أنواع الكيميائيات المُنْتِجَة للتعاطف الخلايا العصبية [أو عصبوناتِ] التعاطف في دماغِك، وعندما تُخَفِّف ألمَ ابنك، تَغمر تلك الكيميائياتُ أو كيميائيات مشابهة لها الخلايا العصبيةَ المسرورة أو الممتنة أو المُسَرَّى عنها في دماغك. وتشعر شعورًا سيئًا عندما ترى ابنك يُعاني، وتشعر شعورًا طيبًا عندما تُسَرِّي المعاناةَ عنه. ولا يصعب رؤية كيفية أو سبب رغبتنا في ازدهار أبنائنا.

وعلى العكس من أبنائنا، يلزم تاريخيًا على البشر الآخرين إثبات قيمتهم بإظهار ولائهم للقوانين الأخلاقية لقبيلتهم (وتُسمَّى بـ “الإشارات المكلِفَة costly-signaling”)، ثم يمتد التعاطف فيشمل جماعة صغيرة من المتعاونين الذين يتشابهون معنا في الأفكار (أعضاء قبيلة المرء). ومن ثمَّ تتكون قبيلةُ المرء من الأقارب والأقارب الممتدين (وهم غير-الأقارب الذين ظفروا بثقةٍ تُماثِل الثقة في الأقارب).

من ثَمَّ تتضمن قبيلةُ المرء أناسًا يشبهوننا في مستوى الشكل وممارسة الأفعال وطريقة الحديث والرائحة. وقد يرى المرء أن قبيلته مجموعة صغيرة من ذواتٍ أخرى.

أما مَن هم خارج قبيلة المرء -وهم الذين يختلفون عنّا في الشكل وممارسة الأفعال وطريقة الحديث وكذلك الرائحة- فأعداء مُحْتَمَلون، على الرغم من إمكان كونهم كذلك شركاء تجارة ممكنة أو متعاونين معنا في المدى القصير. إذًا كان الخوفُ على الأرجح أول استجابة للبشر الأوائل تجاه أعضاء قبيلة أخرى.

نُوْلَدُ بثقة طبيعية هي جزءًا منَّا في القرابة، ونمدُّها إلى غير الأقارب من المتعاونين معنا (قبيلتنا)، وبالمثل نُوْلَدُ بخوفٍ طبيعي من غير الأقارب (مَن يَكونون من خارج قبيلتنا).

إليكم طريق أخرى لعرض المسألة. طبيعيًا نُقسم الناس إلى مُنتمين إلى الجماعة [مِن الجماعة in-group، وغير مُنتمين إلى الجماعة [خارج الجماعة out-group]. يتعلم الأطفال من كبارِهم، فيَعرفون المنتمين إلى الجماعة ومَن هم خارجها. وعندما يحدث ذلك، يَكون للخوف حياة ويكون للحب حياة مستقلتان عن بعضهما البعض. يصبح مَن هو مِن الجماعة مَوْضِع كل خير: الأسرة والصديق والثقة والتعاون والتعاطف، وبكلمة واحدة: الحب. ويصبح مَن هو خارج الجماعة مَوْضِعَ كل شر: تهديد وعدو وخوف وتنافُس وكراهية.

ويؤسَف لتعلُّمِ الأطفال في سِنٍّ مبكرة للغاية مَن هو معنا (الطيب) ومَن ليس معنا (الشرير)، مع تولُّد آثار مُرافِقَة لذلك الأمر في سلوكهم، وهي آثار مرافِقَة إيجابية لمَن “معنا” وسلبية تجاه “مَن ليس معنا”.

نحتاج إلى التغلُّب على مخاوفنا لخلق المودة مع مَن هم خارج قبيلتنا، وبالتأكيد نحتاج إلى ذلك عندما يتعلق الأمر بالحبِّ. ولأن أغلب الناس خارج قبيلتنا، الخوفُ ردُّ فعلنا الطبيعي [أو استجابتنا الطبيعية] على أغلب الناس (بل على أغلب جماعات الناس).

تتضمن قبيلتي مَن هم مِن جماعتي، أناسًا يشبهونني كثيرًا: أبيض، مسيحي، طبقة وسطى، أمريكي، إلخ. (لذا، أبيض، مسيحي، أمريكي، صفات طيبة، وليس أبيض، غير مسيحي، غير أمريكي، صفات سيئة).

وبكل صدق، ينتابني خوف عندما أسير في “الأحياء المجاورة السيئة”، وهي الأحياء التي بها أغلبية من السود، الفقراء في المعتاد، أو عندما تقترب مني في الغسق، مجموعةٌ من الشباب يرتدون “الهودي”. شعرتُ بالخوف على تلك الطائرة التي كانت تحمل مسلمين وإيرانيين. وأحيانًا أشعر بالخوف عندما أسير وحدي في محل بقالة في الشرق الأوسط مليء بالعرب.

شعرتُ بالخوف في أول مرة زرت الصين، كل تلك الصور عن القمع الماويّ [نسبة إلى ماو تسي تونغ Mao Zedong] ومعاداة الرأسمالية اندفعت صوب عقلي. وحتى عندما كنت أتغلب على تلك المخاوف -من طريق اللقاءات المنتظمة- مع أساتذة أكاديميين صينيين، أتذكر إحساسي بالراحة بعد قلق عندما التقيت، في منتصف رحلتي إلى الجامعات الصينية، مجموعةً صغيرة من الصينيين المسيحيين. لم أشعر من قبل قَطّ بتهديدٍ يأتيني من الفلاسفة الصينيين، لكنّي أدركت أنني ما أزال خائفًا من “الصينيين” عندما لاحظت مدى الاسترخاء الذي شعرت به مع رفقائي المسيحيين. في نطاق قبيلتي الدينية، شعرتُ أنني في الوطن، وخارج قبيلتي شعرتُ بالخوف والقلق.

يمكنني الاستمرار في ممارستي للاعتراف هنا، وآمل أن تتبينوا أنفسكم في اعترافاتي، لكنني سأتوقف وألفت النظر إلى ما يلي: لا أستطيع أن أحبَّ الناس السود أو المسلمين أو العرب أو الإيرانيين أو الصينيين ما لم أستطع -وحتى أستطيع- التغلُّب على مخاوفي من السود أو المسلمين أو العرب أو الإيرانيين أو الصينيين.

الخوف يطرد المحبة خارجًا.

علم الخوف والحب

يأتي في العهد الجديد الذي يعي قوةَ الخوفِ المميتةَ الشديدة: “الْمَحَبَّةُ الْكَامِلَةُ تَطْرُدُ الْخَوْفَ خَارِجًا [يوحنا الأول 4:18]”.

لكن مما يؤسَف عليه، ومما يتصل بالمسألة اتصالًا أوثق، أنني أرى عكسَ ما جاء في العهد الجديد -“الخوف يطرد المحبة كلّها خارجًا“- صادقًا كذلك، بل إن هذا النقيض هو المُهيمن هيمنةً أكبر، لأنه لا يوجد بيننا قديس [معصوم من الخطأ].

عرفت عن التقابل [أو التضاد] بين الخوف والحب: أولًا، من العهد الجديد، ثمَّ أكَّدتُه من طريق خبراتي الخاصة في تعلُّمي التغلُّب على مخاوفي فأحب السودَ والمسلمين والعرب والإيرانيين والصينيين. كما تَعَلَّمْتُ كذلك أن التضاد بين الخوف والحبّ يؤسسه شيءٌ من العلم المتين.

         ما الذي يقوله العِلم science عن الخوف والحب؟

دعوني أكُن أكثر تحديدًا: ما الذي يقوله العلم عن الخوف والتعاطف، إذ يعني “التعاطف” الفهم، وإنما يعني الشعور بأفكار ومشاعر شخص آخرَ؟ إن أساسَ الرحمة فهمُ قصةِ شخصٍ آخرَ فهمًا قوامه الشفقة sympathy، أو الشعور بألم شخص آخر شعورًا قوامه التعاطف empathy، وهو الفعل من باب الاستجابة للانشغال بأفكار شخص آخر أو مشاعره، أو بسبب هذا الانشغال. إذا انعدم التعاطف، انعدمت الرحمة. وستعرفون من طريق تعمقي في تلك المسألة في كتابات أخرى، أن الرحمةَ أسمى شكل للحب بين إنسان وإنسان في الأديان الإبراهيمية.

لذلك إذا انعدم التعاطف، انعدم الحب بين إنسان وإنسان.

وبينما يَشِيِعُ التعاطفُ شيوعًا بَيِّنًا في ظاهرة المنتمين إلى الجماعة، إلا أنه هَشٌّ وقابل للكسر (لكنه ليس مستحيلًا) فيما يتعلق بغير المنتمين إلى الجماعة. في أوقات الصراع أو العُسْرِ، تشتد غريزتنا الأولى المُتَّسِمَة بالخوف تجاه مَن لا ينتمون إلى الجماعة، وإذا شعرنا “أنـهم” يهددوننا، نخاف “منهم”. وأحيانًا يكفي لطرد التعاطف، القلق الذي يشعر به المرءُ في وجوده بين المنتمين إلى الجماعات الأخرى، أي كلّ من يَكونون من خارج جماعته.

من المُرجَّح للخوف التسبُّب في استجابة “الصراع أو الفَرّ”، ومن المؤكد عدم تسبُّبه في التعاطف أو الحب. يَحُضُّ الخوفُ اللومَ والثأر والانتقامَ والاعتداء والتهميش وتوليد الأحكام المُسْبَقَة. ويصعب أن تَكون تلك الأمورُ مرتبطة بالسلام الساعي إلى الحب.

إذا خفنا من شخص أو جماعة ما، لا نشعر بتعاطف معهم، ولا نستطيع ذلك. عندما ينقصنا التعاطف [عن قربٍ]، نفشل في الحب.

ما يحتاجه العالَمُ الآن

يلتقي العهد الجديد والعلم: ليس هناك مُتسع في قلوبنا للخوف والحبّ كليهما. وكذلك إذا خفنا من شخص لا ينتمي إلى الجماعة، لا نستطيع أن نحبَّه. تلك هي الحقيقة العلمية البسيطة.

كيف نستطيع التغلب على مثل هذه العقبات الطبيعية والقوية أمام الحبّ؟

إذا وجدت خوفك من المسلمين أو اليهود راجعًا بعد مشاهدتك الأخبار أو فيديو أو استماعك إلى الراديو، أخبر ذاتَك الأفضل أنك لا تريد أن تَكون هذا الشخص.

بدلًا من ذلك، اخْتَر الحبَّ.

ولأننا لا نستطيع أن نختار التعاطف (الحب) عندما نحيا في خوف، فمن المؤكد أننا لن نصبح مُحِبِّين على الفور. لا يسير الأمر بتلك الطريقة أبدًا، لكن أنت مضطر إلى البدء من مكان ما، فلتبدأ بتجنُّب الأمور الصغيرة التي تُحَفِّز مخاوفَك، اكتم صوت بائعي الخوف في الراديو أو التليفزيون، ولا تضغط على ذلك العنوان المثير [في الإنترنت]، وتَجَنَّب قراءة تلك المنشورات والتغريدات “في تطبيق تويتر” التي تُثَبِّتُ مخاوفَك.

وبدائل تلك الأمور استماعُك إلى موسيقى مُلْهِمَة، وتَحَدُّثك مع الذين يبدون مختلفين عنك، وتبرُّعك بالمال لمَن لا يملكونه، والقراءة عن الحب والشجاعة والأمل.

هناك أغنية تنتمي لتصنيف “البوب”، صَدَرَت في الستينيات، بعنوان “What the World Needs Now is Love”، وهي ذات صلة بما أقوله بعد 60 عامًا من صدورها حيث يتجسد نقيضُ الحُبِّ المُتَجَذِّر في الخوف عميقًا وفي العنصرية والتعصُّب في الرأي ومعاداة السامية والإسلاموفوبيا والانعزالية isolationism والفقر والقمع والقتل الجماعي والحرب.

أتى في العهد الجديد أن الْمَحَبَّة الْكَامِلَة تَطْرُدُ الْخَوْفَ خَارِجًا. كيف نستطيع، إذًا رفع الحب الممتد والشامل إلى مداه الأقصى إذ يَسود ويَحكم -على نحوٍ وحشيّ- الخوفُ المُطْبِقُ والمُقَزِّز؟

ويؤسف لأننا نحن المؤمنين نستطيع أن نَكونَ سجناءَ مخاوفنا لمدى أكبر من كوننا مُنْفَتِحِين للحبِّ.

الحبُ هو ما يحتاجه العالم الآن.

وكلّ دين من الأديان الإبراهيمية الثلاثة جوهره الحبُّ.

كان هدفي من ذاك المقال وغيره من كتاباتي، إلهامَ القراء وإعلامهم بوجهاتِ نَظَرٍ جديدة في تقاليدهم الخاصة وتقاليد أخرى. فأما الأولى سَتُعين على حشد المنتمين إلى تقليدٍ بعينه لتطويع كل مصادره بُغية تحويل مخاوفهم إلى حبٍّ. وأما الأخرى سَتُعين على تقليل الخوف والارتياب من طريق فهم أفضلَ للمنتمين إلى تقاليد أخرى.

وإذ نصبح قوميين وانعزاليين وقَبَلِيِّين لمدى أكبر، نحتاج إلى إيجاد طرق لإلهام الحبِّ الذي يهزم الخوفَ.

 

المراجع والحواشي:

كيلي جيمس كلارك [1] أستاذ بارز في الفلسفة، بجامعة ابن خلدون، إسطنبول، تركيا. يكتب في مجالات فلسفة الدين، والمذهب الطبيعي naturalism، وفلسفة الأخلاق، والحوار بين الأديان؛ وينشغل بتحقيق التوازن بين العلم والدين من زاوية رؤية مسيحية. ويُعْتَبَر من أكبر تلاميذ الفيلسوف الأمريكي الكبير ألفِن بلانتينجا Alvin Plantinga.

[2]  المقصود محاولات كيلي جيمس كلارك لخلق أجواء من الحديث بين الجميع على نحوٍ غير مُعْلَن أو صريح. (المترجم).

[3]  مذكور في الفقرة الرابعة أعلاه. (المترجم).

[4]  “لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ”. (المترجم).

[5]  الصحراء الغذائية منطقة يصعب على ساكنيها الوصول إلى الأغذية النافعة، المناسبة، التي يمكنهم تحمُّل ثمنها. وربما ترجع الأسباب، من بين أسباب أخرى مُحْتَمَلَة، إلى بُعد المسافة بين سكان المنطقة ومحلات البقالة، وأسباب سوسيو-اقتصادية، وجغرافية. (المترجم).

[6] لا يميّز كيلي جيمس كلارك، في سياق هذا المقال، بين التعاطف empathy والشفقة sympathy؛ وربما يرى أنهما درجتان من شعورٍ واحد؛ وقد أخبرني برؤيته للأول كما يلي: أن يَكون المرء “متناغمًا” مع شخص آخر على المستويَيْن العاطفي والإدراكيّ، وبالأخص تجاه الذين يعانون، أو المتألمين. أما الشفقة فمن الممكن أن تَكون إدراكية — بمعنى فهم معنى أن يَكون المرء في موقف غيره تمامًا. ويَعتبر كيلي التعاطفَ، وهو شبيه إلى حَدٍّ كبير بالشفقة، القدرةَ على الاشتراك في مشاعر المرء وانشغالاته؛ كما تتضمن الشفقةُ الابتهاجَ بمسرات غيرنا والتألُّم لمصائبه. وتلزم الإشارة إلى وجود فارق أكبر في المعنى بينهما على مستوى التعريف الفلسفي. (المترجم).

[7] “معادية للسامية” وصف للجرائم نفسها. (المترجم).

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete