عَلي أومْليل: الديمقراطية ونقد التراث السياسي في الإسلام

 تكوين

يَقولُ علي أومليل؛

‘‘…ومعَ ذلك، فلا خيار للمثقف المؤمن بالديمقراطية إلا النضال من أجلها وسيلةً للحكم، ونظاماً للمجتمع، وطريقة للحياة. ولذلك كانَ الالتزام الأوَّل للكاتب هو الالتزام بالديمقراطية، وبعدها فليختلف المختلفون. وحول الديمقراطية ينبغي أن يتكوَّن وفاق عام بين المثقفين، ضدا على أفكار الاستبداد، وعقائد الاستبداد، ونظم الاستبداد، مهما كان الجلد الذي تتلبس به هذه الأفكار والعقائد’’[1].

يعيبُ هذا المفكر على المثقفين العرب انشغالهم عن قضية الديمقراطية التي ينبغي أن تشكل محور اهتمامهم في نظره، ويبدو أنَّ قراءته للتراث السياسي الإسلامي لم تكن مجرد دراسة أكاديمية معزولة عن هذا الهاجس الذي هيمن على تصوُّره للإصلاح السياسي في العالم العربي[2]. قرأ أومليل التراث السياسي الإسلامي على ضوء اقتناعه بصعوبة أن نعثر فيه على مرجعية يستند إليها المثقف العربي اليوم في نضاله من أجل الديمقراطية، إذ هو تراثٌ يكرِّس تبعية المعرفة والعلم للسلطة لينعدم فيه شرط الحرية الذي من دونه يتعذر فعل الكتابة نفسه. وقد كانت غايته من ذلك إظهار تناقُض مفاهيمه الأساسية مع التصوُّر الحديث للديمقراطية وشروط إمكانها. بذلك يوصد أومليل الباب أمام إمكانية البحث في تقاليد الفكر السياسي الإسلامي عن منابع للديمقراطية عندنا، ليتخذ نقده صورة بحث عن معيقاتها الذاتية المُحايثة لذلك التقليد، والتي تُشكل بدورها جزءاً من الاستبداد وشكلا من أشكاله. بذلك يمكن أن ندرج قراءة هذا الفكر للتراث السياسي العربي ضمن السياق العام لتفكيك الفكر العربي المعاصر للعقل السياسي العربي ومفاهيمه التأسيسية، باعتبار ذلك خطوة في طريق تحريره من سطوة الاستبداد وتعبيد الطريق أمام فهم أدق للفكر الغربي الحديث ومكتسباته.

يمكن أن نعتبر قراءة أومليل للتراث السياسي العربي محاولة لتحرير فكرنا السياسي من سطوة مفاهيمه قصد تعبيد الطريق أمام استيعاب مكتسبات الفكر السياسي الحديث وتوطين الديمقراطية ومرجعياتها عندنا. وسيكون علينا أن نفكر، قصد تحقيق هذه الغاية، في الكيفية التي أنجز بها أومليل هذا النقد، كما في استراتيجيات تأويله لأبرز نصوص التراث السياسي في الإسلام الكلاسيكي. نحاول في هذه الدراسة إثبات أنَّ موقف أومليل من الديمقراطية، ووعيه بحاجتنا إلى توطين قيمها في ثقافتنا السياسية، شكل منطلقاً أوَّل لهذا المفكر في إطار مرجعيات التراث السياسي في الإسلام الكلاسيكي، وهو ما يتضح من محاولاته بيان التصور الضمني للعامة والجمهور الذي انتظم مختلف خطابات ذلك التراث.

أولاً؛ في المنظور النقدي-التاريخي

تكادُ مسألة التراث وموقفنا منه أنْ تُهيمن على كل مؤلفات علي أومليل، وقد جرت عادةُ الدراسات التي أُفردت لمتنه على استشكال تصوُّره لهذه المسألة، وعياً منها بأهمية طرحه وأثره في تمثُّل الفكر العربي للتراث وصلتنا المُمكنة به[3]. ليس التراث في نظر هذا المفكر مادَّة معرفية جامدة، وإنما هو ‘‘تداولٌ لأنماط خاصَّة في الحياة والوجدان والتفكير، وانتقالها خلال فترة طويلة من التاريخ’’[4]. كما أنه ليس مجرَّد نصوصٍ متعالية عن وضعها التاريخي وشروطه، بقدر ما يجسد رؤية إلى العالم أينعت في ظل تلك شروط نفسها. من هذا المنطلق شدّد أومليل على ضرورة الاحتراز من القراءات الإيديولوجية التي فَشت في الفكر العربي، لاسيما تحت وقع المشاريع النهضوية التي أعادت فتح سجِّل التراث، سواء في سياق الدفاع عن الفكر الإسلامي وتاريخه في وجه النقد السلبي الذي وجهه الغرب، والمستشرقون خاصَّة، إلى التراث العربي[5]، أو بعدما اتضحت علاقتُه القوية بأسئلة التحديث والنهضة، حيث أدرك الجميعُ أن تزايُد الطلب عليه لم يَكن إلا علامةً، من بين أخرى، على ما يختزنُه من رأسمالٍ رمزي يقتضي الظفرُ به إقامة جسور تصلُ التراث بالحاضر وقضاياه[6].

كما عُرف هذا المفكر برفضه للقراءات البنيوية التي دأبت على بتْر التراث من سياقه التاريخي والتعامُل معه كمنظومةٍ فكرية متعالية عن الزمان، بما يعنيه ذلك من ذهول عن تاريخية التراث ونسبيته. وقد أكّد، في مُقابل ذلك، على ضرورة وضع التراث في إطاره التاريخي، بَعيداً عن ضروب توظيفه التي تنتهي، قسراً، إلى تشويهه. يعني هذا أنَّ خطاب أومليل النقدي يندرجُ، وكما لاحظ كمال عبد اللطيف عن حقٍ، ضمن السياق الإشكالي العام للفكر العربي الحديث؛ سياق إشكالية النهضة وما طرحه من أسئلة حول صلتنا بالتراث وأنحاء استحضاره وتوظيفه[7]. وهو، ولئن كانَ يُشارك أضرابه من المثقفين العرب انشغالهم الكبير بالتراث وقضاياه، والحداثيين منهم دفاعهم عن الديمقراطية وحاجتنا الماسَّة إليها لترسيخ ثقافة حقوق الإنسان[8]، فإنه ينفردُ عنهم بمنْهجه في قراءة هذا التراث واستنطاق نصوصه الكبرى؛ ففي حمأة التهافت العربي على التراث قدَّم أومليل قراءته المعرفية-التاريخية التي كشف فيها عن حاجتنا إلى الوعي التاريخي في فهمنا لهذا الموضوع الذي يتقاطع فيه المعرفي بالسياسي والوجداني، وقد كان جوازُه إلى ذلك مفهوم ‘‘الحقل التاريخي’’ الذي مكّنه من رسم الحدود الزمانية بين أفقيْ التراث والحداثة.

إقرأ أيضًا: المفهوم التاسع: المعرفة.. الانحصار في المنظومة المرجعية (التراث، الحداثة)

في هذا السياق، تحديدا، كتب أومليل ما كتبه عن المفاهيم التي يتقاطع فيها التراث والحداثة (الدولة، الحرية، الاختلاف، المثقف، التسامح ..الخ) وعن رموزه (كابن رشد وابن خلدون) الذين يشكل استدعاؤهم اليوم علامة فارقة على توتر علاقتنا بالتراث والحداثة معاً[9]؛ وفي هذا السياق نفسه اتضحت معالم موقفه النقدي من التراث، الذي انفرد به عن قراءات غيره من المثقفين العرب[10]. وسواء تعلَّق الأمر بالقراءات المادية-الجدلية للتراث (حسين مروة وطيب تيزيني)، أو بتلك التي زجتْ بنقده في مِضمار مشاريع نقد العقل العربي الإسلامي (أركون والجابري)؛ أو بالتي اعتبرت طيَّ صفحته في جملة ما يقتضيه تحصيلُ أسباب الحداثة في العالم العربي (عبد الله العروي)، فإنَّ أومليل ظل حريصاً على تعليق الأحكام التي تناسلت من تلك القراءات، واتخاذ المسافة النقدية الضرورية من التراث ورموزه[11]، مع الوعي بالإشكاليات الحضارية التي تقف وراء استدعائه من طرف العرب المحدثين. فهؤلاء، يقول أومليل،

‘‘وهم يهتمُون هذا الاهتمام البالغ بالتراث، فإنه لا يعني عندهم مُجرَّد ثقافةٍ أُنتجَت في الماضي فلزمت حدُود هذا الماضي، بل إنَّ هذا التراث يطلبُ ليستثمر فيما يعنيهم من قضايا، وليجيب عن أسئلة اليوم’’[12].

في مقابل هذا الضرب من القراءات، يقترحُ أومليل قراءة تاريخية نقدية محكومة أساسا بهاجس الفهم، وهي تتميز على الأقل عن صنفين من القراءات: الإيديولوجية والبُنيوية.

  • تبحثُ الأولى في التراث عمَّا تجْبَه به إعضالات راهنها، اعتقاداً منها أنَّ العودة إليه ليست غاية في ذاتها، بقدر ما هي خطوة ضرورية تمدُّها بما تقيم به الدليل على صحة فهمها للراهن، الأمر الذي يعني أنَّ غرضها ليس فهم التراث، من حيث هو منظومة فكرية ورؤية ثقافية لها زمنيتها وتاريخيته الخاصة، وإنما توظيفه في الإجابة عن أسئلة الراهن من دون أي اعتبار للمسافة التاريخية الفاصلة بينهما. لا يستثني أومليل من هذه القراءة تلك التي أنجزها مثقفو اليسار المدفوعون بطموحاتهم التقدمية؛ فهذه، في نظره، قراءاتٌ تُسقط على التراث همومَها وهواجِسها، فتقع في خلطٍ بين الأزمنة والحقب التاريخية من حيثُ تريدُ صوْغ فهمٍ تقدمي لذلك التراث وتصفية حسابها معه[13].
  • أما ثانية تلك القراءتين فتتمثَّل في التأويل البنيوي للتراث، الذي فضَّل التعامل معه كبنيةٍ، منتهياً إلى عزله عن سياقات تشكله التاريخية. ورغم جاذبية هذا الضرب من الفهم وفشوه بين الدارسين[14]، ورغم مظاهر الجِدَّة التي حملها في طياَّته على مُستوى دراسة التراث وتأويله، فإنَّ ضعف الهاجس التاريخي عنده جعله بعيداً عن إدراك دلالات الحقل التاريخي الذي في ظلِه ينبغي أن نفهم التراث ومسارات تشكل إشكالياته ومفاهيمه.

يعني هذا القول أنَّ فهم التراث وأشكال التداول التي يتضمنها يستلزمُ نقداً للشروط المعرفية الحاكمة لعملية إنتاج مفاهيمه ووضع اليد على الإشكاليات الحقيقية التي استبدت باهتمام مفكريه، وقد اتخذ أومليل من النقد المعرفي، ومن تعيين الحقل التاريخي، مدخلا إلى مقاربة التراث وتفكيك مقولاته ومفاهيمه الرئيسة[15]. بل ويتخذ هذا النقد شكل ترسيم للحدود بين المجالات المكوِّنة للتراث، وتعيين امتداد المفاهيم في حقلها التاريخي وما طرأ عليها من تغيُّر وهي تُهاجر من حقبة إلى أخرى[16]. نلاحظ،

  • أوّلاً، أننا أمام منظور لا يسلم بإمكانية القياس بين المفاهيم خارج حقولها التاريخية، ولا يتسرع في إسقاط المفهوم الحديث، كما نشأ في تربة الفكر الغربي ورؤيته الفلسفية، على المفهوم التقليدي المتأصل في المنظور التراثي[17].
  • ونسجل، ثانياً، أنَّ هذا المنظور لا يكتفي برصد بعض الإشارات الشاردة التي يزخر بها التراث العربي للحكم عليه؛ فلا يرى، مثلاً، في اهتمام ابن خلدون بالعُمران وأعمار الدولة دليلا على سبْقه إلى تأسيس السوسيولوجيا الحديثة[18]، ولا في حديث الغزالي عن الاختلاف علامة فارقة على هيمنة مفهوم الاختلاف على الثقافة العربية الكلاسيكية؛ ولا في الكتَّاب والفقهاء والفلاسفة تجسيداً لشخصية المثقف- بمعناه الحديث- في الثقافة العربية الإسلامية الكلاسيكية[19]. إنَّ الأهم، وفق هذا التصور، علاقةُ تلك المفاهيم بالذهنية العامَّة التي نشأت فيها، فهي تعبيرٌ عنها وترجمة لمعالم أفقها التاريخي. هكذا يسمح ترسيم الحدود بين الحقول التاريخية بالوعي بخصوصية ‘‘زمَنية’’ كلِّ واحد منها وطبيعة إشكاليته، ممَّا يجنب الباحث الخلط الزمني والإسقاط المفاهيمي في الآن ذاته، ويتيح له إمكانية تمثُّل المفهوم في نسبيَته وفي إطاره التاريخي الخاص.

تتضح أهمية هذا المنظور عندما يتعلَّقُ الأمر بقراءة التراث السياسي الإسلامي واستدعائه ومحاورته، أو حتى الإفادة منه. ما انفك المفكرون العرب، التقليديون منهم كما الحداثيون، يوظفون هذا التراث في بلورة تصورهم للسياسة والدولة المسكون بهاجسهم الإصلاحي[20]. وإذا ما نحن غضضنا النظر عن دُعاة الفهم التقليدي للتراث السياسي- أولئك الذين اعتقدوا أنه من الممكن أن نجد فيه أجوبة عن أسئلة وضعنا السياسي المأزوم- وانصرفنا إلى أنصارِ الحداثة السياسية الداعين إلى توطينها في المجال السياسي العربي، معتقدين أنَّ ذلك خطوة لا مَحيد عنها في طريق الإصلاح السياسي والمُجتمعي[21]، فإننا نلاحظ أنَّ استحضارهم لذلك التراث اتخذ شكل نقد يرمي، تارةً، إلى طيّ صفحته وإقامة الدليل على عُقمه بِسبب تجذُّره في مرجعيات فكرية تجاوزتها منظومات الفكر السياسي الحديث[22]؛ وتارةً أخرى إلى التعامل معه على نحو انتقائي باسم الحاجة المنهجية إلى بعض مفاهيمه، كتلك التي صاغها ابن خلدون، لفهم الاجتماع السياسي العربي الذي يتنطع من مفاهيم الحداثة السياسية وعلومها[23]. وإذا كان تحليل أومليل لهذا التراث ينتهي إلى النتيجة عينها التي ينتهون إليها، عندما يبيِّن مدى تجذُّر تصوراته ومفاهيميه في ‘‘حقلٍ تاريخيٍ’’ وأفق زمني خاص، وكيف يمنعنا هذا الأمرُ من ادعاء الإفادة منه اليوم في بناء رؤيتنا السياسية، فإنه لا ينتهج في ذلك منهج النقد السلبي للتراث السياسي من خلال مقارنته بمنظومات الفكر السياسي الحديث وجرِّه، قسراً، إلى الإجابة عن أسئلتها الكبرى؛ كما أنه لا يزعمُ إمكانية تطهير ذلك التراث من جراثيم التسلطية والاستبداد الذي ما يزال المجال السياسي العربي يرزح تحت وطأته رغم كل مشاريع الإصلاح السياسي التي صاغها المثقفون العرب[24]، وإنما هو يرمي إلى قراءة منظومات التراث السياسي الإسلامي على ضوْء إشكالية حقلها التاريخي وفي تبرُّم من أسئلة راهننا المأزوم. على أنَّ هذا لا يَعني، ودَرْءاً لكلِّ سُوء فهم، أنَّ هذا المفكر يفصلُ اهتمامه بالتراث السياسي عن المأزق الحضاري الذي يتخبط فيه العالم العربي[25]، خاصَّة وأنه على وَعْيٍ كبيرٍ بأسبابه السياسية والثقافة، وبمفعولها في استدعاء التراث وإعادة إحياء متونه. لكنَّ ذلك لا يسوّغُ، في نظره، جرَّ ذلكَ التراث إلى حاضرة الراهن وإخراجه من مجاله التاريخي.

نقرأ لأومليل ما يلي؛

‘‘إنَّ الأفكار حينَ تُتلقَى من غير مَجالها الأصلي فلابُدّ من معرفة مزدوجة؛ معرفة بمَجالها الاجتماعي التاريخي الأصلي، ومعرفةٍ بظرفية التلقي وما آلت إليه هذه الأفكار، خاصة إذا وردت في ركاب التدخل الأجنبي. وإلا ظلَّت هذه الأفكار غير ذات جدوى في الإسهام في ضبط وتوجيه عملية التغيير’’[26].

هناك عائقٌ معرفي ما فتئ يعيقُ تلقيَ الفكر العربي لمفاهيم الحداثة الغربية عامة؛ الذهولُ عن منشأ الأفكار الغربية المستوردة وسياق تشكُّلها التاريخي. وإليه يضافُ عائقٌ آخر يتجلى في تجاهل المسافة التاريخية الفاصلة بين الأفكار الغربية الحديثة والمرجعيات التراثية، التي تبقى بمقتضى التاريخ حبيسةَ حقلها المعرفي التاريخي. تمثل هذه الإشارة خُطوة منهجية لابد من مراعاتها، في نظر أومليل، لفهم التراث بعيداً عن كلّ قراءةٍ تُسقط همومَ راهنها عليه، أو تتوسَّل به لفهم حاضرها. يتعلَّق الأمر بـ‘‘قاعدةٍ تأويلية’’ أقام عليها هذا المفكّرُ صرح قراءاته للتراث العربي الإسلامي؛ مبناها على تاريخية الأفكار وتجنُّبِ القفز على الفترات التاريخية والاسقاط المتسرِّع لمفاهيم الحداثة على التجربة التُراثية. اختبر أومليل هذه الفرضية في دراسته عن الإصلاحية العربية، حينَ بيَّن كيفَ أثرت المواجهة مع الغرب الحديث في تلقي مفاهيم الحداثة وأفكارها من طرف المفكرين العرب[27]. ويبدو أنه من الممكن التوسّل بالمنظور عينه في فهمِ مُقاربته للتراث السياسي؛ حيث يتوجَّب استحضار الحقل التاريخي الذي نشأت فيه أنظار مفكري الإسلام في السياسة، والوعي بأثر سياق المواجهة الحديثة مع الغرب في تشكل فهمنا لذلك التراث[28]. بل وسيكونُ عَلينا الوعيُ بما آل إليه فهمُنا له في ظلّ الصراع على الإسلام في السياق العربي المعاصر، حيث أدى التجاذب بين الإسلاميين والحداثيين إلى رسم صور متضاربة عن المنظومات الفكرية السياسية التراثية. ولعلَّ قراءة أومليل لكلٍ من ابن رشد وابن خلدون تبقى لحظة مهمة من مسار تبلور تأويله النقدي للتراث لأنها مكنته من التبرم من القراءات المعاصرة لهما معاً. فما يبرِّرُ أهمية كل من ابن رشد وابن خلدون ارتكاز العقلانيين العرب على فكرهما في بحثهم عن سند للعقلانية في التراث العربي الإسلامي، وقد كانَ ذلك وراء التهويل الذي طال صورتهما في متونهم، حيث أسقطوا عليها مُختلف خصائص الفكر الغربي الحديث، من قبيل اعتبار ابن رشد خير من ذهب بمغامرة العقل العربي إلى أبعد حدودها المتصورة[29]، وأنه ما يزالُ قادراً على مدِّنا بما نَجبه به أسئلة حاضرنا؛ أو اعتبار ابن خلدون صاحبَ سَبْقٍ إلى تأسيس علم الاجتماع، وفلسفة التاريخ، والمادية الجدلية[30]. ضداً على هذه الأحكام قدَّم أومليل قراءته لابن رشد وابن خلدون، مُشدِّداً على ضَرورة الوعي بفكرهما في ظل الإشكالية الحاكمة له، إذ إنَّ

‘‘أيَّ مُفكر يدورُ حول إشكالية معيَّنة، غالباً ما تكون مضمرة”[31].

وبصرْف النظر عن الاختلافات القائمة بين ابن رشد وابن خلدون، فإنَّ أومليل يلاحظ أن الجامع بينهما رغبةٌ في تجاوز الإرث العربي الإسلامي؛ عادَ ابن رُشد إلى النموذج المعرفي اليوناني للخروج من أفق التراث الإسلامي، في حين انتقد ابن خلدون منهج الحديث (الإسناد) في بناء تصوره للتاريخ وعلم العمران، بل وأقام صرح تصوره لهذا العلم على نقده لمختلف الخطابات السياسية التي أنتجها المسلمون من قبل[32]. وتبقى الغاية الأعم من هذه القراءة تبيُّن إلى أيّ مدى استطاعَ المفكران تحقيق تلك المجاوزة؛ إذ بذلك وحده يُمكن أن نعرف أفُق عقلانيتهما وحُدودها.

إقرأ أيضًا: ابن خلدون: من الولادة البيولوجية لابن خلدون إلى الموت الأنطولوجي للحضارة العربية

يتعلق الأمر بمنظور يضفي النسبية على التراث السياسي وأفكاره الكبرى، ويحملنا على تفهمه على ضوء حقله التاريخي، لذلك يقترح علينا التفكير في طبيعة القطائع التي حققها مفكرو هذا التراث داخل حقلهم ذاك، وفي ما إذا كانت تلك القطائع قد تحققت مع عالم التراث ومنظوره نفسه.

ثانياً؛ في التراث السياسي

كيف ندرس الفكر السياسي في الإسلام الكلاسيكي؟ لم يُفرد أومليل كتاباً خاصا للإجابة عن هذا السؤال، رغم اهتمامه الكبير بالتراث السياسي في الإسلام، ورغم استشكاله المتواصل لمفاهيمه الأساسية كالدولة، والسلطة، والاختلاف. غير أنَّنا نجد في كتابه السلطة الثقافية والسلطة السياسية رؤية نقدية من شأنها أن تفيدنا في الإجابة عن هذا السؤال. لم يَكن مدارُ الكتابِ ذاك على مفهوم السياسة عند مفكري الإسلام، وإنما على العلاقة المتصورة بين ممثلي السلطة الثقافية، أولئك الذين تقدموا إلى مشهد الوعي الإسلامي في صورة الناطقين باسم المعرفة والعلم في الإسلام، وأصحاب السلطة السياسية الذين انتبهوا مبكرا إلى أهمية المعرفة وحاجة السلطة إليها في مجتمع ينهل مشروعية وجوده من القرآن وما تشكل من حوله من تفسيرات ونصوص دينية. لذلك يحسن أن نقرأ هذا الكتاب في تبرّم عن الغرض الذي يصرح به، أي بحسبانه بحثا عن أصل أو ركيزة لتجربة المثقف العربي في تراثه القديم، أو قولا في مفهوم المثقف عموماً ومهام المثقفين العرب على وجه التحديد. يعتبر أومليل كتابه محاولة للإجابة عن سؤال؛

  • ‘‘ما هو السند الذاتي للمثقف العربي في تراثه الثقافي حين يدَّعي دوراً أو حينَ يطمحُ إليه؟’’[33]

ولا يتردَّدُ في تحليل مُختلف التجارب التراثية التي يُمكن أن نبحث فيها عن نموذج المثقف، لينتهي بقارئه إلى الاعتراف بوجود تفاوُتٍ كبيرٍ بين الأشكال التي اتخذتها السلطة العلمية في الإسلام، وبين مفهوم المثقف كما نضج في رحم الحداثة الغربية وفكرها السياسي ورؤيتها الفلسفية إلى العالم، وإلى التشديد، أيضأً، على ضرورة أنْ يتخلَّى المُثقَّفُ العربي اليومَ عن فكرة الالتزام التي استنزفتْ جهده وجعلته في غفلة عن القضية الأهم التي تسوغ وجوده في السياق المعاصر للمجتمعات العربية؛ قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يتعذرُ العثور على جراثيمها في المفهوم الكلاسيكي للسياسة والسلطة في الإسلام. والكتاب، من هذا المنظور، تمرين اختبر فيه أومليل منظوره الخاص في مقاربة التراث، وأعاد فيه تجريب مفاهيمه الإجرائية الرئيسة، وخاصة منها مفهوم الحقل التاريخي.

ينبغي علينا أن نتساءل هنا؛ كيف أتاح التفكير في المثقف ووضعه في التجربة التراثية تبيُّن حدود الخطابات السياسية المكونة للتراث السياسي الإسلامي؟ يفرض علينا التفكيرُ في هذا السؤال قراءةَ عمل أومليل بحسبانه قولاً في حدود التراث السياسي العربي أكثر ممَّا هو بحث عن آثار مفهوم المثقف داخل سراديب التراث ومتاهات خطاباته المتعددة. صحيح أنَّ هذا المفكر سعى إلى إظهارِ العلاقة الإشكالية بين السلطتين الثقافية والسياسية في التجربة الإسلامية، وما كان غرضه الأساسُ تناول القول التراثي في السياسة، وإنما بَيانُ موقع العلماء ودورهم الممكن، أو المزعوم، في توجيه الفعل السياسي والتأثير في مسار السياسة في الإسلام الكلاسيكي. لذلك اتخذ حديثه عن السلطة الثقافية صورة تفكير في مفعول المعرفة، ومن يحمل لواءها من فقهاء وكتّاب ومتكلمين وفلاسفة، في مجال السياسة، غير أنَّ فهم هذا المفعول اقتضى تفكيك النماذج الذهنية التي صاغها كلُّ خطاب عن السياسة والحكم، وهو ما يتيح فهم تصور التراث السياسي الإسلامي، بل والكشف عن حدوده بشكل من الأشكال.

بذلك يكونُ كتاب السلطة الثقافية والسلطة السياسية اختباراً لفرضيته الرئيسة في قراءة التراث، والتي اتَّخذت شكل كشف عن حدوده التاريخية. والجانب المعني من التراث، هنا، هو التراث السياسي، ذاك الذي عثر عليه أومليل في مقالة الكتّاب، وأصحاب النصيحة والعهود، والفقهاء، والمتكلمين، والفلاسفة، وهو عينه الخطاب الذي انتقده ابن خلدون، وعلى أنقاضه أقامَ نظريته في العمران التي سبق لأومليل أن كشف عن ارتباطها بالحقل التاريخي العربي الوسيط، وتعذُّر اعتبارها تأسيسا لعلم الاجتماع أو الارتفاع بها إلى مستوى النظريات السياسية الحديثة[34]. وإذا كان ابن خلدون قد سبق إلى تقسيم التراث السياسي الإسلامي وتبويبه، بل ولعله كانَ أوّل من أقام ميزاً واضحاً بينَ مقالةَ الكُتَّاب وأصحاب النصيحة (السياسة العقلية)، ومقالة الفقهاء (السياسة الدينية)، ومقالة الفلاسفة (السياسة المدنية)[35] ورسَّخه في أذهان اللاحقين عليه، فإنَّ أومليل يدرك أنَّ التراث السياسي لم يكن كُلاً منسجماً، ويبدو من خلال عرضه لتلك المقالات وعيه بالتداخل القائم بينها في ذهن كثير من المفكرين، حيث نلفي القول السلطاني حاضرا عند بعض الفقهاء، والقول الفقهي عند بعض كتاب النصيحة وآداب الملوك[36]. يمكن أن نستنتج من هذه الملاحظة أنَّ الفواصِل التي وَضَعَها ابن خلدون بين هذه الخطابات لم تُوجِّه كثيراً مُقاربة أومليل للتراث السياسي في الإسلام، رغم أنه استند إلى النقد الخلدوني لمقالة الفلاسفة[37] بُغية إظهار حدود تصورهم للسياسة ومجافاته لواقع المجال السياسي ومحدداته.

إقرأ أيضًا: السلطة والحقيقة: جدلية التداخل بين الروحي والزمني محمد أركون نموذجاً

يمكن أن نقرأ التراث السياسي، إذن، بحسبانه تجسيداً لجدلية المعرفة والسلطة، ولدورها في تشكل مفاهيم الفكر السياسي الأساسية في الإسلام؛ فالسلطة العلمية، تلك التي فضَّل أومليل تسميتها بـ ‘‘السلطة الثقافية’’، كانت نتيجة لموقع النص الديني؛ الكتاب/ القرآن، ومركزيته في الثقافة الإسلامية[38]؛ فقد ‘‘استقرّ في وعي المسلمين أنَّ السلطتين قد تمايزتا عَملياً، وليس ذلك نظراً إلى انتهاء فترة ‘الخلافة الراشدة’ وإلى الأبد فحسب، بل ونظراً إلى تميُّز فئة ‘العلماء’ ابتداءً من العلماء بـ الكتاب. فمنذ بداية الإسلام تميّز أشخاصٌ سمُّوا بـ ‘القرّاء’، وهم أفرادٌ كانوا في عهد النبي- وفي مجتمع كالمجتمعات التقليدية تسوده الأمية- هم وحدهم الذين يقرؤون ويكتبون القرآن. لقد اعتبرنا هؤلاء ‘القرَّاء’ هم أسلاف علماء الإسلام[39]’’. يتجذَّر الوعيُ الإسلامي في القرآن الذي هو ‘‘كتابٌ مقدسٌ’’ عند المسلمين، له سلطانه الرمزي وسطوته على النفوس، وهو بحاجة إلى سلطة تحميه وتفسره[40]، وسرعان ما غدا القادرون على قِراءَته (القرّاء) أصحابَ سلطة على العامّة نابعة من امتلاكهم القدرة على فهم القرآن وتأويله، وقد كان من الطبيعي أن يَفطن الحاكمُ إلى أهمية هذه السلطة وخطورتها، خاصَّة وأنَّ الأمرَ لا يتعلَّق بمسألةٍ طارئةٍ على الاجتماعِ الإسلامي، وإنما بظاهرة بنيوية فرضتها بنيته الكتابية (على حدّ تعبير أركون) ، التي لم يحدث فيها الاستقلال بين الديني والسياسي، وظلت الدولة ترسي دعائمها فيه على الدين الذي شكل مناط المعيارية بالنسبة إلى المجتمع المسلم. ‘‘فكل مجتمع – يقولُ أومليل- يتطلَّع إلى معيارية، أي أن يتجاوز ما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون. وفي المجتمعات التي تحكمها القيم الدينية يكون الدين هو مناطُ المعيارية. وهذا أمر طبيعي، مادام الناس يحملون وجداناً يعلو على واقعهم ويحكمون به عليه’’[41]

في هذا السياق، تحديداً، برزت أولى معالم العلاقة المتوترة بين ‘‘الحاكم’’ و‘‘العالِم’’، التي اعتبرها البعض استمرارية لانفصال الأمراء عن العلماء في الإسلام،[42] وعلى ضوئها تساءل فقيه متصوف، مثل الغزالي، عن مشروعية الدخول على السلطان وخدمته كما عن طبيعة العلم ‘‘المشروع’’ الذي ينبغي تحصيله والعمل به، وما الاستعاراتُ التي يعجُّ بها الفكر السياسي الإسلامي لتوصيف السلطان وتعيين حقيقته غير علامة فارقة على وعيهم بصعوبة الحسم في صلتهم به. يجد أومليل في تجربة القراء وصدامهم مع الدولة الأموية لحظة تأسيس لعلاقة السلطتين العلمية والسياسية في التاريخ الإسلامي. فقد بلَغت العلاقة المُتوترة بينهما ذراها في موقعة دير الجماجم، بعد أن اصطفّ هؤلاء ضد جيش الأمويين، وهو ما يعني أنهم لم يكونوا مجرَّد أهل نظر يتأملون السياسية ويقترحون أساليبَ خاصة في التدبير على طريقة كثير من اللاحقين عليهم من أهل العلم، بقدر ما كانوا ‘‘فاعلين سياسيين’’، أو ‘‘محاربين’’ (فقهاء محاربون على حدّ تعبير أومليل) ما تردَّدوا في حمل السلاح في وَجْه السلطة القائمة. ويمكن أن نستنتج أنَّ الوعي الإسلامي أدرك من فشل تجربتهم صعوبة المواجهة المباشرة مع السلطان، وأنَّ تسخير المعرفة الدينية في تسويغ الخروج عليه قد يقود إلى نتائج كارثية يبقى اشتعال الفتن والاحتراب أهم سماتها. صحيحٌ أنَّه من الصعب الحسم في دور العامل المعرفي في نُشوب وقائع المُواجَهة مع القرَّاء، وفي ما إذا كان اغتيالُ الحجَّاج بن يوسف لتابعيٍّ مثل سعيد بن جُبير راجعاً إلى ‘‘علمه’’ باعتباره أحد هؤلاء، أم نتيجةَ انضمامِه إلى الثوْرة على السلطة الأموية، بيد أنَّ الأهمَّ من ذلك كلّه الصورة التي رسخت في الأذهان عن مكانة حاملي المعرفة وحدود تصرُّفهم تجاه السلطة، حيث تبيَّن أنَّ السلطة الثقافية لا تُضارعُ السلطة السياسية من حيث الفعالية والقوة، فلا غرابة أن تقترن نشأة الخطابات السياسية في الإسلام الكلاسيكي برسوخ هذا الاقتناع عند المسلمين، وأن يعقب ذلك أحداث المواجهة مع القرّاء. يشي الخلاف الذي نشب بين ممثلي المعرفة في الإسلام باقتناع مفكريه بضرورة تحويل المعرفة إلى ‘‘بضاعة’’، خاصة بعد أن رسَّخ ابن حنبل مَوقف القبول القسْري بالسلطان، أي ‘‘السمع والطاعة للأئمة، وأمير المؤمنين، البرّ والفاجر’’[43]، الأمر الذي جعل السلطة الثقافية تتخذ أشكال أخرى غير شكل المواجهة المباشرة مع الحاكم؛ فقد صارت مع الفقهاء رقابةً معيارية تمارسُ باسم الشرع على الحاكم والمجتمع؛ ومع الكتّاب وأصحاب العهود نصيحةً ينبغي إسداؤها للحاكم؛ ومع الفيلسوف دعوةً إلى إمضاء أمور السياسية على مقتضى العقل الساعي إلى تحصيل السعادة العقلية. هكذا يُمكن الحديث عن وظيفة المعرفة كما عن طبيعة السلطة المترتبة عليها، وأومليل لا يُجازفُ باستعمال مَفهوم ‘‘المثقف’’، بمعناه الحديث لتوصيف السلطة المتمخضة عن المعرفة في الإسلام الكلاسيكي، درْءاً لكلّ خلطٍ بين سلطة أهل العلم وسلطة الحاكم، ولما يترتب على مفهوم المثقف من ربط بين المعرفة والرسالة المُجتمعية التي يحملها ويلتزم الدفاع عنها في وجه القوى الحافظة والرجعية[44]. كما أنَّ تريثه في إعمال ذلك المفهوم أتى يجسد اقتناعه بتأصله في بيئة تاريخية حديثة لا صلة لها بالحقل التاريخي الذي نشأ فيه القول الإسلامي الكلاسيكي في السياسة. بل ويتيحُ هذا التريُث الوعي بغياب الشروط الضرورية لنشأة المثقف في سياق التراث الإسلامي.

سنرى، في مقامٍ لاحقٍ من هذا البحث، كيف شكَّل تصوُّر العامة من طرف مفكري الإسلام السياسيين أحد أكبر العوائق أمام ظهور مفهوم المثقف في التجربة الإسلامية الكلاسيكية، ونكتفي، هنا، بالتنبيه إلى أنَّ الحديث عن ‘‘سلطةً ثقافيةٍ’’ لا ينفي كلَّ أشكال الصلة الممكنة بين العالِم والعامَّة، بل ويسلط الضوء عن أثر تلك الصلة في تحديد موقف السلطة السياسية من حَمَلة العلم الذين استندوا، في كثير من الأحيان، إلى دعم العامَّة خاصة في حالة بعض الفقهاء[45]. يبقى نموذجُ ابن حنبل المثالَ الأظهر في هذا الباب؛ إذ رغم ما عُرف عنه من رفض للخروج عن السلطان مخافة الفتنة، فإنَّ موقفَ السُلطة السياسية منه استند إلى رمزية شخصيته بعد أنْ صارَ ‘‘رمزاً لحركةٍ مُعارضة واسعة لم تكن كلُّها تلتزمُ نصيحته في عدم مقاومَة السلطان الجائر’’[46]. ويمكن أن نُعمِّمُ الملاحظة عينها على موقف السلطة السياسية من المُعتزلة الذي أتى يُعبِّر عن عقل الدولة وحاجتها إلى كسب رضا العامَّة. صحيحٌ أنَّ الأمر بالطاعة اقترن، في ذهن ابن حنبل كما في ذهن اللاحقين عليه كالجويني، بالخوف من شبح الفتنة التي ما انفكت تهدد استقرار الملك والجماعة في تاريخ الإسلام[47]، غير أنَّ ذلك لم يكن كافياً ليحجُب عن السلطة السياسية قدرة أهل العلم على توجيه رأي العامة والتأثير فيه، وقد جسد انشغال فقهاء الأحكام السلطانية بالحسبة وأحكامها مدى توجس الدولة من هذا الأمر؛ لأنهم سعوا إلى تمييز الحسْبة من حيثُ هي أمر أخلاقيٌ بالمعروف، وبين وظيفتها الدولتية التي يتعيّنُ تسويرُها بأحكام شرعية وضمِّها إلى نسق الدولة ونموذجها كما رسمه مؤلف الأحكام السلطانية والولايات الدينية[48]. وهذا ما يكشف عن وعيٍ، لدى فُقهاء السلطة هذه المرة، بخطورَة التأثير في العامة، لاسيما إنْ كانَ باسم الدين والشرع كما هي الحال عند الفقهاء[49]. خلف التمييز بين السلطتين السياسية والثقافية يثوي، إذن، هاجس يشغل أومليل ويقف وراء تصنيفه لقطاعات التراث السياسي الإسلامي ونقدها أيضاً؛ موقف القول السياسي من العامة. فالذي كان يعني الحاكم هو استقرارُ ملكه، وبمقدار ما أسعفته المعرفة التي اقترحها عليه أهل العلم بآليات لتحقيق هذه الغاية، فإن استثمارها في توجيه وعي العامة مثل، خاصة مع الفقهاء، تهديداً محتملا للأسس ذلك الملك واستقراره.

في ظلِّ هذه العلاقة المتوترة نشأت خطابات سياسية من منطلقات مرجعية مختلفة، حاولتْ بلوَرة فهم للسياسة رأى فيه أصحابه أنه الأدق والأنفع للحاكم. قد يَحملنا هذا القولُ على الاعتقاد أنَّ كل ما سعى إليه العالِم هو خدمة الحاكم والتقرُّب منه لا غير، وعبارات من قبيل ‘‘البضاعة’’، و‘‘السوق’’ التي يعملها أومليل في وصف المَعرفة التي عرَضها ‘‘أهل العلم’’ على الحاكم قد تُوحي بهذا الأمر، واستنادُه على مُلاحظة الغزالي، الذي سجَّل اقترانَ ازدهاِر المعرفة بتزايُد طلب الحاكم عليها، قد يدفع في اتجاه هذا الفهم أيضاً[50]. والحال أنَّ أومليل لا يختزل علاقة ‘‘العالِم’’ بالحاكم في هذا الجانب الضيق من جدلية المعرفة والسلطة، ففي تصوير الأوَّل في شكل من يكدُّ ويجهد ليصير ‘‘خديما’’ للثاني، كثيرٌ من التبسيط وذهولٌ عن مقاصد السلطة الثقافية التي رمتْ، في كثيرٍ من الأحيان، إلى الإسهام في توجيه الفعل السياسي أو ترشيده على الأقل وفق نماذج ذهنية (معيارية)، بلورَتها خطاباتُها المتنافسة على احتكار حقيقة السياسة ومبررات وجود السلطة وأشكال مُمارستها، كما يتجاهلُ وعيَ الحاكم بخطورة ‘‘السلطة الثقافية’’ وضرورة التعامل معها بكثير من الحذر، بل والحزم في بعض الأحيان. وجدَ رجُل العلم نفسه في وضع مأزوم تحت وقع علاقته الجدلية بالسلطة السياسية؛ فكان عليه أن يختار- في كثير من الأحيان- بين السُخرة للسلطان والوقوف على بابه، أو الانسحاب من عالم السياسة ومجلس الحاكم والتزهُّد على عتبة باب الله.

غير أنَّ علاقة المعرفة بالسُلطة لا تنْحصِرُ في نموذَج الخدْمة والتسخير، لأنَّها ترتبطُ بما هو أهمُّ وأخطر من مجرَّد تَسخير الحاكم لهذا الفقيه أو ذاكَ، و في مجرد إفادته من نصيحة الأدباء والكتاب. فتلك العلاقةُ نتيجةٌ لرغبة الحاكم في إخضاع العامَّة وضمان استقرار مُلكه بَعد لحظة تأسيسه. ليست المعرفة في حدّ ذاتها سلطةً، وإنما تنبع سلطتها من ضروب إعمالها في مُعترك السياسة من طرف الحاكم كما من طرف خُصومِه المعارضين لسُلْطانه، بيدَ أنَّ توظيفها يستهدفُ العامَّة دائماً؛ وفيما يقترحُ صاحب النصيحة خُططاً لتدبير المُلك وسياسته التي لا تنفصل عن تدبير الحياة اليومية للرعية؛ وفيما يُشدِّد الفقيهُ على ضرورة تنزيل الشرع وأحكامه ومراعاتها في إمضاء أمور السياسة؛ يظلُّ الحاكمُ صاحبَ السلطة السياسية الفعلية، له أنْ يوظف هذه المعرفة أو تلكَ من أجل كسب طاعة العامَّة. لذلك يطغى على مُصنَّفات الفكر السياسي الكلاسيكي الانشغالُ بالعامَّة وطُرق إخضاعها[51]؛ إذ يَكادُ أن يُجمع على ذلك الفقيه والكاتبُ والأديبُ والفيلسوف. بل ويُمكن أن نذهب إلى حدّ القول إنَّ هوسُ الحاكم بالعامَّة حدّدَ على نحوٍ مباشرٍ علاقته بأهل العلم والمعرفة. تبدى ذلك، تارةً، في ما تعرَّض له بعض الفقهاء من امتحان، خاصَّةً منهم أولئك الذين حظوا باحترام العامّة وتقديرها، كما هو الشأن بالنسبة إلى ابن حنبل وابن تيمية؛ وتارة أخرى في التنكيل بآخرين إرضاءً للعامة، مثلما حدَث مع الكندي وبعض رموز الاعتزال، بل وقاد التخُّوفُ من العامة إلى فتك الرشيد بالبرامكة الذين استطاعوا نيل حظوة كبيرة عندها[52]. بناء على ذلك، يُمكن أنْ نُرجع الفرق بين مختلف الخطابات السياسية التراثية إلى تأثيرها المُمكن في العامَّة وما قد يوحي به ذلك للسلطان، وسيكون علينا أن نميز هذا التأثير عن تصوُّر مفكري الإسلام لهذه الفئة التي مثَّلت أحد أركان المُلك كما وصفه الماوردي، لكنها لم تحظ عندهم بمكانة تضاهي مكانة الحاكم وتمكنها من فرض رأيها عليه. قد نقرأُ لهذا الفقيه، على سبيل المثال لا الحصر، أنَّه من واجب المَلك أن يسعى في سُرور رعيته، لكنَّ هذا لا ينفي حَقيقة أنه لم يرتفع بالرعية- والعامَّة بالتالي- إلى مُستوى الفاعل الحقيقي في السياسة وتدبير المُلك، وهو يجاري في ذلك ما استقرّ عليه حكم الوعي السياسي الإسلامي الذي يَزُجُّ بالعامَّة في دائرة الغوغاء القاصرين على المعرفة والعلم.

يستمدُّ الخطاب السياسي قوته، أي سلطته المُمكنة، من درجة تأثيره/مفعوله في العامَّة وممَّا يقترحُه من طرقِ إخضاعها والسيطرة عليها. فالأمر لا يتعلَّق بموقفٍ يتَّخذُه هذا المفكر أو ذاك من العامَّة بالاحتفال بها أو التنقيص منها واحتقارها، وإنما بطبيعة العلاقة التي يتيحُ خِطابُه نسجْها مع هذه الفئة العريضة من المجتمع. فقوَّة الخطاب الفقهي[53] يمكن أن تفسر، وفق هذا المنظور، بقُربِه من العامَّة نظراً إلى مكانة الدين والحاجة إلى فهم القرآن وتفسيره، خاصةً وأن الفقهاء قدموا أنفسهم دائما في صورة الجهة الوحيدة التي يحق لها النهوض بهذه المهمة بل وظلّ الفقيهُ صاحبَ سلطة ثقافية نابعةً من معيارية النص الديني نفسه، وما انفكَّ ينبه الحاكمَ إلى ضرورة مراعاة أحكام الشرع باعتبارها منبع مشروعية سلطته. في مقابل ذلك، يمكن تفسيرُ هامشية القول الفلسفي في السياسة بغربته عن عالم العامة والجمهور، واكتفاء أبرز رموزه بشرح منظوماتٍ فكرية متأصلة في نَموذج المدينة اليونانية وتجربتها السياسية، في انفصال عن سياق التجربة السياسية الإسلامية وتاريخيتها[54]. يعني هذا القول، في جملة ما يعنيه، أنَّ التنافس بين الخطابات السياسية كان، في جانب منه، نتيجة الإمكانيات التي يتيحها للتعامل مع العامّة، وهو ما أضفى عليه طابعا سياسياً ظل يتوارى وراءَ شكله المعرفي، ‘‘والتنافس بين الفقهاء وأهل الحديث من جهة، والكتّاب من جهة ثانية، لم يكن تنافسا علميا فحسب، بل سياسيا أيضاً، أو على وجه الدقة: من يمتلك العلم بالسياسة؟ أصحاب الشريعة يقولون إن السياسة لابد من أن تكونَ تحت رقابة الشريعة، بمعنى أن الحاكم لابد أن يستشير الفقيه، فتكون لهذا الأخير الصدارة العلمية يبسُطها على المجال السياسي أيضاً’’[55]. لا يعني هذا القول، ودرءا لكل سوء فهم، أنَّ السلطة الثقافية كانت تضاهي سلطة الحاكم. وحتى الفقهاء، الذين مثلوا السلطة العلمية الوحيدة التي استقرَّت في تراثنا الثقافي[56]، ما استطاعوا ممارسة سلطة سياسية رغم قربهم الشديد من أصحاب القرار ومطالبتهم المستمرة باستشارتهم باعتبارهم ممثلي الشرع في مجتمع شكل الدين أهم ركائز رؤيته إلى العالم. ظلت السلطة العلمية تابعة للسلطة السياسية التي عملت على تسخيرها، ولا يبدو أن المقارنة بين السلطة العلمية في التراث الإسلامي وسلطة رجال الدين في التجربة المسيحية يبقى أمراً معقولاً بصرف النظر عن التشابه القائم بين التجربتين المسيحية والإسلامية من حيث صلتُهما بالنص المقدس وانتظامهما في أفق الأديان التوحيدية؛ فنحن لسنا أمامَ فقيهٍ أو كاتب أو فيلسوف يمارس الحكم أو يشارك فيه، وفي أفضل الحالات فإنَّ هذه السلطة لا تعدو أن تكونَ نصيحةً يسديها العالِم إلى الحاكم أو مشورةً يقدمها له الفقيه، وقد انتبه الباحثون إلى أنَّ شرعية الحكم لم تكن تعدو، في بعض الأحيان، غير أنه صادر عن الخليفة من دون أن يكون فيه أي التزام بنموذج القرآن والسنة[57].

ينمُّ إعمالُ مفهوم ‘‘السلطة الثقافية’’ عن وعي أومليل بخصوصية تجربة السلطة العلمية في التراث العربي الإسلامي، فهي سلطةٌ نابعة من طبيعة الثقافة التي تولَّدت عن مَركزية النصّ الديني في الإسلام واستمدت معالم وجودها من العلم المرتبط بالقرآن وأشكال تأويلاته الثقافية[58]، وما كانت ذاتَ طبيعة سياسية قادرة على احتكار القوة والعنف وإمضاء أمور السياسة. يصعُب تحديد دلالة مفهوم ‘‘العلم’’ في القرآن، غير أنَّ الثابت إعلاؤه من شأن حَملته؛ أي أولئك الذين وصفهم بأنَّهم ‘‘الذين يَعلمون’’[59]. كانَ من الطبيعي، والحالُ هذه، أن يرى كلُّ واحدٍ من أصحاب العلم في ‘‘بضاعته المعرفية’’ العلمَ الحقّ المقصود في القرآن، وأنْ يدعوَ الحاكم إلى العمل به، حيث يبقى المشترك بين مختلف الخطابات السياسية اعتقاد أصحابها بأنهم يقدمون النموذج الأمثل للسياسة والتدبير، وأن معرفتهم هي الأقدر على تمكين الحاكم من سياسة ملكه على أفضل وجه مُمكن. قد تتَّخذ تلكَ البضاعةُ صورة نصيحة يُسدِيها الأديب أو الكاتب إلى السلطان، أو شكل مدينةٍ فاضلة يستند إليها الفيلسوف لتسويغ الحاجة إلى حكمته وإظهار قدرتها على بلورة فهم معقول للسياسة، وهي تتخذ مع الفقيه صورَة رقابة معيارية على تصرفات الحاكم وقراراته، وما كان صدفة أن يشدد الفقهاء على أنَّ ‘‘أولي الأمر’’ المُشار إليهم في القرآن (النساء، 59) هم العلماء الذين تتوجّب طاعتهم، وأنَّهم، بالتالي، ورثة الأنبياء كما جاء في الأثر. بيد أن الحاكم يعيّرُ تلك الخطابات وفق مقتضيات السياسة ومجالها وطبيعة حاجته إليها، وهذا ما يفسر اهتمامه الكبير بما يقوله الفقهاء. ومهما يكن من أمر، فإنَّ مدار العلاقة بين الحاكم والعالم كانت على العامة وسبل الهيمنة عليها، وقيمة المعرفة التي قدمها أهل العلم إنما ظلت تقاس بمقياس نفعها في تدبير العامة وضمان استقرار الملك، كما أنَّ خطورتها اقترنت بمفعولها، المفترض، في العامة وتوجيهها.

يقرأ أومليل الخطابات السياسية في التراث الإسلامي وفق نمذجة تَضربُ بجذورها في تصنيف ابن خلدون لصنوف القول السياسي في الإسلام. لكنه لا يقيمُ بينها فواصل تعزل بعضها عن البعض الآخر مثلما فعلَ صاحب المقدمة، وإنما يسعى إلى تعقُّب التداخل الذي حدث بينها، على نحو يلحظ تفاعلها داخل البيئة الثقافية والاجتماعية الإسلامية وفق ما فرضته طبيعة الدولة وسلطته السياسية. بذلك لا يكون التراث السياسي في الإسلام ‘‘كلاً متناغماً’’ كما يزعم كثيرٌ من دارسيه، ‘‘فالتراث خليط، حتى على مستوى التراث المكتوب’’، و‘‘التراث المكتوب، بالإضافة إلى تعدده الفعلي، فهو أيضا مستويات من حيث القوة والضعف’’[60].

لعلَّ النموذج الأوضح في هذا الباب ما أقدم عليه الفقهاء من انفتاحٍ على أدب النصيحة وإدخاله إلى ميدان القول الفقهي، حيث عمدوا إلى جرّ خطاب الكتّاب إلى دوائر المنظور الشرعي ومعياريته. نجد ذلك بشكل واضحٍ عند الماوردي والطرطوشي، والمرادي. اتضح لمثل هؤلاء الفقهاء أنَّ مسار الدولة في الإسلام قاد إلى انتصار النموذج السلطاني بعد تصدُّع الخلافة وتآكلها، وما تجويز الماوردي لسلطة المتغلب إلا علامة على رسوخ اقتناع عند الفقهاء بأنَّ النموذج الشرعي المعياري للدولة، ذاك الذي حلَّله الماوردي وأبو يعلى الفرّاء في ما كتبوه عن الأحكام السلطانية، ما عاد يكفي لاستيعاب واقع الحكم ونموذج الدولة السلطانية المُهيْمن. ويُسجِّل أومليل أنَّ الذي انتصر في نهاية الأمر هو اتجاه الكتّاب، وهذا ليس من قبيل الصدفة، لأنَّ خطاب هؤلاء مبني على رؤية إلى الدولة والحكم أدنى إلى نموذج الدولة السلطانية منه إلى دولة الخلافة والشرع، وهو نموذج مبنيٌ على ما سمّاه ابن خلدون ‘‘السياسة العقلية’’ التي تقوم على التدافع الطبيعي على السلطة من دون أن تلتزم بمقتضيات الشرع وغايات الآخرة[61]. ترجمَ الانفتاح على هذا الخطاب اقتناع الفقهاء بضيق أفق مقاربتهم الشرعية، وانفلات واقع الدولة السلطانية من قبضة نموذجها، لكنه جسَّد، أيضاً، مرونة العقل الفقهيِّ وقدرتَه على الانفتاح على خطابات أخرى أقدر على التقاط متغيرات الوضع السياسي وشروطه. ينبه أومليل إلى أنَّ هذا الانفتاح أدخل إلى ذهن الفقيه تصورا لنظم سياسية أخرى، ‘‘وإمكان وُجود نظام حكم عادل وقوي من دون أن يكون بالضرورة إسلامياً’’[62]. ولعله لم يُجانب الصواب عندما أرجع إقبال الفقهاء على هذا الضرب من الكتابة إلى رغبتهم في الإبقاء على دور يحفظ لهم القرب من الحاكم، إذ إنَّ طبيعة خطاب النصيحة (الآداب السلطانية)، وعلاوة على واقعيته التي تجعله قادرا على فهم طبيعة السلطة السياسية وأشكال ممارستها، فإنه لا يدعي الرقابة على الحاكم أو إلزامه بأيّ أحكامٍ شرعية لإضفاء المشروعية على سلطته وقراراته. صحيح أنّ كتب النصيحة لا تخلوا من تشديد على ضرورة مراعاة العدل في سياسة الرعية، بيد أنَّ العدل يظل مقرونا فيها بشرط الهيْبة والقوة التي تحفظ للحاكم استقرار ملكه واستمراره. وقد كان من نتائج انفتاح الفقهاء على خطاب الكتّاب التفكيرُ في أشكال جديدة للمشروعية السياسية عدا المشروعية الدينية، حيث يذهب الماوردي إلى حدّ التمييز بين تأسيس المُلك على الدين، وتأسيسه على القوة وعلى المال، لتنتهي إلى القبول بالنمطين الأخيرين بعد أن يقرَّ بصعوبة، بل وبتعذر، تحقق التأسيس الأول[63]. هذا قبل أن يتحوَّل التشريع للدولة ووضع أحاكمها إلى تطبيق لمبدإ التجويز ومراعاة أحكام الوقت. ويبقى الأهم، من منظور أومليل، أنَّ هذا التنازل الذي قدمه الفقهاء انتهى بهم إلى التنازل عن دور الرقابة على السلطة باسم الشرع، وهو الدور الذي أسَّس لمشروعية خطابهم، لينتهي بهم المطافُ إلى القبول بدورِ المشورة الذي لا يرقى إلى مستوى الرقابة التي تستلزمها حراسة الدين[64]. هكذا يكون انفتاح الفقه على النصيحة تعبيرا عن دينامية الفقه السياسي الإسلامي، وقدرته على التفاعل مع واقعه وطوارئه، وما المسار التصاعدي الذي سارت فيه تشريعات الفقهاء لمشروعية الحاكم، والتي انتقلت من نموذجية الخلافة إلى الاعتراف بمشروعية الملك ومن بعده بسلطان المتغلب[65]، إلا تعبيرًا عن اقتناعه بما كان أصحاب النصيحة يشددون عليه دائما؛ إمكانية تأسيس الملك على أسس غير الأساس الديني

ثالثاً: الفيلسوف بين الفقه والتاريخ

قدْ يبدو حُكم أومليل على التجربة الفلسفية في الإسلام قاسياً جداً بالنسبة إلى من اعتادوا الدفاع عن القول الفلسفي وإثبات مشروعيته والدور الذي لعبه في تاريخ الفكر الإسلامي. فما يعني هذا المفكر ليس تقديم عرضٍ تاريخي عن تصورات الفلاسفة للسياسة، ولا التساؤل عن طبيعة قراءتنا للتراث الفلسفي السياسي، وإنما التفكير في قيمة رؤية الفلاسفة إلى السياسية باعتبارهم أحد ممثلي المعرفة في التجربة الإسلامية. ليس المهم، في هذه الحالة، الخوضُ في موضوع أصالة الخطاب الفلسفي العربي، لأنَّ الاستناد إلى المرجعيات الفلسفية اليونانية وتسخير جهد كبير لشرحها والتعريف بها يبقى في حدّ ذاته شاهداً على برَّانية هذا الخطاب. وهو ما يَضع الباحث أمام إشكالية دخول القول الفلسفي إلى المجال الثقافي الإسلامي، وما تتضمنه من أسئلة تتعلق بكيفية تسويغ الفلسفة وإثبات مشروعيتها من طرف المدافعين عنها.

  • أ-غُربة الفيلسوف. لا يشكِّك أومليل في الصورة التي راجت عن الفلسفة في التقليد الإسلامي، لاسيما تلك التي رسما ابن خلدون عمّن سمّاهم ‘‘منتحليها’’، وهو يجزم بأنها ‘‘لم تتأصّل في الفكر السياسي الإسلامي’’[66]. عبَّد الطبّ الطريق لدخول الفلسفة إلى العالم الإسلامي، خاصة وأنه كان أحد فروعها، وسهّل تعريب نصوصها تحت تزايد الطلب عليه كما على غيره من علوم الفلسفة. غير أنَّ الطب صدر عن رؤية إلى الإنسان والعالم متأصلة في المنظور الطبيعي الذي قد لا يتناسب دائما مع المنظور الديني، وهو ما طرح مبكرا مشكلة تسويغ الإقبال على الفلسفة وعلومها، وحمل بعضا من الفلاسفة على التفكير في كيفية للتوفيق بين الفلسفة والدين. وكما كان الطبُّ علمَ النخبة في الإسلام، فكذلك اعتبرت الفلسفة شأنا خاصا بأهل الحقّ المهيئين لممارستها، الأمر الذي رأى فيه مفكرون آخرون، مثل الفقهاء، تهديدا لمكانة بضاعتهم العلمية ولمكانتهم في الوسط الاجتماعي والسياسي. هكذا كان على الفلاسفة، منذ الكندي، أن يخوضوا صراعاً لانتزاع الاعتراف بشرعية صناعتهم وبصلاحية خطابها. و‘‘مشكلة الفلسفة في البيئة العلمية والاجتماعية الإسلامية –يقول أومليل- أنها بطبيعتها معارف نخبة، وأنها ليس لها امتدادٌ طبيعي في المجتمع الإسلامي، كما هو الحال بالنسبة إلى العلم الديني’’[67]. فالطبيعة النخبوية للخطاب الفلسفي كانت أهم الأسباب وراء رفضها من طرف كثير من مفكري الإسلام، وهذا يعني أنَّ موقف الفيلسوف من العامة دفعه، قسراً، إلى التوجه إلى أهل السلطة ومخاطبتهم، و‘‘التوسل إليهم بمعارف ضرورية لهم، وعلى رأسها المعرفة الطبية التي أمكنتهم من التقرب من ذوي السلطان، وبالتالي أن يمرِّروا باقي بضاعتهم الفلسفية، وأن ينصرفوا إلى علومهم الفلسفية تحت رعاية أعيان السلطة’’[68].

يبقى الرازي نموذجاً لفيلسوف توسَّل بالمعرفة الطبية للتعبير عن آرائِه الفلسفية التي كانتْ غريبة جدا عن البيئة الثقافية الإسلامية، بحكم انتهاله من المانوية والفكر السقراطي في الآن ذاته. يلاحظ أومليل أنَّ جدَّة أفكار هذا الفيلسوف- وغرابتها أيضأً- لم تكفِ للتأثير في تلك البيئة، وهي ملاحظة تنسحب، أيضا، على غيره من الفلاسفة الذين لم يكن ظاهر فلسفتهم مناقضا للدين، إذ ‘‘لم يكن لهم أثر يذكر في مجالين أساسيين؛ مجال الفكر الديني، ومجال الفكر السياسي، وخصوصاً في قضية جوهرية يلتقيان فيها، وهي قضية الإمامة أو شرعية نظام الحُكم’’[69]. ظلَّت هذه القضية محلَّ خلاف بين الفقيه والحاكم في نظر أومليل، أما الفلاسفة فإنهم لم يخوضوا فيها، فقد ‘‘كان عليهم- وقد نادوا بعمومية العقل وتحدثوا في ‘السياسة المدنية’- أن يبلوروا فكرا سياسيا مَدنياً. لكن هذا العقل ظل عندهم مُجرداً، و‘السياسة المدنية’ استحالت لديهم إلى نظام ذهني معلق في الهواء لا علاقة له بواقع المدن والمجتمعات، ولا أدلّ على ذلك من حديثهم عن المدن الفاضلة’’[70]. يوحي هذا الحكم بأنَّ اللهث وراء مدينةٍ فاضلة وسياسة مدنية كان سببا كافيا للذهول عن قضية المشروعية التي أرَّقت الوعي السياسي الإسلامي. وإذا كان فقيه السياسة، كالماوردي والجويني، قد نجح في ‘‘الترويج’’ لسلطته العلمية من خلال احتكاره المقاربة الشرعية-الدينية لسؤال المشروعية السياسية، فإنَّ بضاعة الفيلسوف لم تسعفه بذلك، لأنها كانت غريبة عن البيئة الثقافية والاجتماعية الإسلامية، ولم تستطع اقتراح رؤية عملية لضمان طاعة العامة التي ظلَّ الفيلسوف يحتقرها ويستبعدها من دائرة المعرفة والحقيقة. هكذا كانت غُربة الفيلسوف مضاعفة؛ فهو غريبٌ عن المجتمع الإسلامي الذي اعتادَ الإنصات لصوت الناطقين باسم الدين، وعن السلطان الذي لم يجد عنده ما يفيده في احتكار المشروعية السياسية. لذلك يقرُّ أومليل بأنَّ الفيلسوف كان ‘‘في المجتمع الإسلامي أحْوَج أهلِ العلم لإثبات قيمة علمه، نظراً إلى غرابة بضاعته في محيط الثقافة الإسلامية’’[71].

يستوي التصوُّر الفلسفي للسياسة وأسئلتها على نموذج المدينة الفاضلة. وفي هذا النموذج يحل حلم الفيلسوف بمدينة فاضلة على رأسها ملك حكيمٌ يسعى إلى السعادة الحقَّة محلَّ الواقع السياسي الذي تتوارى فيه الحكمة خلف مشاهد الفتن والاحتراب، بل ويعبر هذا الحُلم عن خيبة أمل الفيلسوف الذي جعل من هجرة المدن الضالة واجباً على ‘‘الفيلسوف الحقيقي’’. وبدلا من اقتراح مشروع إصلاحي يُخرج الواقع من أزمته[72]، فضل الفارابي إنشاء مدينة فاضلة هي النقيض المطلق للمدن ‘‘الناقصة’’ التي كان واقعه الاجتماعي والسياسي يعجّ بها، ليشيّد بذلك مدينته الخاصة ويأوي إليها هروبا من غربته. فهي ‘‘عالمُه الخاص به’’، حيث يكون ‘‘الفيلسوفُ سلطان نفسه، ويترك من عداه – أي غير العارفين بالفلسفة والمسترشدين بقيمها- يتخبطون في الجهْل والضلال’’[73]. يبقى الشعورُ بالاغتراب عن الواقع، والانزواء إلى عالم الوجدان قصد العيش وفق نظام العقل الذي يحل محل المجتمع وصراعاته سمة مشتركة بين الخطابات الفلسفية؛ نجدُه في مدينة الفارابي الفاضلة وفي تدبير المُتوحِّد كما تصوَّره ابن باجة، بل ولا نعدم له حضورا عند فيلسوف تورط في السياسة ومهما مثل ابن سينا. وكأن العيش وفق نظام العقل، الذي اعتبر عند المتقدمين روح الأسلوب الفلسفي في العيش، ما كان عند فلاسفة الإسلام غير تعبير عن نزعة انسحابية من عالم الحياة المشتركة وقضاياها. يسجل أومليل ملاحظة على قدر كبير من الأهمية؛ ‘‘أن الفلاسفة خاضوا عمليا غمار حياة السياسة زاخرة، ومع ذلك فلا علاقة بينها وبين ما كتبوه في موضوع ‘السياسة المدنية’ أو ‘المدينة الفاضلة’’[74]. قد يكون مرد ذلك إلى اقتناعهم بنظام العقل كما لاحظ ابن خلدون حين عاب عليهم اعتقادهم بقدرة العقل المطلقة على توجيه النظر والعمل معا، غير أن ذلك لا ينفي أنَّ العقل الذي دافعوا عنه كان عقلَ تراث فكري برّاني، وأنَّ التفلسف اتخذ عندهم شكل تعليق وشرح وتفسير لنصوص ذلك التراث السياسي بمعزل عن سياق المجتمع الإسلامي وقضاياه السياسية الكبرى. تعرَّف فلاسفة الإسلام على المنظور اليوناني للسياسة من خلال النصوص الفلسفية التي وصلتهم، وما كان فكرهم السياسي غير ‘‘شروح على نصوص’’ في نظر أومليل. لكن النصوص ‘‘كانت في الأصل تحيل إلى نظم سياسية وقضائية للمدينة اليونانية، ثم اختفى المُحال إليه وبقي النصُّ المجرد يحفظ ويُتناقلُ وتُبنى عليه الشروح’’[75]. هل كرست مهمة الشرح غربة الفيلسوف عن واقعه؟ يصعب الحسم في هذا السؤال، غير أنَّ ‘‘عالم النص’’ المشروح ظل يشكل موضوعاً ذهنيا بالنسبة إلى الفيلسوف، فكانت النتيجة أنه تمَوْقع خارج قضايا المجتمع والسياسة وانزوى إلى عالم المدينة الفاضلة والسياسة المدنية الذي هو عالمُ نصوصه المشروحة. لا غرابة، والحال هاته، أنْ يذهل الفيلسوف عن قضايا المجتمع الإسلامي التي يأتي على رأسها سؤال المشروعية الذي هيمنَ على غيرهم من المفكرين السياسيين في الإسلام الكلاسيكي.

  • ب- حالة ابن رشد. يمثل ابن رشد حالة فريدة في تاريخ الفكر الإسلامي عامة، والفلسفي منه على وجه الخصوص. فقد اجتمع فيه الفقيه والفيلسوف وكان عليه أن يدافع عن مشروعية القول الفلسفي من داخل دوائر المعرفة الدينية التي تبوأ فيها مكانة استثنائية. هكذا تقاطعَ في ذهنه ضمير الفيلسوف الراضي بعزلته عن المجتمع، وضمير الفقيه الذي يتوجَّب عليه الحكمُ في قضايا الناس وأحكام شؤونهم اليومية. غير أنَّ ابن رشد كانَ مقتنعا بقيمة المنظور الفلسفي، وحتى عندما ابتكر فكرة الفصل بين الحكمة والشريعة، فإنه أقامها على التسليم بضرورة اللجوء إلى التأويل العقلي كما يتصوره الفلاسفة[76]. مما يعني أنَّه كان مقتنعا، كما لاحظ أومليل، بأنَّ ‘‘علمه الفلسفي، ومنهجه في البرهنة وتأسيس المعرفة أوثق وأعلى من علم الفقهاء، أي أن العلم الفلسفي أعلى من العلم الديني’’[77]. غير أنَّ ابن رشد عرف عند الجمهور بلقبه كفقيه وقاضٍ، وكان ذلك مصدر احترام لشخصيته، مما يعني أنه استند إلى رمزية هويته الاجتماعية من أجل تمرير خطابه الفلسفي والدفاع عنه، إيمانا منه بأن الفلسفة هي المعرفة الحقَّة التي ينبغي التمسك بها.

يمكن أن نصف شخصية ابن رشد الثقافية بالازدواجية لأنها ممزقة بين منطقين؛ منطق الفقيه الذي ينتظم في إطار القول الديني وأحكامه الشريعة، ومنطق الفيلسوف الذي يجسد قدرة العقل على اكتشاف الحقيقة. وهو لا يتردد في الانتساب إلى الخطاب الفلسفي، بل ويذهب في ذلك إلى أبعد حد ممكن في زمانه؛ شرح نصوص أرسطو، الذي معه اكتمل العلم، وتنقيحها من كل الشوائب التي علقت بها. لذلك حصر ابن رشد، حسب أومليل، الحقّ في الاجتهاد على الفلاسفة دون غيرهم، عندما أقر بضرورة اللجوء إلى التأويل العقلي، ويبدو أن قسوة نقده للغزالي جسدت محدودية دعوته إلى حرية الفكر التي نضح بها كتاب فصل المقال. ينبغي أن نتساءل، حسب أومليل، عن السبب الذي حمل ابن رشد على توجيه مثل هذا النقد إلى الغزالي والأشاعِرة، وعمّا إذا كانَ السبب وراء ذلك فلسفيا أم سياسياً. مدار النقد الرشدي لمقالات الإسلاميين على المقالة الأشعرية، وهذا ما يمكن أن نعاينه في كتبه النقدية الثلاثة؛ مناهج الأدلة، فصل المقال، وتهافت التهافت. لا يتعلق الأمر، في نظر أومليل، بسجال فلسفي مع الغزالي، ولا بنقاش كلامي مع الأشاعرة، وإنما بمحاولة لنقد مشروع إيديولوجي من خلال نقد الأشاعرة والغزالي؛ إنه نقد ‘‘بكيفية غير مباشرة لمؤسس السلطة الموحدية في المغرب، ابن تومرت الذي أذاع المذهب الأشعري في هذه البلاد، ورسمته الدولة التي انبنت على دعوته، والذي جعل من قضية إحراق المرابطين كتاب الغزالي الإحياء فرس رهانه السياسي’’[78]. يمكن أن نفهم، على ضوء هذا المعطى، موقف ابن رشد من المتكلمين، إذ إن نقده لهم لم يكن مجرد نقد لنظامهم المعرفي الذي لا يقوم على البرهان وإنما على الجدل، بل إنه كان نقدا لعلاقة الكلام بالسياسة والعامة، فهو يعمم قضاياه ويصرح بها للعامة، وهذا ما يمثل في نظره خطرا كبيراً. كما يعيب ابن رشد على الغزالي إقدامه على هذه الخطوة، متناسيا أنَّ صاحب الإحياء ألّف كتابا سمّاه إلجام العوام عن علم الكلام، وأنه ‘‘يهدد العامي بالجحيم إذا هو أراد أن يعلم ما يعلمه العلماء’’[79].

يقود هذا التحليل إلى نتيجة على قدر كبير من الأهمية؛ إن المعني بهذا النقد ليس الغزالي في حدّ ذاته، فهو لا يختلف عن ابن رشد في ما يتعلق بالموقف من العامة، وإنما هو ابن تومرت ‘‘الذي عمَّم العلم، وفي أعلى درجاته، أي علم التوحيد’’[80] وأنزله منزلة العقيدة الواجب العلم بها على الكافّة. وفي نبرة الإلزام هذه يثوي تخوف من مشاهد عهد ‘‘التمييز’’ التي كانت ما تزال تخيم على ذاكرة ابن رشد، ونقده للعقيدة الأشعرية، وتشديده على ضرورة أن يحال بين علم الكلام والعامّة، إنما هو نتيجة لنقده لعقيدة ابن تومرت التي أزالت الحاجز الضروري بين العامة والسياسة في نظر أومليل. بيد أن مشكلة ابن رشد مع علم الكلام لا تنتهي عند هذا الحد، ونقده لتعميم ابن تومرت القضايا الكلامية يبقى بدوره نتيجة تخوف ابن رشد من خطر العامة على الفلسفة التي كان يبحث لها عن سند يقيم عليه مشروعيتها في الوسط الثقافي والاجتماعي الإسلامي. إنَّ تضخم سلطة المتكلمين من خلال تعميم الخوض في قضايا الكلام، بعد فترة عرفت هيمنة سلطة الفقهاء بحكم قربهم من العامة، يعني إمكانية تأليب هذه الأخيرة ضد الفلسفة ونسف مشروعية وجودها في المجتمع الإسلامي باسم الدين وقضاياه. ‘‘من هنا، فإنَّ خطر هؤلاء (=العامة) في نظر ابن رشد، ليس على السياسة فحسب، والتي ستصبح قضية العامة، بل على الفلسفة، لأنَّ هؤلاء سيحرَّضون من طرف الفقهاء والمتكلمين. فيعبئوا عامة الجمهور باسم الدين لإخراجها من حظيرة المجتمع الإسلامي’’[81]. من هنا نقد ابن رشد للمنهج الجدلي الذي يستعمله المتكلمون، وهو نقد تم من داخل دوائر المنطق الأرسطي، وبين من خلاله ابن رشد محدودية الجدل قياسا إلى البرهان الذي هو قوام العلم. ولعله من المفيد أن ننتبه، هنا، إلى أنَّ الفرق الجوهري بين الجدل والبرهان علاقة كل واحد منهما بالجمهور والعامة؛ إذ الجمهور ليس معياراً للعلم في نظر ابن رشد، والمنهج الجدلي يقوم على تحالف بين المتكلم والجمهور من شأنه أن يوجه ضد الفلسفة، وهذا تحديدا ما كان ابن رشد يخشاه في نظر أومليل. فقد أدرك أن الكلام مجال يختلط فيه الدين بالسياسة، ‘‘فينقسم الجمهور حول قضاياه، فتفترقُ الفرق، ولذا يحاول ابن رشد تخليص الدين من قبضة الكلام’’[82]. وإذا كان الجدل عند أرسطو منهجا لتربية الجمهور على العدل والفضيلة، وهذا ما يردده ابن رشد في تلخيصه كتاب الجدل لأرسطو، فإنه عند الفيلسوف المسلم دعوة إلى إبعاد الجمهور عن السياسة درءا لما يترتب على ذلك من تفتت الأمة وانقسامها بسبب الخلاف حول قضايا الدين أساساً. لذلك يفضل ابن رشد أن يكون الخطاب الديني الموجه للعامة بسيطا غير مثقل بالتأويلات المعقدة. وهو ما يعني أنَّ ثمة فرقا بين ابن رشد وأرسطو على مستوى إشكالية كل واحد منهما؛ إذ لم يكن الأول معنيا بمدن الثاني، وإنما بنقد مشروع ابن تومرت وخطر رؤيته على السياسة والفلسفة معاً.

علاوة على ذلك، يُسجّل أومليل أنَّ ابن رشد حصر قراءته للنص الأرسطي في مُهمَّة الشرح، وما كان صُدفة أن يعرف عند اللاتينيين بـ‘‘الشارح الأكبر’’. كان لهذه المُهمة أثرها الكبير في تمثُّل ابن رشد للفلسفة ودور العقل الإنساني؛ إذ غالباً ما يحول الشرحُ دون تبيُّن الإشكالية المُضمرة التي يحوم حولها صاحب النصِّ المشروح (أرسطو)، وهو ما يمنعُ من إعادة صوغها وتركيبها وفق سياق تلقيها وخصوصيته. كما أنَّ الشرْح يصدُر عن نزعة تنميطية تتعالى بالنص على التاريخ وتجعله نصا مُطلقا، وهذا ما سقط فيه ابن رشد عندما لم يُدرك النصوص الأرسطية في بعدها التاريخي، فعزل -على سبيل المثال- الخطابة عن أسباب وجودها السياسية[83]. أضف إلى ذلك أن سعي الشارح إلى توضيح مضمون النص المشروح وتقريبه إلى معاصريه، غالباً ما يتوسل لُغة جديدةً لتوضيح مضامين قديمة، فتكون النتيجة خلطاً بين أفكار قديمة وأخرى حديثة عبر ألفاظ لا يجمع بينها شيء غير رغبة الشارح في التقريب بينها.

أما على مستوى الإشكالية الموجهة لفكر ابن رشد، أي علاقة الحكمة بالشريعة، وسعيه إلى توحيد فهم العقيدة تجنبا للصراع والشقاق، فإنَّ لأومليل ملاحظات على ما انتهى إليه هذا الفيلسوف من نتائج. فمن جهة، يمكن أن نلاحظ أن ابن رشد أعلى من شأن الفلسفة عندما فضَّل اللجوء إلى التأويل الفلسفي في حال أي تعارض بين العقل والنقل، فهو يؤول النص الديني بالفلسفة في نظره[84]، الأمر الذي من شأنه أن يَفصل مجال العقيدة عن مَجال السياسة[85]. غير أنَّ هذا ‘‘العقل الفلسفي’’ ليس قسمةً مُشتركةً بين جميع الناس، بل هو من حظِّ الصفوة منهم فقط، وهذا يعني أنه “لا مَجال لتعميم العقلانية ضداً على الخُرافة، واعتماد الوضوح وحقّ الفرد في إعمال الفكر والتعبير عنه بحرية”[86]. إننا أمَام موقفٍ لا يمكن أن يسهم في تطوير الفكر الديني، لأنه يحصر الحقَّ في الاجتهاد في دائرة الفلاسفة دون أن يعمِّمه على العامة، فهؤلاء عليهم أنْ يكتفوا بظاهر النصّ وأن يتركوا تأويله لأهل الحق (الفلاسفة). لذلك يلاحظ أومليل، من جهة ثانية، أن القضايا التي يفكر فيها الفلاسفة، ومن بينهم ابن رشد، تبقى قضايا ميتافيزيقية ليس من شأنها أن تفيد في تطوير الفكر الديني، طالما أنها تهم قلةً قليلة من النخبة ولا تهم الوعي الديني العام، ولا أسئلة المجتمع الحقيقية.

  • ج- حالة ابن خلدون. ما يعنينا من الصورة التي رسمها أومليل عن ابن خلدون الجانب المتعلق بفكره السياسي. والملاحظ على مقاربته لهذا المفكر عدم اكتفائها بنص المقدمة، وإلحاحُها، في مقابل ذلك، على قراءته على ضوء التاريخ الخلدوني برمته. حينها يغدو هذا التاريخ إطاراً لكلّ الأحكام التي تنضح بها المقدمة عن التاريخ وفلسفته، والعمران، والدولة، والفلسفة…الخ، وهذا ما يقود إلى وضعَ نظريات ابن خلدون في إطارِها التاريخي، الذي هو عينه تاريخ العرب والبربر. نقرأ لأومليل قوله في هذا المعرض؛ “إنَّ الرابطة الحقيقية بيْن المقدمة والعبر، تعني أنَّ فلسفة التاريخ الخلدونية تُرجعنا إلى حقل تاريخي محدَّد، هو حقل التاريخ الموجود في العبر. ومن ثم فإنَّ المفهوم التاريخي الخلدوني، الجديد ولا شك، قد تمت صياغته داخل، وبالنسبة إلى التاريخ كما فهمته الاستوغرافيا الإسلامية وبوَّبتْه”[87]. لقد أطَّر ابن خلدون فكرَه بمفاهيم مُستقدمة من الإرث الفلسفي والتاريخي السائد في زمانه، مُعتقداً أن تجديد المعرفة التاريخية يقتضي تجديدَ علاقة الخطاب بالتاريخ، وهو ما يستلزم، بالضرورة، معرفةً بالعمران وقوانينه[88].

هكذا استطاع ابن خلدون توظيف مفاهيم الفلسفة والزجَّ بها في مضمار العمران والمجتمع الذي يكاد أن يكون غائباً عن فكر الفلاسفة في نظر أومليل[89]، بيد أن ذلك لا يسمح لنا بالقول إن علم العمران يمثل سبقاً في مجال السوسيولوجيا الحديثة كما يزعم المتحمسون لفكر ابن خلدون؛ لقد أراد هذا الأخير لعلمه في العمران أن يكون تصحيحاً لأخبار التاريخ، فلم ينتبه إلى أن غاية ذلك العلم العمرانُ والمجتمعُ نفسه، وإنما اعتقد أنها في تصحيح أخبار التاريخ، فكان من الطبيعي ألا يصدر عن المقدمة نفسها التي صدر عنها مؤسسو علم الاجتماع الحديث؛ النظرُ إلى المجتمع كموضوعٍ مستقلٍ للمعرفة العلمية، ‘‘مجتمع استقل بنفسه، فصار يتحرَّكُ بحركاته الاجتماعية وتنظيماته السياسية والمهنية، واستقلت [فيه] مؤسسات الدولة عن الدين، وأصبحت السياسة والأخلاق والتاريخ، تستمد منطقها من ذاتها وليس من مبادئ تتجاوزها’’[90]. واضحٌ أنَّ غاية أومليل من هذا القول الكشف عن السياق التاريخي الذي أطر نشأة علم الاجتماع، وهو السياقُ عينه الذي لم يكن متاحاً أمام ابن خلدون. يمكن أن نُعمِّم الملاحظة عينها لتنطبق على الزعم القائل إن ابن خلدون من بين مؤسسي فلسفة التاريخ لمعناها الحديث، وذلك بالانتباه إلى سياق نشأتها التاريخي، ذلك أنَّ ‘‘قيام فلسفة التاريخ بمعناها الدقيق، أي الطريقة القصدية في إدراك التاريخ بصفته معطى موضوعيا وعنصرا فاعلاً، وفي التفكير في مبادئه المحركة وغائيته، هي مسألة مرتبطة تاريخياً بتطور الفكر الغربي، وخاصة منذ القرن الثامن عشر”[91]. ويبقى الأهم في هذا السياق هو فهم موقع ابن خلدون في التقليد السياسي الإسلامي.

يشكل هذا المُفكر استثناءً في مسار هذا التقليد الذي يعتبره أومليل فكراً هزيلاً ‘‘لم يعبر تعبيراً حقيقياً عن طبيعة السلطة السياسية ومُرتكزاتها في المجتمع الإسلامي’’[92]. انتقد ابن خلدون مكونات الفكر السياسي الإسلامي السابق له، ويمكن أن نلاحظ كيف أقام تصوره للعمران، الذي هو عنده العلم الأدق القادر على تصحيح أخبار التاريخ بناءً على معطيات الاجتماع البشري، على أنقاض تلك المكونات بعد أن أخضعها لنقد صادر عن منظور العمران نفسه. فعاب على ابن المقفع، الذي يمثل أدب الكتّاب ذي المرجعية الفارسية، اكتفاءه بإنتاج أدبيات غير مبرهنة، كما انتقد إقحام الفقهاء للأدب الفارسي كما مثل له الطرطوشي في سراج الملوك، ويلاحظ أنَّ الاتكاء على هذا المنظور أفرغ القول السياسي من واقعيته وحوَّله إلى جُملة من المواعظ. أما الفقه السياسي فإن منهجه القائم على القياس، ‘أي ردّ أمور السياسة رداً تحكمياً إلى نصوص قارّة مجردة’’[93]، وهذا ما يعني أنه منهج يقودُ إلى إسقاط أحكام ثابتة على المجتمع المتغير باستمرار، مما يخرج منظور العلماء من دائرة الفكر السياسي ويجعلهم أبعد الناس عن السياسة. يمكن تعميم النقد عينه ليشمل القول الفلسفي؛ إذْ ظلَّ هذا الأخير فكرا مجردًا يسعى وراء تحقيق مدينة فاضلة لا يمكن تحقيقها في واقع المجتمع البشري، فـ‘‘هذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع، وإنما يتكلمون عليها من جهة الفرض والتقدير’’. وما حديثُ الفيلسوفِ عن ‘‘سياسة مدنية’’ و‘‘مدينة فاضلة’’ غير تعبير عن حلمه بجماعة من الحكماء تربط بينهم أواصر أخلاقية ويعيشون وفق مقتضى العقل وأحكامه، و‘‘وليس مُرادهم السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع بالمصالح العامة’’[94]. يعني هذا القول أنَّ تشييد ‘‘مدينةٍ فاضلة’’-  تنتفي فيها الحاجة إلى السلطة بمعناها السياسي الفعلي بعد أن يصير على رأسها رئيس حكيم/فيلسوف يدبرها بمقتضى السياسة المدنية- يقتضي حدوث تغير على مستوى الطبيعة البشرية والعمران، وهو ما يفسر الحاجة إلى التفكير في ما يجب أن يكون بدل التركيز على ما هو كائن عند أهل الاجتماع البشري. يريدُ ابن خلدون لعلمه أنْ ينطلق من العمران ليصحح أخبار التاريخ، أما الفقيه والفيلسوف فينطلقان من مُسْبقاتٍ نظرية يعتبرانها مقدمات قولهما في السياسة[95]. اعتبر فلاسفة الإسلام شرح نصوص المتقدمين غاية أولى لعملهم، وصار التفلسف عندهم، في معظم الأحوال، محاولة لشرح ما قاله المتقدمون والعيش وفق نموذجهم. وهنا يمكن أن نطبق على علاقتهم بالنصوص نقد ابن خلدون لمنهج المؤرخين الذين يعيب عليهم اكتفاءهم بترديد ما وصلهم من أخبار من دون الانتباه إلى ‘‘تبدّل الأحوال’’، مثل ‘‘الصوَر التي جُرِّدَتْ من موادها’’ على حدّ تعبير ابن خلدون. أدرك فلاسفة الإسلام مفاهيم أسلافهم اليونان، لكنهم لم يدركوا أن تلك المفاهيم كانت تعكسُ واقعا تاريخيا وسياسياً نضجت فيه، فقد قرأ هؤلاء الفلسفة السياسية اليونانية، ‘‘ولم يكونوا على علم بتاريخ نظمها’’[96].

فضَّلَ أومليل الإنصات لنقد ابن خلدون للتراث السياسي الإسلامي، مُعتقدا أنَّ ذلك أنجع من مقارنته بالفكر السياسي الحديث بحكم التباين القائم بين حقليهما التاريخيين. وبصرف النظر عن مشروعية النقد الخلدوني لمكونات ذلك التراث، فإنَّ ما يعنينا هو ما يفضي إليه من اعتراف بانخرامِ الأساس المعرفي لمختلف خطاباته، حيث ظلّ قولا مجرداً يحاول إخضاع الاجتماع السياسي وطوارئه لمنطقه المتعالي على الزمان، وذهل بالتالي عن الميكانيزمات الفعلية المحركة للاجتماع البشري. لا يعني هذا القول أنَّ ابن خلدون استطاع التخلص من هذا التراث نهائيا، ‘‘فقد جاء ابن خلدون بعد أن قطعت الثقافة العربية أشواطا بعيدة، واستقرت فيها المذاهب والأصول وكونت تصورها عن العالم. وانطلاقا من هذا كله كان على صاحب المقدمة أن يصوغ تصوره للتاريخ وللمجتمع، أي للعمران، وهو عمران يعمل تبعا لقوانينه الخاصة، لكنه لم يستطع أن يتخلص نهائيا من تصور تقليدي عن العالم (…) ربما لأن عالم ابن خلدون آنذاك، على الرغم من انقلابه، لم يستطع أن ينتج قوى للتجاوز الفعلي’’[97]. يعني هذا القول، في جملة ما يعنيه، أنَّ النقد الخلدوني لم ينته إلى تحقيق قطيعة مع التراث السياسي السابق له رغم استناده إلى منظور اجتماعي وتاريخي، ولعل السبب في ذلك ليس راجعا إلى محدودية ذلك النقد، وإنما إلى أنَّه ظل يتحرك في العالم نفسه الذي تحرك فيه أصحاب الخطاب السياسي السابق له.

خاتمة

لم تنفصل قراءة أومليل لتراث السياسي الإسلامي عن هاجس الديمقراطية الذي هيمن على فكره، وحمله كمثقف عربي على الدعوة إلى الالتزام بها والنضال من أجلها. ورغم ما قيل عن قراءته المعرفية التي رامت وضع التراث عام، والسياسي منه على وجه الخصوص، في سياقه التاريخي وحدوده المعرفية، فإنَّ تأويله لمتون ذلك التراث ينم عن محاولة لوضع اليد على أسباب تعارضه، بل وتنافره، مع فكرة الديمقراطية. فمن جهة، بين أومليل أنَّ العلاقة التي نشأت بين السلطة الثقافية والسياسية كرَّست تبعية الأولى للثانية ولم تسمح بظهور حرية التعبير التي تبقى شرطا للديمقراطية، كما بين، من جهة ثانية، أنَّ هذا التراث كرس صورة سلبية عن العامة والجمهور ليس له إلا أن ينفي إمكانية ظهور رأي عام يفرض نفسه في معادلة السياسة واتخاذ القرار. ويبدو لي أنَّ هذه هي النقطة الأساسية التي قرأ على ضوئها أومليل التراث السياسي في الإسلام، وبناء عليها يمكن تفهم كثير من مواقفه. ظلت السلطة السياسية مركز الثقل في المجال السياسي الإسلامي، فكان من الطبيعي أن ينتهي الفقيه إلى التنازل عن دور الرقابة المعيارية على السلطان مكتفيا بإسداء النصيحة والمشورة له، لأنَّ العامة لا تشغل مكانة مِحورية في تفكيره المشدود إلى الحاكم. كما أنَّ تجاهل الفيلسوف للعامة ما كان له إلاَّ أنْ يُفضي إلى تصور مثالي للحكم يلهث وراء جماعة من الحُكماء تجمع بينهم أواصر مدنية تمكنهم من العيش وفق مقتضيات العقل. أما الكاتب فإن ما كان يعنيه هو الحظوة لدى السلطان ومدِّه باقتراحات للهيمنة على العامة وضمان استقرار ملكه. لذلك لا يمكن أنْ نعثر في هذا التراث على مرجعية تؤسِّسُ لفكرة الجمهور ورأيه العام، وهو ما ينسف فكرة المثقف الذي يفترض أن يعبر عن هذا الرأي ويدافع عن رسالته في وجه السلطة.

يحق أن نعترض على قراءة أومليل بالقول إنه أوَّل التُراث السياسي العربي على ضوء حاجتنا الراهنة إلى الديمقراطية، فحاكمه انطلاقا من فكرة لم تكن تقع في ‘‘حقله التاريخي’’ ولا تشكل جزءاً من عالمه، كما يمكن أن نعترض على بقائه في دوائر النقد الخلدوني الذي اختزل هذا التراث وفق ما تقتضيه حاجته إلى تأسيس علم العمران البشري، وهو النقد الذي تجاهل الجهد الذي بذله فيلسوف كالفارابي في فهم السياسة انطلاقا من المدن الجاهلة التي انتقد من خلالها واقعه السياسي، قبل أن يتقرح تصوره للمدينة الفاضلة[98]، واختزل الفقه السياسي إلى مجرد سياسة دينية من دون اهتمامٍ بعلاقته بالمشروع السياسي للدولة وحاجتها إلى بناء نموذج ذهني لتأسيس شرعية قوية في بيئة اجتماعية وسياسية مهتزة ومتوترة. كما يمكن للقارئ أن يعترض على نقد أومليل للفكر السياسي الرشدي على ضوء قراءته لأرسطو وسجاله مع الغزالي، من دون إشارة إلى شرحه لكتاب السياسة لأفلاطون، وللكيفية التي وظَّف بها مفاهيم أفلاطون ونماذجه السياسية في توْصيفِ واقعه السياسي ونقده[99]. غير أنَّ هذه الاعتراض كلها لا تمسُّ في شيء جوهر قراءَة أومليل للتراث السياسي، التي رمت إلى تحريرنا من وهم المرجعية التراثية الطاغي على فكر كثير من المفكرين العرب، وتضعنا أمام مهمة تجديد الفكر السياسي العربي انطلاقا من استيعاب درس الحداثة السياسية، والوعي بالمسافة التاريخية التي باتت تفصلنا عن التراث السياسي وأفقه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحواشي والمراجع:

[1] – علي أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، بيروت؛ مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، 2011، ص. 26.

[2] – علي أومليل، الإصلاحية العربية والدولة الوطنية، الدار البيضاء؛ المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 2005، ص. 34. انظر أيضاً: علي أومليل، أفكار مهاجرة، بيروت؛ مركز دراسات الوحدة العربية، 2013، ص. 82.

[3] – عبد الإله بلقزيز، العرب والحداثة، نقد التراث، بيروت؛ مركز دراسات الوحدة العربية، 2014، ص. 251.

[4] – أومليل، في التراث والتجاوز، ص. 16.

[5] – عبد الإله بلقزيز، العرب والحداثة، نقد الثقافة الغربية، بيروت؛ مركز دراسات الوحدة العربية، 2017، ص. 37.

[6] – علي أومليل، الخطاب التاريخي؛ دراسة لمنهجية ابن خلدون، الدار البيضاء؛ المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة، 2005، ص. 279.

[7] – كمال عبد اللطيف، التراث والقطيعة في نقد الإصلاحية العربية، أوراق فلسفية، العدد 27، 2010، ص.244.

[8] – أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص. 256.

[9] – علي أومليل، الخطاب التاريخي، دراسة لمنهجية ابن خلدون، بيروت؛ المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة، 2005.

[10] – بلقزيز، نقد التراث، بيروت؛ مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 2014، ص. 30.

[11] – علي أومليل، في التراث والتجاوز، بيروت؛ المركز الثقافي العربي، 1990، ص. 21.

[12] – المصدر نفسه، ص. 39.

[13] – تبقى كتابات حسين مروة وطيب تيزيني المثال الأوضح في هذا السياق. انظر: طيب تيزيني، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، الطبعة الخامسة، دمشق؛ دار المشرق، [د،ت]، ص. 125

[14] – محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي؛ دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، الطبعة الثالثة، 1993، ص. 556.

[15] – بلقزيز، نقد التراث، ص. 270.

[16] – أومليل، أفكار مهاجرة، ص. 7.

[17] – يكفي أن نقدم، كمثال على ذلك، نقد هذا المفكر لمفهوم الاختلاف. أنجز أومليل، في كتاب في شرعية الاختلاف، نقدا للشروط الحاكمة لتكون مفهوم الاختلاف في التراث الإسلامي، وقد بين أنَّ‘‘الاختلاف الديني هو الذي مثَّل قديماً جوهر الاختلاف بين الأفراد والأقوام’’، غير أنه لاحظ، أيضاً، أنه رغم تسليم القدماء بالاختلاف كمعطى تاريخي، فإنهم ‘‘ظلُّوا مُتمسكين بأنَّ الحقَّ هو مع اتجاهٍ واحد لا غير، من بين الاتجاهات المختلفة’’. وهو يعتقد أن القدماء قاسوا مسألة ‘‘الوحدة والاختلاف’’ انطلاقاً من التعارُض القائم بين إيجابية وحدة النص القرآني وسلبية الاختلاف الحاصل على مستوى فهمه وتأويله. وحتى ما نجده عند الغزالي والماوردي من إقرارٍ بأنَّ الاختلاف أمرٌ طبيعيٌ بين الناس، لم يقد إلى رسوخ ‘‘ذهنية عامة تسلم بواقع الاختلاف بل بضرورته’’ خارج الإطار الديني والعقائدي. لذلك فإنَّ إسقاطَ الفهم المعاصر للاختلاف، سواء منه الذي نَجم عن نقد العقلانية بعد التشبع بقيمها مع فلاسفة ما بعد الحداثة، أو الاختلاف المؤسس للتعدُّدية السياسية والثقافية، على المَفهوم التراثي للاختلاف يبقى خطوة غير منهجية لا تعي المسافة التاريخية الفاصلة بين المفهومين. انظر؛ علي أومليل، في شرعية الاختلاف، بيروت؛ دار الطليعة، الطبعة الثانية، 1993، ص. 13.

[18] – أومليل، الخطاب التاريخي، ص. 272.

[19] – أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص. 10.

[20] – رضوان السيد، التراث العربي في الحاضر؛ النشر والقراءة والصراع، أبو ظبي؛ هيئة أبو ظبي للسياحة، 2014، ص. 53.

[21] – عزيز العظمة، الإصلاحيون النهضويون وفكرة الإصلاح في المجال الديني، ضمن؛ (ندوة) في إصلاح المجال الديني (بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع المعهد السويدي بالإسكندرية)، بيروت؛ مركز دراسات الوحدة العربية، 2017، ص. 203.

[22] – عبد الله العروي، مفهوم الدولة، الدار البيضاء؛ المركز الثقافي العربي، الطبعة السابعة، 2001، ص. 140.

[23] – عبد السلام شدادي، ابن خلدون؛ الإنسان ومنظر الحضارة، ترجمة حنان قصاب حسن، بيروت؛ المكتبة الشرقية، 2016، ص. 310. انظر أيضاً؛ السيد فريد العطَّاس، تطبيق ابن خلدون؛ إحياء تقليد مهجور في علم الاجتماع، ترجمة أسامة عباس، 2021.

[24] – أومليل، أفكار مهاجرة، ص. 93.

[25] – أومليل، الإصلاحية العربية والدولة الوطنية، بيروت؛ المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، ص. 187.

[26] – المصدر نفسه، ص. 13.

[27] – أومليل، الإصلاحية العربية، ص. 97.

[28] – إرفن روزنتال، الإسلام في الدولة القومية الحديثة، ترجمة محمد داغر، بيروت: نماء، 2020، ص. 31.

[29] – محمد عابد الجابري، نحن والتراث، قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، بيروت؛ المركز الثقافي العربي، الطبعة السادسة، 1993،  ص. 4.

[30] – أومليل، الخطاب التاريخي، ص. 272.

[31] – أومليل، في التراث والتجاوز، ص. 21.

[32] – أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، 139.

[33] – المصدر نفسه، ص. 10.

[34] – أومليل، الخطاب التاريخي، ص. 277.

[35] – ابن خلدون، المقدمة، بيروت؛ دار الكتب العلمية، 1993، ص. 238-239

[36] – انظر على سبيل المثال لا الحصر، نموذج التداخل بين مكونات الثقافة السياسية في الفكر الإسلامي في؛ الماوردي، تسهيل النظر وتعجيل الظفر، تحقيق رضوان السيد، بيروت؛ المركز الإسلامي للبحوث، 1987، ص. 202

[37] – أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص. 132.

[38] – M, Arkoun, pour une critique de la raison islamique, Paris, Maisseuve, 1984, p. 9.

[39] – أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص. 11.

[40] – ‘‘هناك، إذن، سلطة علمية كامنة في الكتاب، فيوجد دائماً من يشرح للنطق باسمها’’، المصدر نفسه، ص. 37.

[41] – أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص. 51.

[42] – محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية، محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، بيروت؛ مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، 2008، ص. 39.

[43] – أبو يعلى الفرأء، الأحكام السلطانية، بيروت؛ دار الكتب العلمية، ص. 62.

[44] – الجابري، المثقفون في الحضارة العربية، ص. 28.

[45] – انظر تحليل أومليل لنموذج بن تومرت في، أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص. 215. انظر أيضاً نموذجا لفقيه ثائر في: عبد المجيد قدوري، ابن أبي محلي الفقيه الثائر ورحلته الإصليت الخريت، الرباط، منشورات عكاظ، [د،ت]، ص. 26.

[46] – أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص. 47.

[47] – رضوان السيد، الجماعة والمجتمع والدولة؛ سلطة الإيديولوجيا في المجال السياسي العربي الإسلامي، بيروت؛ دار الكتاب العربي، 1997، ص. 379.

[48] – الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، بيروت؛ دار الكتب العلمية، [د،ت]، ص. 132.

[49] – انظر حول حالة ابن تيمية: رائد السمهوري، ابن تيمية التاريخي والمستعاد؛ مقاربة تاريخية تحليلية في موقف ابن تيمية من المختلف الديني، الدوحة؛ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2024، ص. 74.

[50] – نقرأ له في هذا المعرض قوله؛ ‘‘بل يذهب الغزالي إلى ما هو أبعد، فيقول إنَّ ازدهار بعض العلوم إنما كان الحافز عليه اهتمام أهل السلطة (أو ‘الصدور’ بحسب تعبيره) بها، فأكبّ عليها القوم ‘توصلا إلى نيل العزّ ودرك الجاه من الولاة’. فاقبل الفقهاء أولا ‘على علم الفتاوي والأقضية لشدّة الحاجة إليها’، ثم جاء اهتمام أهل السلطان بعلم الكلام، ‘فظهر بعدهم من الصدور والأمراء من يسمع مقالات الناس في قواعد العقائد، ومالت نفسه إلى سماع الحجج فيها، فأكبّ الناس على علم الكلام (..) وزعموا أنَّ غرضهم الذب عن دين الله والنضال عن السنة وقمع المبتدعة، كما زعم من قبلهم أن غرضهم بالاشتغال بالفتاوي الدينُ وقلُّد أحكام المسلمين، إشفاقا على خلق الله ونصيحة لهم’’، أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص. 14.

[51] – ابن المقفع، رسالة في الصحابة، بيروت؛ دار بحار، ص. 143. ونقرأ في كتاب التاج المنسوب للجاحظ؛ “..ومنها أن سعادة العامة في تبجيل الملوك وطاعتها، كما قال أردشير بن بابك: ومنها أن الملوك هم الأسُّ، والرعية هم البناء، وما لا أسَّ له مهدود”، كتاب التاج في أخلاق الملوك، القاهرة؛ المطبعة الأميرية، 1914،  ص. 20 -21.

[52] – (مؤلف مجهول)، أخبار البرامكة، تحقيق جليل العطية، بيروت؛ دار الطليعة، 2006.

[53] – نقرأ لأومليل قوله؛ ‘‘لم يصل الكتّاب إلى صياغة تنظير متكامل ومتسق في السياسة-على الرغم من محاولات ابن المقفع- يضاهي تنظير الفقهاء. بل إنَّ هؤلاء سيدمجون أدب الكتّاب في فقههم السياسي’’، أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص. 54.

[54] – يقول أومليل؛ ‘‘فقد اتضح لنا من تحليل خطاب الفلاسفة الإسلاميين (..) أنَّ الأمر يتعلق بسياسة الفيلسوف وجدانه وفكره ومسلكه المتفرد أكثر منها سياسة مجتمع أو مدينة. لقد انتهى الفيلسوف في المجتمع الإسلامي إلى أن يبني ‘مدينته’ داخل ذاته، ولم يكن يعنيه أن يقدم مشروعاً لبناء مجتمع ولو على سبيل الاحتمال البعيد’’، أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص. 23

[55] – المصدر نفسه، ص. 47.

[56] – المصدر نفسه، ص. 25.

[57] – باتريشيا كرون ومارتن هيندز، خليفة الله؛ السلطة الدينية في العصور الإسلامية الأولى، ترجمة أحمد طلعت، بيروت؛ جسور للترجمة والنشر، 2017، ص. 105.

[58] – وجيه قانصو، النص الديني في الإسلام؛ من التفسير إلى التلقي، الطبعة الثانية، بيروت؛ دار الفارابي، 2017، ص.166.

[59] – ‘‘قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون’’، القرآن الكريم، سورة الزمر، الآية 9.

[60] – أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص. 139.

[61] – ابن خلدون، المقدمة، ص. 238-239.

[62] – أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص. 137.

[63] – الماوردي، تسهيل النظر وتعجيل الظفر، ص. 199.

[64] – يقول الطرطوشي: ‘‘فلا تقذفنّ في روعك أنك إذا استشرت الرجال ظهر للناس منط الحاجة’’، سراج الملوك، ص.  143. ذكره؛ أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص. 138.

[65] – ابن تيمية، الخلافة والملك، بيروت؛ مكتبة المنار، 1994، ص. 25.

[66] – أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص. 143.

[67] – المصدر نفسه، ص. 175

[68] – الصفحة نفسها.

[69] – المصدر نفسه، ص. 179.

[70] – الصفحة نفسها.

[71] – المصدر نفسه، ص. 183.

[72] – ‘‘إن مدينة الفارابي الفاضلة هي بناء ذهني مجرد، قد ركب من قراءة جمهورية أفلاطون، ومما بلغه عن سياسة أرسطو، ومن آراء أفلوطينية، وطبعا فلا صلة لهذه المدينة الذهنية المركبة بالمدينة الإسلامية. ولكن ليس هذا هو المهم، بل المهم أنها لم تكن مشروعا لدعوة سياسية إلى الإصلاح أو التغيير، فهي ‘مدينة’ يستبطنها الوجدان الفلسفي المغترب، عسى أن يدبر بها غربته’’، المصدر نفسه، ص. 187.

[73] – المصدر نفسه، ص. 185.

[74] – المصدر نفسه، ص. 190.

[75] – أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص. 192.

[76] – أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص. 201.

[77] – المصدر نفسه، ص. 200.

[78] – المصدر نفسه، ص. 208.

[79] – المصدر نفسه، ص. 211.

[80] – المصدر نفسه، ص. 213.

[81] – لمصدر نفسه، ص. 218.

[82] – المصدر نفسه، ص.219.

[83] – أومليل، أفكار مهاجرة، ص.188.

[84] – عبد الإله بلقزيز (وآخرون)، الفلسفة والحداثة في المشروع الفكري لعلي أومليل، بيروت؛ مركز دراسات الوحدة العربية، 2011، ص110.

[85] – المرجع نفسه، ص. 112.

[86] – المرجع نفسه، ص. 111.

[87] – أومليل، الخطاب التاريخي، ص. 214.

[88] – المصدر نفسه، ص. 270.

[89]الفلسفة والحداثة في المشروع الفكري لعلي أومليل، ص. 114.

[90] – المرجع نفسه، ص. 115.

[91] – أومليل، الخطاب التاريخي، ص. 213.

[92] – أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص. 139.

[93] – المصدر نفسه، ص. 141.

[94] – ابن خلدون، المقدمة، ص. 450. ذكره؛ المصدر نفسه، ص. 142.

[95] – يقول أومليل؛ ‘‘فالفقهاء يتحدثون في ما ينبغي أن تكون عليه السياسة شرعا، والفلاسفة يرفضون منطق التغير، لأن ما هو تاريخي متغير هو عندهم من قبيل الإمكان بحسب مصطلحهم، وما هو ممكن ليس في عرفهم هو الموضوع الحقيقي للعلم، إذ لا علم عندهم إلا بالضروري، والضروري ينبع من مبادئ العقل المجرد’’، المصدر نفسه، ص. 142.

[96] – المصدر نفسه، ص. 143.

[97] – أومليل، الخطاب التاريخي، ص. 278.

[98] – انظر محاولة لتوضيح هذه المسألة في؛ عبد السلام بنعبدالعالي، الفلسفة السياسية عند الفارابي، بيروت؛ دار الطليعة، الطبعة الرابعة، 1997، ص. 64.

[99] – انظر مقدمة أحمد شحلان في؛ ابن رشد، جوامع سياسة أفلاطون (الضروري في السياسة)، أعاده إلى العربية عن العبرانية أحمد شحلان، الرباط؛ مطبعة الرسالة، 2014.

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete