هل انتهى المشروع التجديدي؟ الجزء الثالث: الدولة المدنية ورد الفعل الأصولي… جماعة الإخوان المسلمين

 تكوين

 

مشكل الشريعة والتعددية السياسية

-1-

يعترف حسن البنا بالإطار العام للدولة الدستورية الحديثة، ويراه مستمدًا من قيم الشورى الإسلامية، لكنه يعود فيبدى تحفظه على هذه الدولة من ناحيتين:

  • مشروعية القانون المعارض للشريعة.
  • مشروعية التعددية السياسية.

تناقش هذه المقالة الأداء السياسي لجماعة الإخوان فيما يتعلق بهذا الموقف النظري الذي أسسه البنا كالعادة تأسيسًا “شرعيًا”. كيف تعاملت الجماعة عبر المراحل السياسية المتعاقبة، مع مشكل الشريعة ومشكل الحزبية؟ وإلى أي مدى يكشف هذا الأداء عن الطابع “التلفيقي”، للطرح النظري، أعني عن “التناقض” الجوهري بين الفكر الإسلامي وفكرة الدولة المدنية الحديثة.

-2-

مشكل الشريعة: من التعديل الجزئي إلى الحاكمية الإلهيةالشاملة

أعلن البنا صراحة أن الإخوان “لا يوافقون على هذا القانون أبدًا، ولا يرضونه بحال، وسيعملون بكل سبيل على أن يحل مكانه التشريع الإسلامي العادل الفاضل”. وشرح ذلك في “رسالة المؤتمر الخامس” بقوله:

“نحن لا نعترف بهذه الأحزاب السياسية، ولا بهذه الأشكال التقليدية التي أرغمنا أهل الكفر وأعداء الإسلام على الحكم بها والعمل عليها. وسنعمل على إحياء نظام الحكم الإسلامي بكل مظاهره، وتكوين الحكومة الإسلامية على هذا الأساس”.

في هذه المرحلة اهتم البنا بالإشارة إلى حرص الجماعة على إنجاز هذه المهمة عن طريق الدعوة السلمية والعمل السياسي، لكنه لم يغلق الباب أمام إمكان استخدام القوة لتحقيقها في المستقبل، فأعلن صراحة أن

“الإخوان المسلمين سوف يستخدمون القوة العملية إذ لا يجدي غيرها، وحينما يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة”. وأنهم “لا يطلبون الحكم لأنفسهم، فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل هذه الأمانة وأدائها والحكم بمنهاج إسلامي قرآني فهم جنوده، وإن لم يجدوا فالحكم من مناهجهم وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله”.

واضح من هذا الطرح أن البنا يفهم النظام الدستوري بوصفه محض إطار شكلي لإدارة الحكومة بغض النظر عن مضمون الحكم. أو هو -في عبارة أخرى- يقبل بفكرة الدستور المدني منفصلاً عن حمولته الموضوعية المكتسبة من سياقات الحداثة، والتي تعبر عن رؤية كلية شاملة لطبيعة الاجتماع ودور الدولة، مغايرة جوهريًا لموروثات العقل الديني التقليدية، فإذا كانت الدولة الحديثة تقوم على فكرة القانون “الوضعي”، فهذا مقبول وفق البنا، لكن فقط فيما لم يرد بشأنه نص إلهي ملزم، أما في حالة وجود هذا النص فيجب تقديمه على القانون، وهي حالة يرجع تقديرها -بالطبع- إلى الفقهاء.

ومعنى ذلك أنه يتصور إمكان الجمع بين القانون الوضعي وشريعة دينية، أي إمكان فرض قانون نهائي “ثابت” (لا يجوز تغييره) داخل إطار الدولة المدنية الحديثة. وهذا تصور “مستحيل” بمقاييس هذه الدولة التي تقوم جوهريًا “على مبدأ” علمانية القانون، أي على وضعانية الفعل التشريعي وقابليته الدائمة للتطور.

إقرأ أيضًا: محب الدين الخطيب الوجه الآخر لرشيد رضا: وأزمة الهُوية والبناء الفكري والتنظيمي لحسن البنا وجماعته

ووفق طرح البنا أيضًا، يُباح استخدام القوة لفرض نظام الحكم الإسلامي، وهو بدوره تصور مناقض للمبادئ الدستورية الحديثة، التي تؤكد فكرة التداول السلمي للسلطة، وانتقالها وفقًا لآليات قانونية ذات طابع اختياري شعبي. ويصدر هذا التصور عن الثقافة السائدة في الوعي الديني التقليدي، لأن القضية الدينية قضية مبرهنة ذاتيًا ولا تقبل الجدل. وبما هي كذلك يجوز فرضها على العالم فرضًا بقوة السلاح. نفسيًا لا يكاد الوعي الديني يشعر بالنفور الحداثي من العنف، كونه صادرًا عن إرادة الله كما يؤكد الفقهاء.

لكن النزوع البراجماتي/الأشعري لدى البنا، يفرض عليه التسليم بسلطة الدولة القائمة، وتأجيل العنف، والاكتفاء مرحليًا بطلب “تطبيق الشريعة”؛ يشرح البنا: “القوة شعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته، فالقرآن الكريم ينادي في وضوح وجلاء: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم” (الأنفال: 6). والنبي (ص) يقول: المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف”. فالإخوان المسلمون لا بد أن يكونوا أقوياء، ولا بد أن يعملوا في قوة.

ولكن الإخوان المسلمين أعمق فكرًا وأبعد نظرًا أن تستهويهم سطحية الأعمال والفكر فلا يغوصون إلى أعماقها ولا يزنوا نتائجها وما يقصد منها ويراد بها. فهم يعلمون أن

  • أول درجة من درجات القوة قوة العقيدة والإيمان
  • ويلي ذلك قوة الوحدة والارتباط
  • ثم بعد ذلك قوة الساعد والسلاح.

ولا يصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعاني جميعًا، وأنها إذا استخدمت قوة الساعد والسلاح وهي مفككة الأوصال مضطربة النظام، أو ضعيفة العقيدة خامدة الإيمان فيكون مصيرها الفناء والهلاك. هذه نظرة، وتلك نظرة أخرى: هل أوصى الاسلام -والقوة شعاره- باستخدام القوة في كل الظروف والأحوال؟ أم حدد لذلك حدودًا، واشترط شروطًا، ووجه القوة توجيهًا محدودًا؟ ونظرة ثالثة: هل تكون القوة أول علاج، أم أن آخر الدواء الكيّ؟ وهل من الواجب أن يوازن الإنسان بين نتائج استخدام القوة النافعة ونتائجها الضارة، وما يحيط بهذا الاستخدام من ظروف؟ أم من واجبه أن يستخدم القوة وليكن بعد ذلك ما يكون؟” (انظر رسالة البنا إلى المؤتمر الخامس للإخوان).

-3-

هذا التأصيل النفعي ينعكس عمليًا على الأداء السياسي للإخوان في عهد البنا والمراحل اللاحقة، إذ سوف تتحول مسألة “تطبيق الشريعة” إلى “شعار سياسي” قابل للتأجيل على الدوام من الجماعة، ويُستخدم للتشويش على مشروعية الأنظمة الحاكمة. لكنه ظل قابلاً -على الدوام أيضًا- للاحتواء من الأنظمة:

في عهد البنا، حيث كانت الحالة المدنية في مصر ما تزال ثابتة، وفرت الأجواء شبه الليبرالية هامشًا واسعًا أمام الإخوان لممارسة السياسة. وفي هذا السياق كانت “قضية الشريعة” مطروحة بوصفها مشكلًا فرعيًا قابلًا للحل في إطار الدولة الدستورية القائمة، ورغم الحديث عن إقامة “الحكم الإسلامي”، كان التصور هو أن هذا الهدف يمكن تحقيقه عن طريق إدخال تعديلات جزئية على القانون المدني والجنائي.

لكن وجه المسألة سوف يتغير تغيَّرًا واضح في المراحل اللاحقة، إذ سوف تواجه الجماعة موجات متعاقبة من الحظر والقمع، أو من التقييد الجزئي المحسوب. وسوف تتداخل الأفكار الإخوانية الحركية، عبر أشكال من التحالف أو الاندماج، مع التيارات السلطوية الصريحة الآخذة في التبلور والمدعمة ببريق النفط الوهابي، الأمر الذي سوف يسفر عن تصعيد نوعي جديد في بنية الحركة الأصولية (الجيل الثاني من جماعات الإسلام السياسي الأعمق سلفية والأكثر عنفًا).

في سياق الصدام القمعي مع النظام الناصري ستظهر أفكار سيد قطب التكفيرية، التي تتكلم عن “التناقض الكلي والمبدئي” للإسلام لا مع الدولة المدنية فحسب، وإنما مع “المجتمع” الخاضع لها ككل، لم تعد المشكلة المطروحة هي تغيير القوانين التي تطبقها الدولة، بل تغيير الدولة والمجتمع معًا من حالة “الجاهلية” إلى حاكمية الله الشاملة التي لا تقتصر على تطبيق أحكام الشريعة.

إقرأ أيضًا: الإسلام السياسي الدين الجديد

تحول عنوان المشكل من مصطلح “الحكم الإسلامي” الذي طرحه حسن البنا إلى مصطلح “الحاكمية الإلهية” كما يطرحه سيد قطب. فقبل الوصول إلى حالة الخضوع الكلي للإرادة الإلهية، لا معنى للحديث عن تطبيق الشريعة. ولذلك رأى قطب أن الإسلاميين “وقعوا في مناورة خبيثة من الجاهلية دفعتهم إلى إحراج الإسلام عندما حاولوا تقديم شرائعه في غير بيئته”، وأن “من السخرية الهازلة العمل على ما يسمى تطوير الفقه الإسلامي في مجتمع لا يعلن خضوعه لشريعة الله”.

-4-

وفق قطب يلزم لتطبيق الشريعة إخراج المجتمع من حالة الجاهلية إلى حالة الإقرار بحاكمية الله، أي إحداث تحول هيكلي على مستوى الثقافة والوعي باتجاه الرجوع إلى الإسلام. وهذا في نهاية التحليل طرح “تأجيلي” لمشكل الشريعة، ومن هذه الزاوية يلتقي مع الموقف الإخواني التقليدي، لكنه خلافًا لهذا الموقف الأخير يؤسس نفسه على فكرة التناقض الجذري بين الشريعة والواقع الحداثي في الدولة والمجتمع، ومن هذه الزاوية يلتقي مع الفكر الوضعي الحديث، لكنه خلافًا للفكر الوضعي، لا يشخص المشكل على أنه مواجهه بين نظام تفکیري/تشریعي قدیم جامد وقانون التطور الطبيعي، ليُلزم تطويع النظام من جديد لحركة التطور، بل يشخص المشكل على أنه انحراف من  “الواقع” الحداثي عن القانون الإلهي الأزلي والمؤبد  ليُلزم تطويع الواقع لهذا القانون.

لكنْ هل يمكن تطويع الواقع عكس اتجاه التطور؟ أو بعبارة أخرى، هل يمكن تجاهل “قانون الضرورة” وأسبقيته الفعلية على أي مطلوب نظري مهما كان منسوبًا إلى الدين؟ هذا هو السؤال المعضل الذي يطرحه الوعي الحداثي على الفكر الفقهي الإسلامي وهو يتحدث عن “شريعة صالحة لكل زمان ومكان”.

بالنسبة إلى الوعي الحداثي، تبدو هذه العبارة متناقضة ذاتيًا. بما أن الشريعة أحكام قانونية “ثابتة”، في حين أنها تنظم وقائع تفصيلية “متغيرة” بضرورة التنوع وضرورة التطور.

بطريقة لا شعورية، لا يكاد العقل الأصولي يقر بوجود الواقع قياسًا إلى خطاب اللاهوت أو الفقه المكتوب. وعند التعارض يذهب الذهن الأصولي مباشرة إلى حل وحيد هو تغيير الواقع: على الواقع أن يتغير “الآن”، ليصبح متوافقًا مع الفقه (وهذا موقف الطرح الأصولي في نسخته السلفية الأكثر تشددًا، التي تصر على التطبيق الفوري للشريعة بصرف النظر عن درجة تعارضها مع السياقات الظرفية القائمة)، أو علينا أن ننتظر الواقع حتى يتغير في المستقبل ليعود إلى التوافق مع الفقه (وهذا موقف الطرح الأصولي في نسخته الإخوانية المهجنة، وحتى في نسخته القطبية المتطرفة).

لكن حتى في ظل هذا الموقف التأجيلي تظل قاعدة “التشريع الصالح لكل زمان ومكان”، متناقضة ذاتيًا، فهذا الموقف الأخير يقوم على فكرة تأخير الشريعة لحين تمهيد الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الملائمة لتطبيقها. الأمر الذي يعنى الإقرار بعدم تلاؤم الشريعة مع هذه الظروف، أي بعدم صلاحية الشريعة لسياق زماني مكاني بعينه. وهذا هو بالتحديد فعل قانون التطور.

المشكل يكمن في طريقة التفكير الديني “التقليدي المنحدرة” من تراث الكهنوت في العصور القديمة، التي تحاول الأصولية فرضها على المجتمع المعاصر. فهي تتحدث باسم السماء نيابة عن الله بلغة إيقانية مطلقة، في حين أن المسألة تعود مباشرة إلى تفسيرات “الفقهاء” الكهنة، وتُعبر في نهاية المطاف عن سياقات الواقع الاجتماعي المزامنة لمرحلتي تكون الديانة؛ أعني مرحلة التأسيس ومرحلة الفقه. بعامة يتجاهل الموقف الأصولي الراهن تحولات الوعي الإنساني الحديث التي غيرت طريقة النظر إلى المسألة الدينية وإلى موقعها بين “مشاغل” الوعي.

-5-

الإخوان والتعددية

التزاكي والانتهازية السياسية

نشأت جماعة الإخوان سنة 1928 لتكون جمعية “دينية دعوية” ذات طابع خيري. لكنها تحولت في عشر سنوات إلى حركة تنظيمية تشبه الحزب السياسي، تحت دعوى الترويج لشمولية الإسلام ومضمونة الاجتماعي.

وطوال العقد الرابع ومطلع الخامس من القرن الماضي، انغمست الجماعة كليًا في العملية السياسية الجارية في مصر، فاستخدمت آليات الشحن المعتادة لكسب الجمهور، ودخلت في تحالفات وخصومات علنية أو مضمرة مع القوى السياسية الفاعلة التي تضم الأحزاب والقصر الملكي والحكومة وسلطة الاحتلال البريطاني.

بعامة فرضت جماعة الإخوان حضورها بوصفها كيانًا سياسيًا. داخل نظام دستوري مدني قائم على التعددية الحزبية، وهذه واقعة تحتاج إلى تفسير، سواء من جهة النظام الدستوري المدني -العلماني بطبيعته- والذي يُفترض رفضه لوجود تكوينات سياسة “دينية”، أو من جهة الجماعة ذات الأصول الثيوقراطية -أي الحصرية بطبيعتها- والتي أعلنت اعتراضها “الشرعي” على فكرة التعددية الحزبية.

إقرأ أيضًا: جدل الدولة الإخوانية: ما وراء اليوتوبيا السياسية الحالمة

بخصوص النظام الدستوري المدني، يمكن الحديث عن نظام ما يزال في مرحلة التكون، داخل محيط ثقافي محافظ دينيًا، أعني أنه لم يستكمل شروط التحول إلى العلمانية في ظل مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي العام، وفي هذا السياق يمكن فهم “التسلل” السياسي لجماعة دينية، خصوصًا وأنها تعلن عن قبولها بالإطار العام للدستور والدولة المدنية.

لكن الواضح أن حضور هذه الجماعة لم يكن مفروضًا تمامًا ضد إرادة النظام السياسي، بل استُحضرت قصدًا إلى الساحة بمعرفة القوى الفاعلة في النظام للقيام بأدوار محسوبة.

وفي هذا السياق يلزم الإشارة إلى الدور الذي لعبه الاحتلال البريطاني في تمرير الجماعة وتثبيتها، بغرض التوظيف السياسي (صارت تفاصيل هذا الدور مكشوفة الآن، استنادًا إلى وثائق الخارجية البريطانية التي تُشير إلى تعاون سلطات الاحتلال مع الحكومة المصرية -الوفدية خصوصًا- لتقديم مساعدات “إدارية” و”مالية” مباشرة وغير مباشرة لإسناد هذه الجماعة، ضمن عدد من الجمعيات والمؤسسات الدينية، لاستخدامها في امتصاص موجات المد اليساري والوطني الموجهة ضد الاحتلال. وما تزال هذه العلاقة قائمة بأشكال وآليات متعددة مع بريطانيا وأمريكا، بعد تطوير أغراضها التي صارت تشمل احتواء موجات الأصولية الأكثر تطرفًا داخل المنطقة وفي الغرب ذاته وبالطبع، لا أعني بذلك أن الاحتلال البريطاني هو الذي خلق الأصولية السياسية، فهذه الفكرة كامنة في صلب الاسلام التاريخي الفقهي، لكن الاحتلال ساعد على تنشيط الفكرة وإخراجها واقعيًا في هذه الصيغة بعينها).

أما بخصوص الجماعة (لماذا تظل رغم تكوينها الأصولي على مقربة من الدولة المدنية ذات التكوين العلماني؟) فيسهل فهمه بالنظر إلى بنيتها الثقافية الهجين بطابعها الأشعري، الذي ينزع إلى التأويلية والتوفيق والتعاطي مع سلطة الأمر الواقع. وينعكس ذلك عمليًا على الأداء السياسي البراجماتي للجماعة، التي ظلت تناور -حسب الحاجة- بإظهار أو إخفاء أهدافها الدينية وفقًا لموازين القوى بينها وبين الأنظمة الحاكمة.

-6-

في بداية المرحلة الليبرالية، حيث كانت الظروف مواتية، أظهرت الجماعة وجهها السياسي والديني معًا، على اعتبار أن السياسة شق من الإسلام الشامل، لكنها أعلنت بوضوح رفضها الحاسم “للنظام الحزبي” بوصفه نظامًا تفريقيًا يخرب الوحدة المفترضة للأمة، ويتعارض مع الثقافة “الإسلامية” الموروثة من تاريخ الفقه، والتي ترفع من قيمة “الإجماع”.

ومع ذلك استغلت الجماعة صلاحيات العمل السياسي التي يوفرها النظام الحزبي، بما في ذلك المساومات الانتخابية، وفرص التطوير التنظيمي. وظلت تجمع بين هذه الصلاحيات وآليات العمل السري المنافية للدستور، فأنشأت جماعات نظامية ذات طابع عسكري مسلح، ومارست عمليات اغتيال. أي أنها استفادت من أدوات النظام الحزبي مع التخفف من الالتزامات القانونية التي يفرضها.

نظريًا ظلت الجماعة تخلط على الدوام بين عقلية “الحزب الأيديولوجي” العصرية ، وعقلية “الفرقة الدينية” الموروثة من ثقافة “الخروج” على الحاكم في المراحل الإسلامية المبكرة، وهو ما يفسر حالة الغموض والالتباس التي تسمح للمراقب الخارجي بقراءات متعددة للموقف الإخواني، تتراوح بين تسكينه في خانة الحركات “الدينية” الأصولية “الإرهابية”، وتفسيره بوصفه تيارًا “سياسيًا” معتدلًا يعكس التوجهات المحافظة للبرجوازية المصرية.

في أواخر المرحلة الليبرالية صارت الدولة تتنبه إلى خطورة الإخوان كونها كيانا مناهضا -جوهريًا- للدستور المدني، وبدأت حقبة الصدام والحظر، التي سوف تصل إلى ذروتها مع الدولة الناصرية ذات التوجه الشمولي “العلماني”، والمناقض بدوره للتعددية الحزبية.

تحت القمع الناصري دخلت الجماعة في حالة كمون تنظيمي لما يقرب من عقدين، قبل أن تستعيد حضورها تدريجيًا وبطريقة مقيدة من طريق صفقة سياسية مع نظام السادات الذي كان يهدف إلى استخدامها في احتواء التوجهات اليسارية الناصرية المتنامية عند بداية السبعينيات. (مرة أخرى تستحضر الجماعة بإرادة الدولة في عملية توظيف سياسي. وهي العملية التي سوف تسهم هذه المرة في تصعيد الحالة الأصولية وتوسيع نطاقها في المنطقة مع تصاعد الوهابية النفطية). لم تُمنح الجماعة صك اعتراف “قانوني”، بل ُسمح لها بممارسة نشاط محسوب تحت عين الدولة، لأنها قوة واقع مشكوك في ولائها للدستور.

-7-

لاحقًا، ومع التغيرات العالمية التي أسفرت عن انهيار المعسكر الاشتراكي وتراجع الفكر الشمولي، دخلت المنطقة في حالة الانفتاح الليبرالي “النسبي” التي تسمح بهامش من التعددية السياسية.

وفي هذا السياق صار على الجماعة مواجهة الموقف الجديد، إذ سيتعين عليها الاختيار بين الانغماس في لعبة التعددية الحزبية أو العزل السياسي، وبحكم التكوين البراجماتي اختارت الانغماس في اللعبة، لكن ظل عليها مواجهة مشكلين:

  • الأول “نظري”، لتبرير التراجع عن المبدأ الإخواني الذي وضعه حسن البنا وأسسه على أسباب “شرعية”، وهو يحرم الاندماج في النظام الحزبي.
  • والآخر “عملي”، يتعلق بشكوك القوى المدنية في سلوك الجماعة وخطابها بخصوص المشاركة السلمية وقبول تداول السلطة.

في التأسيس النظري الذي قدمه حسن البنا لرفض النظام الحزبي، وجه سهام النقد إلى فكرة التعددية السياسية في ذاتها.

وبنى ذلك على أدلة مستمدة من القرآن والسنة ومجمل المدونة الفقهية. ومن هنا تأتي صعوبة تبرير التراجع عن الموقف النظري أمام جمهور ينتمي إلى ثقافة الفقه التقليدية.

في ثقافة الفقه الموروثة من أصول التدين الكتابي وتاريخ الاستبداد الطويل للدولة ، تعنى “التعددية” قبول “الآخر” الديني والسياسي، وهي فكرة منافية لجوهر الديانة التي تقوم على الحصرية المطلقة، أي على التوحيد الخالص، وفق فهمها لمعنى التوحيد. وهو رفض مبدئي واع يكشف عن التناقض الجوهري بين النظام الإسلامي (الفقي) ونظام الدولة المدنية الحديثة التي تقوم أساسًا على فكرتي “المواطنة” و”القانون” وتنطلق من مبدأ الحرية الفردية، لتعبر عن واقعة “التنوع” بوصفها واحدًا من قوانين الاجتماع الطبيعي، ولهذا السبب توضع دعاوى الإخوان بشأن قبول الاندماج الحزبي في خانة التزاكي والمناورة السياسية.

-8-

تبرير التراجع عن “نصوص” المؤسس لمواكبة التغير في ظروف الواقع، هو مشكل متكرر لدى “الجماعات الأيديولوجية”.

عمومًا لكنه يظهر ظهورًا أوضح لدى “الجماعات الدينية” بسبب البعد الإطلاقي (الإلهي) الذي تسبغه على دعاواها السياسية، وتمثل هذه المسألة واحدًا من أهم أسباب الانشقاق داخل التنظيمات الأيديولوجية، إذ تظهر قراءات تأويلية متعددة للنصوص والواقع على السواء (قارن بين الانشقاقات المتعددة في الحركة الشيوعية بناء على تفسيرات متباينة لنصوص ماركس ولينين، وانشقاقات الحركة الإسلامية التي انبثقت عن جماعة الإخوان، وأسندت نفسها مباشرة إلى نصوص إلهية مقدسة).

ومع ذلك تظل جماعة الإخوان، بتكوينها الهجين ونزوعاتها الأشعرية، التنظيم الأكثر قابلية للتشقق داخل الحركة الإسلامية. وقد توسعت هذه الحركة في الواقع بالتوالد من رحم الإخوان. وتكونت ملامحها الأكثر سلفية وعنفًا على خلفية نقد براجماتية الجماعة وانكفائها النسبي أمام الحداثة وإغراءات الدولة المدنية.

النزوع البراجماتي الأشعري -الذي كرسه البنا نفسه– سوف ينتهي بالجماعة إلى الخروج على التأصيل الشرعي الذي قدمه، لتحريم التعددية الحزبية. كان الدافع واضحًا وهو ركوب الموجة الليبرالية الجديدة لاقتناص السلطة، في ظل ظروف سياسية تبدو مواتية أكثر من أي وقت مضى، أعني في ظل التداعيات الداخلية والدولية التي ساعدت على إنتاج زوبعة “الربيع العربي”: شارع سياسي منهك بسبب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المزمنة، وهامش حركة متاح “للتوسع الأصولي” على حساب القوى المدنية الضعيفة تنظيميًا، مع إسناد خارجي غربي واسع.

نقرأ هذا الإخراج التبريري في الطرح الذي قدمه القرضاوي، وهو شيخ أزهري ريفي، يتوفر على ثقافة فقهية بسيطة مشربة بمسحة نفطية مكتسبة، ويتقمص دور المنظِّر الإخواني الجديد: “ناديت منذ سنين طويلة بمشروعية تعدد الأحزاب في الدولة الإسلامية.. وقلت كلمة تناقلها الدعاة والإعلاميون، وهي أن تعدد الأحزاب في السياسة أشبه بتعدد المذاهب في الفقه. وكانت هذه الأفكار في المجتمع الإخواني -إلا قليلاً منهم- في أول الأمر مرفوضة، لما رسخ في أذهانهم من جراء التربية السياسية التي توارثوها عن إمامهم البنا رضي الله عنه، لكن بمزيد من اللقاءات والحوارات، كتابةً ومشافهة، وبحكم الواقع وتأثيراته، وما خبره الإخوان أنفسهم من جناية تحكم الحزب الواحد على حياتهم وحريتهم ودعوتهم، استجاب جمهورهم إلى فكرة التعدد، بل اقتنعت القيادة بالفكرة، وأصدر مكتب الإرشاد قرارًا تاريخيًا في ذلك (مارس 1994)، يدل على حيوية الجماعة وتحررها من الجمود والتقليد، وأن الحق أحق أن يتبع وإن خالف رأي مؤسس الجماعة رحمه الله”.

رأى القرضاوي أن رأى البنا “هو اجتهاد منه رضي الله عنه يؤجر عليه، ولكن الأيام أثبت خطأه، وأن الخير كل الخير في التعددية، وهو الموافق للنظام الكوني كله، فهو يقوم على التعددية في كل شيء… ولا غرو أن خالفت أستاذي وإمامي كما خالف تلاميذ أئمتنا الكبار (أبو يوسف، ومحمد، وزفر) إمامهم الأعظم”.

في هذا النص يقدم القرضاوي اعترافًا إسلاميًا صريحًا بكونية التعددية، أي بكون التنوع واحدًا من قوانين الاجتماع الضرورية، ومع مبرراته البراجماتية، يظل السؤال المطروح هو: إلى أي مدى تصل حدود هذا الاعتراف؟ هل يعني التخلي عن مفهوم “الحق الحصري” الذي تقوم عليه الديانة ويستوجب نفي الآخر المخالف بقوة السيف أو انتقاص حقوقه بأحكام الفقه؟

أم هو محض إقرار جزئي بواقعة “اختلاف الرأي” تحت سقف “الدولة الإسلامية”، أي قبول التعددية من “المسلمين” في إطار الثوابت العامة للإسلام، مع استمرار الآخر “الديني” و “اللا ديني” على السواء؟

يتحدث القرضاوي عن التعددية المقبولة وفق تصوره داخل “الدولة الإسلامية”، أي عن تعدية “فقهية” ذات طابع تفصيلي فرعي، وليس عن التعددية السياسية داخل “الدولة المدنية الحديثة”، التي تعالج التنوع الطبيعي الواسع بتمايزاته الثقافية والاقتصادية والبيئية داخل المجتمع، وتقر بحرية الفكر والعقيدة وبالمساواة الكاملة بين الأفراد تحت سقف القانون، بغض النظر عن الجنس أو العرق أو الدين. والمعنى أنه يتجاهل صلب المشكل الحقيقي للتعددية كما يطرحه الوعي السياسي الحديث.

العقل الأصولي الفقهي -المقيد بفكرة الحق الحصري- ما يزال يستصحب مفهوم “الدولة الدينية”، ويتصور إمكانية تركيبه على أطر الدولة الحديثة، وهو تصور مناقض عمليًا لقوانين الاجتماع الطبيعي، التي صارت حاضرة حضورًا واضحًا لدى الحس الإنساني المعاصر، وهذا هو صلب المشكل.

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete