الديموقراطية والإصلاح في المجتمع المفتوح

 تكوين

مدخل

لعل أكثر التوصيفات دلالة على عصرنا اليوم هو إنه عصر الأزمات الكبرى الذي يبدو أنه أرجعنا مرة أخرى إلى العهود الاستعمارية، حيث الاستبداد والهيمنة وفرض الرأي والمصلحة بالقوة، وخير شاهد على ذلك هو ما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية ضد بعض الدول، مثل: العراق وأفغانستان، وما تقوم به من انتهاك لقوانين الشرعية الدولية، وانتهاك حرمة الإنسان وكرامته وحقوقه في سجونها الرسمية وغير الرسمية، مثل: جوانتانامو، أبو غريب، السجون الأخرى السرية المنتشرة في العالم. إضافة إلى تأييدها ومساندتها للاحتلال الإسرائيلي غير المشروع في فلسطين وجنوب لبنان والجولان، وما يقوم به من أفعال إجرامية ضد الإنسانية، وما الحرب الأخيرة التي شنها الإسرائيليون بتواطؤ من الأمريكيين على لبنان إلا شاهدًا على ما نقول، فقد دمرت إسرائيل البنية التحتية اللبنانية تدميرًا كاملًا، كما قتلت الشباب والنساء والشيوخ، بل وتجردت من كل ما يمت بصلة إلى الإنسانية عندما قصفت ملجًا للأطفال في قانا راح ضحيته عشرات الأطفال. ولعله ما قاله أحد الساسة الأمريكيين وهو جورج سورس Soros George واصفًا زيف الشرعية التي تتصرف بها الولايات المتحدة في المستوى الدولي قبل ذلك ينطبق على ما يحدث اليوم: “تحت اسم الحرب على الإرهاب، دمرت الولايات المتحدة المبادئ الديموقراطية، وجعلت نفسها القاضي والحكم الوحيد ومن يصدر القرار ومن يقوم بتنفيذه دون الرجوع إلى قرارات الأمم المتحدة، وهذه الأعمال أبسط ما يُقال عنها إنها نسف لمبادئ الديموقراطية”(1).

لهذا يستنكر عديدٌ من المفكرين السياسيين عملية ربط الديموقراطية بتحقيق مصلحة القوى الكبرى في العالم، إذ نلاحظ أن هذه القوى تغض الطرْف عن استبدادية بعض البلدان الحليفة لها، وتقيم الدنيا وترسل الجيوش إلى بلاد أخرى تخالف سياستها، وهو ما تُبرره الولايات المتحدة باسم الدفاع عن الديموقراطية.  ويطرح هذا في تصورنا ـسؤالا مهمًا وجديدًا على الفلسفة السياسية لم يكن مطروحًا عليها من قبل ألا وهو: هل يمكن فرض الديموقراطية على الشعوب بقوة السلاح؟ وألا يُعد هذا تناقضًا في مفهوم الديموقراطية ذاته الذي يعنى سيادة الشعب؟ ثم ما هو موقف الفلسفة السياسية من محاولات فرض الديموقراطية بطرق أخرى؟ وهو أمر نلاحظه الآن في سياسات الأجهزة المالية العالمية المرتبطة بمسار العولمة واتفاقية التجارة الدولية عندما تربط القروض والمعونات بإجراء “إصلاحات ديموقراطية” تتضمن المشاركة السياسية وتداول السلطة وتحقيق حقوق الإنسان… لكن ألا يُعد هذا أيضًا فرضًا قسريًا للديموقراطية على شعوب تعاني أزمات اقتصادية؟ يرى المدافعون عن منطق العولمة هذا بأن ذلك يُعد فرضًا للديموقراطية على إرادات القوى المستبدة والحكام الطغاة في هذه البلدان وليس على الشعوب ذاتها.

إلا أن مشكلة الديموقراطية لم تقف في الوقت الحالي على اختيارها صيغةً للحكم، ولكن نشأت مشاكل أخرى من عملية تحقيقها في الواقع العملي وهي المشاكل التي تنشأ عن عملية التحول الديموقراطي Democratization، لعل هذا ما يُبين لنا كيف أن قضية الديموقراطية ما تزال في القلب من الهموم السياسية المعاصرة، كما يُبين لنا هذا قيمة الاهتمام بأعمال الفلاسفة الذين عاشوا وعاصروا هذه المشاكل وانكبوا على إيجاد حلول لها.

الديموقراطية (لمحة تاريخية)

الديموقراطية كلمة يونانية قديمة Demokratia تتكون من مقطعين (Demos) وتعني الشعب، ( Kratas) وتعني الحكم، وبذلك تصبح الديموقراطية هي حكم الشعب، وهي أيضًا الشكل السياسي الذي يُمارس فيه الناس بأنفسهم السلطة السياسية، فهي إذن نظام معارض لحكم الفرد (الموناركية) ولحكم النخبة (الأرستقراطية) والأشكال الأخرى للطغيان (كالأوليجارشية). وقد تطور المصطلح في العصر الحديث فأصبحت الديموقراطية هي الفكرة السياسية التي تتحدث عن سيادة الشعب، فكل المواطنين قادرون على استخدام عقولهم وضمائرهم للمشاركة في صنع القرارات السياسية وذلك لأنهم أحرار ومتساوون. فالكل أصبح لديه الحق في اختيار حكومته وممثليه الذين يُنتخبون وفقًا لمبدأ محدد هو ما تقرره الأغلبية. ويُسمى هذا الشكل بالديموقراطية التمثيلية representative democracy (1).

وإذا ألقينا نظرة سريعة على تطور الديموقراطية عبر العصور، سنجد أنه قد ظهر اهتمام بالغ بالديموقراطية في العصر اليوناني وبلغت الحركة الديموقراطية أوجها في عصر بركليس الذي صاغ مبدأ المساواة أمام القانون equality before the law.  ويصف بركليس آلية عمل الحكومة في ظل النظام الديموقراطي اليوناني قائلًا: “تعمل الحكومة لصالح الأكثرية بدلًا من الأقلية، كما تقدم القوانين عدالة متساوية للجميع في نزاعاتهم الخاصة، وتمتد الحرية التي نتمتع بها إلى الحياة العامة، لكن لا تجعلنا هذه الحرية دون قانون، فقد تعلمنا احترام الحكام والقوانين، ولا ننسى أبدًا حماية المظلومين”(2).

لقد كان شكل الديموقراطية السائد عند اليونان بعامة وعند الأثينيين بخاصة هي الديموقراطية المباشرة التي تقوم على مشاركة كل المواطنين مشاركةً مباشرةً في جميع جوانب الأنشطة السياسية، لذلك كانت الديموقراطية عند اليونان هي بالفعل حكم الشعب.

لكن الديموقراطية الأثينية كانت أحد الأشكال السياسية الناقصة للديموقراطية، إذ اقتصرت المشاركة في الحكم على الأثينيين الذكور الأحرار البالغين من العمر عشرين عامًا، واستثنت بذلك الأجانب والنساء والعبيد، إضافة إلى ذلك فلم تحظَ الديموقراطية اليونانية بتأييد كل فئات الشعب، فقد لاقت من المعارضة بقدر ما لاقت من التأييد، فقد عارضها أهم فلاسفة العصر اليوناني مثل أفلاطون الذي وجد فيها نظامًا لحكم غير الأكْفَاء وغير المؤهلين، وراح يدعو إلى نظام حكم يَعتلي عرشه الملوك الفلاسفة، كما رأى أرسطو أن انتشار الديموقراطية واتساع رُقعتها قد مَكَّن الفقراء وصغار القوم من المشاركة في الحكم وهو في نظره اتجاه غير مقبول. وعلى الرغم من قصور الديموقراطية اليونانية في بعض نواحيها، إلا أننا لا نستطيع أن نُنكر الدور الذي لعبته في تطور مسيرة الفكر الديموقراطي فيما بعد.

إقرأ أيضًا: الكتابات الأيديولوجية العربية المعاصرة وإشكالية الديمقراطية  

وفى العصور الوسطى نجد غيابًا تامًا للديموقراطية، حيث سيطرت الكنيسة على الأمور السياسية والدينية معا، وظهرت نظرية الحق الإلهي التي رأى أنصارها أن الملوك يحكمون بمقتضى حق إلهي مقدس. وأصبح الحاكم نائبًا لله في الأرض، وهو ما ترتب عليه عدم القدرة على مخالفة آراء الحاكم. ولتدعيم نظرية الحق الإلهي ظهرت محاكم التفتيش التي عملت لقمع حرية الرأي والتعبير والاختراع والإبداع، فأمسى مصير القائل بأي آراء تُعارض الكنيسة هو القتل أو النفي، وهو ما أدى إلى غياب الديموقراطية في المستويين النظري والعملي، فها هو القديس توما الأكويني يُعرف الديموقراطية بأنها: “ديماجوجية وغوغائية“(1).

أما في العصر الحديث نجد اهتمامًا بالغًا من المفكرين والفلاسفة بفكرة الديموقراطية التي أرسى لوك وروسو ومونتسكيو دعائمها،  فرفض لوك السلطة المطلقة للملوك والحكام، وأعطى مساحة أكبر من الحماية للحرية الاقتصادية والملكية الخاصة التي غابت في العصور الوسطى، ثم جاء مونتسكيو فأضاف أبعادًا أخلاقيةً لفكرة الديموقراطية، ونادى بضرورة فصل السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، لضمان تحقيق أكبر قدر ممكن من الحرية للأفراد: “لأنه إذا اتحدت السلطة التشريعية مع السلطة التنفيذية فلن تكون هناك حرية، إذ يُخشى أن يقوم الحاكم نفسه بسن قوانين استبدادية من أجل أن يُنفذها استبداديًا”(2).

كما أسهم روسو إسهامًا فاعلًا في تطور مسيرة الديموقراطية، عندما دعا إلى تطبيق الديموقراطية المباشرة على النحو الذي كانت عليه عند الإغريق قديمًا، إلا أنه أدرك بعد ذلك استحالة تطبيق الديموقراطية بشكلها المباشر لما يتطلبه الأمر من دولة صغيرة جدًا يسهل فيها جمع الشعب، كما يسهل على كل مواطن أن يَعرف الباقين، ورأى روسو في فكرة الإرادة العامة تجليًا للديموقراطية بوصفها تحقيقًا للإرادة الشعبية، لكن لاقت فكرة الإرادة العامة لدى روسو معارضة شديدة من بعض المفكرين الليبراليين الذين جاءوا بعد ذلك ونظروا إليها بوصفها صورة من صور المذهب الجمعي الذي تختفي فيه معالم الفردية.

نظرية الديموقراطية عند بوبر

ارتبط إسهام بوبر في الفلسفة السياسية بعامة، وفى إعادة فهمه لمفهوم الديموقراطية بخاصة عندما وضع المسلمات الشائعة والمستقرة في الفكر السياسي التي تمر في الغالب دون مراجعة نقدية موضع التساؤل. فقد اتخذت الفلسفة السياسية منذ أفلاطون طابعًا معياريًا، إذ كان السؤال الذي طرحه أفلاطون هو: من يجب أن يحكم؟ وعلى الرغم من أن ميكيافيلي قد أضفى طابعًا وضعيًا على الفلسفة السياسية عن طريق تجنب هذا السؤال ودراسة السياسة كما هي في الواقع، إلا أن هذا السؤال قد ظل رغم ذلك سؤالًا جوهريًا لدى أغلب الفلاسفة منذ القديم وحتى الآن. فلقد رأى أفلاطون أن الملوك الفلاسفة هم الذين يجب أن يحكموا، ورأى هيجل الحاكم في الملك الفرد، في حين رأى روسو أن الحاكم هو الإرادة العامة، ورأى ماركس أنها طبقة البروليتاريا.

وقد رفض بوبر هذا السؤال لأن الحلول التي يُقدمها تبدو ظاهريًا مقبولة أخلاقيًا، لكنها في حقيقة الأمر ليست كذلك. من هنا حاول بوبر تحرير الفلسفة السياسية من هذا السؤال، لأن اهتمام الفلاسفة به -في اعتقاده- يؤدي إلى نتائج خطيرة وضارة بالنظام الاجتماعي، إذ يرى بأنه يُضفي سمة من المثالية على الحكام دون مساءلتهم ومواجهتهم، كما أنه يسعى دائمًا إلى تعزيز قوة الحكام بدلًا من أن يُعالج كيفية تقييد هذه القوة؟ يقول بوبر في هذا الصدد: “نحن لا نهتم في الأصل بمقارنة أشكال الحكومات ولا الطبقات والأجناس والأديان الخيرة والشريرة، لذا أقترح أن نستبدل بالمشكلة الأفلاطونية مشكلة أخرى تمامًا هي: هل هناك أشكال للحكومات نستهجنها لأسباب أخلاقية والعكس“(1).

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يمضي بوبر ليربط بين الديكتاتورية والفساد الأخلاقي قائلًا: “إن النظام الديكتاتوري نظام شرير من الناحية الأخلاقية، لأنه يفرض على المواطنين التعامل مع الشر ولو بالسكوت عنه ضد معرفتهم وضمائرهم وضد قناعتهم الأخلاقية، فالديكتاتورية تُعفي المواطنين من مسئوليتهم الإنسانية التي دونها لا يكون الإنسان إنسانًا”(2)، كما يعترض على التصورات السابقة الخاصة بالسؤال “من يجب أن يحكم؟” لأن هذه التصورات تفترض أن الشخص الذي يمتلك السلطة سواء أكان فردًا أم كِيانًا جمعيًا كالطبقة يستطيع فعل ما يحلو له، كما يستطيع أن يقوى سلطته، ومن ثمَّ تتحول سلطته إلى سلطة فوق المراقبة، ويُحذر بوبر من ذلك قائلًا: “لا يجب أن تكون هناك سلطة سياسية بلا فحص(3).

وثمة رأى آخر شائع ينتقده بوبر وهو المتصل بتعريف الديموقراطية بأنها حكم الشعب، إذ يرى أنه لم يحدث أبدًا أن ساد الشعب، فالحكومات هي التي تسود، لذلك فالديموقراطية ليست حكمَ الشعب، ولكنها تتطلب في المقام الأول -من وجهة نظره- وجود مؤسسات مسلحة ضد الشخص الديكتاتوري، فهي لا تسمح بأي سيادة ذات شكل ديكتاتوري أو تجمع للقوى، وبناء على هذا يُقدم بوبر تعريفًا آخر للديموقراطية يتمثل في: “إمكان التخلص من الحكومة دون إراقة دماء وذلك متى أخلت بحقوقها وواجباتها أو متى حكمنا على سياستها بأنها سياسة خاطئة وسيئة”(4).

يركز بوبر في هذا التعريف على البعد الأخلاقي لعملية الديموقراطية الحقيقية التي تبتعد عن مبدأ العنف بوصفه مبدأً مرفوضًا من الناحية الأخلاقية، فما يؤكده هو عملية إقالة الحكومة دون عنف وليس على عملية تشكيلها، ولا يهتم بوبر بكيفية تغيير الحكومة، فهي مسألة غير مهمة نسبيًا في تصوره ومن الممكن أن تحدث عن طريق الانتخابات أو عن طريق البرلمان أو المحكمة الدستورية، إذ إن أهم ما تنطوي عليه عملية تغيير الحكومة -في تصور بوبر– هي هذه القوة السالبة، أي التهديد بالإعفاء من المنصب، أما القوة الموجبة التي تكمن في تعيين حكومة ما أو رئيس لها، فهو عامل غير مهم نسبيًا.

وينتقد بوبر الأوضاع السائدة في عصره، لأنها لا تنطلق من هذه الرؤية قائلًا: “ليس هذا للأسف هو الرأي المتفق عليه، لأن تأكيد التعيين الجديد شيء خطير إلى حد ما، إذ يُمكن تفسير تعيين الحكومة بوصفه منح للناخبين الحكومة الشرعية باسم الشعب وعن طريق إرادة الشعب”([1]). كما يرى بوبر أن تعيين الحكومة الجديدة ليس أمرًا مهمًا، لأن الشعب لا يعرف الأخطاء والجرائم التي سوف ترتكبها هذه الحكومة غدًا! لهذا قدم بوبر مجموعة من المبادئ النظرية التي تضمن المحافظة على آلية عمل الديموقراطية في المجتمعات المفتوحة وهو يصوغها على النحو التالي:

مبادئ نظرية الديموقراطية لدى بوبر:

أ ـ رفض الزيادة في عدد الأحزاب

يُعارض بوبر فكرة زيادة عدد الأحزاب السياسية لا بسبب المبدأ، لكن بسبب المساوئ التي تحملها هذه الفكرة -من وجهة نظره- إذ قد تكون هناك صعوبة بالغة في تكوين الحكومة في ظل وجود أحزاب كثيرة، فالتوزيع النسبي في البرلمان ووجود أحزاب أخرى صغيرة يؤثر في تكوين الحكومة، ومن ثم في القرارات السياسية للحكومة، ويكون حل الحكومة عن طريق قرار الشعب بواسطة الانتخاب الجديد للبرلمان أمرًا صعبًا، ويُعلل بوبر هذا بما يلي:([2]).

  1. من الصعب مع كثرة الأحزاب توقع أن يُحقق أحد الأحزاب وَحْدهُ الأغلبية المطلقة.
  2. يُعد يوم الانتخاب يومًا لحكم الشعب على الحكومة، وتكون الحكومة أحيانًا حكومة أقلية، ومن ثم لا تكون في وضع يسمح لها بتحديد ما هو مهم لديها، وتكون فقط مضطرة للتنازل، وربما تكون أحيانًا حكومة ائتلافية فلا يكون أي من الأحزاب الحاكمة المكونة لها مسئولًا مسئولية كاملة.
  3. متى أرادت أغلبية الناخبين إسقاط حكومة أغلبية قائمة، فإنها لا يُمكنها تحقيق ذلك بالمرة، لأنه متى خسر حزب أغلبيته فأنه من المحتمل جدًا –وفقًا لمبدأ التوزيع النسبي- أن يتمكن الحزب الأكبر بالتعاون مع أحد الأحزاب الصغيرة من تكوين حكومة ائتلافية، ويظل الزعيم المعزول للحزب الكبير على كرسي الحكم رغم أن هذا ضد قرار الأغلبية.

لذلك يرى بوبر أن صورة النظام الذي يتكون من حزبين أفضل صور الديمقراطية، لأنه يؤدى دائمًا إلى النقد الذاتي للأحزاب، فإذا حدث وهُزمَ أحد الحزبين الكبيرين هزيمةً ثقيلةً في إحدى الانتخابات، فإن هذا يؤدى عادة إلى إصلاح جذري داخل الحزب، من هنا تتعلم الأحزاب من أخطائها. ودفاع بوبر عن نظام الحزبين لا يتعارض مع فكرة المجتمع المفتوح التعددي الذي يسمح بتعدد الآراء والنظريات المختلفة -كما يرى- إذ تكمن وظيفة الحزب السياسي في تكوين الحكومة، إما إذا كان حزبًا معارضًا فتكمن وظيفته في مراقبة أعمال الحكومة مراقبة نقدية، تسمح فيها الحكومة للآراء والأيديولوجيات والأديان المختلفة بالتعبير عن نفسها.

وتتحدد على هذا الأساس بعض الملامح الأساسية لديموقراطية بوبر التي يُمكن إجمالها فيما يلي:([3]).

  1. ينفى بوبر وصف الديموقراطية بأنها حكم الأغلبية، على الرغم من الأهمية القصوى لمؤسسات الانتخابات، وذلك لأن الأغلبية يُمكن أن تحكم بطريقة طاغية، فلقد وصل هتلر إلى الحكم بطريقة شرعية،  والقانون الذي جعل منه ديكتاتورًا قانونًا أقرته أغلبية البرلمان. من هنا لم يعد مبدأ الشرعية مبدأً كافيًا لأنه إجابة عن السؤال الأفلاطوني من يجب أن يحكم؟ لذا يجد ضرورة وضع دستور للدولة يُمكِّننا من إسقاط الحكومة دون إراقة دماء. ولم يقصد بوبر من وجود المؤسسات السياسية والاجتماعية انتخاب الحكام بواسطة المحكومين، ولكن الرقابة الدستورية على الحكام: “فالمشكلة الأساسية لدى بوبر ليست مشكلة الحكم ولا معرفة من يجب أن يحكم؟ لكنها مشكلة الحكومة ومعرفة كيف تحكم؟ فالأساس هو ألا تكون للحكومة سلطة مفرطة، وبعبارة أخرى فالمشكلة لديه هي مشكلة كيف تُدار الدولة؟”
  2. هناك نوعين من أنواع الحكومات: الحكومات التي تمتلك مثل هذا النوع من المؤسسات، والحكومات التي لا تمتلكها، أي الديموقراطية والطغيان…
  3. يجب على المؤسسات الديموقراطية المتماسكة أن تمنع نوعًا واحدًا فقط من التغيير في النظام التشريعي، وهو التغيير الذي يُمثل خطرًا على الوضع الديموقراطي.
  4. لا يجب أن تمتد حماية الأقليات في ظل النظام الديموقراطي إلى هؤلاء الذين ينتهكون القانون، وخاصة هؤلاء الذين يحرضون الآخرين على التدمير العنيف للمؤسسات الديموقراطية.
  5. للحفاظ على مسيرة الديموقراطية، يجب أن يستمر الحذر من أن هناك نوازع ضد الديموقراطية كامنة بين بعض الحكام والمحكومين.
  6. تمدنا العقلانية بأسس مهمة للإصلاحات السياسية والاجتماعية، طالما ظلت تُجيز الإصلاح دون عنف. ونحن إذا لم نضع في حُسباننا أن حفظ الديموقراطية هو الأساس الأول في أي معركة، فربما تؤدي النوازع الموجودة ضد الديموقراطية إلى انهيار الديموقراطية ذاتها.

ويرى بوبر بأن هناك عديدٌ من المبادئ تُعارض الديموقراطية، وتقدم نظريات الفلسفة السياسية تبريرًا لها فعلى سبيل المثال: يرى أن النظرية الماركسية تقوم بتشكيك العمال في قيمة الديموقراطية وتجعلها مساوية للديكتاتورية، وقد نتج عن هذه النظريات المعارضة للديموقراطية ما يلي:

  • لوم الديموقراطية على كل الشرور.
  • تعليم المحكومين أن الدولة ليست ملكًا لهم، ولكنها تخص الحكام فقط.
  • إخبار المحكومين بأن هناك طريقة واحدة لتحسين الأمور وهي الاستحواذ التام على السلطة.

والعيب الأساسي للنتائج السابقة، كما يرى بوبر وربما بحق، أنها تُنكر ما هو ضروري في الديموقراطية، ألا وهو الرقابة على السلطات وتوازنها.

ب ـ محدودية العنف

على الرغم من دعوة بوبر إلى رفض مبدأ العنف بشتى مظاهره، إلا أن الحالة الوحيدة التي يُجيز فيها استخدام العنف هو الدفاع عن المؤسسات التي تصون الديموقراطية، فالمبرر الوحيد لاستخدام العنف هو وجود الطغيان الذي يجعل من الإصلاح دون العنف شيئًا مستحيلًا. فالعنف لدى بوبر موجه من المواطنين ضد من هم في الحكم إذا أساءوا استخدام سلطتهم، وعلى الرغم من إجازة بوبر لاستخدام العنف للدفاع عن الحرية، إلا أنه يحذر من الإطالة في استخدامه، لأنه ربما يؤدى في النهاية إلى فقدان الحرية ذاتها، من هنا كان المبرر الوحيد لشرعية استخدام العنف لدى بوبر في الصراعات السياسية هو مقاومة أي هجوم على الدستور الديموقراطي، وخاصة إذا جاء من الحكومة الموجودة على رأس السلطة، ولا يقف بوبر عند هذا الحد، بل يصل إلى حق الجمهور في تجريم الحكومة فيقول: “يقوم مبدأ الديموقراطية على أن للمواطنين الحق بل الواجب أيضًا في عد أفعال الحكومة التي تُسيئُ استخدام السلطة، وتجعل من نفسها طاغية، بأنها مُجرمة، وعد أعضائها قُطاع طرق ومجرمين يجب مقاومتهم”(1).

لكن هل الديموقراطية كما عرفها بوبر تجعل للمجتمع المفتوح شكلًا سياسيًا واقتصاديًا مميزًا له عن المجتمعات الأخرى؟ في الحقيقة يقوم التصور الذي قدمه بوبر للديموقراطية في المجتمع المفتوح على تعدد الآراء والجدل الحر بينها، فالمجتمع المفتوح كما عرفه بوبر هو: “أي مجتمع قائم على فكرة عدم الاقتصار على التسامح مع الرأي المخالف، وإنما احترامه، والديموقراطية هي شكل الحكومة المُكرس لحماية المجتمع المفتوح”(2).  يتضح من هذا التعريف أن ما يهم بوبر هو ضمان حرية التعبير دون تحديد أي ملامح للنظام الاقتصادي المعمول به في المجتمع، لأن كلمة “المفتوح” يعدها بعضهم مرادفًا للنظام الرأسمالي ومبدأ: دعه يعمل دعه يمر، لكن مارك أ . نوترنو Mark A Notturno  يرى في هذا  تشويهًا لآراء بوبر، ويُدلل على ذلك بأن بوبر قد عارض المجتمع المفتوح بالمجتمع المُغلق ولم يُطابقه بأي نظام سياسي أو اقتصادي، فحقيقة الأمر كما يراه نوترنو هو أن المجتمع المفتوح لدى بوبر أقل تعلقًا بالدولة والاقتصاد، لكنه متعلق بالأفراد وحرياتهم، إذ توجد الدولة لدى بوبر، لحماية حريات المواطنين، وهو ما عَبَّرَ عنه قائلًا: “إن المجتمع المفتوح لدى بوبر ليس انتقادًا للأنظمة السياسية والاقتصادية، ولكنه انتقاد لفكرة المعصومية من الخطأ، كما أنه دفاعًا قويًا عن حريات المواطنين”(3).

