الدين عبر مسارات التاريخ

الإنسان يبحث عن المعنى

  • الإنسان يبحث عن المعنى:

قبل أن نغوص قليلا في مفهوم الدين لا بد من التذكير أن في رحلة الإنسان على هذه الأرض كان دوما يبحث عن معنى، معنى يتحقق معه ذاته، ويجعله مختلفا عن باقي الموجودات والكائنات التي يتقاسم معها هذا الوجود. لكن ما هو هذا المعنى الذي يبحث عنه الإنسان؟ إنه ببساطة فكرة أو معتقد أو أدلوجة أو تصور ييسر من طريقة فهمنا لهذا الوجود، ويساعدنا على تخطي الصعوبات والعوائق التي تواجهنا في هذه الحياة. من هنا يأتي دور علم النفس بكل مدارسه، وتحديدا مدرسة العلاج بالمعنى الذي أسّس له فيكتور فرانكل[1] وأدرجها ضمن كتاب مهم أسماه الإنسان يبحث عن المعنى. هذا الكتاب يقدم منظورًا متنوعا ومهما للحياة والصعاب وهو طبيب نفسي له تجربة فريدة وشاقه لأنه عاش فترة اعتقال في معسكرات النازية، ونجى منها بأعجوبة. قليلة هي الكتابات التي تحكي بصدق المعاناة التي يعيشها كتابها، فالكتابة ليست دوما مرتبطة بحالة من الصفاء الذهني التي يعيشها الكاتب في فترة من الفترات. بل هي أيضا معاناة وقلق. وقد كان كتاب فرانكل تجربة مريرة مع الاعتقال، حيث يفقد الإنسان كل شيء بما في ذلك إيجاد المعنى من حياته، وحين تنعدم هذه الرغبة ينكسر كل شيء بما في ذلك رغبتنا في الحياة. مريرة هي تجربة الاعتقال حيث يتحول الإنسان إلى رقم ويتجرد من إنسانيته، كان فرانكل من هذا النوع حيث الجوع والتجويع والعنف والمهانة في زنزانات النازية المفتقرة لأبسط شروط الإنسانية.

ليس الغرض من الكتاب هو بسط أوجه المعاناة فقط، فهذا جانب بسيط من قص هذه المعاناة البشرية، ولكن الغرض أكبر من ذلك هو أنى وجد الإنسان معنى فهذا يكون بمثابة هدف يسعى الى العيش من أجله بما في ذلك المعاناة التي يواجهها في مرحلة من مراحل حياته. وهكذا كانت أفكاره حول معنوية المنشأ وعن التسامي وعن الغاية مما يؤدي الى ما يسميه بالفراغ الوجودي أو يملؤه. جوانب أثرت في نظرة فرانكل إلى العلاج النفسي والتعامل مع المرضى، فدور المعالج يكون في محاولة استكشاف المعنى لدى المريض وتعميقه وتحويله إلى مصدر سعادة بالنسبة إليه.

تجربة السجن تعطي انطباعا للإنسان وتكسبه آليات المقاومة. مقاومة الوجه المأساوي للوجود، فكما يقال الحياة ليست مفروشة بالورود كما يخيل للبعض. المأساة جزء أصيل من حياتنا ولا بد لنا أن نتأقلم، ونبحث عن المعنى داخل هذا الوجود وليس من خارجه. وهنا نقف على الفكرة الوجودية الكبيرة: لكي تعيش حياتك عليك أن تعاني، ولكي تبقى عليك أن تجد معنى للمعاناة. على كل شخص منا أن يكتشف معنى لوجوده، وحياته وأن يتقبل المسؤولية التي تحددها له طريقة فهمه لهدفه في الحياة. هدف فرانكل الرئيسي أن يعرف كيف يمكن مساعدة مريض على إيجاد معنى لحياته، أو الاطلاع على الغاية من وجوده. هذا هو دور المعالج الحث والتحريض والبحث عن الطرق والوسائل التي يصل بها مريضه إلى المعنى من وجوده.

لكن إذا أردنا أن نقوم بفعل الربط بين البحث عن المعنى والدين، فسنجد أن هناك مجموعة من القواسم المشتركة، على اعتبار أن الدين في نهاية المطاف إجابة عن سؤال الوجود الإنساني في كون يطبعه الغموض والالتباس، وهنا يحق لنا أن نتساءل:

 ما هو الدين أصلا؟

سؤالٌ يبدو بديهياً في منطق البعض، كما يبدو تافهاً أو فاقداً للمعنى والجدوى في تصوّر البعض الآخر. لكنْ في منطق العلم كلّ الأسئلة تغدو مشروعة، ما دامت تؤكّد على أنّ المعرفة لا حدود لها، وأنّ رصد التحوّلات الفكرية، والثّقافية للكائن البشري أمرٌ لا مناصّ لنا منه، وهذه وظيفة الأنثروبولوجيا، وعلم التّاريخ، ونشوء الأفكار، والاجتماع البشري، والتحوّلات النفسية للإنسان. كلّ هذه العلوم تتظافر محاولة الإجابة عن أسئلة البداهة. وهنا نستحضر مقولة بولانتزاس الذي كان يرى بأنّ عمق الأشياء في بساطتها وليس في تعقيدها، فالأسئلة البسيطة متى كانت حقيقية تصبح هي الأسئلة الأكثر صعوبةً وتعقيدا. معنى ذلك أنّ الأسئلة التي تبدو في ذهن البعض لا قيمة لها، أو ليست مجالاً للاستفسار، والنّقد، والاستشكال، قد تتحوّل إلى الأسئلة المصيرية إذا ما أدركنا صعوبة تحديدها. هذا من ناحية الأسئلة. أمّا من ناحية الأسلوب فالأمر نفسه ينسحب على ما قلناه سابقاً، فالأسلوب المعقّد هو من يُفقد الأفكار بريقها، هكذا كانت مشكلة مونتين[2] مثلاً مع الكتب الغامضة، فقد كان يعجز عن إقامة علاقة طويلة معها كما يحكي، لأنّه يحبّ السّهل منها، فما يقرأ بسهولة نادرا ما قد كُتِب بسهولة، لأنّ الكتابة العصيّة على الفهم تعني تقديم حماية فريدة ضدّ عدم امتلاك شيءٍ لتقوله.

ما هو الدِّين؟. يجرُّنا هذا الأمر لما كتبه جان فرانسوا دورتييه[3]، فهو يصدِّر مقالته المعنونة بهذا السؤال، ليبيّن أنّ الدين لا يمكن اختصاره في الجانب الإيماني، أو العقدي، بقدْر ما هو خليطٌ ومزيجٌ بين الجانب الطّقسي، والأخلاقي، والتّنظيمي أو التّشريعي. كما أنّه هو نفسه حينما يدرس سؤالا آخر، حول لماذا لا تموت الإيديولوجيات أبدا؟،[4] يرى بأنّ الإيديولوجيا تشبِه الدّين في مواطن كثيرة اختزلها في: آباء مؤسّسون، أسطورة مقدّسة، قضايا يحارب من أجلها، آمال مرجوة، خيبات أمل، تأويلات مختلفة، خصوم، تعديلات، بِدع وصراعات داخلية، وأساطير مؤسِّسة.

وكي نبحث عن الدّين في التّاريخ، وعن بدايات تشكّله، وإرهاصاته الأولى، نستعين بمجموعة من المراجع، والمحاضرات، التي ترصد النّواة الأولى من التشكّل، ولعلّ أهمّها كتابات الأنثروبولوجيين، والمؤرّخين المهتمّين بهذه المرحلة.

  • مفهوم الدِّين:

بالرّغم من أنّ كلمة الدّين كثيرة التّداول، وسريعة الانتشار، غير أنّ معناها يختلف من شخص لآخر، هذا إذا لم يكنْ هناك غموضٌ في معناها عند الكثيرين أيضاً. وقد أشار إلى ذلك ألفرد نورث هوايتهد[5] عند الحديث عن تعريف الدّين. فما يميّز مجال الحساب مثلاً عن المقولات الدّينية، هو أنّ العمليات الحسابية لا تكون مثاراً للنّزاع والاختلاف، في حين أنّ المقولات الدّينية تتأسّس في الكثير من الأحيان على الشكّ، وربما على أقصى درجات الشكّ. وما يمكن الإشارة إليه هنا هو أنّه ليس هناك تعريف جامع، أو متّفق عليه على الدّين، وكذلك لا وجود لمحدّدات هامّة نعرف من خلالها الدّين الصّحيح من المزيّف. كما أنّه ليس هناك اتّفاق على ما هي الحقائق الدّينية في كلّ دين، وما هي محدّداتها. لكن ما يبدو هو أنّ الإيمان هو المبرِّر أو المسوّغ الحقيقي للحقيقة داخل كلّ دين على حدة، فيمكن اعتباره هو الحقيقة العليا التي تطهّر الدّاخل الإنساني. كما أنّ طبيعتنا وأخلاقنا تتطوّر بحسب هذا الإيمان، فالدّين في نهاية المطاف هو قوّة الإيمان، وبذلك صارت الاستقامة رأس الفضائل. إنّ الدين حسب طرح ألفرد نورث هوايتهد هو نظام للحقائق العامّة، التي تؤدّي إلى تغيير في السّلوك والأخلاق، إذا أخذت على محمل الجدّ، وتمّ الإيمان بها بصدق، وعلى هذا الأساس تتشكّل كل السّلوكات الإنسانية. فهو حسب هذا الطّرح نظام تطهيري داخلي، ما دام الإنسان يشكّل قناعته بنفسه، وبالتّالي سيكون هذا الطرح مناقضاً أو مخالفا للنظرية القائلة، بأنّ الدّين نظام اجتماعي، أو واقعة اجتماعية.

يجد هذا الطرح مستنده حسب هوايتهد من كون الدّين هو ذلك الأمر الذي يصنعه الفرد في وحدته، ومن وحدته أيضاً. معنى ذلك أنّ الدّين في نهايته هو تفرّد ووحدة، والذي لم يمرّ بالوحدة أو التوحّد لن يكون متديّنا. هذا لا يعني أنّ الدين ينبت خارج الاجتماع البشري، فهذا مجانب للصّواب، ولكنّ الحماسات الجماعية، و أنماط التديّنات، وكلّ أشكال التديّن الجماعي هي صيغ منقضية، قد تفيد وقد لا تفيد. بمعنى أنّ المحدّد الأساسي للدّين هو القيمة الفردية للأخلاق، والقيمة قد تكون إيجابية وقد تكون سلبية، وحتى منطق الطّبيعة يقتضي وجود قوة ضاربة للقيم، بل تؤسّس لفعل الشر في هذا العالم.

  • البدايات الأولى لتشكُّل الظّاهرة الدّينية:

يرجع الكثير من الباحثين بدايات تشكّل الظّاهرة الدّينية إلى العصر الحجري الحديث néolithique: وهو العصر الذي يمتدّ بين الميزوليث وعصور المعادن؛ وهو يشير إلى العصر الذي تمّ فيه استعمال الإنسان للحجر المصقول، بعد أنْ كان يستعمل الحجر المنحوت. ويُقصد بهذه التّسمية اليوم، العصر الذي انتقل فيه الإنسان من الصّيد، إلى الإنتاج الزّراعي والرّعوي، وقد ظهرتْ أولى بوادر هذا التحوّل في الشّرق الأدنى.  لكنْ هذا التّعريف، لم يعد كافيًا لاستيعاب هذه المرحلة، ولا زال أمرا متنازعا فيه بقوة، لأنّ الصّقل ليس اختراعا نيوليتيا، حيث استعمله الإنسان في عمل العظام في المرحلة الباليوليتية. غير أنّ ما استجدّ فعلياً خلال هذه الحقبة الزمنية، هو أنّ الصّقل أصبح يستعمل على صخور صلبة.

ولعلّ أهم ما ميّز هذه الفترة من مظاهر التديّن هو:

  • فكرة الخصوبة:

بانتهاء العصر الميزوليتي، الذي تميّز بخزن وتدجين الحبوب، تمّ الانتقال إلى العصر النيوليتي، الذي سيعرف منعطفا كبيراً في تاريخ الإنسانية، حيث سيصبح الإنسان فاعلاً أساسيا في عملية تدجين النّباتات التي كانت نتيجة منطقية لتدجين الحيوان، ومن ثمّة ظهور الزّراعة. لقد أدّى اكتشاف الزّراعة إلى زيادة الاستيطان، وظهور القرى الفلاحية، وبداية ظهور البيوت بشكل واسع، وهو الشّيء الذي جعل الإنسان يتحوّل من لقمة سائغة بين يدي الطبيعة، إلى إنسان قادر على استيعابها، وتسخيرها من أجل مصالحه.

تميّزت الثقافة النيوليتية الأولى بظهور الزّراعة التجريبية الواسعة، وظهور القرى البدائية، وقد كان للمرأة دور كبير في هذا الاكتشاف. فالزّراعة هي أهمّ ثورة في التّاريخ البشري، وهي اختراع نسائي بامتياز، هؤلاء النّساء اللاتي ارتفع مقامهن خلال هذا العصر. وبهذا الاختراع خطا الإنسان أوّل خطواته الجبّارة، نحو السّيطرة على عوالم الطبيعة التي استعصتْ عليه من قبل، وفي الوقت الذي تعلّم فيه النّساء تدجين عالم النبات، تعلّم الرّجال وسائل استئناس الحيوان، والتحكّم فيه بعد أنْ كانوا يطاردونه من قبل.

وبالجملة لم يتطوّر دين النيوليت عن دين الميزوليت والباليوليت، وفقاً لآلية داخلية ربطت عقائد وأديان ما قبل التّاريخ بعضها ببعض، بل حصل ذلك بسبب التحوّل النّوعي الذي شهده النيوليت. ولعلّ جوهر التحوّل يكمن في ظهور فكرة الخصوبة، وهي التي ميّزتْ هذا العصر بأكمله على المستويات المادية والروحية. شعر الإنسان في العصر النيوليتي لأوّل مرة في تاريخه، بأنّ فكرة الخصوبة هي جوهر حياته المادية والروحية، فالزّراعة تعتمد على الخصوبة، والشّيء نفسه ينسحب على تكاثر الحيوانات، وولادة الإنسان. لقد ربط الإنسان الخصوبة بالمرأة التي كانت ترعى الأرض، وتسقي البذور، ثمّ بالحيوان وتكاثره، فتحوّلت قوّة المقدّس إلى قوة خصب تمثلها المرأة والإلهة، ولم يكن الرجل آنذاك يعرف دوره في عملية الإخصاب، ولذلك كان يرى أنّ المرأة هي المسؤولة عن التكاثر والخصوبة، وانعكس ذلك على الأرض، ورحل الإنسان من مواطن الزّراعة الكثيرة المطر، إلى مواطن يندر فيها بشكل كبير، فبدأ الإنسان يدرك أنّ الأرض ليست العامل الوحيد في عملية الإنبات، بل إنّ المطر لا يقلّ أهميّة عن الدّور الذي تضطلع به. فأسّس هذا الوعي الطبيعي لدى الإنسان إدراكا خطيرا لعملية الإخصاب، فعُقِدت العلاقة بين المطر ومنيِ الرجل، وكان هذا التحوّل فاتحة لانقلاب ذكوري كبير.[6]

  • الإلهة الأم وتطوراتها:

ظهرت الأمّ الإلهة  (mother godess)في الشّرق الأدنى مع بدء النيوليت، وهو أهمّ مظهر من مظاهر ديانة هذا العصر. لقد وجد الإنسان في المرأة البدينة المعافاة الخصيبة، رديفا للأرض الخصبة المثمرة، والمرأة كما هو معروف أوّل من اكتشف الزراعة ورعى الأرض، لذلك رفعت إلى مرتبة الألوهية، وأصبحت الإلهة الأمّ لاحقا تبدو و كأنّها سببُ إخصاب الأرض في العقيدة الدينية.

لقد قام الإنسان أولا بتشبيه الأرض بالمرأة البدينة كإلهة، ثمّ قام بعد ذلك بمحاكاة هذه الإلهة فأصبحت المرأة زعيمة القوم، وكانت صفاتها بالضّرورة القوّة والخصب، لأنّها تناظر الإلهة الأمّ، وظهرتْ طقوس العبادة التي تحاكيها أيضا. وفي ثقافة جرمو، الشّواهد تظهر جلية من خلال الدّمى البشرية، التي تظهر فيها المرأة تمثالا للإلهة الأم، هذا التمثال الذي يعتبر أحد آلهة الخصب المصنوعة من طين أو طين مفخور، وقد مثلت في وضع الجلوس، وهناك ما يشير إلى أنّها حامل.

إنّ إلهة جرمو تمثل أوّل ظهور مادي لعبادة زراعية، تتمثل في الخصب والزّراعة والتّكاثر، وكذلك تلقي المرأة ظلّها على الأدوات والأسلحة الحجرية، التي كان يستعملها الإنسان. بالفعل كان ظهور الإلهة الأمّ بشكلها الخصب) الإلهة الحامل)، ينبئ عن تحوّل عقائدي في غاية الأهمية سبّبته المرأة، ودورها الكبير في اكتشاف الزراعة وترسيخها، فقد اعتقد إنسان النيوليت في جرمو أنّ الأرض تلد المزروعات، كما تلد المرأة الأبناء، ولذلك مثلت الأرض بامرأة حامل وضعت لها دمى باعتبارها رمزا للخصب والتكاثر والولادة.

أمّا ثقافة الصّوان، فقد ظهرت فيها الإلهة الأم بدينة نسبياً، مزيّنة بعيون صدفية، ومحار مثبت بالقير، ولها أثداء صغيرة قياسا لجسدها وهي إمّا في وضع الجلوس أو الوقوف، مشارا لعضوها الجنسي أحيانا بمثلث. وتبدو لنا ثقافة حسّونة كأنّها ثقافة مادية، حيث تطوّرت فيها تقنيات الزراعة، وظهر نشاط الغزل والحياكة، من خلال دمى طينية مكسورة الرّؤوس والأيدي، تمثّل الإلهة الأمّ وتظهر أعضاءها الأنثوية بوضوح. أمّا ثقافة سامراء فتكاد تكون قمّة الثقافة النيوليتية، فالفنّ والرّسم يتطوران بطريقة مذهلة، ويتوصّلان إلى أشكال تجريدية غنية، ويبدأ إنتاج الرّموز المعبرة عن وجدان الإنسان وأعماقه.[7]

وإلى جانب التّفسيرات المعروفة في تفسير ظاهرة التماثيل النسوية بكونها تمثّل الإلهة الأم، هناك تفسيرات أخرى لهذه الظّاهرة لعل أهمها:[8]

  • رأي يرى أنّها مجرّد إظهار لدوافع المتعة والشّهوانية
  • أنّ هناك علاقة بينها وبين الدّين
  • أنّها صنف من الكهنة

 

  • أنّها تصوير لربات النار
  • ظهور المعابد:

يعتبر ظهور معبد (shrine)أهمّ مظهر من مظاهر العبادة في ثقافة الصّوان، والذي يمثل المرحلة الأولى من مراحل بناء المعابد عموما، إذ اكتشف المنقّبون بناية واسعة مشيّدة باللّبن، وجدرانها مملطة بالطّين، يرجَّح أنّها كانت ذات صفة دينية، كأنْ تكون من بيوت العبادة. ويؤيّد هذا الطّرح ما وجد فيها من التماثيل الصغيرة – المنحوتة من المرمر- من النّوع الذي يسمّى تماثيل الإلهة الأم. والمعابد خلال هذه الفترة ثلاثة أنواع: المصلى العائلي ،المزار، و المقام.[9]

  • ظهور المدافن:

تمثل المدافن وحدات تحوي في طياتها معطيات غنيّة، ومتماسكة مميّزة لعصرها. كما يستخدمها الكثير من العلماء باعتبارها مؤشّرات، ومحددات كرونولوجية وثقافية، تساهم بشكل كبير في التعرّف على البنيات الاجتماعية لكلّ عصر بما في ذلك الثقافة الدّينية.[10] وقد استخدمت المدافن في العصر الحجري الأعلى، على هيئة تجويف محفور تكون مستديرة، أو بيضاوية الشّكل. يدفن الميت فردياً، وغالبا ما يكون دفنه مرفوقا بنوع معين من الطّقوس. يوضع الجثمان عادة في منتصف الحفرة (بدون توجه محدد بالنسبة للسّودان الأوسط، لكن باتّجاه شرق/غرب بالنسبة للنوبة). ويوضع راقداً على جانبه الأيمن أو الأيسر، في وضع يختلف من منحني إلى مقرفص، مع ذراعين ممدودتين، وكفين مرتفعتين فوق الوجه. هذا الوضع قد يحتاج إلى رباط لحفظ الوضعية (وذلك بوضع الجثمان داخل جراب كما توضع حصيرة، ووسادة تحت الجسم(.

عرفت شعائر الموت في هذا العصر، لدى الإنسان العاقل- الذي ساد خلال هذه الفترة الزمنية- تحوّلا كبيرا بالمقارنة مع ما كانت عليه في العصور السّالفة. حيث توجّه بشكل واضح نحو العناية بالموتى، دلَّ على ذلك أنّ المرفقات الجنائزية ازدادت، وطرق الدّفن أصبحت أكثر تعقيدًا: فقد بقي يدفن موتاه داخل الكهوف، في وضعية القرفصاء؛ ويبدو أنه اتّجه لدفن الأموات قرب المواقد، كما كان يفعل سلفُه النياندرتالي (ربما لأن برودة الجثة دفعته لتدفئتها، عسى أنْ تعود إليها الحياة). كما أنّ طريقة الدّفن على وضعية الجنين، ذكَّرتْ بعض الباحثين بأنّ لدى الإنسان العاقل ميلاً روحيًّا، على اعتبار أنّ الدّفن الجنيني يمثل حياة أخرى بالنّسبة للميّت، وذلك بتشبيه الأرض بالرّحم، الذي يشكّل الحياة الأولى للكائن البشري. ومن جهة أخرى، فهناك من يستبعد هذا التّفسير لمثل هذه الظاهرة، ويعتبر أنّ  مساحة الكهف، هي التي دفعت بالإنسان العاقل نحو وضعية الدفن الجنيني، أو ربّما اتخذت جثة الميت هذه الوضعية بشكل طبيعي، نتيجة موت طبيعي وما إلى ذلك.

إضافة إلى ما سبق، فالجثث بدأت تُطلى بالمغرة الحمراء، التي تدخل حسب بعض الأبحاث العلمية، في مجال التّعويض عن الشحوب الذي يعتري الجثة. وهذا ما تأكّد من خلال أبحاث، على قبائل بدائية تعيش في إفريقيا حتى الآن، حيث ظهر أنّهم مازالوا يصبغون الجثث بهذه المغرة لاعتقادهم بأنّها علامة الحياة.

كما بدأت تتشكّل البوادر الأولى لدى الإنسان العاقل، للإحساس بالرّهبة من الموت. وقد دلَّ على ذلك أنّهم كانوا يضعون أحجارًا ضخمة على أيدي الميت وأقدامه وصدره، ربّما كي لا يستطيع القيام والعودة إلى الحياة، وبالتّالي إيذاء الأحياء. وهذا ما أكَّدته الأبحاث الأنثروبولوجية التي أجريت على قبائل بابوا في غينيا الجديدة، حيث لوحظ أنّهم يضعون الحجارة الكبيرة على رأس الميت وصدره وقدميه.[11]

  • القرابين البشرية:

من الرّاجح أنّ فكرة الأضاحي البشرية، ظهرت خلال العصر الباليوليتي، وربّما كان الدافع الاقتصادي سببا في ظهور هذا الطقس، وليس السّبب الوحيد. إذ أنّ خوف الإنسان من المجاعات، وخشيته من عدم توفّر الغداء، جعله يضحّي بأبنائه بصورة طقسية، ودينية. وعندما بدأت المجتمعات تعتمد في مأكلها على النّبات بصفة مستمرة، استبدلت الفديات البشرية، بالفديات الحيوانية.وينبغي الإشارة في هذا الصّدد، إلى أنّ التّحليل المقارن للمدافن الفوقية التي تحتوي على فردين أو ثلاثة يشير إلى وجود القرابين البشرية في تلك المدافن التي تحتوي على ثلاثة أجساد. وإذا تأكد ذلك، فسيكون بمثابة مؤشّر لبدء عادة، كان لها الأثر الكبير في تشكيل عقليات الأزمنة اللاحقة، والتي لا زال تأثيرها يلقي بظلاله على عالمنا المعاصر، رغم التقدم الحاصل على جميع المستويات الإنسانية. هذا الوجود للقرابين البشرية، والتّعقيد المتزايد للمقابر، وترتيبها في طبقات، كلّها عناصر تشير إلى مجتمع اللاّمساواة، والطّبقية، أخذت فيه عناصر التّراتبية الاجتماعية في البروز.[12]

  • عبادة الجماجم:

كما قلنا سابقا، فابتكار الزراعة أحدث ثورة إنسانية انتقلتْ بالإنسان، بوصفه جزءًا من الطبيعة، إلى الانفصال عنها والسّيطرة عليها. وهذا سوف يؤثّر على بنيته الذّهنية، وعلى تفاعله مع الطّبيعة ونواميسها، من خلال ظاهرة الموت، الموت الدّوري للنّبات، ومن بعد انبعاثه في مواجهة الموت الخطي قبل الانفصال عن الطبيعة، ولاسيما في نشوء ظواهر الاعتقادات الدّفنية الخصبية، التي تجلَّت في ميلٍ اعتباري إلى الثّور (الظاهرة الأقدم)، وعبادة الأمّ الكبرى، وصولاً إلى الأرواحية أو عبادة الأجداد، التي يُعبَّر عنها بعبادة الجماجم عبر فصلها عن الأجساد. ففي حوالي منتصف الألفية الثامنة ق م، سوف تغدو الجماجم موضع اهتمام كبير؛ وهذا ما توضَّح في مواقع هذه الفترة. ففي المريبط عُثِرَ على هياكل دُفِنَتْ بلا رؤوس تحت أرضيات بيوت السّكن. أمّا الجماجم، فبعد فصلها عن الأجساد، كانت توضع على امتداد جدران المنازل لاعتبارات اعتقادية. كذلك عُثِرَ على هذه الظاهرة عينها في أريحا في فلسطين. ولم تكن الجماجم لتُترَك سدى فقد كانوا يعالجونها، معتبرين إيّاها نوعا من التّعويض، على المستوى النّفسي والجمعي، ويحاولون إعادة تشكيلها من الجصِّ، وصبغها بما يماثل لون البشرة، ثم تُنزَّل العيون بالصَّدَف أو القواقع، وتُرسَم على الجمجمة خيوط بنية كدلالة على شعر الرّأس.[13]

  • الشّعائر والمشاعر والإيمان في الظّاهرة الدّينية:

ليس هناك من شكّ، كما أكّد العديد من الباحثين وعلى رأسهم ألفرد نورث هوايتهد(22)[14]، أنّ تمظهرات الدّين في التّاريخ الإنساني تأخذ أبعاداً يمكن اختزالها في: الشّعائر، والمشاعر، والإيمان، والعقلنة. معنى ذلك أنّ الدّين هو في جزء كبير منه عبارة عن شعائر منظمة، وأشكال محدّدة من الإيمان والاعتقاد. وهذه التّمظهرات ليست منفصلة عن بعضها البعض، بل هي تعمل بوصفها نسقاً واحدا ومتكاملا، ينصهر في بعضه البعض ليعطينا أخيرا مسمّى الدين. فماذا تعني الشّعائر أو الطّقوس؟. إنّها ببساطة تلك العادات والسّلوكات التي يقوم بها المتديّن بشكل يومي، أو شهري، أو سنوي، بغية التقرّب إلى آلهته، وتشعره بالرّاحة والسّكينة، فالتكرار هنا يأخذ دلالة نفسية عميقة حينما تصبح هذه السّلوكات والحركات باعثة على السّرور والأمان. وهكذا صارت الأحاسيس والمشاعر مرافقة بشكل كبير للشّعائر، وبذلك صار البشر فنّاني طقوس كما يقول هوايتهد. فالطّقس من هذا المنظور له وظيفة الاستثارة، فهو الذي يحرّك الرّغبة في الإحساس بالأمان والرّاحة، والتّكرار هو مولِّد هذه المشاعر. وحتّى في الأزمنة الحديثة نسبياً، فقد ظهرت في اليونان الألعاب الأولمبية التي كان لها الدّور نفسه، من حيث أنّ لها خلفيات دينية، وكذلك العبادات الدّيونيسية التي كانت تنتهي بمسرحية ساخرة.

بالرّغم من أنّ استمرار الطّقوس والشّعائر رهين بما تولّده من أمان نفسي، وعدم رغبة في الانزياح عن مناطق الأمان، إلا أنّ الشعائر والطّقوس كما يؤكّد هوايتهد لا يمكن أنْ تستقرَّ إلا إذا اتّصلت بالعقل، وهنا يأتي دور الأسطورة التي ترضي حاجات العقلنة القادمة. وطبيعة هذه الأسطورة تقتضي أنْ تكون ناجمة عن خيال غير عادي، فهي توضّح الطّقوس، وتشرح مقاصدها، وارتباطاتها وامتداداتها. والأخطر أنها تضفي عليها طابع القدسية، حين يتحوّل الإيمان بها إلى إمكانية الحصول، على ثواب، واجتناب أخطار، فيلجأ الإنسان حينها إلى العزائم، والتّمائم، وأناشيد الثّناء والحمد. وهذا ما يفسّر لنا في بعض الأحيان امتزاج الأسطورة بجانب الطّقوس والشّعائر. فالشعيرة عندما تتبلور بالتّواصل مع وسائل شرح أو فهم الأسطورة تنعكس تقديساً للشّخص البطل، أو للأمر البطولي. معنى ذلك أنّ الإيمان، أو الاعتقاد هو مرحلة متقدّمة من الدّين، فحينما يتمكّن الإيمان يصبح الدّين مرجعية عليا، بحيث تشير إلى صعود الإنسان، أو العامل الإنساني. فالطّقوس ليس فقط مثيرات لما أشرنا إليه سابقا من رغبات متباينة في الرّاحة والإحساس بالسّعادة، بل يتحوّل الدين معها وبها إلى مرحلة متقدمة تثير أفكارا تتجاوز الضّغوط التي تبعث عليها الظروف، وتفترق عنها.

فما هي العناصر الفاعلة في الدين حسب غوستاف لوبون؟

قبل أن نتحدث عن العناصر الفاعلة في الدين، والمكونات الأساسية التي تضم هذا المجال الحيوي، لا بد من الإشارة إلى أنه مهما بدا البحث في مثل هذه الموضوعات أمرا بديهيا، فإن أهميتها تتجلى من خلال الانتماء إلى مجال يهم كينونة الإنسان ووجوده ونظرته لذاته ومحيطه والكون الذي يعيش ضمنه. موضوع الأديان ليس موضوعا ترفا أو غير قابل للنقاش كما تصر على ذلك العديد من الإيديولوجيات والأصوليات الدينية، بل على العكس من ذلك هو المجال الذي يتحرك فيه الإنسان بحثا عن معنى أو رؤية للذات والوجود موضوع تكوّن ونشأة الأديان، أو ما هي الأفكار والأسس التي ترتكز عليها كل العقائد وكل الأديان؟ موضوع في غاية الأهمية، وأيضا في غاية الحساسية لأنه يلامس على الأقل جانبا مهما من الجوانب التي يؤمن بها الإنسان والتي تميزه عن غيره من الكائنات والموجودات. لهذا كثير من الباحثين والمفكرين في علم الأديان يقولون بأن العلم ازدرى تحليلَ الأديان زمنًا طويلًا مع أن تاريخ البشرية يظلُّ غيرَ مفهوم بغير تاريخ آلهتها.

وكما سبق أن أشرنا فالدين سياق طويل من التاريخ الإنساني، ولا يمكن أن نفهم الدين إلا بدراسة المجتمعات المتدينة بشكل عام منذ بدء الإنسانية إلى عالمنا المعاصر الذي أخذ فيه الدين أشكالا أخرى. وهنا لا بد من الإشارة إلى أطروحة غوستاف لوبون في كتابه حياة الحقائق[15]، حيث أشار إلى مجموعة من النظريات في تفسير نشأة الأديان. غير أن النظرية المشهورة والتي يشير إليها مختلف علماء الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع الديني تبقى تلك النظرية التي تحظى بمكانة كبيرة لدى العديد من الباحثين والمهتمين بحقل اللاهوت، وهي باختصار شديد تلك النظريةُ التي ترى بأن الدين أو الأديان بشكل عام عبارة عن حوادثَ جَمْعِيَّةً تحاط بالقداسة.

وهذا يعني مجموعة من الأشياء نجملها فيما يلي:

  • الدين مسألة جَمْعِيَّة
  • الدين يستلزم واجبات ونواهي
  • الدين أيضا إبداع فرديّ، ففي بداية أي دين يكون هناك حالة فردية تتحول بعد ذلك حالة جَمعية كما في البوذية والإسلام.

لكن بالرغم من كل هذا الاختلاف فهناك عناصر كثيرة يتكون منها أي دين بغض النظر عن خصوصيته ورسالته ونظرته.

فما هي إذن هذه العناصر؟

هناك ظواهر كثيرة تميز الدين لكن أهمها هو ما يسمى بظاهرة خلود الآلهة، فكرة الخلود هي فكرة إنسانية ضاربة في القدم، فمنذ أن وعى الإنسان وجوده بشكل فعلي كان الموت شيئأ مؤرقا بالنسبة له، سؤال يلامس الكينونة كما يلامس العقل البشري الذي يأبى أن يفكر خارج حدود الموت. إنها الكابوس الذي يلاحق الإنسان في مختلف فترات حياته. فكيف شغل الموت تاريخ الإنسان؟

من منا لم يصدم بالموت بوصفه حدثا تراجيديا لدى البعض، أو حتمية طبيعة لدى البعض الآخر، ولم تراوده أيضا هواجسه، وقلقه الوجودي. ومن منا كذلك من لا يواجه نفسه كل حين بسؤال: متى أغادر هذا الوجود؟، وكأن الحياة في نهاية المطاف هي استعداد للموت، وقبول بالبقاء مؤقتا في سجن هذا الوجود. أعتقد أن ليس هناك من لم يفعل ذلك، أو بالأحرى من لم يجبر على فعل ذلك. فالموت ليست أهميته فقط في مأساته وتراجيديته، بل إنه الضرورة الطبيعية، والحتمية التي تجعل حياة الناس كلها تحضيرا له. لكن داخل هذا الأفق لا يمكن للإنسان أن يقف عند الحدث ليجعل منه المأساة الكبرى، واللحظة الفارقة في الحياة الإنسانية، لأنه ببساطة حينما نفكر في الموت، فإننا نفكر في الحياة تحديدا، أي أننا نحضر أنفسنا للحظات العيش المهمة قبل أن نعلن الرحيل. لماذا نحتاج أن نقول هذا الكلام؟ لأن النّاس تحتاج من يهدّئ روعها، يقلّص من هواجسها ومخاوفها، ويبثّ فيها الأمل للخلاص. لكنْ أمام كلّ تجربة فريدة هناك علامات استفهام شرسة ترفض الجواب واليقين. فما الحلّ إذن؟ الحلّ هو أنْ نعلم بأنّ الموت لن يفتقر إلى أسباب تبرِّر وجوده. ومهما وصل العلم، والطب من التقدم، والتطور، ومهما امتلك الإنسان من الوسائل فلنعلم كما قال الحلاق أنّه:” حيثما وجد العلاج، ستنبثق أمراض أخرى “. لهذا يمكننا أن نقول بأن أهمّ شيءٍ في حدث الموت ليس هو الطُّقوس المرافقة له، ولا حتّى مأساويته وتراجيديته. بل إن أهمّ شيء فيه هو أنَّه يذكِّرنا في كلّ لحظة وحين بأنّه يجب علينا أنْ ننتهز الفرصة لنعيش.

الموت ليس عنوانا للبؤس والمأساة، أو هو نهاية المسار الفردي للإنسان وهذا أمر مؤكّد. بل على العكس من ذلك يمكن النظر إلى الموت انطلاقا من نظرة مغايرة أيضا، وهي أن هذا الحدث الوجودي يخلق رهاناتنا في هذه الحياة. وكأنه يقول لنا بتعبير آخر هناك شيء يمكننا أن نخسره، ويجب الحفاظ عليه قدر الإمكان، إنّها حياتنا. وإذا أردنا أن نفهم ذلك بشكل آخر يمكننا أن نطرح التساؤل التالي: ماذا لو دام الوجود الإنساني بشكل يخلد فيه في هذه الحياة؟ بالتأكيد سيتغير كل شيء أمامنا، وسنرى الأمور بشكل مختلف. فلن نعرف قيمة الأشياء ما دام ليس هناك احتمال لفقدانها. ولن تكون لدينا الرغبة في معرفة ما نحن مقبلون عليه، أو مستعدون للتضحية من أجله أو التخلي عنه. لهذا كان ميشيل مافيزولي يقول:” ليس الموت ما يمكننا تجاوزه، ولكنه ما ينبغي التوافق معه “. من هنا كان دور الفلسفة أو لنقل فعل التفلسف تحديدا، يهيئنا نفسيا لقبول الوضع على الشكل الذي هو عليه، ويحضرنا لتقبل وضعنا الفاني، والتخفيف من هواجسه وقلقه الوجودي.

كانت هناك عبارة مشهورة لمونتين يقول فيها بأن الفلسفة أو التفلسف تحديدا هو:” تعلم الموت “. مقولة تبين كيف كان يمكن أن ننظر للموت بعيون الفيلسوف الذي يهيئنا من خلال فعل التفلسف إلى قبول الوضع المأساوي للوجود، كما يزيح عنا حجاب الاستمتاع بصفاء اللحظة، وراهنية الحدث، كأنه يقول لنا بتعبير آخر أن تجربة الموت يمكن لها أن تهدد وجودنا النفسي، وتجعلنا أكثر هشاشة في مواجهة أعباء الحياة. ولعل أكبر مشكلة تواجهنا في خضم هذه الحياة المأساوية والوجود الفاني ما يمكن تسميته ب ” لعنة التعلق
“، والمقصود تعلق الإنسان بأشيائه وأفكاره وأقاربه وأحبائه، دون أنْ يدرك بأن التعلق سبب مأساة الإنسانية الوجودي، أو على الأقل هو أحد جوانبها المظلمة. يخبرنا لوك فيري[16] أنّه يجب علينا ونحن نحبّ أو نتعلّق فلا بد أنْ نتذكر بأنّنا نحب كائنات فانية أو مختلفة عنّا ليس ممنوحة لنا إلى الأبد. لهذا ما السيّء أنْ يقول أحدنا بصوت منخفض عند تقبيله ابنه أو من يتعلّق قلبه به: ” غدا سيموت “…المقصود هنا ليس هو عدم الاكتراث بالأحبة أو الأصدقاء أو حتى الأفكار. إنّما يجب أخذ الحيطة من حالات التعلّق التي تنسينا أنْ لا شيء ثابت في هذا الوجود. غير هذا الفهم فهو تحضير الذّات لعذابات الحنين والرّجاء والفظيعة.

لكن على الرغم من معرفتنا المسبقة بمحدودية الكائن الإنساني، وفنائه، ومحدودية أفكارنا، وتاريخنا وأفكارنا إلا أننا نأبى التسليم ونظل نتعلق بأشيائنا إلى الحد الذي يصعب فيه الانفصال، لأن أفكارنا ما لم نخضعها للتجربة والتطبيق تبقى مجرد أوهام تحتاج إلى تثبيت، من هنا يمكننا أن نفهم دعوة إبيكتيتوس وهو يتحدث إلى مريده:” أقول لك إنك إذا فصلت هذه الملكة القائدة عن كل ما يلتصق بها بسبب الأهواء عن كل ما يتجاوز الحاضر، وعن كل الماضي، ستجعل من نفسك كما يقول أمبيدوكل كرة مدورة جيدة فخورة في فرح وحدتها. ستدرب نفسك على العيش فقط في اللحظة الراهنة، أي في الحاضر وسيكون بمقدورك قضاء كل الزمن الباقي حتى موتك دون اضطراب بنبل وبطريقة ممتعة لشيطانك الخاص “.

ما معنى كل هذا الكلام إن لم يكن هو أن الانتصارات التي تحققها الفلسفة في التخفيف من مسألة قلق الموت ليست بالأمر الهين. فموضوع العزاء الفلسفي ليس موضوعا للترف، ولا تكذيبا أو تجاوزا للواقع. إنه فقط إعادة تقديم وعرض المشاكل التي يواجهها الإنسان بأسلوب يقلل فيه من إمكانات الإصابة بالإحباط والشعور بالفشل، والألم. فمثلا كيف يمكن أن يجعل الإنسان من فقره أو وضعيته الاجتماعية المزرية أمرا محتملا وليس قدرا محتما؟.

لنعد من حيث بدأنا لنقول بأن الروح الكامنة في الدين هي الخوف في تجلياته الثلاثة، وهو ما أشار إليه لوبون:

  • مخافةَ الأمرِ الخفيِّ
  • الأملَ في الأمر الخفيِّ
  • عبادةَ الأمر الخفيِّ

إنه الخوفُ أكثر المشاعر الإنسانية تأثيرًا، وإلى الخوف يعزو لُوكْرِيسُ ظهورَ الآلهة. لكن كيف تم ذلك؟ هذا هو السؤال المحوري، هنا يمكننا أن نتلمس الإجابة لدى لوبون بشكل موجز، وذلك لأن الخوف الإنساني قد يتجسد في أشكال عديدة نجملها فيما يلي:

  • الإحساس والشعور بمظاهر الطبيعة
  • الرجاء والأمل في طلب حماية الطبيعة
  • الخوف من القوى الطبيعية المتحولةِ إلى آلهة متشابهة
  • محاولة استمالة الطبيعة

هناك مثال آخر يجسد هذه الأبعاد وقد أشار إليه لوك فيري[17] في كتابه أجمل قصة في تاريخ الفلسفة. إذ المسيحية مثلا أحدثتْ شرخاً كبيرا في الفلسفة اليونانية، حين اقترحت خلاصا آخر بعيدا عن فكرة التّناغم الكوني الذي اقترحتْه الفلسفة اليونانية وتحديدا الفلسفة الرّواقية ومن دار في فلكها. لكنْ هذا لا يمنعنا كما يؤكّد لوك فيري أنّ هذا النّصر، وهذا الانقلاب الفكري في التصوّرات والمفاهيم جاء بناء على خسائر أيضا. لعلّ أكبرها كان هو إخضاع العقل للإيمان. فبدل أنْ يكون المحدّد الأساسي لسعادة الإنسان همُ البشر أنفسهم، أصبح الإله هو المحدّد الوحيد. إنّ الفكرة الجديدة التي اقترحها اللاّهوت المسيحي كانت من طبيعة الحال انقلابا في التصوّرات إذا ما استحضرنا البنيات الفكرية التي كانت سائدة حينذاك، وقد يبدو هناك الاقتراح الرّواقي أكثر سذاجة. فحالة الذّوبان التي تقترحها الرّواقية تجعلنا ذائبين ومغيّبين في نظام كوني المطلوب منّا أنْ نبحث عن أوجه التّناغم معه حتى نحقّق آمالنا أو سعادتنا، ولا يخفى على قارئ أنّ حالة الذوبان هذه تجعلنا نفقد هويتنا الفردية الواعية. أمّا مع اللاهوت المسيحي فالأمر مختلف تماما، إذ يصبح الخلاص هنا هو نوع من الخلود المغاير والمفارق للخلود الرّواقي، خلود شخصي لنا ولأحبّتنا ولمعارفنا وأصدقائنا جسدا وصورة وصوتا، بحيث تتحوّل العقيدة المسيحية إلى إعادة صياغة عقيدة عالية التّقنية مكنّتها من هزيمة أعتى الفلسفات والسّيطرة على العالم خلال خمسة عشر قرنا تقريبا[i].

هذا عن العناصر الدينية والعاطفية في تكوين الدين فماذا عن العناصر العقلية؟

  • العناصرُ العقلية في المعتقدات الدينية

لا تُمَثِّل العناصر العقلية حسب لوبون إلا نسبة قليلة في تكوين ونشأة الدين، لهذا كانت جدلية العقل والنقل حاضرة على مدار التاريخ الفكري والفلسفي الإنساني، وكل المحاولات التي قام بها علماء اللاهوت في مختلف الحقب التاريخية من أجل تسويغ إيمانهم بالعقول قد سبقتها الأديان بزمن طويل، فالدين هو شيء ملازم للوجود الإنساني، ظهر بظهوره وتشكّل بتشكله. لقد كان اللاهوتيون الكبار يحَصَرُون أنفسهم في دائرة المعتقد والإيمان، أما استعمال العقل فكان من أجل الحجاج والشرعنة، وهنا ظهرت فئة على شاكلة اللاهوتي أَنْسِيلْم وطوما الأكويني وديكارت وغيرهم كثير. فكل المحاولات التي كانت تقيم علاقة بين العقل والمعتقد كانت تجد معارضة شديدة على الدوام. ولعل ما قام به پَسْكَالُ في رهانه الشهير يدحض فكرة أن الإيمان أمر عقليّ.

هناك أيضا نقطة مهمة في المعتقدات الدينية. إنها:

  • دور الشعائر والرموز في تكوين المعتقدات الدينية

ما يجب أن نفهمه هو أن الأديان تتطور ككلِّ عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية، لكن الشعائر والطقوس تَمْنَحها بعض الثبات لزمن معين على الأقل، فما هي أهمية الطقوس الدينية؟ وإلى ماذا ترمز؟

  • الأديان لا تَتَّصِفُ بشيء من الدَّيْمُومة إلا بعد أن تستقرَّ بها رموز وشعائر
  • وظيفة الطقس أو الشعيرة أنه يدخل المعتقد الجديد دائرةَ اللاشعور
  • الطقوس تحول المعتقد البسيط إلى إيمان قادر على تحديد وِجْهَة السَّيْر.
  • الطقوس تديم مسألة الإيمان وتجعلها حية في نفوس المتدينين.
  • الدِّيانةُ تأخذ شكلَها الجَمْعِيَّ بتأثير الشعائر والرموز أيضًا
  • الشعائرُ تَزِيد قوةً بممارستها المشتركة
  • الشعائرُ تستحوذ على الخيالات الشخصية فتُمْسِك وَحْدَةَ الإيمان في الجماعة المؤمنة
  • الشعائر تُحْدِث عند كلِّ واحد بعضَ الواجبات الإلزامية تبعًا للسلطة الدينيِّة التي يُعْزَى إليها.

لكن لماذا تتشابه هذه الطقوس والشعائر في مختلف الأديان؟

  • بقاء النفسيةِ الدينية الصادرةِ عن العناصر الجَمْعِيَّة والدينية كما هي
  • مُلاءَمة مظاهر المعتقدات الدينية لمزاجٍ نفسيٍّ ثابت
  • ملاءَمة العقائد لاحتياجات النفس البشرية الثابتة

[1] – فرانكل، فيكتور. الإنسان يبحث عن المعنى. ترجمة طلعت منصور, الكويت، دار القلم، ط1، 1982 . ص: 128.

[2] – انظر ما كتبه آلان دوبوتون. عزاءات الفلسفة. ترجمة يزن الحاج. بيروت، دار التنوير للطباعة والنشر،ط1، 2016. ص:197.

[3] – لجان فرانسوا دورتييه مقالة بعنوان ما الدين؟. .Qu’est ce que la religion يتحدث فيها عن الخصائص المشتركة بين الأديان جميعا. يمكن الاطلاع عليها من خلال الموقع التالي: https://www.scienceshumaines.com/qu-est-ce-que-la-religion_fr_37517.html

[4] – جان فرانسوا دورتييه، لماذا لا تموت الإيديولوجيات أبدا. ملف Pdf على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود. ترجمة محمد الحاج سالم. على الرابط التالي: https://www.mominoun.com/pdf1/2016-08/ideologies.pdf

[5] – ألفرد نورث، هوايتهد. كيف يتكون الدين. ترجمة رضوان السيد. بيروت، جداول للنشر والتوزيع والنشر،ط1، 2017.  ص:17.

[6]–  انظر ما كتبه خزعل الماجدي في كتاب بخور الآلهة لخزعل الماجدي ص: 115

[7] – راجع هذه التفسيرات في كتاب الأديان في تاريخ شعوب العالم سيرغي توغاريف ص:42

[8]– بخور الآلهة” لخزعل الماجدي ص:11

[9] – انظر مقالة في مجلة آركاماني بعنوان:عادات الدفن في وادي النيل الأعلى لفرانسيس جيوز، ترجمة أسامة عبد الرحمان النور

[10] – انظر ما كتبه جاك رينولد بمجلة آركاماني بعنوان: كدروكة والعصر الحجري الحديث في إقليم دنقلا الشمالي، ترجمة أسامة عبد الرحمان النور  على الرابط التالي: http://www.arkamani.net/ar/index.php/2013-01-12-20-38-06/2013-02-16-21-29-25/2013-02-16-21-52-38

6- نفس المقال السابق، وراجع أيضا معتقدات وأديان ما قبل التاريخ لخزعل الماجدي ص:82

[12] – انظر مقالة مهمة بعنوان: شعائر الموت ومعتقداته في المشرق العربي القديم لبشار خليف على الرابط التالي:  www.maaber.org/issue_january04/mythology1.htm

وراجع ما كتبه باختصار خزعل الماجدي حول هذه الظاهرة في معتقدات وأديان ما قبل التاريخ ص:82، وكتاب أديان ما قبل التاريخ لأندري لوروا غوران ص:45

 

[13] – راجع ما كتبه حول هذه الفكرة بشار خليف في شعائر الموت ومعتقداته في المشرق العربي القديم

[14] – نورث، هوايتهد. المرجع السابق. ص: 22.

[15] – لوبون، غوستاف. حيا الحقائق. ترجمة عادل زعيتر. مؤسسة هنداوي، ط1، 2017، ص: 86 .

[16] – فيري، لوك. تعلم الحياة سأروي لك تاريخ الفلسفة. ترجمة سعيد الولي. أبو ظبي للثقافة والتراث، دون طبعة أو تاريخ نشر. ص: 86.

[17] – لوك، فيري. أجمل قصة في تاريخ الفلسفة. ترجمة محمود بن جماعة. التنوير، ط1ن 2015، ص: 33.

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete