تكوين
يمكن القول إنّ للمتخيل فعالية تمكنه من تشكيل صور متعددة للعالم، بحيث يستطيع إخضاع بنيّة التكوينات الاجتماعية المتعارف عليها، عن طريق إرجاعها إلى عالم القداسة، من جهة، وموضعتها ضمن خصائص البيئة الحاضنة من جهة أخرى. ومن ثمّ تكوين فضاءات جديدة تستلهم منها الحكايات الشعبية مرجعية، تلقي بأثرها فيما بعد على التاريخ الرسمي، إلى الحد الذي يمكنها من صبغه بدلالاتها ورموزها في كثير من الأحيان.
وإذا كانت الثقافة الشعبيّة، هي مجموع القيم الاجتماعيّة والدينيّة، الممتزجة بالموروث من حكايات خرافيّة وأساطير، فإنّ القصص المتخيل هو الفاعل الرئيس، والمحرك الأول لمسارات هذه الثقافة، حيث يمكنه استدعاء الروايات المتناثرة، هنا وهناك، وتبيئتها بشكل يشبه عملية توطين الطيور المهاجرة في أرض جديدة. حيث لا يعترف المتخيل بحدود جغرافيّة، أو بهيمنة نسق ديني واحد، فهو باستمرار قادر على اختراق الأطر الحاكمة للثقافة، وتطوير آليات عمل المفاهيم الجديدة، وفق مزايحات دائمة تتسم ببراغماتيّة شديدة، وبمرونة فائقة تستطيع الثقافة الشعبية من خلالها التنفس، ومن ثمّ البقاء؛ بمد خطوط الموروث، والنص الديني، والاحتياجات الإنسانيّة والاجتماعيّة على استقامة واحدة، وبشكل متواز.
الدلالات الرمزية للمتخيل
صاغت الثقافة الإسلامية عالمها الغيبي، وشخّص المتخيل الإسلامي معالمه بين مختلف التفاصيل، وبشكل تشظى معه المتخيل إلى عدة عوالم؛ فثمّة متخيل المتصوفة، ومتخيل المعتزلة، ومتخيل السنة، ومتخيل الشيعة، بل ويمكن تمييز عدة تمثلات متباينة داخل النسق الواحد[1].
وللمتخيل في الحقل الأنثروبولوجي دلالات رمزية، تتجاوز التعويل على كونها تمثلات مجردة، إذ تصبح فعاليتها الرمزية بنية تخترق ثوابت التاريخ، فترسي تأويلا آخر للعالم من خلال المحاكاة. هذا البُعد الأنثروبولوجي، يتيح فهم الآليات العميقة؛ لكيفية اشتغال المجتمعات البشرية وحركتها، وهو بُعد له معقوليته الخاصّة ومنطقه الداخلي، ذلك أنّ ما يسمى اليوم بالمتخيل؛ هو نمط عقلاني ربما لم نعد قادرين على فهمه؛ لأنّنا ربما تعالينا عليه، فالأحداث التاريخية التي يحتفي بها التاريخ الرسمي، يضفي عليه المتخيل نوعًا خاصًا من العجائبية الأسطوريّة والملحميّة الجماعية، والقدرة على البقاء.
وتبدو المعايير الاجتماعية حجر الزاوية المؤدي إلى هذا القدر الهائل من الحكايا، فوفقًا لبارسونز، فإنّ تلك المعايير هي الضامن لتماسك المجتمع، وتحقيق السيطرة المعيارية على أفعال أفراده، ومن دونها يحدث نوع من التفكك؛ ذلك أنّ البناء الوظيفي للنسق الاجتماعي يقوم على جملة من المعتقدات المشتركة، والمنبثقة عن الثقافة ومنظومة القيم، التي تقوم بدور موجهات الفاعل؛ فتلزمه بالمحافظة على معايير الاختيار وتساعده على اختياراته[2]. وهو ما تجلى بوضوح في مسارات التاريخ الموازي في سرّديات التاريخ الملحميّة، وظهر في كل ما اختلط بها من مشاهد تخيلية، وأساطير مفارقة، تجسد حالة من الوعي الجمعي، تحيل على كل ما هو متاح للتعاطي مع بيئة الصحراء القاسية، حيث يتداخل ما هو تاريخي بما هو اجتماعي، ويحمي وطيس الجدل بين ما هو حادث، وما كان ينبغي له أن يحدث، ويتبدى البعد القبلي بكامل معطياته؛ ليعبر بمنظومة القيم البدوية عبورًا حادًا من الحيز المكاني (الصحراء)، إلى حيث ثقافة النهر والساحل، في أكثر مشاهد الدراما الشعبية حضورًا وزخمًا.
التماهي مع الأسطورة
تتميز الحكاية في التاريخ الموازي بالتماهي مع الأسطورة، والتصالح معها، على العكس من التاريخ الرسمي القائم على منطق الفكر العقلاني إلى حد كبير؛ لما للأسطورة من قدرة على إضفاء صفات قدسية على مواضيعها وأشيائها الخاصة، ولما لها عمليًا من مستلزمات غيبية؛ تستند إليها في الواقع، وتنعكس بالضرورة على البنى السياسيّة والاجتماعيّة؛ فالوسائل المتولدة من جراء الأسطورة أو المولدة لبعضها، تتحول في المجتمع إلى أدوات اضافية للسيطرة، وبحيث تصبح هناك طبقة محددة تمتلك وسائل الممارسة الأسطوريّة، والأسطورة شديدة الارتباط بالممارسة السياسيّة، فالعرب قبل الإسلام كانوا يجمعون بين الرمز الأسطوري والرمز السياسي أو الاجتماعي[3]. ويمكن القول إنّ المتخيل الديني يمثل أحد أبرز معطيات الحكاية الشعبية، فالأفكار الدينية لا تجد مجالًا للظهور في الطقوس فحسب، وإنّما تمارس حضورًا طاغيًا في مجال الحكي أيضًا[4].
وعليه، لم يكن مهمًا الالتزام الحرفي بمعطيات التاريخ الرسمي، حيث اخترقته سياقات تشبه حواديت ألف ليلة وليلة؛ لتتحول الجماعيّة القبليّة إلى حالة مستقلة في الوجدان الشعبي، ترتكز على البطل المنتظر، وأبطال آخرين، تنطلق من خلالهم، وصولًا إلى نقاط التماس مع الواقع والتاريخ، وكذا احتياجات الوجدان الشعبي، فتصبح الجماعة موضوعًا في مواجهة العالم.
من هنا، تجلّت في فضاء المتخيل الديني، جملة من المعاني، التي اشتبكت مع الإسلام ونصوصه، والبنى الثقافية للعرب قبل الإسلام، وعدة تشكيلات قيمية أخرى، تفاعلت فيما بينها جميعًا في الذهنية الشعبية؛ لتصوغ ملاحم فريدة.
بركة الأمنيات تحاكي ظمأ الصحراء
الرمز اصطلاحًا هو “كل ما ينوب عن الشيء أو يشير إليه، أو يعبر عنه، أو يحل محله في غيابه”[5]. والرموز في مجملها عبارة عن أدوات وظيفية، تنعكس من خلالها الصور الذهنية؛ فحقل الأفكار هو الحاضنة التي تنتج فيها الرموز، وتتكون من خلالها الكثافة الدلالية؛ كشرط حتمي للفهم والتأويل.
وفي مجتمع صحراوي جاف، سمع عن الميثولوجيا المرتبطة بثقافة النهر في الهند والعراق ومصر، والمرتبطة بسريان الماء العذب في الوديان، كانت المحاكاة ترتبط دومًا بالآبار وبرك الماء العذب، حيث حملت بعضها نوعًا من القداسة، اختلطت بالأساطير، وتعلقت بقدرات الآلهة المحلية الراعية والضامنة لتدفق الماء من البئر، حيث ارتبطت دومًا الآلهة بالمياه، وفي الإسلام كانت هناك الآبار النبوية السبع: أريس، غرس، رومة، بضاعة، بصة، حاء، العهن. وكانت أشهرها رومة، بئر الخليفة الثالث عثمان بن عفان.
ولأهمية المياه، فإنّ الكثير من الأصنام نصب على أماكن الآبار، ممّا يفسر حاجة العرب قبل الإسلام إلى الماء، “فوجود الماء مثّل نقطة اجتماع ولقاء واستقرار وممارسة اجتماعية وطقسية”. وسعى العرب إلى نصب آلهتهم على آبار، ومنها أساف ونائلة، إذا كان أحدهما في موضع زمزم، أمّا هبل فكان منصوبًا على البئر الموجودة في جوف الكعبة، الأمر الذي يعكس العلاقة الوطيدة بالماء[6].
لكن بئر زمزم تفوقت في المتخيل الإسلامي على كل هذه الآبار، واحتفظت بالشهرة الأوسع، فقد روي عن ابن عباس، وأحمد عن جابر عن الرسول -عليه السلام- أنّه قال إنّ ماء زمزم لما شرب له، وتواتر أنّ الدعاء بعد الفراغ من شرب ماء زمزم، يكون مما ترجى إجابته، ومن ضمن ذلك الدعاء بالذرية والإنجاب، واتفق في ذلك على اعتماد دعاء النبي زكريا-عليه السلام- حين قال: “رب هب لي من لدنك ذرية طيبة، إنك سميع الدعاء، أو رب لا تذرني فرداً، وأنت خير الوارثين”.
وكان وضع الأمنيات عند آبار الماء، من ضمن طقوس امتنان العطشى في الصحراء، مع انتشار جملة من القصص حول تحققها، في سياق التقديس العام للماء؛ بوصفه مصدر الحياة.
وربما تتفق البنية السرديّة للروايات المتعددة، التي تناولت لحظة ميلاد البطل المخلص، بركات بن رزق بن نائل الهلالي، حول تفسير سواد بشرته، بتلك الأمنية التي استقرت في قلب أمه، خضرة الشريفة، وفق رواية سبقتها نبوءة تقول إنّ البطل سوف يولد من نسل الأمير رزق، والذي سيطرت عليه الرغبة في إنجاب ولد ذكر، حتى أنّه تزوج بعشر نساء، لكنّه لم ينجب غير ابنتين هما: شيحة وأتيمة، بالإضـافة إلى صبي ولد مشـوهًا بلا أطـراف.
وتذكر الروايات أنّ خضرة ابنة شريف مكة، تزوجت من رزق الهلالي، رغم فارق السن الكبير بينهما، وكان يؤرقها عدم إنجاب الذكر الموعود، وأصاب الأمير رزق حزن شديد، وأخذ يدعو الله أن يمنحه الولد:
يقول الفتى رزق الأمير الذي شكا
بدمع جرى فوق الخدود وسال
يارب يا رحمان يا قابل الدعا
أيا من له كل العباد تسأل
أيا رب ترزقني ولد يسرني
وأحي به ذكري وأنال منال[7]
ويبدو هنا التناص مع دعاء النبي زكريا الوارد في القرآن الكريم: “هنالك دعا زكريا ربه، قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة، إنك سميع الدعاء..” آل عمران / 38.
وخرجت خضرة بناء على نصيحة إحدى العارفات، مع عدد من نساء القبيلة، إلى بئر ماء في الصحراء تجتمع عندها الطيور، يقال لها بركة الأمنيات، فكان على كل امرأة أن تختار الطائر الذي يعجبها. هنا رأت خضرة غرابًا قويّا يقود سربًا عظيمًا، وعندما هبط ليشرب، تراجعت كل الطيور، بعد أن انقض عليها جميعًا؛ “فأعجبت به، ورفعت وجهها إلى السماء، تدعو الله أن يريها غلامًا على شاكلته، ولو كان فاحم اللون، فاستجاب الله لها [8]“.
ربما يبدو التطابق في المحاكاة واضحًا، بين بركة الأمنيات التي وضعت عندها خضرة الشريفة أمنيتها، ونبع تريفي Trevi في الأساطير الرومانيّة القديمة، حيث إنّ المتزوجات في روما كن يذهبن إلى النبع لتمني الإنجاب، وكذا العذراوات كنّ يقصدن النبع المقدس أيضًا، التماسًا لتحقق أمنياتهن في الزواج، حتى أنّ النبع أخذ تسميته من كلمة Trevi وتعني عذراء بالإيطالية.
وتأتي أمنية خضرة الشريفة، كتمهيد درامي له عدة دلالات بنائيّة، فإذا كان سواد البشرة نذير شؤم في ذهنيّة العرب آنذاك، فقد ارتبط هنا بشبهة الخيانة الزوجيّة، وعليه تخلّقت معطيات الدفاع عن الشرف، حيث طعن الأمير سرحان في نسب الصغير، واتهم خضرة بالزنا مع العبد نعمان قائلا:
أمير رزق ليس هذا خليفتك
هذا أشوف إن أبوه أسودا
هذا بركات ما هو خليفتك
يشبه لنعمان ابن عبدك أسعدا[9]
هذه الأبيات تتشابه إلى حد كبير مع ما ورد في المعجم الأوسط للطبراني، ومفادها أنّ بعض الناس قالوا بحقِّ مارية القبطية، زوجة النبي، وابن عمّها العبد مأبور، وطعنوا في نسب ابنه إبراهيم، وأنّ النبي ظلّ “منه (إبراهيم) في شك حتى جاءه جبريل – عليه السلام – فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم، فاطمأنَّ إلى ذلك”[10]. كما يورد الحاكم النيسابوري رواية أخرى، مفادها أنّ النبي دخل يومًا على عائشة وبين يديه إبراهيم، وسألها عن الشبه بينهما، فأجابته “ما أرى شبهاً، وألمحت إلى أنّه ابن العبد مأبور[11]“. وإذا كان سياق السنة قد اتجه نحو تبرئة ماريّة القبطية، فإنّ خضرة كانت في طريقها إلى معاناة طويلة، قبل أن تظهر براءتها.
وعليه، تبلورت المحنة في أبعادها المسيحانيّة، ليتجلى التعالق النصي الوثيق، بين محنة مريم العذراء، ومحنة خضرة الشريفة، في مماهاة للحظة رفض المسيح، واتهام العذراء مريم بالبغى، حيث تعيد خضرة استدعاء اللحظة بكل آلامها وانكسارها، وربما انتصارها الأخير، تقول خضرة بعد أن فجعها رزق الهلالي:
أيا ليتني قد مت قبل فواقكم
ولا كان يعلا ذكرنا بالمحاضر[12]
فهي تتمنى لو كانت قد ماتت قبل أن تلتقى الأمير رزق، وقبل أن تنجب بركات، فيطعن الجميع في سيرتها، وهي ذات أمنية مريم العذراء، الواردة في النص القرآني “.. قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا” مريم / آية 23.
كما لعب المتخيل دورًا أقرب إلى البشارة، ففي استدعاء قصة العذراء، إشارات متعددة، فمن حيث التماهي، فإنّ مريم العذراء ترمز للبشارة في الأدبيات الإسلاميّة، ومن حيث الدلالة، تشير الرواية إلى الدور المنتظر للبطل الأسود، فالغراب يقود السرب الهائم في الفضاء إلى بئر الماء، بعد أن تكفل بهزيمة كل الطيور الموجودة، مثلما سيفعل أبوزيد الهلالي، عندما يقود تغريبة الهلايل من أرض الجدب، إلى حيث الماء والمرعى والمجد التاريخي.
هنا تنحل المعرفة إلى عدة أنساق بنائيّة، ربما لتحدث نوعًا من التخارج مع التاريخ الرسمي، لكنّها تضمن في ارتكازها على الأسطورة، قدرة فائقة على تشكيل أحداث التاريخ الموازي، القادرة على البقاء والاستمرار؛ حيث تستمد الرواية الشفاهية مشروعيتها عبر جملة من التحولات الدرامية، تنتهي بانتصار الخير من خلال تجلي الحقيقة في نهاية الأمر.
المراجع:
[1] لطيفة الكرعاوي: الفردوس والجحيم في المتخيل الإسلامي، مؤمنون بلا حدود، بيروت، 2014، ص 28.
[2]علي عبد الرازق جلبي وآخرون: علم الاجتماع الثقافي، دار المعرفة الجامعية،الإسكندرية، 2000، ص146.
[3] خليل أحمد خليل: مضمون الأسطورة في الفكر العربي، دار الطليعة، بيروت، ط3، 1986، ص 75.
[4]فردريش فون ديرلاين: الحكاية الخرافية، نشأتها، مناهج دراستها، فنيتها، ترجمة نبيلة إبراهيم، مكتبة غريب، القاهرة، 1987، ص40.
[5] الساسي الضيفاوي: ميثولوجيا آلهة العرب قبل الإسلام، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2014، ص 153.
[6] نفس المرجع السابق: ص ص 178-179.
[7] المؤلف المجهول: سيرة بني هلال الكبرى الشامية الأصلية، مكتبة الأندلس، بيروت، د.ت، ص50.
[8] عبد الحميد يونس: المرجع المذكور، ص 104.
[9] المؤلف المجهول: سيرة بني هلال الكبرى الشامية الأصلية..ص51.
[10] المعجم الأوسط للطبراني، ج4، دار الحرمين، القاهرة، 1995، ص90.
[11] أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري: المستدرك على الصحيحين، ج5، دار المعرفة، 1998، ص50.
[12] المؤلف المجهول: سيرة بني هلال الكبرى الشامية الأصلية..ص53.