ولكن إذا لم يكن المجتمع المفتوح هو مجتمع السوق فما عساهُ أن يكون؟

يُجيب نوترنو عن هذا السؤال أيضًا بأن ما يُميز مجتمع بوبر المفتوح هو تأسيسه للقوه النقدية للإنسان وعدم خضوعه للقوة السحرية التي كانت سائدة في المجتمعات المُغلقة. وما دام أن المجتمع المفتوح مرادفًا للمجتمع العقلاني، فإننا يجب أن نفهم العلم والعقلانية في ضوء مصطلحات بوبر، فالعلم ليس مؤسسة هيراركية للخبراء، ولكنه عملية لا تنتهي من حل المشاكل التي نحاول أن نفرض فيها الحلول الاختيارية لمشاكلنا، ثم نحاول بعد ذلك أن نمحو الأخطاء التي تظهر لنا، لذلك يجب أن نفكر في العقلانية ليس بوصفها وسيلة للتبرير، ولكن بوصفها وسيلةً للنقد، ويجب أن نفكر في النقد كونه واحدًا من أعظم علامات الاحترام التي يُظهرها عقل لآخر([4]).

لكننا نختلف مع نوترنو في نفيه لعلاقة المجتمع المفتوح بالاقتصاد. والحقيقة هي وإن كان مجتمع بوبر المفتوح أقل تعلقًا بهذه المسائل، إلا أنه لم يُهملها، إذ يعترض بوبر على فكرة السوق الحرة التي تبغي نزع يد الدولة من المسائل الاقتصادية، مؤكدًا ضرورة تدخل الدولة أحيانًا في بعض المسائل الاقتصادية.  فلا وجود -في التصور البوبري– لاقتصاد حر دون تدخل الدولة، لأنه إن لم يكن هناك نظام تشريعي قائم سلفًا فلا يُمكن أن تكون هناك سوق حرة. ونظامٌ كهذا -في رأيه- لا يمكن أن يقوم إلا بواسطة الدولة، لأنه في غياب القوانين لا يُمكن أن نقيم إلا الفوضى والعماء([5]).

وانطلاقًا مما سبق يمكن أن نخلص إلى ما يلي:

  1. إن المجتمع المفتوح لدى بوبر هو المجتمع العقلاني.
  2. يقوم المجتمع المفتوح على فكرة أنه يُمكن إبعاد هؤلاء الذين على رأس السلطة دون اللجوء إلى العنف، إلا في حالة استحالة الإصلاح السلمي.
  3. تتطلب فكرة المجتمع المفتوح حرية الرأي والنشر، كذلك الحرية في نقد هؤلاء المتربعين على عرش السلطة.
  4. يجب أن يكفل المجتمع المفتوح الوسائل الدستورية التي تُمكن المحكومين من تغيير هؤلاء الذين يملكون السلطة بالانتخابات الحرة المنظمة.
  5. يعتمد النظام الاقتصادي على آلية السوق مع ضرورة ضبطه من طريق نظام تشريعي تضعه الدولة.
  6. لصيانة الحرية في المجتمعات المفتوحة، دعا بوبر إلى وجود مؤسسات سياسية واجتماعية مُصممة لهذا الغرض، ويجب إجبارها على حماية الضعفاء من الأقوياء، ويصف بوبر هذه المؤسسات انطلاقًا من أهميتها فيقول: “المؤسسات مثل الروافع نحتاج إليها إذا أردنا تحقيق أي شيء سياسي عقلاني، فهي مثل الحصون التي تصون الحرية”([6]).

هكذا يتضح من ملامح المجتمع المفتوح لدى بوبر أن الأمر لا يتعلق بصياغة أيديولوجية محافظة وتبريرية للوضع الراهن، ولكنها حريصة على تغيير المجال الاجتماعي وتجديده باستمرار، وهذه السمة هي التي أراد بريان ماجي إلقاء الضوء عليها من طريق تحليله لفلسفة بوبر السياسية حين يقول: “إن ديموقراطية بوبر الاجتماعية ضد الرجعية في جانب، وضد الديكتاتورية في الجانب الآخر، لأنها فوق كل شيء فلسفة لتغيير الأشياء بطريقة عقلانية وإنسانية”([7]).

لكن لو اقتصرت الديموقراطية لدى بوبر على عنصري التغيير السلمي وحرية التعبير لكانت نظرية قاصرة لا تصلح لصياغة أغلب مناحي الحياة السياسية، ولهذا نجد بوبر يُضيف عليها عنصري المساواة والعدالة.

ج ـ المساواة

تعد فكرة المساواة قديمة جدًا، إذ نادى أفلاطون من قبل بالمساواة بين الجنسين -الرجال والنساء- ونادى أرسطو بمساواة المواطنين الأحرار، لكن كلاهما يؤكد ضرورة عدم معاملة غير المتساويين معاملة المتساويين، فقد أعتقد أرسطو أن بعض الرجال عبيد بالطبيعة، أما أفلاطون فقد أعتقد أن هناك بعض الأرواح أسمى والأخرى أقل. أما المساواة السياسية عند بركليس الأثيني فقد قامت على المساواة بين المواطنين الأثينيين، واستُثنى منها العبيد والأجانب، لكن أكتسي مذهب المساواة بثوب أخلاقي جديد لا يُفرق بين المواطنين والعبيد والأجانب على يد الرواقيين، الذين رأوا أن كل البشر متساوون لأنهم كائنات عاقلة لديها قدرة متساوية على إدراك الفضائل. فقد رأى سينكا أن الفضائل مفتوحة للكل(…) للعبد والحر والملك، لا العائلة ولا الثروة تحدد اختيارها.

وتطور هذا المبدأ في العصر الحديث على يد لوك الذي رأى أن كل الناس كانوا في حالة الطبيعة الأولى متساوين وأحرارًا وخاضعين فقط لقانون الطبيعة، لكن بسبب نازع الحفاظ على الملكية ظهرت الحاجة إلى الدولة والتنظيمات السياسية. وأُعيدت صياغة فكرة المساواة الطبيعية في فلسفة القرن الثامن عشر وفقًا لنظرية الطبيعة الإنسانية التي وضعها كوندياك Condillac وهلفسيوس Helvetius، إذ يريان أن الاختلافات والمواهب والذكاء تعود إلى الاختلاف في البيئة والخبرات، لكن البشر متساوون بالطبيعة، كما يمضي روسو ليوضح أثر الضغط المتطور للحياة في اللامساواة الاجتماعية، فقد كانت احتياجات المرء في حالة الطبيعة الأولى بسيطة، ولم يكن يحتاج إلى أن يعتمد على أي شخص سوى ذاته، ولذلك فلم يكن هناك استغلال من أحد، لكن عندما تعقدت الحياة الاجتماعية ظهرت اللامساواة الاجتماعية والاستغلال. كما أكد كانط فكرة المساواة بين البشر وعدها العنصر الأساسي لقيام الحرية، فالكل متساوون ولذلك يجب أن يتعامل المرء كونه غاية في ذاته وليس وسيلة إلى غايات أخرى. وقد تخلل هذا المبدأ الحركات الثورية العظمي في أمريكا وأوروبا وهو ما ترتب عليه إعلان مبدأ الحقوق الإنسانية في أمريكا وفرنسا(1).

هكذا وجد بوبر خلفه تراثًا فلسفيًا وسياسيًا طويلًا لتأكيد مبدأ المساواة، ولكن مع تطور الحياة البشرية وتعقد النظام السياسي أصبحت فكرة المساواة تستدعى تناولًا متعدد المستويات، وهذا ما تعكسه نظرية بوبر إذ يقدم تصورًا يجمع فيه بين:

  • مبدأ المساواة، أي إلغاء الامتيازات الطبيعية natural privileges.
  • مبدأ المذهب الفردي الإنساني الذي لا يتعارض مع حب الغير.
  • مبدأ أن غاية الدولة هي حماية حريات الأفراد.

ويناقش بوبر كل واحدة من تلك النقاط على حدة، فالمساواة لديه لا تتعلق بالملكية، ولكن ما يقصده دائما بمذهب المساواة الإنساني هو أن يُعامل المواطنين دون تحيز، وهو ما يتطلب ألا يكون للميلاد أو للصلات العائلية أو الثروة أي تأثير في هؤلاء الذين ينفذون القانون. ويستنكر بوبر أي محاولة للتمايز الثقافي أو التعليمي أو الجنسي وذلك لأن: “الفكرة الأفلاطونية القائلة بحكم الحكماء الصالحين لا بُد أن ترفض دون قيد أو شرط”([8]).

أما المذهب الفردي الإنساني فيقوم على فكرة أن الإنسان غاية في ذاته. ويربط بوبر المذهب الفردي بحب الغير وتحقيق غايات أخلاقية، وهو ما أصبح في تصوره أساس الحضارة الغربية: “فقد خلق الإنسان عالمًا جديدًا من الموسيقى والشعر والعلم، ولكن الشيء الأكثر أهمية هو العالم الأخلاقي القائم على المساواة والحرية ومساعدة الضعفاء”[9](2). وعلى هذا الأساس أضاف بوبر كثيرًا من الأبعاد السياسية والاجتماعية إلى فكرة المذهب الفردي مؤكدًا أهمية دور الأفراد في عملية التغيير السياسي والاجتماعي، وعلى المسئولية الأخلاقية للإنسان في صنع هذه القوانين، فهو ينزع عنها كل طابع إلهي مقدس إذ: “إن القوانين من صنع الإنسان بالمعنى الذي لا نلوم فيه أحدًا سوى أنفسنا عنها فلا تلعب الطبيعة ولا الله دورًا في وضع هذه القوانين وتغييرها. لذلك فمهمتنا هي تحسين هذه القوانين قدر المستطاع”(3). ونظرًا إلى إيمان بوبر بأهمية الإنسان الفرد، نجده يشن حملة مستمرة ضد أنصار فكرة المذهب الجمعي الذين لا ينظرون إلى الأفراد بوصفهم قيمة في ذاتهم، بل ينظرون إليهم بوصفهم وسائل لتحقيق غايات أهم وهي مصالح القبيلة أو الدولة، ومن ثم يُمكن التضحية بهم، وهو ما يُمثل خطرًا كبيرًا على الحرية الفردية. وقد دفع إيمان بوبر بالإنسان الفرد وقدرته على إحداث تغييرات في الأنظمة السياسية والاجتماعية إلى معارضة العبودية إيمانًا منه بمساواة البشر، حين يقول: “نحن نؤمن بالحرية لأننا نؤمن بإخواننا البشر، وذلك هو السبب في إلغاء العبودية”(4).

د ـ العدالة

أما عن فكرة العدالة فتعد قديمة قدم الحضارات الشرقية، حيث نجد جذورها في الحضارة المصرية القديمة، وكان يُرمز إليها بالإله ماعت الذي كان في الوقت نفسه إلهًا للعلم. وفى البرديات الموروثة ينصح الفرعون وزيره باتباع العدل قائلًا: “لا تنسَ أن تحكم بالعدل لأن التحيز يُعد طغيانًا على الإله(…) وعامل من تعرفه معاملة من لا تعرفه، والمقرب من الملك كالبعيد عنه”(5). كما نجد الفلاسفة اليونانيين يجعلون من العدالة قضية سياسية وأخلاقية،  فيقدم أفلاطون تصورًا للعدالة يجعلها أقرب إلى التخصص الوظيفي، فالمدينة ستكون عادلة في تصور أفلاطون إذا ظل الصانع يصنع والزارع يزرع وهكذا. ثم يقرر أرسطو بعد ذلك أن العدالة هي معاملة المتساويين بمساواة وغير المتساوين دون مساواة. كما اهتمت الشرائع السماوية بمعنى العدل والدعوة إلى تطبيقه، ففي الإنجيل تُطالعنا بعض الآيات الدافعة إلى ممارسة العدل مثل: “أيها السادة قدموا للعبيد العدل والمساواة عالمين أن لكم أنتم أيضًا سيدًا في السماوات”.( رسالة بولس إلى أهل أفسس، الإصحاح السادس آية 9 )، كما ورد في القرآن الكريم ما يدعو إلى العدل وتطبيقه: “إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي لعلكم تذكرون”.( سورة النحل : آية 90 ).

وفى العصور الحديثة أصبحت تعني فكرة العدالة في النظريات الليبرالية المساواة أمام القانون. وهو ما يتطلب الإيمان بفكرة عدم التحيز impartiality والحكم الأمين، ولا تكون العدالة بهذا المعنى مرتبطة بالأشخاص أو الثروة أو المكانة الاجتماعية social stature(1).

أما بوبر فيقصد بالعدالة ما يلي:(2)

  • توزيع متساوٍ لأعباء المواطنين، وهو ما يتطلب حدودًا ضرورية للمشاركة في الحياة الاجتماعية.
  • معاملة متساوية للجميع أمام القانون.
  • إن القوانين نفسها لا يجب أن تُحابي المواطنين أو تؤذيهم سواء كانوا أفراد أو جماعات أو طبقات.
  • نزاهة محاكم العدل.
  • مشاركة متساوية في المميزات التي تؤهل أعضاء المجتمع للعضوية بوصفهم مواطنينَ في الدولة.

ونلاحظ في هذا التصور أن بوبر يندرج ضمن فلاسفة المنظور الليبرالي للعدالة الذي يحصرها في المساواة أمام القانون وتكافؤ الفرص والأحقية في المواطنة الكاملة فحسب. وعلى الرغم من أن بوبر لم يضع أبعادًا محددة لفكرة العدالة بالمعنى الاجتماعي الدارج لها، والمُتمثل في العدالة الاقتصادية، فهذا لا يعني أنه أغفلها، بل تناولها بإيجاز شديد في المجتمع المفتوح وخصومه عندما رأى أن وظيفة الدولة العادلة هي توفير الحماية الاقتصادية للضعفاء من الأقوياء أي القيام بمهام أخلاقية. وهكذا جعل بوبر من الدولة ضامنًا للبُعد الاقتصادي للعدالة.

غاية الدولة عند بوبر

يتماشى الدور الذي حدده بوبر لغاية الدولة في المجتمع المفتوح مع تصوره للحرية الإنسانية وحدودها، فقد وقف بوبر موقفًا معتدلًا من فكرة الحرية، فلم يؤيد الحرية المطلقة، ولم ينادِ بتدخل الدولة في حريات الأفراد بطريقة أكثر من اللازم، لأن الحرية تدحض نفسها لو لم تكن محدودة، لذلك نجده يحدد وظيفة الدولة بأنها حماية حريات الأفراد بواسطة القانون بطريقة لا يكون فيها أحد تحت رحمة الآخرين، وهذه أبرز مهمة تقوم بها الدولة، وهنا يقول بوبر: “إن ما أطلبه من الدولة هو الحماية لحريتي وحريات الآخرين”(3).

ويرى بوبر أن مصطلح الحماية نفسه قد أستُخدم مرات عديدة لوصف بعض النزعات المعادية للحرية، فيقصد رجل الاقتصاد بمذهب الحماية protectionism، حماية منتجات صناعية محددة ضد المنافسة، ويقصد بها رجل الأخلاق، أن تكون هناك وصاية أخلاقية من جانب الدولة على المواطنين، لكن لا يتصل مذهب الحماية لدى بوبر بأي نزوع من النوازع المعارضة للحرية، إنه يدعم إذن النظرية الليبرالية، على الرغم من عدم اتصاله بمبدأ دعه يعمل دعه يمر: ” فالليبرالية وتدخل الدولة ليسا متعارضين، وتكون الحرية مستحيلة إذ لم تصنها الدولة”(1)، كما يرى بوبر أن شرعية وجود الدولة مرتبطة أشد الارتباط بطرح السؤال الآتي: ماذا نريد من الدولة؟ وعندما نحدد مطالبنا الأساسية نسأل بعد ذلك السؤال الآتي: لماذا نفضل أن نعيش في دولة منظمة ولا نعيش في حالة فوضوية؟  نستطيع أن نستنتج مما سبق أن هدف بوبر الأساسي هو الوصول إلى مجتمع ديموقراطي خالٍ من العنف، لذا دعا إلى ضرورة التخلص من الحكومات الفاسدة دون إراقة دماء، ولتحقيق هذا الغرض وضع بوبر تصورًا للإصلاح الاجتماعي يُمكن تطبيقه في ظل المجتمعات الديموقراطية المفتوحة بوصفها أحد تجليات الديموقراطية الحقيقية بالمعنى الذي قصده بوبر، والذي أشرنا إليه آنفًا، محاولًا تفادي الأخطاء التي وقعت فيها التصورات السابقة للإصلاح الاجتماعي، وبخاصة الإصلاح القائم على العنف.

بوبر وتصوره عن لإصلاح الاجتماعي في إطار الديموقراطية

تعد مسألة الإصلاح الاجتماعي من المسائل بالغة الأثر في تاريخ الفكر الإنساني بعامة، والتاريخ الفلسفي السياسي والاجتماعي بخاصة، فلا يكاد يخلو عصر من العصور من بعض المحاولات الفكرية التي تدعو إلى الإصلاح الاجتماعي، وعلى الرغم من اتفاق عديدٍ من المفكرين والفلاسفة على ضرورة الإصلاح وأهميته، إلا أنهم اختلفوا في تصورهم لطريقة الإصلاح نفسها، إذ نجد أن أغلب الفلاسفة والمفكرين ينزعون نزعة كُلية تستهدف التغيير الجذري، أي أنهم إذ ما وجدوا أي نوع من أنواع الفساد السياسي والاجتماعي، نراهم يدعون إلى تغيير كل المجتمع بما في ذلك أنظمته ومؤسساته السياسية والاجتماعية القائمة، ويحاولون تقديم صورة جديدة لمجتمع  يكاد يخلو من كل الشرور الاجتماعية والسياسية.

كان أفلاطون أبرز من مَثَّلَ هذا التصور في العصر القديم، فجمهوريته المثالية محاولة لتفادى ما ظنه عيوب بالمجتمع الأثيني، فقد رسم لنا صورة للمجتمع خالية من كل الشرور، بل نجده يمضي لأبعد من ذلك حينما يتدخل في طرق التربية والتغذية لموائمة المجتمع الجديد الذي تصوره. وكان ماركس أبرز من مَثَّل هذا الاتجاه الإصلاحي الجذري في العصر الحديث الذي تَمثَّل في دعوته إلى المجتمع الشيوعي الذي يخلو من شرور المجتمع الرأسمالي وبخاصة الصراع بين الطبقات.

أما في الجانب الآخر فهناك بعض المفكرين الذين ينادون بضرورة التغيير الاجتماعي، لكن طريقتهم في إحداث التغييرات تختلف عن الطرق السابقة، فهم يبدأون من الواقع وليس من الخيال، يدركون المشاكل الاجتماعية والسياسية الموجودة في الواقع الاجتماعي، ويحاولون إصلاحها قدر المُستطاع، ويختلف هؤلاء عن أصحاب الطريقة السابقة في أنهم لا ينادون بضرورة تغيير المجتمع ككل لتحقيق الخير، بل يزداد تواضعهم إلى درجة الاكتفاء بإزالة الشرور الموجودة، كي نستطيع أن نقترب أكثر من الخير. وقد تبنى هذا الاتجاه عديدٌ من المفكرين والفلاسفة مثل: بوبر الذي أثر بدوره في بعض المفكرين المعاصرين له مثل النمساوي فون هايك والإنجليزي أشعيا برلين.

إقرأ أيضًا: دنيوية النظرية السياسية لدى المعتزلة من طريق محمد عمارة

وكان بوبر أبرز من رسم الخطوط العريضة لطريقة معالجة الشرور الموجودة بدلًا من الدعوة إلى تأسيس المجتمع المثالي، وقد أطلق بوبر على طريقته تلك في الإصلاح اسم الهندسة الاجتماعية الجزئية piecemeal social engineering أو الإصلاح التدريجي. ويفرق بوبر في هذا الإطار بين مصطلحين أساسيين هما: الهندسة الاجتماعية الكلية utopian social engineering أو اليوتوبيا، والهندسة الاجتماعية الجزئية أو الإصلاح التدريجي القائم على تبنى سياسة الخطوة خطوة في الإصلاح، ويترتب على تبنى كل منهما نتائج مختلفة تمامًا سوف نُشير إليها فيما بعد.

يُعرف بوبر الهندسة الاجتماعية بعامة بأنها: “تخطيط النظم وإنشاءها بقصد العمل لإيقاف التطورات الاجتماعية أو التحكم فيها أو الإسراع بها”(1)، ولا يُعد هذا التعريف صالحًا لتوصيف النزعات الطوباوية والجذرية في المجتمع لأنه يتضمن القدرة على التحكم في التطورات الاجتماعية، في حين يُنكر أنصار الهندسة الاجتماعية الكلية قدرة الفرد على التدخل في مسار عملية التغير الاجتماعي، وهو ما يرتبط أشد الارتباط باتجاه أنصار النزعة التاريخية.

أ – ارتباط الهندسة الاجتماعية الكُلية بالنزعة التاريخية

يرى بوبر أن هناك علاقة وثيقة الصلة بين الهندسة الكلية -التي هي مرادفة عنده لليوتوبيا- والمذهب التاريخي، مؤكدًا أن العنصر الأقوى في هذا التحالف المعقود بين المذهب التاريخي والنزعة الطوباوية يكمن في تبنى الاتجاه الكلي الذي يشتركان فيه. وإذا كان المقصود بالمذهب التاريخي هو أن التاريخ في تطوره يخضع لقوانين محددة، فالمقصود بالهندسة الكلية التدخل للتغيير الكلى، إلا أن هناك صلة بينهما وهي أن أنصار المذهب التاريخي – في تصور بوبر – لا يهتمون بتطور بعض جوانب الحياة الاجتماعية فقط، وإنما يهمهم تطور المجتمع ككل، كذلك ينزع المهندس الطوباوي نزعة كُلية مماثلة، فكلاهما يغفل حقيقة مهمة وهي أن الكل بهذا المعنى لا يصلح البتة أن يكون موضوعًا للبحث العلمي، وكلاهما يُصران على رفضهما لطريقة الترقيع الجزئي أو التغير التدريجي(2).

ولا يقف بوبر عند هذا الحد، بل يمضي ليوضح مدى تأثر صاحب المذهب التاريخي وصاحب النزعة الطوباوية بتجربة التغير الاجتماعي، فيرى أن تلك التجربة تسبب لكليهما الانزعاج الشديد في بعض الأحيان، لذلك يلجأ كليهما لتفسير هذا التغير تفسيرًا عقليًا وفق ما يتصورا، فيتنبأ الواحد منهما بمستقبل مجرى التطور الاجتماعي، ويلحُّ الآخر في وجوب التحكم في التغير تحكمًا شاملًا دقيقًا، بل في وجوب إيقافه تمامًا، ومن الواجب في تصورهما أن يكون التحكم شاملًا، لأنه إن أهمل التغير جانبًا واحدًا من جوانب الحياة الاجتماعية، فربما تشتعلُ فيه نيران القوى الخطرة التي تعمل لترجيح التغيرات غير المرتقبة. وثمة أمرٌ آخر يجمع بينهما، وهو اعتقادهما معًا بأن أهدافهما أو غايتهما ليست موضوعًا للاختبار أو للحكم الأخلاقي، وهو ما يدعوهما إلى الاعتقاد بقدرتهما على اكتشاف أهداف المجتمع أو غاياته الحقيقية، لذلك يؤكد الكُّتاب الداعين إلى التخطيط الطوباوي أن الاتجاه الذي يسير فيه التاريخ يجعل التخطيط أمرًا لا مفرَّ منه، وأننا لا مهرب لنا من وضع الخطط الكُلية شئنا ذلك أم لم نشأ.

ولكن تلك الخطط الكُلية في نظر بوبر لا يُمكن أن تحدث تُغيرات مهمة، بل ربما تؤدى إلى الديكتاتورية، لأنها ترمي إلى احتلال المواقع الرئيسة في المجتمع، وتعمل لتوسيع سلطة الدولة حتى تصير الدولة والمجتمع شيئًا واحدًا تقريبًا: ” فالتخطيط الذي يقدمه أنصار المذهب التاريخي يفترض إمكان التنبوء بأحداث التاريخ، وهذه النزعة تُخفي داخلها بذور المذاهب الشمولية، لأن غاية التخطيط عند هؤلاء هو تركيز السلطة التي تجعل هناك رقابة سلطوية في كل المؤسسات والأفراد، لذلك فالتخطيط الاجتماعي الكلى وهم يؤدي إلى تدمير الحرية وظهور الممالك الديكتاتورية”(1).

ويتفق مع بوبر في هذا الرأي الفيلسوف والمفكر الاقتصادي النمساوي فون هايك Von Hayek  الذي يؤكد أيضًا أن التخطيط الكُلي يهدف إلى قتل النزعة الفردية الإنسانية من أجل المجتمع، فيقول: “إن المُخططين الاجتماعيين يختلفون عن الليبرالية والنزعة الفردية في الرغبة في تنظيم المجتمع بأسره وكل موارده من أجل الغاية الوَحْدوية، ورفض الاعتراف بالمجالات الاستغلالية التي تكون فيها غايات الأفراد أكثر أهمية، فهم بإيجاز شموليون بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة”(2). ولا يسمع المهندس الكُلي أو الطوباوي -في تصور بوبر–  بسهولة إلى الشكاوى بخصوص ما شرع في بنائه، بل سيكون قمع الاعتراضات جزءًا أساسيًا من عمله، لذلك فإن عملية إعادة بناء المجتمع كله هي التزام كبير وتُسبب إزعاجًا ذا شأن عظيم للأكثرية، لأنها سوف تستغرق فترة زمنية كبيرة(3)، لذلك لا يوافق بوبر على الإصلاح الناجم عن سياسة الهندسة الاجتماعية الكُلية لأنها طريقة مليئة بالعيوب .

ب ـ عيوب الهندسة الاجتماعية الكلية 

يذهب بوبر في نقده لأنصار الهندسة الاجتماعية الكلية إلى توضيح ما يعده أوجه القصور التي تتسم بها تلك الطريقة وما يقترن بتطبيقها من قسوة وتصلب، إذ يكون اختيارها للأفعال عشوائيًا وتنفيذها خاليًا من الحنكة، فتأتى مُجردة من طابع الحيطة والنقد الذاتي، لذلك فتلك الطريقة -عند بوبر-  مستحيلة التطبيق من الناحية العملية، إذ كلما كثرت التغيرات الكلية التي يحاول المهندس الكلي تحقيقها، أدى هذا به إلى الإتيان بأعمال لم يَقصد الإتيان بها، وهو ما يؤدى إلى الظاهرة “سيئة السمعة”: ظاهرة التخطيط الذي لم يُسبق تخطيطه. فالرسوم الكلية التي يعرضها المهندس الاجتماعي الكلي لا تنهض على أساس من التجربة العملية، كما لا ينطبق مفهوم التجربة بالمعنى العلمي المعروف على محاولات الهندسة الكلية في التغيير إذ “لا تُسهم التجارب الكلية بقدر كبير في معرفتنا، بل لا يمكن عدها تجارب إلا بمعنى العمل الذي لا ندري نتائجه على وجه التحقيق”(1).

لذلك ينتقد بوبر تلك الأقاويل التي تزعم إننا نستطيع أن نتعلم من التجارب الكلية، لأن هناك استحالة منطقية في تحقيق التجارب الكلية بالمعنى الذي يتطرق إلى حد تكوين المجتمع كله من جديد، والنقطة الرئيسة التي ينطلق منها بوبر هي أنه إذا كان من العسير علينا أن نتخذ موقفًا نقديًا من أخطائنا فيستحيل علينا الاحتفاظ بموقف نقدي إزاء ما نقوم به من أعمال تمسُّ حياة الكثيرين من البشر، كما يأخذ بوبر على أنصار التغيير الكلي عدم تسامحهم في مناقشة الخطط الكلية ونتائجها مناقشة حرة، لذلك فكل محاولة للتخطيط على نطاق واسع هي في تصور بوبر عمل أهون ما يوصف به أنه يتسبب في كثير من المضايقة لكثير من الناس لمدة طويلة من الزمن، ومن ثم فسيكون هناك دائمًا ميل إلى قمع الآراء المعارضة وخاصة النقد العقلاني لهذه المخططات، لكن العمل على كبت التعبير عن عدم الرضا من شأنه أن يُجرد التعبير عن الرضا من أهميته ولو كان بالغ الحماسة. وهكذا يصعب تبين الوقائع، أي ما يترتب على الخطة المرسومة من أثار تلحق بأفراد المواطنين، ودون هذه الوقائع يستحيل النقد العملي(2).

ويقرن بوبر بين عدم الخضوع للنقد واللجوء إلى العنف، إذ يراهما نتيجتان متلازمتان تترتبان على الهندسة الكلية، فيقول: “لا يُمكن إدراك المخططات الطوباوية بالطرق العلمية، فالمخططات الطوباوية التي تهدف إلى تحقيق المدينة المثالية بوصفها هدفًا في ذاته يجب أن تخدمه كافة الأفعال السياسية عادة ما تؤدى إلى العنف. وما دمنا لا نستطيع أن نحدد الغايات النهائية للأفعال السياسية تحديدًا علميًا أو بتبني المناهج العقلانية الخالصة،  فإن الاختلاف بخصوص فكرة الدولة المثالية لا يُمكن حله بالمناقشات العقلية”(3).

ويشير بريان ماجي Bryan Magee  إلى أن هذا التناول يجعل بوبر من أنصار الفلسفة السياسية الوضعية التي تنطلق من المشاكل الموجودة في مواجهة الفلسفة السياسية المعيارية التي تهتم بما ينبغي أن يكون: ” فالشيء الذي يوصينا به بوبر دائمًا هو أن نمحو المخططات الكلية، وبدلًا من أن نؤسس اتجاهاتنا على أفكار المدينة المثالية التي لا توجد والتي لا يمكن أن توجد، يجب البدء بالحقائق الاجتماعية التي نجد أنفسنا فيها، كما يجب فحص هذه الحقائق نقديًا لاكتشاف ما بها من أخطاء، لكي يمكن لنا تحسينها”(4).

ولهذا يفترض بوبر ما يُمكن أن يُسمى منهجًا لإدارة التغيرات، يقوم هذا المنهج على الخطوات التالية : P1 — TT — EE — P2 فـ P1 هي المشكلة التي نبدأُ منها، TT هي النظرية التجريبية المؤقتة Tentative Theory وهي حل تفنيدي تخيلي نصل له في البداءة، EE هي محو الأخطاء Error Elimination وتتطلب تلك الخُطوة الفحص النقدي لتفنيدنا وتشمل أيضًا فحص الأدلة والفروض، حتى نصل إلى P2 وهي المشكلة الثانية التي انبثقت من محاولتنا النقدية لحل مشاكلنا، لذلك فهناك حاجة ماسة إلى المراجعات الدائمة لأهدافنا السياسية. فشعار بوبر الأساسي في الإصلاح هو “أينما تريد أن تذهب فيجب أن تبدأ من المكان الذي تقف عنده”(1).

لكن هذه الحملة على الهندسة الاجتماعية الكلية المرادفة لليوتوبيا عند بوبر، ربما تُقدم تفسيرًا قاصرًا ومشوهًا لليوتوبيا، التي تلعب في نظر بعضهم دورًا إيجابيًا في تكوين الوعي السياسي والإصلاح الاجتماعي. فهناك بالفعل عديدٌ من المفكرين الذين يؤكدون أهمية وجود الاتجاه الطوباوي وضرورته في الإصلاح، إذ يؤكد رسل جاكوبي Russell Jacoby أن فزع العالم الحديث يُمكن أن يُعزى إلى أعداء اليوتوبيا المتعصبين للقومية والدين وأصحاب الرؤية القاصرة للمستقبل(2).

كما يرى لويس مارين  Louis Marin أن هناك فائدة عظيمة لليوتوبيا في الإصلاح الاجتماعي، إذ تُمثل اليوتوبيا لديه نقدًا للأيديولوجيا السائدة، لأنها تهدف إلى إعادة بناء المجتمعات بوسائل الإزاحة والاعتراض على الأبنية الموجودة(3). أما كريشان  Krishan فيعتقد أن اليوتوبيا لا يُمكن أن تختفي ما دام أن هناك استمرارية للجنس البشرى، بل يُنادي بإعادة إحياء الأشكال الطوباوية حتى تلك التي لا يمكن تنفيذها، فاليوتوبيا في تصوره مرتبطة أشد الارتباط بالنزعة الإنسانية، كما أنها تلعب دورًا مهمًا في إعادة تقديم المسيرة التاريخية والأماني البشرية: “فعالم دون يوتوبيا هو عالم دون أماني اجتماعية”(4). كذلك يعترف أوسكار وايلد بأهمية التفكير اليوتوبي قائلًا: “إنه لا توجد خريطة للعالم ما لم ننظر بعين الاعتبار إلى دولة اليوتوبيا”(5).

تتفق الآراء السابقة مع ما ذهب إليه كارل مانهايم Karl Mannheim إذ يرى أننا يجب أن نفهم اليوتوبيا بوصفها اتجاهًا عقلانيًا دائمًا مثل القوة الديناميكية التي تُعارض الطبيعة الإستاتيكية للإيديولوجيا والنظام، لذلك يتصور مانهايم أن كل إصلاح في بداءته هو يوتوبيا، فلقد حررت اليوتوبيا الوعي الفردي من الخضوع والطاعة للتقاليد وللسلطة، بل تمضي اليوتوبيا أبعد من ذلك حين تمجد الثورة تحت اسم الحقوق التي لا تُلغى(6).

ومما سبق نستطيع أن نرى أن اليوتوبيا قد لاقت من التأييد أكثر مما لاقت من المعارضة، فالحياة في نظر الطوباويين لا يمكن أن توجد دون تبنى يوتوبيا ما تدفع مسيرة التقدم التاريخي إلى الأمام، لكن بوبر يرفض جدوى اليوتوبيا في الإصلاح مؤكدًا وجود عيب في بنية اليوتوبيا نفسها التي تتسم بما يلي:

  1. التعصب الشديد لفكرة الخيرات المجردة.
  2. عدم قبولها للتفنيد والدحض (مثلها مثل العلم الزائف).
  3. عدم سماع القائمين على تطبيقها للآراء المعارضة، بل العمل لكبت هذه الآراء.
  4. عدم انطلاقها في خُطتها الإصلاحية من الواقع، بل من المثال.

ويتفق مع بوبر في رفض تبني الموقف الطوباوي في الإصلاح ج.س. دافيس J.C.Davis إذ يرى أن الكتابات الطوباوية أصبحت عمياء عن رؤية الحقائق، فهي لا تحمل معيارًا ملائمًا للتمييز بين التأملات والحقائق السياسية، لذلك فهي مُفارقة للموقف الاجتماعي ولا تبدأ منه(1).

لكننا وإن كنا نتفق مع كارل مانهايم في تعريفه لليوتوبيا بأنها كل فكر اجتماعي يسعى في تغيير المجتمع في المستقبل، فإننا نختلف مع أنصار الإصلاح الكُلي الذين يريدون إصلاح المجتمع كله، فخطورة اليوتوبيا تكمن -في تصورنا- حين يتحول المؤمنون بها إلى متعصبين يبغون تحقيق أهدافهم دفعة واحدة، ويسعون، كي يحققوا أهدافهم إلى التغيير الكلي، بل يصل تطرفهم إلى أبعد من ذلك حين يسعون إلى أن يستبدلوا بالبشر الموجودين في الواقع بشرًا آخرين، كي يتلاءموا مع مخططاتهم الطوباوية، ولا يعني هذا إننا ضد اليوتوبيا في ذاتها، لأننا لا نستطيع أن ننكر الدور الذي لعبته الأفكار الطوباوية في بداءة عصر النهضة، وما أدت إليه من قيام حركات تحررية مهمة مثل الثورتين: الفرنسية والأمريكية التي حاولتا إرساء مفاهيم الحرية والمساواة والعدالة، ووضعتها موضع التطبيق. إن اليوتوبيا إذن -حسبما نرى- ضرورية كنبع نستلهم منه أفكار التقدم والحرية والعدالة، ويمكن أن تكون محركًا يملأ الناس بالحماس لإحداث تغييرات جزئية، لكن تكمن خطورتها -كما ذكرنا- في محاولة تطبيقها من طريق استيلاء مجموعة على السلطة ومحاولة فرضها بالقوة.

وما يجب أن ننوه إليه هو أن بوبر لم يكن رغم نقده لليوتوبيا، محافظًا رجعيًا يكره التغيير، بل كان على العكس ينشده ويدعو إليه. ولما كان قد وصف اليوتوبيا بأنها الهندسة الاجتماعية الكلية، فيمكن أن نخمن انحيازه للهندسة الاجتماعية الجزئية ودفاعه عنها.

ج ـ جدوى الهندسة الاجتماعية الجزئية

المهندس الاجتماعي الجزئي -في تصور بوبر- مثله مثل سقراط، يعلم أنه لا يعلم إلا القليل، وهو يعرف أن أخطائنا هي سبيلنا الوحيد إلى التعلم، ومن ثم فهو يلتمس طريقه خُطوة بخُطوة، إذ يقارن النتائج التي كان يتوقعها بالنتائج التي تحققت بالفعل، إضافة إلى هذا فهو يرتقب على الدوام ظهور النتائج التي لا يرغب فيها والتي لا مفر منها في كل إصلاح، كما أنه لا يُقدم على الإصلاحات إذا كانت من التعقيد وسعة النطاق، إذ يمتنع عليه التمييز بين العلل والمعلولات المتشابكة فيها، فيمتنع عليه نتيجة لذلك إدراك ما هو بسبيل القيام به على حقيقته. فالترقيع الجزئي المُقترن بالتحليل النقدي -كما يرى- هو سبيلنا الرئيس إلى النتائج العملية في العلوم الاجتماعية والطبيعية معًا، ذلك أن تطور العلوم الاجتماعية كان إلى حد بعيد نتيجة لنقد المقترحات التي قُصد بها الإصلاح الاجتماعي، وتكمن جدوى الهندسة الجزئية لدى بوبر في استخدامها لطريقة المحاولة والخطأ، والمحاولة هنا –كما يتصورها بوبر– لا تعني الاكتفاء بتسجيل المشاهدات فحسب، وإنما هي المحاولات الإيجابية لحل مشكلات معينة يزيد حظها أو ينقص من التحديد والفائدة العملية.

ولا يجب أن يتوقع المهندس الجزئي الوقوع في الخطأ، وإنما عليه أن يتعلم كيف يُفتش عن تلك الأخطاء عامدًا، فالطريق الوحيد للاقتراب من المنهج العلمي في السياسة -كما يرى- هو التسليم في أعمالنا بأنه لا يُمكن القيام بعمل سياسي خالٍ من العيوب: “إن الترصد للأخطاء والعثور عليها والكشف عنها وتحليلها والتعلم منها هو ما ينبغي أن يفعله السياسي العلمي والعالم السياسي على السواء، فالمنهج العلمي في السياسة يتطلب أن نطرح عنا ذلك الفن العظيم الذي نوفق بواسطته إلى إقناع أنفسنا بأننا لم نقترف خطأ من الأخطاء”(1). فالهدف إذن من فكرة الهندسة الاجتماعية الجزئية عند بوبر هو الكشف عن أعظم الشرور الاجتماعية ومقاومتها، ولكنها لا تعني البتة الكشف عن الخير الأقصى والكفاح من أجل تحقيقه، فالكفاح المنظم ضد العيوب وأشكال الظلم والاستغلال وما يمكن تجنبه من ألوان الشقاء كالفقر والبطالة مختلف جد الاختلاف عن محاولة تحقيق خُطة مثالية للمجتمع المثالي البعيد، فبتبني الطريقة الجزئية يسهل تبين مقدار النجاح والفشل، كما أنه ليس من طبيعة هذه الطريقة أن تؤدى إلى تكديس السلطة وقمع النقد.

هكذا نجد أنفسنا أمام طريقتين على طرفي نقيض، يُجمل بوبر الاختلاف بينهما قائلًا: “تتبنى طريقة المهندس الجزئي منهج البحث عن المشاكل الأكثر إلحاحًا في المجتمع والمحاربة ضدها، بدلًا من طريقة البحث عن الأهداف الجوهرية والمحاربة من أجل تحقيقها، وهذا الاختلاف بعيد عن كونه اختلافًا لفظيًا، وإنما يُمثل في الحقيقة الاختلاف بين الطريقة العقلية لتحسين مستوى الإنسان، والطريقة التي من الممكن أن تؤدِ إلى زيادة المعاناة الإنسانية بدرجة لا تطاق، وهو أيضًا الاختلاف بين الطريقة التي يُمكن أن تطبق في أي لحظة، والطريقة التي يؤدي تأييدها لأن تصبح وسيلة للإرجاء المستمر حتى آخر الأيام عندما تصبح الظروف ملائمة، وهو أيضًا الاختلاف بين الطريقة الوحيدة لتحسين وتقدم الموضوعات والتي ستصبح ناجحة في أي وقت من الأوقات وفى أي مكان، والطريقة التي أدت فقط إلى استخدام العنف بدلًا من العقل”(2).

وتتفق ماريا لويزا برنيري Marie Louise Berneri مع بوبر في ضرورة إزالة الشرور الموجودة بدلًا من البحث عن الخيرات المُجردة، فعصرنا هو عصر التسويات والحلول الوسطى والسعي في جعل العالم أقل شرًا، فهي ترى أننا: “لم نعد نبحث عن حلول جذرية لشرور المجتمع، بل لإصلاحه، ولم نعد نسعى في إلغاء الحروب، بل لتجنبها، إننا لا نحاول إلغاء الجريمة، وإنما نكتفي بإصلاح القوانين الجنائية، ولا نحاول إلغاء المجاعة، بل نسعى في إنشاء مؤسسات خيرية عالمية على نطاق واسع”(3).

ولهذا تهتم الهندسة الاجتماعية الجزئية بوضع مخططات للمؤسسات الفردية كالصحة والتأمين ضد البطالة وإصلاح التعليم، والجدير بالاعتبار في هذه الطريقة كما يرى بوبر، هي قدرتها على تفادى الأخطاء واحتواء عواقبها، إذ لو صارت كل واحدة من تلك المؤسسات في الطريق الخاطئ فلن تكون الخسارة كبيرة جدًا ولن يكون إعادة إصلاحها صعب جدًا لأنه: “من السهل أن نصل إلى اتفاق عقلي بخصوص الشرور الموجودة، ووسائل النضال ضدها، أسهل مما نصل إلى فكرة الخير المثالي ووسائل إدراكه، فمن السهل أن نتغلب باستخدام الطريقة الجزئية على أعظم الصعوبات العملية لإعادة الإصلاح السياسي والاجتماعي، فباستخدام تلك الطريقة سيكون هناك إمكان للوصول إلى تسويات معقولة، وهو ما يؤدى إلى حدوث تقدم وتحسن للطرق الديموقراطية”(1). فالميزة المهمة في هذه الطريقة -لدى بوبر- هي أنها تسمح بالتعديلات المستمرة من طريق تطبيق طريقة المحاولة والخطأ على أفعالنا السياسية، إذ يمكن تغيير الهيكل التشريعي ببطيء لإحداث تسهيلات في عملية الإصلاح(2).

في الحقيقة ارتبطت طريقة بوبر في الإصلاح مع تصوره لهدف السياسية العامة، لأن هدف السياسة العامة -كما يراه-  ليس بلوغ السعادة القصوى، بل الحرب ضد البؤس والمعاناة، لأن هذا -في رأيه- هو الفرض الأكثر اعتدالًا وواقعية، في حين ينبغي أن يُترك مبدأ زيادة السعادة للمبادرات الخاصة، لأن: “الطرق الجديدة للسعادة طرق نظرية وأشياء غير حقيقية، ومن الصعب أن نِّكون رأى قاطع عنها، لكن البؤس من الأشياء الموجودة معنا، فدعونا نجعل مهمتنا هي الضغط على الرأي العام بالأفكار البسيطة، لأنه من الحكمة أن نعمل لإزالة الشرور الاجتماعية social evils الموجودة والمُلحة واحدة بعد الأخرى هنا والآن، بدلًا من محاولة إرضاء أجيال قادمة لأوقات بعيدة وربما إلى الأبد بأهداف الخير الأعظم التي لا يُمكن إدراكها”(3).

ويُمكن ترجمة ذلك في إطار السياسة العملية، فمثلًا الحرب من أجل إزالة الفقر بالطرق المباشرة قد تعنى ضرورة التأكد من أن كل فرد لديه الحد الأدنى من الدخل، كما تعنى أيضًا شن الحرب على الأوبئة والأمراض بتشييد مدارس ومستشفيات للطب. فمهمة الجيل كما يتصورها بوبر ليس البحث عما يُرضي أجيال المستقبل بقدر البحث عما يُحقق سعادة الجيل الحالي. وهنا يضع بوبر قائمة بما يعتقد أنه أعظم الشرور التي يُمكن علاجها بواسطة التعاون الاجتماعي ومن خلال طريقة الهندسة الاجتماعية الجزئية وهذه الشرور هي:(4).

  1. الفقرpoverty.
  2. البطالة unemployment وبعض أشكال عدم الأمن الاجتماعي social insecurity.
  3. المرض sickness والألم pain.
  4. بعض أشكال من العبودية serfdom.
  5. التمييز العنصري racial discrimination والديني.
  6. نقص الفرص التعليمية educational opportunities.
  7. التفاوتات الطبقية العميقة.
  8. الحروب.

ويؤكد بوبر أن عديدًا من هذه المشاكل -في عصره بالطبع- قد أُقِلَّ من احتدامها حتى وصلت إلى الحد الأدنى، ليس فقط في دولة الرفاهة في بريطانيا، لكن في كل أرجاء العالم الحر، فمحاربة الفقر قد حققت إنجازات لا بأس بها، وأصبح الفقر ظاهرة محدودة بعد أن كان متفشيًا، كما نجح الكفاح ضد العبودية والتمييز العنصري والديني نجاحًا كبيرًا. وما تزال مشكلة نقص الفرص التعليمية مشكلة جادة وإن كانت تُبذل فيها عديدٌ من الجهود. كما تضاءلت مشكلة التفاوت بين الطبقات تضاؤلًا هائلًا في كل مكان. ويستشهد بوبر على ذلك بمجموعة الدول الإسكندنافية والولايات المتحدة وكندا واستراليا، حيث نجد صورة المجتمع فيها تقترب من المجتمع اللاطبقي. أما بخصوص فكرة الحروب مثلما يرى بوبر فأنه منذ حرب البوير Boer War فليس هناك إحدى الحكومات الديموقراطية للعالم الحر كانت في موقف كسب الحرب بدافع العدوان، لأن هذا أصبح لديها شيئًا مستحيلًا أخلاقيًا(1).

لكن على الرغم مما أبدته هذه الطريقة من جدوى في معالجة المشاكل الاجتماعية والسياسية المحلية والدولية، إلا أنها لا تتفق ومزاج كثيرٍ من السياسيين الذين ينظرون إليها بوصفها طريقة مفرطة في التواضع، فنجد وايلد على سبيل المثال يعترض على فكرة الهندسة الاجتماعية الجزئية عند بوبر مُبينًا ما تنطوي عليه من تناقضات كامنة في داخلها، فيسأل وايلد: كيف يُمكن للناس أن يصلوا إلى اتفاق عن ماهية الشرور الموجودة دون أن يصلوا في الوقت نفسه إلى اتفاق عن ماهية الخير؟ وكيف يُمكن للناس أن يعملوا تدريجيًا وببطء لتحسين الظروف الصعبة دون أن يتعهدوا بتبني بعض الرؤى العامة للخير البشرى والمجتمع الخير؟(2).

كما يربط  أنطوني أوهير  O’Hear بين الهندسة الاجتماعية الجزئية وعدم القدرة على التنبؤ، وهو ما ينتج عنه عدم قدرة الطريقة الجزئية على إنجاز أهدافها، إذ تفترض تلك الطريقة أن الأهداف العامة للمجتمع ومؤسساته قد وُفِقَ عليها بدرجة كبيرة بواسطة أعضاء المجتمع، وهذا مستحيل في تصور أوهير، بالإضافة إلى هذا ينتقد أوهير موقف بوبر ودعوته المستمرة إلى التخلي عن العنف ودعم الإصلاحات الجزئية فيقول: “على الرغم من أن بوبر لم يستثنِ إمكان الحاجة إلى الثورة في الأحداث الصعبة، إلا أنه لم يضع في حسبانه إمكان وجود حالات يكون فيها تحمل  المعاناة المتضمنة في الثورة أفضل بكثير من البؤس الموجود، فكيف يُمكن التعامل إذن مع تلك الورطة؟”(3). ويُجيب أوهير عن هذا السؤال بنفسه مُعترضًا على طريقة المحاولة والخطأ التي تتبناها طريقة الإصلاح الجزئي قائلًا: “إننا في ظل هذه الظروف لا نحتاج إلى مجتمع مفتوح نكون ملتزمين فيه بطريقة المحاولة والخطأ، ولكننا نحتاج بالأحرى في ظل هذه الظروف إلى العنف”(4). كما يرفض سوريل طريقة الإصلاح التدريجي عند بوبر، فهذه الطريقة -في نظره- لا يُمكن أن يترتب عليها أي تغير على الإطلاق، ذلك أن التنازلات التي يقدمها ذوو الامتيازات للمحرومين والمقهورين سرعان ما يستعيدونها بطريقة أو بأخرى بعد أن تكون قد أدت دورها في تهدئة مشاعر المحرومين وامتصاص شحنة الغضب من نفوسهم.

إلا أن كينث مينوج وأنطوني دى كرسبني يعترضان على رأى سوريل فيشيران إلى أن تلك الطريقة قد لعبت دورًا مهمًا في التغلب على بعض المشاكل الاجتماعية. “إن نظرة واحدة فاحصة إلى آراء سوريل سرعان ما يتبين بطلانها، صحيح أن إجراءات الإصلاح التدريجي لم تفلح في القضاء على مظاهر التفاوت في القوى والدخل والثروات، ولا يبدو أنها ستفلح في هذا، بيد أنه لا بُد لنا من الاعتراف بأن كثيرًا من أوجه الظلم والشرور قد أمكن التغلب عليها دون عنف ثوري، وفى مقدمة هذه المظالم علاقات الرق والعبودية تلك التي أمكن القضاء عليها في كثيرٍ من الدول عن طريق التشريعات التدريجية”(1).

وهناك عديدٌ من الشواهد التي تُبين بالفعل جدوى الهندسة الاجتماعية الجزئية، ولهذا ظهر عديدٌ من المفكرين الذين قد أكدوا أهمية تلك الطريقة ويرون فيها طريقة إنسانية جاءت متسقة مع نظرية بوبر في المعرفة، ومن بينهم هانس ألبرت Hans Albert الذي يقول: “تتصل فكرة التخطيط المركزي مع نظرية المعرفة التقليدية القائمة على مبدأ الحقيقة الواضحة بذاتها، في حين تتصل فكرة بوبر عن إزالة الشرور مع نظريته في المعرفة التي تقوم على التفنيد والدحض والنقد وهذا هو الشيء الأكثر إنسانية”(2).

كما توضح لويزا ماريو فارجاس Loisa Mario Vargas أهمية فكرة الإصلاح التدريجي وعقلانيتها عند بوبر مُنطلقة من السؤال التالي: لماذا يُعدل المصلح الاجتماعي الظروف الموجودة بدلًا من استبدالها كلية مثلما يفعل الثوار؟ وتنطلق لويزا في إجابتها من وظيفة المؤسسات الاجتماعية كما يتصورها بوبر، فهي لا تعتمد بطريقة مفردة على تركيبها والمسئوليات المُخولة إليها والأشخاص القائمين عليها، لكنها تعتمد أيضًا على عادات المجتمع وتقاليده، وإن أكثر هذه العادات والتقاليد أهمية هو ما يتصل بإطارها الأخلاقي والإحساس العميق بالعدالة، وتمثل هذه الموضوعات الحساسة البناء الرُوحي للمجتمع وهو ما لا يمكن إلغائه أو استبداله فجأة، مثلما يريد أن يفعل الثوار، في حين يمكن أن يساعد في إحداث تغيرات جزئية فقط. وانطلاقًا من رؤيتها تلك حاولت أن تبرز أهمية فكرة الإصلاح التدريجي وارتباطها بالحرية وقدرتها على الحد من سلطة الدولة، فتقول: “تتطابق فكرة الإصلاح التدريجي مع فكرة الحرية، فالشيء الأكثر أهمية في الإصلاح الجزئي هو اعتماده على الفحص النقدي الذي يُعَدُّ الأداة الأساسية لإدارة الأفعال، إذ يُحافظ الإصلاح الجزئي على وجود التوازن بين سلطة الدولة والأفراد، كما تقوم المؤسسات التي تعتمد على فكرة الإصلاح التدريجي بدور مهم في حماية الأفراد من النمو المتزايد لسلطة الدولة، لأن  المهندس الجزئي يضع الجزء قبل الكل، الحاضر أمام الماضي، مشاكل المرء واحتياجاته هنا والآن، كما لا يأمل المهندس الجزئي في جلب السعادة إلى كل البشر، لأن هذه الموضوعات ليست من شأن الدولة في شيء، بل هي من اختصاص الأفراد”(3).

ويشير ج.ل.تلمان J.L. Talman إلى الطابع الواقعي لنظرية الإصلاح البوبرية ونجاحها في تجاوز أخطار النظرات المثالية فلديه: “تُمثل فكرة المجتمع المثالي خطرًا كبيرًا، لغياب كثيرٍ من الأشياء المتعارف عليها مثل: الدقة، عدم الكمال، العادات والتقاليد، عدم الاعتراف بالنقص الإنساني. فكل هذه الأشياء تغيب من المجتمعات المثالية، فالخطر الموجود والمتأصل في فكرة المجتمعات المثالية هي إنها تحاول فرض تصوراتها بالقوة، في حين تتجاهل كل الكائنات الأخرى الموجودة”(1).

 تقييم نظرية بوبر في الديموقراطية والإصلاح ونقدها

لقد أسهم بوبر بالفعل إسهامًا فاعلًا في تغيير المعنى الشائع لمصطلح الديموقراطية، فبعد أن كانت تعني حكم الشعب، نجدها قد ارتبطت معه بمغزىً أخلاقي وسياسي جديد، يتمثل في التخلص من الحاكم غير الكفء والرديء دون الحاجة إلى سفك الدماء، كما يُعَدُّ رفض بوبر للأسئلة السياسية التقليدية مثل: السؤال الأفلاطوني (من يجب أن يحكم ؟) نقطة تحول كبيرة في مسار الفكر السياسي، فيجب أن يهتم فلاسفة السياسة بالفعل بالتركيز في الآليات التي يُمكن أن تتحقق في ظلها الديموقراطية الفاعلة، بدلًا من أن يشغلوا أنفسهم بتحديد سمات الحكومة المثالية. كما كان بوبر مُحقًا أيضًا في رفضه لتأسيس الديموقراطية على مبدأ الشعبوية فقط، لأنه لم يحدث أبدًا أن ساد الشعب، فالحكومات هي التي تسود دائمًا، كما أن مبدأ الشعبوية قد مكن حكام ديكتاتوريين مثل: هتلر وستالين من أن يستوليا على زمام السلطة، فلولا رضى الجماهير لما وصلا إلى السلطة.

لا يتطابق مجتمع بوبر المفتوح مع شكل ما من أشكال النظم السياسية أو الاقتصادية، إنه فقط يضعه في معارضته مع المجتمع المغلق، ولكن مبادئه يُمكن لها أن تتوافر في مجتمع يقوم على التعددية الحزبية، أو آخر يقوم على وجود حزبين وهو ما كان يميل إليه بوبر، وإن كان هذا يعكس -في تصورنا- انحيازه لنظم سياسية بعينها مثل النظام الأمريكي الذي يتألف من حزبين: الجمهوري والديموقراطي، والنظام البريطاني الذي يتألف أيضًا من حزبين كبيرين: العمال والمحافظين، وإن كان بوبر نفسه لم يصرح بإعجابه بهما.

إن تصور بوبر لفكرتي العدالة والمساواة يندرج ضمن المنظور الكلاسيكي الموروث من فلسفة عصر التنوير الذي يحصرهما فقط في المساواة أمام القانون أو في تكافؤ الفرص والأحقية الكاملة في المواطنة، وبهذا تجاهل بوبر الأبعاد الاجتماعية للعدالة والمساواة مثل توزيع الثروات ضمن نسق عادل ومتكامل من الحقوق والقوانين والإجراءات والأوضاع والمؤسسات التي يتألف منها المجتمع بوصفه كِيانًا سياسيًا فاعلًا.

على الرغم من دعوة بوبر مرارًا وتكرارًا إلى أهمية وضرورة تشييد المؤسسات السياسية والاجتماعية بغرض الحماية من ازدياد سلطة الدولة والحكومة، وكى يكون ذلك ضامنًا لتحقيق الممارسات الديموقراطية الحقيقية، وكى تُمكن الشعب من التخلص الحاكم دون إراقة دماء، وكى تكون ضامنًا لحماية الديموقراطية لنفسها ضد مبدأ الشعبوية، إلا أنه لم يوضح البنية السياسية الأساسية والطبقية التي يقوم عليها عمل هذه المؤسسات، كما أنه لم يوضح آلية عمل هذه المؤسسات، ولم يُشر أيضًا إلى الكيفية التي تجعل منها كِيانا حافظًا لحريات الأفراد.

نعتقد أن طريقة بوبر في الإصلاح السياسي والاجتماعي تُسيطر اليوم على أجندة عمل معظم الدول الغربية، وبخاصة بعد انهيار النظم التي ادعت تطبيق الاشتراكية، فقد أصبح المحور الإصلاحي لديها يقوم الآن على مبدأ إزالة ما اعتقدته أنه الشرور الموجودة بدلًا من البحث عن الخيرات المجردة، وهو ما ترتب عليه إصلاح بعض جوانب النظام القضائي والتعليمي والاجتماعي الذى تمثل في محاربة الفقر والجريمة، كما تُعَدُّ طريقة بوبر الإصلاحية -في تصورنا- القائمة على سياسة الخُطوة بخُطوة غاية في الأهمية، لأنها تجعلنا نحدد أولوياتنا في الإصلاح، وتبعدنا عن مبدأ العنف، لكننا على الرغم من ذلك لا نستطيع أن نُنكر الدور الذى أسهمت به اليوتوبيا في نشوب بعض الحركات التحررية مثل ثورات تحرير العبيد، والثورتين الأمريكية والفرنسية، ونعتقد على عكس ما يظن بوبر، بأن دور اليوتوبيا سوف يتعاظم في المستقبل مع تفاقم مشكلات النظام السياسي والاقتصادي العالمي الذى يفتقد في جوهره وفى إطار ليبراليته الجديدة إلى الأبعاد الاجتماعية، وبخاصة في ظل استشراء الفقر في أنحاء العالم، ولكننا نتفق مع بوبر في رفض الدوجما التي تلحق بالأفكار بعامة، وبالأفكار الطوباوية بخاصة عند تطبيقها، وهو ما يؤدى عادة إلى التعصب، وما ينتج عنه ممارسات عنيفة ومتطرفة تبعدنا عن الهدف الحقيقي للإصلاح.

يقدم لنا بوبر نفسه كونه نصيرًا للحرية والمساواة وللعدالة، لكننا عندما نتطرق إلى موقفه من الحرب والسلام في مجال العلاقات الدولية سيتضح لنا عكس ما ينسبه بوبر إلى نفسه، فإخلاص بوبر لقضية الحرية ودفاعه عنها، كان غالبًا ما يتوارى خلف تأييده لدول العالم الغربي في سياستها الخارجية التي تستهدف التسلط على الشعوب، فعندما نشبت الأزمة الدولية التي نتجت عن غزو العراق للكويت عام 1991 أنقسم العالم بشأن هذه الأزمة إلى فريقين: هل ينبغي التدخل العسكري لتحرير الكويت؟ أم يجب اللجوء إلى المفاوضات الدبلوماسية الهادئة؟

وهنا وجدنا بوبر قد وقف في زمرة القائلين بالتدخل العسكري، فقد دعا إلى شن الحرب على العراق وعلى صدام حسين بدعوى تحقيق السلام، فيقول: “يجب أن يكون السلام هدفنا الأول على الرغم من صعوبة تحقيقه هذه الأيام، وخاصة في عالم يحيا فيه أناس مثل صدام وأمثاله من الديكتاتوريين، ولا يجب أن نفزع من أن الحرب هي ما سيقود للسلام، فهي الحرب التي لا يُمكن تجنبها في ظروفنا الحالية، لذلك يجب أن يكون هناك من أشكال العمل الجماعي للعالم المتحضر، ولا معنى للوقوف في مثل هذه الظروف موقفًا سلميًا”([10]).

وينطوي موقف بوبر إزاء هذه المشكلة على نوع من التناقض، فبدلًا من أن يدعو إلى إنهائها بالطرق السلمية، واللجوء إلى الحلول الدبلوماسية، نجده يؤيد ضرب العراق دون أن يضع في حسبانه ما سيتعرض له السكان المدنيين والأطفال من قتل وتشريد. ولم يقف بوبر عند هذا الحد، بل يمضي ليقدم أيديولوجيا جاهزة لتبرير فرض السيطرة على شعوب العالم الثالث، مؤكدًا أنها شعوب متخلفة، لأن القادة السياسيين لهذه الدول حمقى ولا يطيعون القانون، ولذلك فهم يستحقون ما يحدث لهم ولشعوبهم([11]). ونجد في هذا الموقف صدىً للآراء الاستعمارية القديمة عند الفلاسفة الإنجليز مثل: مل وسبنسر.

إضافة إلى هذا فإننا نجده بعد أن طالب بنزع التسلح ونقد فكرة التسلح أحادي الجانب، يتجه اتجاهًا جديدًا يُنادي فيه باحتفاظ الشعوب المتحضرة بالقليل من القنابل النووية وذلك لأسباب أمنية([12]). وهنا تتحول حُجة الأمن إلى ذريعة للاحتفاظ بتفوق الدول الغربية واستمرار قمعها للدول الفقيرة التي لا تستطيع بأي حال منافستها في امتلاك السلاح النووي.

وهنا نجد أن بوبر قد تخلى في أواخر حياته عن المبادئ والقيم الأخلاقية والسياسية التي نادى بها في بداءة حياته، فإذا كان في البداية يؤمن بالإنسانية دون تفرقة بين شعب وآخر، ويرفض الحرب وينادي بنزع أسلحة الدمار الشامل، وينتقد أمريكا لضربها لليابان بهذه الأسلحة، فهو في أواخر حياته ينحاز لدول وشعوب الغرب مفترضًا أن دول العالم الثالث كِيانات تستحق العقاب بسبب استبداد حكامها، كما نجده ينادي بتأييد الحرب في بعض الحالات بدعوى تحقيق السلم، ولتحقيق ذلك يبرر امتلاك الأسلحة النووية لدى بعض الدول التي يسميها هو بالعالم المتحضر “لأسباب أمنية “!

ولهذا نعتقد أن بوبر قد قدم في أواخر أيامه بعض المبادئ التي تتعارض مع ما نادى به في كتابه المجتمع المفتوح، بل إننا نجد من المفكرين من كانوا أقرب إلى المبادئ التي أقرها بوبر في المجتمع المفتوح من بوبر نفسه. فنجد على سبيل المثال أن ناعوم تشومسكي قد رفض التصورات التي قدمها بعض المفكرين والساسة لتبرير تدخل الولايات المتحدة بالقوة، لإنهاء الاحتلال غير الشرعي للكويت أو التخلص من الإساءة لحقوق الإنسان. فقد برر بعض المفكرين شرعية حرب الخليج الأولى ضد العراق -ومنهم بوبر– بأننا أي العالم الغربي بعامة وأمريكا بخاصة نحترم مبدأ أن الاحتلال غير الشرعي والإساءة لحقوق الإنسان لا بُد وأن تجابه بالقوة، أما تشومسكي فيرفض مثل هذه التصورات ويفندها، ويرى أن حرب الولايات المتحدة ضد العراق لم تكن حربًا من أجل تحرير الكويت، كما أنها لم تكن حربًا من أجل إرساء الديموقراطية.

فبخصوص للنقطة الأولى يؤكد تشومسكي أن مُبررات الحرب ضد العراق والتي تمثلت في أن المعتدين لا يجب مكافأتهم، وأن العدوان لا بُد وأن يناهض باللجوء للقوة هي مبررات واهية وضعيفة، ويمكن دحضها فيما يلي: هل عارضت الولايات المتحدة العدوان التي تقوم به هي ذاتها على بنما؟ وهل عارضت الولايات المتحدة العدوان غير المشروع وانتهاك حقوق الإنسان في فلسطين وجنوب لبنان؟  ويصرح تشومسكي بأنه في يناير عام 1991 نشر بعض المسئولين تفاصيل عرض عراقي للانسحاب من الكويت في مقابل أن يُعنى مجلس الأمن بمشكلة الصراع العربي الإسرائيلي، إلا أن الولايات المتحدة قد رفضت التفاوض بشأن هذا الموضوع.

أما بخصوص للنقطة الثانية وهي إنهاء الاستبداد العراقي وإرساء الديموقراطية فهي أيضًا حُجة كاذبة ويدحضها تشومسكي مؤكدًا أنه كان يوجد في أوروبا معارضة عراقية ديموقراطية، وعندما جاء أنصار هذه المعارضة لواشنطن يطالبون بمساندة أمريكية لطلبهم بتدعيم ديموقراطية برلمانية في العراق، رُفض طلبهم لأن صدام كان في هذا الوقت صديقًا مفضلًا لبوش الأب وشريكًا تجاريًا له(1).

وهنا نلاحظ أن تشومسكي قد أتخذ موقفًا أكثر اتساقًا مع الديموقراطية ومع العدالة ونبذ الحرب من بوبر، وكان أكثر منه شجاعة في مواجهة النزعات العدوانية للسلطات السياسية الغربية.

كذلك لم يتعرض بوبر من قريب أو من بعيد للممارسات الصهيونية العدوانية الغاشمة في الأراضي العربية، ولم يقف موقف المفكر الجريء ضد الممارسات الصهيونية في الداخل والخارج كما فعل جارودي وتشومسكي،  فقد رأى جارودي أن تصرفات إسرائيل في الداخل أو الخارج ( عنصريتها وتوسعها وإرهابها) يجعل منها دولة من أسوأ الدول، وهى شبيهة هنا بمن ترتبط به أوثق ارتباط، فهي شبيهة بالولايات المتحدة تأخذ عنها أسوأ تقاليدها مع الهنود الحمر ومع السود وتطبقها مع العرب، كما شن تشومسكي نقدًا لاذعًا للسياسة الأمريكية “الكيل بمكيالين”، فقد رأى أن أمريكا تشجع إسرائيل على شن مزيدٍ من الممارسات العنصرية والإرهابية في فلسطين وجنوب لبنان، وهو ما يجعل منهما دولتين من أسوأ الدول.

لكن على الرغم من ذلك تبقى آراء بوبر الخاصة بالعقلانية والنقد والإصلاح التدريجي غاية في الأهمية، ونتفق مع الدكتورة يمنى الخولي على نحو آخر فيما تراه من أننا أحوج بقاع الدنيا إلى الاستفادة من هذا الدرس، ولن نُجانب الصواب لو قلنا إن المنهج النقدي لا يدخل إطلاقًا في تكوين العقلية العربية ويا ليتنا نعي الدرس المستفاد من أهمية النقد عند بوبر في عالمنا العربي. إذ إنه بالفعل من آفات فكرنا العربي المعاصر التي لها أسوا الأثر في واقعنا السياسي والاقتصادي، غياب ظاهرة النقد والنقد الذاتي وهيمنة الأفكار المطلقة واليقينية بالإضافة إلى تقديس الدولة والوقوع تحت ظاهرة الولاء للزعيم الأوحد وكلها أمور بَيَّنَ لنا بوبر تأثيرها الضار في السياسة.

كما أننا في أمس الحاجة الآن لتبنى فكرة بوبر الخاصة بخصوص إمكان إقالة الحكومة وأعضائها من منصبها إذا أخلت بوظائفها، وبخاصة في عالمنا العربي الراهن، حيث تتمتع بعض الحكومات بهالة من التقديس ولا يجرؤ أحد على انتقاد أفعالها أو سياستها، ومن يجرؤ على هذا فلن يعلم أحد مصيره سوى الله. والدليل على ذلك هو الوضع في العراق قبل الغزو الأمريكي، فلو استطاع الشعب العراقي إقالة الحكومة المستبدة الموجودة وأن يستبدل بها أخرى ديموقراطية لكان الوضع سيختلف عما هو عليه الآن، لذلك يجب أن تكون هناك رقابة دستورية مشروعة على السلطة أي كان نوعها، وهذا ما أشار إليه بوبر عندما أدرك مغبة تزايد سلطة الحكومة.

هذا بالإضافة إلى أن الظروف الدولية تجعل الشعوب العربية بأسرها مضطرة إلى إصلاح أوضاعها السياسية والاقتصادية والتعليمية، وتواجه من أجل إنجاز هذه المُهمة ضغوطًا سياسية واقتصادية كبيرة، ولكن هذه التعديلات تحمل في طياتها كثيرًا من الأخطار التي تتعلق بقضية العدالة الاجتماعية وحقوق المواطنين … ولقد قدم لنا بوبر مبادئ ملائمة للتوفيق بين الاقتضاءين.

 

الهوامش والمراجع:

(1) George Soros ” The Rulers of The United States have embarked on Policies That violate The Principles of Open Society” in New Statesman, 12 / 16 / 2002, Vol.131, Issue 4618, p41.

(1) Walter Brugger, Keneth Baker, Philosophical Dictionary, Washington, Gonzaga University, 1972, p.89

 (2) Karl Popper, The Open Society and Its Enemies: The Spell of Plato, vol.1, London, Routledge & Sons Ltd, 1945, p. 163

  • حورية توفيق مجاهد، الفكر السياسي من أفلاطون إلى محمد عبده، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1992، صـ 150.
  • إمام عبد الفتاح إمام، الطاغية : دراسة فلسفية لصور الاستبداد السياسي، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، عدد 183، 1996، صـ 276.
  • كارل بوبر، الحياة بأسرها حلول لمشاكل، ترجمة / بهاء درويش، الإسكندرية، منشأة المعارف، 1998، صـ230.
  • المصدر السابق، صـ250.

 (3)Karl Popper, The Open Society and Its Enemies, Vol.1, op. cit., p. 107

 (4) كارل بوبر، الحياة بأسرها حلول لمشاكل، مرجع سبق ذكره، صـ231.

([1]) المصدر السابق، صـ 232.

([2])المصدر السابق، صـ 217، 218.

(1)  Karl Popper, The Open Society and its Enemies :The High Tide of Prophecy : Hegel, Marx, and The aftermath, Vol. 2, New Jersey, Princeton University Press, 1971, p. 160, 161

(1)  Karl Popper, The Open Society and Its Enemies, Vol.2 , op. cit., p. 152

(2) كارل بوبر، أسطورة الإطار : في دفاع عن العلم والعقلانية، تحرير / مارك أ. نوترنو، ترجمة / يمنى طريف الخولي، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، عدد 292، 2003، صـ140.

 (3) Ian Jarive, Sandra Pralong, Popper’s Open Society after Fifty Years: The Continuing Relevance of Karl Popper, London, Routledge, 1999, p.44

 (1)Ibid., p. 45, 47

([5]) كارل بوبر، خلاصة القرن، ترجمة / الزواوي بغورة، لخضر مذبوح، القاهرة، المشروع القومي للترجمة،  2002، صـ 49 ـ 51.

 (3) Karl Popper, The Open Society and Its Enemies, Vol.1, op. cit., p. 56

(4) Bryan Magee, Popper, London, Fontana, p. 76

 (1) Paul Edwards, ( Editor ) The Encyclopedia of Philosophy, New York, Simon & Schuster Macmillan, Vol.3, p. 39

([8]) كارل بوبر، بحثًا عن عالم أفضل، ترجمة / أحمد مستجير، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999، صـ 267.

(2)  Karl Popper, The Open Society and Its Enemies, Vol.1, op. cit., p. 54

(3)  Ibid., p.51

(4) كارل بوبر، بحثًا عن عالم أفضل، مرجع سبق ذكره، صـ 286.

(5) جيمس هنري بريستد، فجر الضمير، ترجمة / سليم حسن، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999، صـ224.

  (1) Paul Edwards, op. cit., Vol.4, p. 298

 (2) Karl Popper, The Open Society and Its Enemies, Vol.1, op. cit., p. 77

 (3) Karl Popper, The Open Society and Its Enemies, Vol.2, op. cit., p. 124

 (1) Karl Popper, The Open Society and Its Enemies, Vol.1, op. cit., p. 97

(1)  Loisa Mario Vargas” The Importance of Karl Popper in Academic Questions, Winter 91/ 92, Vol.5, Issue1, p16.

(2) ف. أ. هايك، الطريق إلى العبودية، ترجمة / محمد مصطفى غنيم، القاهرة، دار الشروق، 1994، صـ75.

(3)  Karl Popper, The Open Society and Its Enemies, Vol.1, op. cit., p. 141

 (3) Karl Popper, Conjectures and Refutations, op. cit., p. 356

(4)  Ian Jarive, Sandra Pralong, op.cit., p.148

(1)  Anthony O’ Hear (ed) Karl Popper: Philosophy and Problems, Cambridge, Cambridge University Press, 1995, p. 260

(2) رسل جاكوبي، نهاية اليوتوبيا : السياسة والثقافة في زمن اللامبالاة، ترجمة / فاروق عبد القادر، الكويت، مطابع الوطن، سلسلة عالم المعرفة، 2001، صـ196.

(3) Louis Marin, Utopics: Spatial Play, Translated by Robert A. Vollrath, New Jersey, Humanities, 1984, p. 195

(4)  Gregory Claeys, Layman Tower, Sargent (editor) Utobia: The Search for The Ideal Society in The Western World, New York, The New York Public Library,2000, p. 266

(5) عطيات أبو السعود، الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ، الإسكندرية، منشأة المعارف، 1997، صـ 294.

 (6) Gregory Claeys, Layman Tower, Sargent (editor), op. Cit., p. 266

 (1) J.C. Davis, Utopia and The Ideal Society: A study of English Utopian Writing 1516 – 1700, Cambridge, Cambridge University Press, 1981, p.4

  • كارل بوبر، عقم المذهب التاريخي، مصدر سبق ذكره، صـ 112، 113.

 (2) Karl Popper, The Open Society and Its Enemies, Vol.1, op. cit., p. 139

(3) ماريا لويزا برنيري، المدينة الفاضلة عبر التاريخ، ترجمة / عطيات أبو السعود، مراجعة / عبد الغفار مكاوي، الكويت، مطابع الوطن، سلسلة عالم المعرفة، 1997، صـ 17.

 (1)Karl Popper, The Open Society and Its Enemies, Vol.1, op. cit., p. 140

(2) Karl Popper, The Open Society and Its Enemies, Vol.2 , op. cit., p. 225

(3) Karl Popper, Conjectures and Refutations, op. cit., p. 346

 (4) Ibid., p.370

(1) Ibid., p.370

(2)  John Wild, Plato’s Modern Enemies and The Theory of Natural Law, op. cit., p. 34

 (3) Anthony O’ Hear, Karl Popper, London, Kegan Paul, 1980, p.158

 (4) Ibid., p. 158

  • أنطونى دي كرسبني، كينيث مينوج، مرجع سبق ذكره، صـ 83.

 (2) Mario Bunge (editor) The Critical Approach to Sciences and Philosophy: in Honor of Karl R. Popper, London, The Free Press of Glencoe, 1964, p. 408

(3) Loisa Mario Vargas” The Importance of Karl Popper in Academic Questions, Winter 91/ 92, Vol.5, Issue1, p16.

 (1)Klosko George” Popper’s Plato” in Philosophy of Social Sciences, Dec 96, Vol.26, Issue4, P509.

([10]) كارل بوبر، الحياة بأسرها حلولا لمشاكل، مصدر سبق ذكره، صـ 298.

([11]) المصدر السابق، صـ 299.

([12]) كارل بوبر، خلاصة القرن، مصدر سبق ذكره، صـ 52.

(1) ناعوم تشومسكي، السيطرة على الإعلام، تعريب / أميمة عبد اللطيف، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، 2003، صـ 29، 32.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete