تكوين
(1)
من بين أبرز مهام اللقاءات والندوات المخصصة لجمهور عام، ويجري الحديث فيها عن قضايا فكرية وموضوعات بطبيعة تكوينها وعناصرها تبدو أقرب للسجال النخبوي منها إلى الحديث العام.. وتبدو من المهام الأساسية التي تضطلع بها “تكوين” منذ تدشينها، تجاوز أسوار هذه النخبوية، والعمل على الوصول بهذه القضايا والموضوعات الفكرية والثقافية إلى أوسع دائرة ممكنة من المتلقين،
وهي قضايا وموضوعات تتصل بصميم بحثنا عن “النهضة” و”الاستنارة” و”الحداثة” التي نبحث عنها منذ ما يزيد على قرنين من الزمان، وكذلك بحثًا عن الخروج من الأنفاق المظلمة التي يبدو أنها تستطيل وتتمدد كلما ظننا أننا على وشك الخروج وإدراك النور واستنشاق الهواء النقي الحر!
كانت المحاضرة التي ألقاها الأستاذ الدكتور أنور مغيث، أستاذ الفلسفة السياسية والفكر المعاصر بجامعة حلوان، والمدير الأسبق للمركز القومي للترجمة، مثالًا رائعًا على هذا التناول “الممتاز” لموضوعاتٍ تحتاج إلى إلمام كبير ودقيق بأطرافها، وقدرة على تنظيم مادتها وتحليلها، وقدرة أخرى موازية على “عرضها”، وإعادة موضعتها بشكلٍ يناسب العصر، وبخاصة بين أجيالٍ جديدة لم تعد الطرائق التقليدية مقنعة لهم.
فهو لا يقدم “تقريرات” و”حقائق”، بقدر ما يثير من أسئلة تغري بالبحث والتنقيب، ويطرح تأملات أكثر مما يقدم إجابات، ويعرض أفكارا وتصوراتٍ ورؤى تحرِّك الراكد من القضايا والإشكاليات، يزيل عنها ما تراكم عليها من غبار التكرار والاجترار والتناول السطحي الساذج، ويؤكد على ضرورة الفحص والمراجعة والتساؤل، وفي الوقت نفسه يكون ذلك كله مصحوبًا بإثارة حاسة “الفضول” بل التحفيز والتحريض المعرفي ما يجعل المتلقي عمومًا (أو الحضور في ندوة أو محاضرة في هذه الحالة) يرغب مخلصًا في البحث عن مزيدٍ من المعرفة والقراءات حول هذا الموضوع أو ذاك.. وهذا ما أظن أنه تتحقق بكامله وغايته في هذه المحاضرة تمامًا، وعقبها، بصورة أكثر من رائعة..
(2)
إلقاء الضوء حول الداروينية
فلنبدأ -إذن- بإلقاء بعض الضوء حول (الداروينية)، وإشارة سريعة مكثفة لصاحب النظرية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، وما تزال حتى يوم الناس هذا! تشارلز داروين[1]، الرجل الذي ولد قبل مائتي عام وخمسة عشر عامًا تقريبًا (1809). وكتابه الشهير «أصل الأنواع» الذي شرح فيه نظريته عن “التطور” التي قلبت الدنيا رأسًا على عقب، صدر في منتصف القرن التاسع عشر، قبل مائة وخمسة وستين سنة تقريبًا (1859)، وبالتالي فالذكرى مزدوجة أو بالأحرى يتذكر الناس “دارون“، ويذكرون نظريته عن “التطور” التي اصطلح على تسميتها بالداروينية، وما كان لها من أثر مزلزل في تاريخ الفكر عمومًا، والفكر الاجتماعي والتاريخي والفلسفي.
ولذلك، فإذا حضرت الذكرى (ذكرى دارون أو ذكرى كتابه «أصل الأنواع») بأي داعٍ أو سبب، فإن العالم كله يحتفل به، أو يلعنه، بحسب الجهة التي ينتمي إليها المحتفلون أو اللاعنون، وبحسب زاوية النظر الذي ترى بها الموضوع! فإذا كنا من أتباع الحداثة العلمية، والانفتاح الفكري، صفقنا له وانتعشنا بتذكره أو بذكراه، واستخلصنا الآثار العميقة والقوية والواسعة لنظريته وأفكاره على كل المستويات؛ العلمية والفلسفية والاجتماعية وحتى الأدبية! (هناك من طبق هذه النظرية على دراسة الأنواع الأدبية، وراكم فيها أعمالًا ليست بالهينة ولا القليلة) باعتبار أنه يشكل أحد فتوحات العقل البشري، وهو في نظرنا كذلك، مع أسماء أخرى مثل ماركس وفرويد، وغيرهما.
وإذا كنا من أتباع الأصوليات التي تعادي العلم وترفض التطور وتحارب البدع، استعذنا بالله منه ومن الشيطان الرجيم الذي بعثه لنا لكي يقلقنا ويقض مضاجعنا، ويزعزع يقينياتنا وعقائدنا!
ولم يكن من قبيل الصدفة أن حصل تحالف مقدس ضده من قبل الأصوليات الدينية الثلاثة على الرغم من أنها يكره بعضُها بعضًا، فالأصولية المسيحية -في كلتا نسختيها الكاثوليكية والبروتستانتية- تكرهه ولا تطيق سماع اسمه، وقُل الأمر ذاته عن الأصولية اليهودية، والأصولية الإسلامية.
ومنذ سنواتٍ ليست بعيدة، رصد بعض الكتاب والمفكرين نشاط الأصولية البروتستانتية المنتعشة في الولايات المتحدة الأمريكية التي قررت أن تشن عليه حملة شعواء، ومعلوم أنها تمنع تدريس نظريته في المدارس التي تسيطر عليها في الولايات الجنوبية خصوصًا، فهي من أتباع نظرية الخلق التوراتية الواردة في سِفر التكوين، والتي تقول بأن الله خلق العالم والإنسان في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع[2].
ومعلوم أن داروين كان مؤمنًا بها (أي المسيحية) في البداية، بل كان يدرس اللاهوت المسيحي بغية أن يصبح كاهنًا أو قسيسًا ويكرس نفسه للعبادة والدين. ولكنه انخرط بعدئذ في خط البحث العلمي، والرحلة الاستكشافية حول العالم، وكانت النتيجة التي نعرفها. وكان يعرف أن نظرية التطور التي توصل إليها سوف تدخل في صدام مباشر مع الكنيسة المسيحية واللاهوت الديني، ولكنه عندما كان يؤلف كتابه الشهير «أصل الأنواع» فإنه كان لا يزال مؤمنًا بالله ومقتنعًا بوجوده كعلّة أولى أو كمحرك أساسي للكون.
والواقع أنه لم يصبح ملحدًا طيلة حياته أبدًا حتى بعد أن فقد إيمانه الديني على الطريقة التقليدية، كل ما في الأمر هو أنه كان يقول بأن العلم شيء، والدين شيء آخر، ولا ينبغي الخلط بينهما، فمجال الدين الروحي والتنزيهي الأخلاقي غير مجال العلم التجريبي. وهذا ما يقوله كبار العلماء حاليًا. بهذا المعنى يمكن أن نكون مؤمنين بالمعنى الواسع للكلمة، لا بالمعنى الضيق المتعصب، ونظل في ذات الوقت من أنصار نظرية “التطور” أو “النشوء والارتقاء“[3].
(3)
الأثر الاجتماعي و”الفلسفي” لدارون ونظريته
أما عن الأثر الاجتماعي و”الفلسفي” لدارون ونظريته في القرن التاسع عشر، فيقدم لنا الدكتور لويس عوض في مقدماته التاريخية المعمقة لدراساته النقدية عن «الأدب الإنجليزي الحديث»، تلخيصًا دقيقًا لها في إطار رصده لتطور الفكر الغربي الحديث؛ فيقول:
“لم تبدأ المعركة بين العلم والدين حقًّا إلا عام 1859 حين نشر دارون كتابه «أصل الأنواع» الذي أثبت فيه نظرية التطور إثباتا دامغًا، ثم خرج الأسقف كولنسو على الناس عام 1862 بكتابه «نقد الأسفار الخمسة وكتاب يشوع»، ونصر فيه رجال العلم على رجال الدين. وهكذا اقترن نمو البورجوازية بانتشار من اتخذوا من العقل رائدًا، ومن العلم منهجًا، وتسلسلت الحركة العقلية العلمية التي بدأها المفكر وليم جودوين (1756- 1836) وفي جيمس مل (1773- 1831) وهـارييت مارتينـو (1802-1871) وبرادلو (1823-1891)، ومج.أ. فرود (1818-1849)، ومارك باتيسـون (1813-1884).
ولكن جوهر الداروينية الاجتماعي لا يقف عند النظرية القائلة بأن البشر لم يكونوا مخلوقاتٍ كاملة تشبه الملائكة ثم هووا بل كانوا كائنات منحطة تشبه الحيوان ثم ارتقوا، وإنما يتجاوز ذلك الى النظرية القائلة بالانتخاب الطبيعي؛ أي بأن تطور البشر جاء وفقًا لقانون صارم هو قانون تنازع البقاء، وبقاء الأصلح، وهذا [هو] لباب الفلسفة الفردية، وهو التعبير الصـادق عن الروح البورجوازية الأصيلة.
فالبورجوازية تفهم المجتمع على أنه مجموعة من الأفراد متناحرة على البقاء، وتفهم التقدم الاجتماعي على أنه حصيلة هذا التناحر.
فدارون -كما قال فردريك إنجلز- قد اهتدى الى مجتمعه الإنجليزي بين فصائل النبات والحيوان التي كان يدرسها، أو بعبارةٍ أخرى، قدم قوانين التطور بين الأحياء قياسًا على قوانين التطور البورجوازي التي حكمت المجتمع الإنجليزي في عصره”[4].
كانت هذه مقدمة موجزة ولازمة عن “دارون” ونظريته عن “التطور“، وظهوره وأثره في سياق الثقافة التي أنتجته -الثقافة الغربية الحديثة- وما أحدثه من صخب ودوي على مستوى التلقي العام، خاصة من جانب “الأصوليات الدينية“.
فماذا عن “الداروينية” في الفكر العربي الحديث، وأثرها، والدور الذي لعبته في “علمنة الفكر“، وماذا عن تلقيها في أوساط المفكرين والمثقفين المصريين والشوام في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، والثلث الأول من القرن العشرين، والاستجابات المتعارضة التي نتجت عن هذا التلقي، وما حركته من مياه في بحيرة الفكر العربي التي ظلت راكدة لقرون طويلة، قبل أن يُلقى فيها بحجر التحديث والنهضة والبحث عن الحداثة، ومن خلال الترجمة، في القرن التاسع عشر؟
استهل أنور مغيث حديثه بالإشارة إلى أن ظهور “الداروينية” في الفكر العربي الحديث لم يكن منفصلًا في أي لحظة عن مسار “علمنة الفكر” أو عن نشاط من تبنوا “العلمانية” في إطار السعي لتحديث الفكر العربي الحديث، وتجديده، بحثًا عن النهضة.
فكان أول من دعا إلى “الداروينية” أو استهل الحديث عنها، والتعريف بها في هذه الدائرة، بعض المفكرين والمثقفين الشوام المسيحيين. ربما كان أبرزَ هؤلاء، المفكران المسيحيان، شبلي شميل (1865-1917)، وفرح أنطون (1874- 1922) اللذان كانا -بحكم وضعهما الثقافي الحضاري الخاص- أول من يطرح أفكار “التطورية الداروينية“، و”الاشتراكية العلمية“، و”العلمانية” في الشرق العربي كله.
(4)
نظرية النشوء والارتقاء
يستشهد أنور مغيث بنص نُشر في مجلة (اللطائف المصورة)، لينطلق منه لرصد الحضور الفكري والثقافي والمجتمعي للنظرية في تلك الفترة! فقد خرجت صحيفة (اللطائف المصورة)، في يناير من 1917، تنعى على صفحاتها الأولى اللورد كرومر، حاكم مصر الاستعماري الأسبق، في تلك الفترة، قائلة: “مات الرجل الذي أسدى إلى مصر خدماتٍ جليلة، لا يختلف بشأنها اثنان إلا أولئك الذين يجهلون نظرية النشوء والارتقاء”.
وفيما يرى مغيث، فإن ما يستلفته هنا ليس مديح اللورد كرومر في ذاته، ولكن هذا الاستخدام السجالي لنظرية “النشوء والارتقاء”[5]، بحيث يصبح الجهل بها حجة تنزع المصداقية عن أحكام القائلين! يقول:
“يمكننا تفهم وجود جدل حول حاكم استعماري، وهل يستحق الامتنان أو اللعنات، ولكن ما يلفت انتباهنا في هذا الاقتباس هو تلك الدعوة -التي تكاد تكون غير مناسبة- إلى نظرية “التطور” والتي طرحها المحرر على أنها من البديهيات. غير أن الدهشة أكبر اليوم نظرًا لحصول هذه النظرية على هذا القدر من الأهمية البلاغية في مجتمع لا تزال تسوده ثقافة تقليدية. فمن أين تأتي قوتها الحجاجية (من الحجاج والجدل) إذن؟”
وهكذا ينطلق “المحاضر” من تلك اللحظة ليفحص حالة الفكر والمجتمع والواقع في تلك الفترة، التي يرى أن الثقافة التقليدية “الدينية” السائدة قد فرضت -لفترة طويلة- معيارًا وحيدًا للحكم على صحة الأشياء، وهو “التوافق مع القرآن والسنة”، ولا شيء آخر!
قبل الدخول في تفاصيل هذا الرصد، قدم أنور مغيث مسحًا تاريخيا موجزًا للسياق الذي شهد حركة الفكر العربي الحديث، منذ بدايات القرن التاسع عشر مع تولي محمد علي حكم مصر، وحتى الربع الأول من القرن العشرين. وفي قلب هذه الحركة اتجاهات البحث عن “علمنة الفكر” التي ارتبطت إلى حد كبير بتوظيف الداروينية في المجال الاجتماعي والثقافي!
فعلى الرغم من السياقات المتنوعة التي كانت تشكل الواقع والمجتمع، فقد أدى اندماج البلدان العربية في “الحداثة” إلى هزِّ هذا الوضع هزا عنيفا. ففي الأزمنة المعاصرة، لم يقتصر أثر اتصال العالم العربي بالعالم الغربي في نهاية القرن السابع عشر على تولد الوعي بوجود تخلف تاريخي، بل نتج عنه أيضًا رغبة في التقدم. وقد دارت أول الاحتياجات المحسوسة حول مجالي “العلم” و”التكنولوجيا”.
وانطلاقًا من هذا الهدف، فيما يطرح أنور مغيث، أرسل محمد علي باشا أولى بعثاته إلى أوروبا. ولم يكن نشر هذه المعرفة الجديدة يجري على مستوى المجتمع، بل على جيش هذا الوالي الطموح. وبالفعل كان في المجتمع المصري -في بداية القرن التاسع عشر- نخبة من العسكر والتكنوقراط الأجانب، وعلماء الدين، لكن لم يكن فيه نخبة مثقفة (إنتلجنسيا)، أي نخبة منتِجة.
وقد شهدت مصر في تلك الحقبة تجديدًا متسارعًا في جميع المجالات، في الري، والمواصلات، والعمران، والصحة، وغيرها. غير أن تحديث البنى التحتية هذا لم يؤدِّ بحد ذاته إلى “الحداثة“. فلم تكن الحداثة لتتحقق دون نشر العلوم عن طريق “التعليم” لضمان الانخراط الشعبي في المشروع الحداثي. كما، ولم تكن الحداثة لتتحقق دون تغيير شكل الحكومة لإخراج الناس من حالة الاستقالة التي دامت قرونًا إزاء الشؤون العامة. وبالتالي، استلزم الأمر عملية فكرية طويلة قبل إدراك هذه الحقيقة.
كان هذا -باختصار- هو السياق “التحديثي” الباحث عن التغيير، منذ مطالع القرن التاسع عشر، وحتى ربعه الأخير، السياق الذي بدأ فيه ظهور “الداروينية” واستقبالها وتلقيها باستجاباتٍ متفاوتة من القبول والرفض، وعلى درجات من الحماسة أو النفور أو حتى الرفض المطلق العنيف (كما سنرى في رد فعل السيد جمال الدين الأفغاني)!
(5)
النخبة المثقفة العربية
لقد شكَّلت نظرية “النشوء والارتقاء”، فيما يرى أنور مغيث، عند عرضها في فكرنا العربي الحديث، منبعًا يسهم في تشكيل هذه الرؤية “الدنيوية” عن العالم، في إطار البحث عن “الحداثة“. ولقد أدى ذيوع هذه النظرة في العالم بأسره للكتابات التي أنتجها فلاسفةٌ، مثل هربرت سبنسر في إنجلترا، وإرنست هيكل و”بوخنر” في ألمانيا، وفي فكرنا العربي كانت الريادة في هذا المجال لشبلي شميل، وأعقبه سلامة موسى، وإسماعيل مظهر، وعصام الدين حفني ناصف.
وبمقدورنا -إذن- تخيل أن النخبة المثقفة العربية التي كانت متعطشة إلى الولوج إلى “الحداثة” كانت تطمح إلى امتلاك مثل هذه “الرؤية” التي من شأنها أن تتيح لها التفكير في العالم بطريقةٍ مختلفة؛ لأن العالَم -حسب الرؤية التقليدية- مكتملٌ ومنتهٍ، والإنسان موجود فيه بلا حول ولا قوة. أما في الفكر العلماني، فإن الإنسان يقدم -عبر لغة يحددها- صورةً عن العالم لا تعود كما كانت صورة شمولية، وبالتالي لم تعد متحررة من أي منظور، فالعالم ليس موجودًا بوصفه واقعًا جاهزًا أو “معطى مكتملا”.
بداية، وكما أوضح الدكتور مغيث في محاضرته، فإن المجال الأساسي لنظرية دارون هو “البيولوجيا” أو علم الأحياء، والذي يقدم فيه نظريته عن الخلق المتصل بين الأنواع، والتي أفضت به إلى القول بأن الإنسان منحدر من فصيلةٍ من القردة العليا. وقد واجهت هذه النظرية هنا في الشرق -كما في الغرب- استهجانًا ورفضًا كبيرًا، ولكن -وللمفارقة- حينما استخدمت هذه النظرية في المجال “التاريخي” و”الاجتماعي” حظيت بتبنٍ واسع وكبير[6].
هذا الانتشار الكبير للنظرية يفسره مغيث بأنها (أي النظرية “التطورية“) بقوانينها المعروفة، مثل “الانتخاب الطبيعي“، و”البقاء للأصلح” و”التكيف” و”الانقراض“.. قد قدمت -في المجال الاجتماعي- ما يمكن أن نسميه (رؤية العالم).
وامتلاك “رؤية للعالم” أو تبني “رؤية للعالم”، فيما يرى الفيلسوف الألماني هيدجر، هو أحد أهم ملامح الدخول إلى الحداثة، لأن التطور المتسارع للمجتمعات وللظواهر الإنسانية والاجتماعية يقتضي أن يكون للمرء إطار مرجعي يسمح له بأن يفهم أسباب نشوء الظواهر وتطورها ومصيرها، ويجعله بالتالي قادرًا على الحكم على الأمور التي تجري حوله[7].
ولذا؛ فإن تبني “رؤية للعالم” يمثل مخرجًا من الاقتصار على الحكم على الأشياء بالحلال والحرام الذي يسود النظرة الدينية التقليدية. ولذا فهي بداية الاتجاه نحو “علمنة الفكر” والذي يتيح للإنسان أن تكون له “نظرية” لفهم الكون، وتحديد مكانه فيه.
ومن أبرز الأمثلة عن “رؤية العالم” قول العالم الفلكي جاليليو «الطبيعة نظام رياضي». هذا القول ليس “نظرية علمية”، فقد كان يمكن لجاليليو أن يقول “الطبيعة أمنا الحنون”، لكنه اختار هذا المبدأ في النظر إلى الطبيعة، فظهرت على أساسه “قاعدة ابحث عما يمكنك قياسه، تصنع علمًا”[8].
(6)
أول ظهور للداروينية في إنتاج المفكرين العرب
هكذا، ومنذ الربع الأول من القرن العشرين، تجلى تطبيق هذه “الرؤية” في كتاباتٍ كثيرة، فنجد إسماعيل مظهر يستخدمها في شرح رؤيته لتطور الحضارات، ودعوته لتحرير المرأة، ونجد مصطفى حسنين المنصوري في كتابه «تاريخ المذاهب الاشتراكية» الصادر عام 1915 يقدِّم أول برنامج مقترح لحزبٍ اشتراكي مصري، مدعما إياه بالقول إنه متفق مع “نظرية النشوء والارتقاء“.
ونجد أيضًا عصام الدين حفني ناصف، حينما أراد أن يبحث في خضوع الأخلاق لنظرية التطور، ضرب مثلًا في تغير معايير اختيار العائلات المصرية لعريس بنتٍ من بناتها، فكانوا قديمًا يفضلون أن يكون من الأشراف، أي من سلالة نبيلة، وبعد ذلك كانوا يفضلون التاجر صاحب المال، أما في القرن العشرين فهم يفضلون المهندس أو الطبيب الذي يحوز العلم[9].
كان أول ظهور للداروينية في إنتاج المفكرين العرب القرن التاسع عشر، من خلال الترجمة التي أنجزها شبلي شميل لكتاب “بخنر” الألماني «فلسفة النشوء والارتقاء: شرح بخنر على نظرية دارون»، وصدرت عام 1885، وجاء في مقدمتها: “اعلم أن الإنسان كائنٌ طبيعي انبثق عن الطبيعة التي نتج عنها مختلف الوظائف. وهو لا يختلف من الناحية الفسيولوجية عن الحيوان، ويشبه من الناحية الكيميائية المادة، والفارق الوحيد بينهما كمي وليس نوعي”[10].
وقد طُبع من هذا الكتاب 500 نسخة، واستغرق توزيعها قرابة خمسة عشر عامًا، غير أن أثره -في نهاية المطاف- كان كبيرًا، فعند الاطلاع على سِير معظم المفكرين المصريين العظام في مطلع القرن العشرين، نلاحظ أن قراءة هذا الكتاب بدَت لهم لحظةً حاسمة في مسيرتهم الفكرية، ما حدا بأحمد لطفي السيد، أبو الليبرالية المصرية، إلى اعتباره الكتاب الذي أثر في وعي جيل كامل.
ويلاحظ مغيث أن هدف شميل لم يقتصر على إظهار القوانين “التفسيرية” لتشكيلة الأنواع الحيوانية، بل هدف أيضًا إلى إظهار نشأة القواعد الأخلاقية، والعقائد الدينية، والمنظومات السياسية والاقتصادية. ولم تلعب نظرية “التطور” دور الموقظ من السبات العقدي فحسب، بل قدمت أيضًا إطارًا تفسيريًا شاملًا، وهو علاوة على ذلك “علميّ” لفهم الظواهر الاجتماعية والطبيعية.
وقد تطرق المفكر المصري إسماعيل مظهر إلى طبيعة هذا التحول، وكانت شهادته مهمة، إذ قال: “كنت عام 1911 عاكفًا على كتب العرب القديمة، حينما وقعت صدفة على كتاب «نظرية النشوء والتطور» للدكتور شميل. وقد أدت قراءتي له إلى تغير كبير في فهمي، وترك فيه أثرًا تعجز الكلمات عن وصفه”.
وقد ترجم مظهر في عام 1918 كتاب داروين «أصل الأنواع»، وناضل بقية حياته من أجل الحرية الفردية، وتحرير المرأة، وتحسين ظروف الفلاحين[11].
وعليه، يستنتج الدكتور أنور مغيث أن نظرية “النشوء والارتقاء” لم تكن مذهبًا أو “أيديولوجيا” تخص تيارًا فكريًّا معينًا، ولكنها صارت طريقةً نفهم بها العالم. ولهذا كان المثقفون من تياراتٍ مختلفة ومتصارعة يأخذون بها.
فقد كان أحمد لطفي السيد يدعو إلى تبني الفكر الليبرالي، وإطلاق المبادرة الفردية، والتوسع في الاقتصاد الرأسمالي، وكانت حجته في ذلك أن هذا المشروع يتفق وقواعد “النشوء الارتقاء“، مثل التنافس، والبقاء للأصلح، وغيرها.
وكان سلامة موسى من أنصار الفكر الاشتراكي، والمساواة بين الناس، وإلغاء الميراث، وكان يرى أن مشروعه هذا يتفق مع قواعد النشوء والارتقاء؛ لأنه يرى أن الثروات والأموال تقوم بتزييف الصراع الطبيعي بين أفراد النوع، وتجعل فردًا ضعيف الإمكانات يسود من هو أكفأ منه، فقط لأنه يمتلك أموالاً أكثر منه.
وهكذا -ورغم الاختلاف في وجهات النظر- كان الجميع ينطلق من نفس الرؤية عن العالم، والمهم أنه بات لها قوة حجاج عالية، ومشتركة بين الجميع[12].
(7)
في المقابل، يوضح مغيث، أنه وبمجرد دخول “الداروينية” إلى مجال الفكر العربي قوبلت، وفورًا، بالتفنيد المتوقع من “ثقافة دينية” تقليدية محافظة. فقد أطلق جمال الدين الأفغاني في كتابه الشهير «الرد على الدهريين» هجومًا عنيفًا على فلاسفة عصر التنوير، وعلى الثورة الفرنسية، والحركات الاجتماعية، وداروين، إذ قال:
“ورأس القائلين بهذا القول دارون، وقد ألف كتابًا في بيان أن الإنسان كان قردًا، ثم عرض له التنقيح والتهذيب في صورته بالتدريج على تتالي القرون المتطاولة، وبتأثير الفواعل الطبيعية الخارجية حتى ارتقى إلى برزخ ثم ارتقى من تلك الصورة إلى أولى مراتب الإنسان.. فكان صنف “اليميم” وسائر الزنوج، ومن هناك عرض بعض أفراده إلى أفق أعلى وأرفع من أفق الزنجيين، فكان الإنسان القوقازي. وعلى زعم داروين هذا يمكن أن يصير البرغوث فيلًا بمرور القرون وكر الدهور، وأن ينقلب الفيل برغوثًا كذلك”[13].
ولا تزال كتب التيارات الإسلامية اليوم مليئة بهذا النوع من الردود “الخطابية”. غير أن المهم لدى الأفغاني، فيما يقرأه مغيث، هو الرابط الذي أقامه بين جميع المظاهر الفكرية للحداثة. وإذ استشعر الحاجة إلى نظريةٍ تفسيرية، فقد دعا القارئ إلى قراءة كتابات “غيزو” حول التقدم الحضاري المترجمة إلى العربية عام 1877. إذ يرى “غيزو” المجتمع كإنسان تستدعي إرادتُه العقلَ لضبط العواطف والتأكيد على تضامن أعضائه واتساقها بالمبادئ الأخلاقية الناتجة عن العقل نفسه[14].
ويختتم مغيث محاضرته الممتازة بأن نظرية “التطور” لدارون أو “التطورية” كان لها أثر كبير على المفكرين المصريين والعرب، بغض النظر عن توجهاتهم الأيديولوجية. أما الهجمات والانتقادات التي تعرضت لها -ولا زالت حتى يومنا هذا- فقد انحصر مصدرها دائمًا في الإسلام التقليدي المحافظ.
ونتيجة لذلك، فقد شكلت “الداروينية” بالنسبة لهؤلاء المفكرين رؤية بسيطة ومتسقة للعالم تساعد على تحليل المجتمع، وتفادي اللجوء إلى تفسيرات أسطورية أو غائية. ومن ناحيةٍ أخرى، فإن دينامية الفكر “التطوري” أتاحت لهم الوقوف في وجه التصور الساكن للرؤى التقليدية، وجمودها.
وبناء عليه، فإن هذه الرؤية للعالم المستمدة من “الداروينية الاجتماعية” قد سادت فكرنا العربي المعاصر حتى منتصف الثلاثينيات[15]، ثم بدأت تفقد سطوتها شيئًا فشيئًا، فنحن لا نسمع اليوم بمن يستخدمها كحجة لتأييد وجهة نظره. لقد خضعت النظرية نفسها لقوانين “التطور“، وتوارت أمام ظهور نظريات أخرى لها قدرة تفسيرية أكبر للظواهر الاجتماعية. ولكن أهميتها الكبرى تكمن في أنها كانت هي الخطوة الأولى في فكرنا المعاصر نحو “علمنة الفكر”[16].
(8)
بعبارةٍ أخرى، وأخيرة، فإنه واعتبارًا من أربعينيات القرن الماضي انسحبت “النظرية الداروينية” إلى مجالها الأصلي الأول؛ أي “علم الحياة والأحياء” (البيولوجيا)، وتوقفت عن الاضطلاع بدور المرجع “التوافقي”، وتعددت الرؤى الكونية.
إلا أن ذلك لا يعني أن “الداروينية” مثلت -طيلة نصف قرن- خطوة حاسمة في “علمنة” الفكر العربي المعاصر؛ أي اعتماده في الحكم على ظواهر العالم الطبيعية والإنسانية، انطلاقًا من نظريات أنتجها الفكر الإنساني، وليس الكتب المقدسة.
المراجع:
[1]– تشارلز دارون (1809-1882)؛ عالم إنجليزي عرف في أوساط المشتغلين بالعلم، وتاريخ الفكر، بنظريته في علم الأحياء عن “التطور” التي فصلها في كتابه الشهير أصل الأنواع الذي أصدره في العام 1859، وأتبعه بكتاب أصل الإنسان وفيه يؤكد هذه النظرية ويدلل عليها بمزيد من الاستدلالات والاستنتاجات.
[2]– هاشم صالح: هل مات داروين حقا؟، مقال منشور بجريدة (الشرق الأوسط)، 2009.
[3]– هاشم صالح، المقال نفسه.
[4]– لويس عوض، في الأدب الإنجليزي الحديث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الثانية، 1987، ص 35، 36.
[5]– يوضح أنور مغيث أن نظرية “النشوء والارتقاء” هو الاسم الذي كان شائعًا في فكرنا العربي المعاصر لنظرية “التطور” عند داروين، وربما كان ذلك بسبب عنوان كتاب الدكتور شبلي شميل «فلسفة النشوء والارتقاء»، والذي كان ترجمة لكتاب الفيلسوف الألماني بوخنر، والصادر عام 1876.
[6]– أنور مغيث، “علمنة الفكر”، مقال منشور في صحيفة (الأهرام)، العدد (47734)، بتاريخ 15 أغسطس 2017.
[7]– المرجع نفسه.
[8]– علمنة الفكر، المرجع نفسه.
[9]– المرجع نفسه.
[10]– شبلي شميل، مجموعة الدكتور شبلي شميل، المجلد الأول، “فلسفة النشوء والارتقاء”، مطبعة المقتطف، القاهرة، 1910، ص 40.
[11]– إسماعيل مظهر، “تباريح الشباب”، القاهرة، دار الفكر الحر، ص 18.
[12]– أنور مغيث، علمنة الفكر، مرجع سابق.
[13]– جمال الدين الأفغاني، الأعمال الكاملة، تحقيق ودراسة محمد عمارة، دار السلام، القاهرة، المجلد الثالث (في الإلهيات)، ص 1416.
[14]– الأفغاني وعبده، “العروة الوثقى”، بيروت، دار الكتاب العربي، 1970، ص 86.
[15]– يرصد محمد جابر الأنصاري في كتابه «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي»، الأصداء الكبيرة والواسعة لـ “الداروينية” والفكر الدارويني في الحياة الاجتماعية والفكرية والثقافية في المجتمعات العربية (مصر نموذجًا) في عشرينات القرن الماضي، من خلال وقوفه على نص بالغ الدلالة لنجيب محفوظ في «قصر الشوق» (الجزء الثاني من ثلاثيته الشهيرة)، وهذا النص ذاته قد استرعى كاتب هذه السطور، لكن هذا حديث آخر، ربما نفصله في مقالةٍ تالية..
[16]– أنور مغيث، “علمنة الفكر”، مرجع سابق.