في الدين والقومية: فلسفة كمال يوسف الحاج نموذجًا

 تكوين

  كمال يوسف الحاج، فيلسوف لبناني وُسمت حياته بثورةٍ فكريةٍ نضالية في سبيل مبادئ وطنية وسياسية واجتماعية آمن بها بعمقٍ ودافع عنها بقوة، إلى أن قضى نتيجة عدم التنازل عن أي منها. هو الذي عشق لبنان التاريخ والرسالة الحضارية، لبنان الطائفي في رقي ونبلٍ وانفتاحٍ لامتناهٍ على الآخر، هو الذي نحت كلمة “النصلامية” ليجمع جوهريًا بين النصرانية والإسلام. هو مفكر القومية اللبنانية التي حاضر فيها وكتب ودرسها لطلابه ضمن “الفلسفة اللبنانية” التي يعود له الفضل في إطلاقها وترسيخها لا سيما في الجامعة اللبنانية. من هذا المنطلق سوف نعرض لأبرز محطات فكره الفلسفي السياسي بعد نبذةٍ موجزة عن حياته العابقة بروح الإيمان والرغبة الصادقة في التلاقي مع كل أبناء الوطن.

أولًا: حياته (1917-1976)

  فيلسوف ومفكر ولُغوي لبناني. والده يوسف بطرس الحاج (1883-1955) من قرية الشبانية، قضاء بعبدا، في محافظة جبل لبنان. وكان أديبًا وشاعرًا وصحافيًا. والدته أديل بشارة شديد (1892-1972) من قرية بصاليم، قضاء المتن الشمالي، وكانت بروتستانتية وصاحبة إيمان مسيحي قوي.

وُلد كمال يوسف الحاج في مراكش (المغرب) حيث كان يعمل والده. وعند سفر العائلة إلى الأسكندرية، تعلم كمال أصول الخط العربي على يد خطاطٍ لبناني الأصل وكان يُدعى نجيب هواويني. ونال شهادةً في الخط العربي عام 1928.

في لبنان كانت دراسته الثانوية في قسمٍ منها في معهد الآباء اليسوعيين، وفي قسمٍ آخر في الكلية الثانوية العامة التابعة يومذاك إلى الجامعة الأميركية في بيروت. دَرَّسَ أصول الخط العربي في مدرسة “الحكمة” (الأشرفية، بيروت) وبعض المدارس الأخرى.

عام 1943 ترجم إلى العربية أطروحة الدكتوراه للفيلسوف الفرنسي برغسون Henri Bergson (1859-1941) Essai sur les données immédiates de la conscience تحت عنوان: “رسالة في معطيات الوجدان البديهية“.

عام 1946 نال درجة الأستاذية في الأدب العربي من الجامعة الأميركية في بيروت، وعام 1949 حاز على دكتوراة الدولة في الفلسفة من جامعة السوربون في باريس. وفي العام ذاته بدأ يُدَّرِّس الفلسفة باللغة الفرنسية في مدرسة “الآداب العليا” في بيروت.

بدءًا من عام 1950 بدأ يُلقي محاضراتٍ في دار “الندوة اللبنانية” التي أسسها عام 1946 الأديب والصحافي اللبناني ميشال أسمر (1914-1984). كما حاضر في الجامعة اللبنانية في فكر الفيلسوف الفرنسي ديكارت René Descartes (1596-1650) وكتب سلسلة من المقالات الفلسفية في مجلتي “الحكمة” و “السنابل“.

عام 1953 اقترن بالسيدة ماغي الأشقر، الأديبة والمثقفة ونسيبة السياسي أسد الأشقر. عام 1957 انصبَّ اهتمامه على فلسفة اللغة واطلع على كتابات كلًا من مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة (1904-1949)، والمفكر والأديب اللبناني أمين الريحاني (1876-1940).

عام 1959 ألقى محاضراتٍ فلسفية توجيهية لتلامذة الصفوف الثانوية في مدرسة “الحكمة” وفي معهد الرسل (جونيه). عام 1960 دخل إلى ملاك الجامعة اللبنانية أستاذًا مساعدًا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ومعه تأسس قسم الفلسفة في الكلية. (وعام 1967 رُفِعَ إلى رتبة أستاذ).

عكف الحاج فترة عن الكتابة ثم نَظمَ دروسًا جامعية منتظمة بخصوص الفلسفة اللبنانية في جامعة الروح القدس – الكسليك (1966-1967). عام 1967 وبعد إلقاء محاضرته “بكركي صخرة الخلاص“، توطدت علاقته بالبطريرك الماروني مار بولس بطرس المعوشي (1894-1975). نشر سلسلةَ مقالاتٍ له في صحيفة “نداء الوطن” بين عامي 1967 و1968، وسلسلة أخرى في صحيفة “الحياة“، خصوصًا بشأن القضية الفلسطينية.

كما ألقى محاضراتٍ عدة، منها على سبيل المثال:

  • “المسيح في التاريخ” و “الصهيونية بين المسيح والقرآن” (في معهد الرسل – جونيه)
  • “قلق الإنسان في القرن العشرين” (في حمانا)
  • عام 1969 “أبعاد الطائفية في لبنان والعالم العربي” (في جامعة الروح القدس – الكسليك)
  • “المسيح بين القومية والاشتراكية”
  • “لبنان مبنى ومعنى”
  • “لبنان في اللهب، هل يحترق؟” (في حمانا)
  • “لبنان بين إسرائيل والصهيونية” (في بشري)
  • “الطالب والقومية اللبنانية” (في بكفيا).
  • عام 1971 ألقى محاضرةً تحت عنوان “لبنان ذلك المجهول” (في الدامور) رد فيها على “شتائم” الرئيس الليبي معمر القذافي وانتقاداته (1942-2011)، فتكونت ضده مجموعات هاجمت فكره القومي اللبناني خصوصًا وأشعرته بتهديدٍ جدي لحياته.

كان شديد التعلق بوالدته التي وافتها المنية عام 1972، فكتب حينها بعباراتٍ جِد مؤثرة:

“… راحت أمي. وكان لا بُد لي من أم، ولكن أين أجد أُمًّا غير أمي تكون هي أمي بالذات؟… أشهد أن الحياة دون أم صحراء، بل جحيم هي. لا يوجد في العالم آلة وثيقة الصنع، سامية الغاية، مَهيبة، رهيبة عظيمة الشأن، قوية الشكيمة، تحتاج إليها في كل دورٍ من أدوار حياتك، كقلب الأم.”1

بعد ذلك، دخل في فترةٍ رُوحانيةٍ تصوفية في حياته، وتقرب من التدين المسيحي أكثر فأكثر.

عام 1972 أصدر وثيقةً بالغة الأهمية تحت عنوان: “معالم الفكر الإنساني”، وتعرف في السنة ذاتها على الإمام “المغيب” موسى الصدر(1928-) الذي لم يُعرف أي خبرٍ عنه بعد زيارته ليبيا عام 1978.

أصر على إدخال مادة “الفلسفة اللبنانية” في منهج كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية، ونجح في ذلك، فطُبق ما أراد في العام الأكاديمي 1973-1974.

عام 1976 قُتل الحاج في بلدته “الشبانية” الأحب إلى قلبه، بعد وقت قليل من خطفه أمام أعين بعض أفراد عائلته، لتُختتم بذلك سيرة المناضل في سبيل لبنان والقومية اللبنانية بطريقةٍ مأساوية صدمت كثيرين وأحزنتهم بشدة.

من أبرز مؤلفاته:

  • فلسفيات (1956)
  • في القومية والإنسانية (1957)
  • من الجوهر إلى الوجود (1958)
  • القومية ليست مرحلة (1959)
  • فلسفة الميثاق الوطني (1961)
  • المبرر الفلسفي للقومية اللبنانية- محاضرة (1963)
  • الوحدة القومية والكيان السياسي (1963)
  • الفلسفة اللبنانية الحديثة- محاضرة (1964)
  • في غرة الحقيقة (1966)
  • أبعاد الطائفية في لبنان والعالم العربي- محاضرة (1969)
  • قوميات إزاء القومية اللبنانية- محاضرة (1970)
  • موجز الفلسفة اللبنانية (1974).

ثانيًا: الدين والدولة

  1. رفض الفصل بين الدين والدولة

  رأى كمال الحاج الدين والدولة في حالة تواصلٍ مستمر، وأكد أن أية محاولة للفصل بينهما سوف تنتهي بالفشل حتمًا. وانطلاقًا من قناعته هذه، فقد شرح تصوره الفلسفي للمفهوميْن معززًا أحكامه بأمثلةٍ في المسيحية والإسلام.

  • الدين

   “لغةً، الدين مُشتق من الديْن، وهو يحمل فيه معنى الحساب. نقول يوم الدين والدينونة أي يوم الحساب.”2

بدأ الحاج تفسيره الدين لُغويًا قبل تحديد ماهيته فكريًا، وطبق في هذا التوجه نظريته في اللغة إذ عدها حمالة كل غايات البشر ويجد فيها الإنسان خفايا جميع مفاهيمه. والدين في تصوره “جوهر… وُجد مع الإنسان منذ أن سُويَ الإنسان إنسانًا.”3  والتاريخ شاهد على ذاك الأمر، فالشعوب -قديمًا وحديثًا- ماشت الدين منذ البدء قبل أن تُبادر إلى التماشي مع أية قيمةٍ أخرى من القيم الحضارية. أما أين يُزاول الدين؟ فليس في الدين ذاته، بل “على الأرض بطريق الجسد، والأرض بطريق الجسد وجود.”4  هو إذًا جوهر لصيق بالوجود (وسوف نحلل هذه الفكرة في قسمٍ لاحق). من هنا، عدَّ الدين ذا خطيْن:

“الخط العمودي الذي يربط الإنسان بالله، والخط الأفقي الذي يربط الإنسان بالإنسان.”5

يكتشف الإنسان في صلته بالله معاني الخير والشر والثواب والعقاب، أما في علاقته بأخيه الإنسان فيتعلم كيفية إحياء الدين في المجتمع، ذلك أن الدين في حاجةٍ إلى التظهير، كما الفكر في حاجةٍ إلى التعبير في وَحْدةٍ بين الوجدان واللغة، كما بين الدين والممارسة التعبدية في المجتمع. الدين إذًا علاقة وثيقة وحتمية بين الميتافيزيقيا والاجتماع، هو تحقيق الجوهر السماوي في الموجود الأرضي. وللدلالة على ذلك، استشهد بقول المسيح:

“أحبب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك، هذه هي الوصية الكبرى والأولى. والثانية تشبهها، أحبب قريبك كنفسك. بهاتيْن الوصيتيْن يتعلق الناموس كله والأنبياء”6

ففي قوله هذا جمع المسيح بين العلاقتيْن: الإنسان-الله، والإنسان-الإنسان، مساويًا بينهما في الأهمية. فمن يُنكر الله يُنكر الإنسان، ومن يُكرم الإنسان واجب عليه أن يُكرم الله.

أضف أن الخط العمودي للدين يُمثل الوَحْدة الإلهية، فيما يُجسد الخط الأفقي التنوع البشري، وفق فلسفة الحاج الذي أشار إلى أنه على رغم الاختلاف الجذري بين الخطيْن، بافتراض أن التنوع البشري يتبدل، أما الوَحْدة الإلهية فمفهوم غير قابلٍ للتحول، فقد دعا إلى عدم التطرف في أي من الاتجاهيْن على حساب الآخر، لأن الاحتياج متبادل بين الاثنين، وهنا يكمن الإيمان في حقيقته العميقة. الدين إذًا مُعطى نفسي بديهي يعمل لتقويم وجود الإنسان في الطبيعة وفي المجتمع من طريق ما يبثه فيه من قدرةٍ معرفية وإدراك لافت لحس الوجدان ومبدأ الاحترام. وما يُدخل الدين باب العقيدة هو صفته المطلقة، إذ تتسم العقيدة كذلك بصفة الإطلاق وتتناول الوجود البشري بضمةٍ واحدة. “من أجل هذا، كانت نظرتها واجبة الوجود، أي من قبيل ما يجب أن يكون، لا من قبيل ما يُمكن أن يكون”7 .

وعندما تُطرح الأسئلة العقلانية بخصوص الله والإنسان والحقائق الوجودية، تكون الاجابة في الدين ذاته الذي وإن كان لا يَرْوي جميع تساؤلاتنا، إلا أن موقفنا منه يستحيل أن يكون وسطيًا، فإما أن نكون معه أو ضده. تِبعًا لذلك رأى الحاج الدين غاية الإنسان وتوقه اللامتناهي إلى الغيب الأكبر، واستنادًا إلى هذا التوق فقد أكد أن الموت هو الباعث الأقوى على التدين في حياة الإنسان،

“فإذا بَطُلَ الموت، بَطُلَ فعل التدين قطعًا وجبرًا”8

أما لماذا ربط المرء بين الدين والموت؟ فلأنه وحده من بين الكائنات يُدرك أن الموت في انتظاره حتمًا، ومن هذا الادراك ينبثق النزوع إلى التفكر في عالمٍ آخر، وكما ربط الدين بالموت، رأى فيه كذلك صلةً بالعلم، فالعلم “الحق والدين الصحيح أخوان في الجوهر”9 والتقدم العلمي هو اندفاع نحو المعرفة الدينية.

إلى ذلك وانطلاقًا من “لبنانية” قضيته الفكرية، فقد أكد وجود الدين في لبنان منذ ما قبل التاريخ، أما اللادين فهو فرع، لأن المادية والإلحاد ليسا من طبع اللبناني الذي نجد التدين ضاربًا في جذوره، تساعده في ذلك ديمقراطيته التي تحمله على التطلع نحو السماء، بخلاف الدكتاتورية المادية التي تتمثل في انحيازٍ جلي لطرفٍ واحدٍ من طرفي الحقيقة. وهو يحافظ في كنف تلك الديمقراطية على واقعيْن اثنيْن: عدم ارتمائه في أحضان الماورائيات في شكلٍ أعمى، وتقصده الابتعاد عن الأيديولوجيات وعن الفكر التنظيري البحت، مُفسحًا المجال للتحلي بنعمتي التسامح الديني والتحضر في العلاقة السوية مع الآخر.

  • روابط الدين والدولة

  الدولة هي الظاهرة الأكثر أهميةً في الحياة المجتمعية للفرد، وهي

“أجدر الشؤون والمظاهر الثقافية تمثيلًا للحياة العقلية التي هي من خصائص الاجتماع الإنساني”10

هي الشكل الاجتماعي الحقوقي الأكمل للإنسان، وهي مجموع الشعب كله ومنبع اكتمال شخصيته القومية، فهي إذًا تُمثل رُقي مجتمعية الفرد، حتى ليمكننا التحدث عن المجتمع/الدولة، وعن الدولة/المجتمع، لا بل إن كُلًا من المفهوميْن شرطٌ للآخر. كما أن الدولة لا تعرف أوساط الحلول، فإما أن تكون مؤمنة أو ملحدة، هكذا تنقسم دول العالم اليوم فالمعركة دينية في صميمها… هي معركة الإيمان أو عدم الإيمان بالله.

انطلاقًا من هذا التصور الفكري لمفهوم الدولة انبرى الحاج يُدافع عن روابط الدين والدولة. فقال بداءةً:

“لقد وُجِدَ الدين للدنيا ليكون غاية، ووجدت الدنيا للدين لتكون واسطة. ولا فرق في قاموس الحقيقة بين الغاية والواسطة. فمن طلب الغاية طلب الواسطة جبرًا، وإلا أخفق في الاثنيْن معًا.”11

واستنادًا إلى هذا الوصل المُحكم بين مفهومي الدين والدنيا، نكون أمام جوهريْن كِيانييْن يكونان وَحْدةً إنسانيةً لا يُمكن تفكيكها. فإذا ما أدرك الإنسان ربه أدرك أخاه أيضًا… وإذا ما أدرك أخاه أدرك ربه في الوقت عينه. وبما أن الدين غاية والدولة واسطة، فهما “بمنزلة النطق والكتابة في الإنسان، ما وُجد النطق إلا واستلزم الكتابة. النطق قوة، والكتابة فعل.”12 والمرء قد يستغني بالدين عن الدولة، لكن العكس لا يحصل، والواقع يفرض وجودهما معًا في حياة الإنسان والدولة. أضف إلى ذلك صعوبة تخلي الإنسان -مسيحيًا كان أو مسلمًا- عن انتمائه الديني أو نُكران هذا الانتماء ووضعه جانبًا لدى توليه منصبًا في الدولة. وبما أن الدولة هي الصيغة الاجتماعية الأكثر رقيًا، وبما أن الدين ضرورة اجتماعية، فغير منطقي أن نفصل بينهما، إذ لا فصل بين الإنسان من جهة ومعطياته الإنسانية من جهةٍ أخرى. إن الفصل يقع فيما بين مظاهر هذه المعطيات.

إقرأ أيضًا: نقد الأيديولوجيا الشيوعية في النشأة والمآلات: الحزب الشيوعي اللبناني نموذجًا

إلى ذلك ينبغي أن نكون واعين تمامًا لسلبيات الفصل بين الدين والدولة، ولا سيما خطر الوقوع في الإلحاد، علمًا أن الشرق، كما رأى الحاج، مُتمسك بالماورائيات وبالقيم الإنسانية الصالحة المتصلة بالدين. وإذا ما أُسيء تطبيق التعاليم الدينية عبر التاريخ، فهذا لا يُبرر مُطلقًا القبول بالفصل. وتبقى الدولة، على قوتها، سلطة بشرية واهنة غير مُدركة للمطلق وفي حاجةٍ ماسةٍ للدين الذي هو “أوسع نطاقًا وأعدل شرعًا وأهدى نهجًا وأتم نعمة”13 وعندما تخطئ الدولة في أحكامها، يبرز دور الدين المؤدي حُكمًا إلى العدالة في المجتمع.

وفي لبنان الربط ضروري بين المفهوميْن، خصوصًا في مواجهة سيطرة فكرة القومية العربية وتزايد مخاطر القومية الصهيونية. والاثنتان تُركزان على الدين لتحقيق مآربهما ضد لبنان، لذا علينا أن نبني لوطننا فلسفةً تحترم وضعه الديني، فيوم يتهافت لبنان “دينيًا يتهافت سياسيًا. يومذاك يبطل لبنان أن يكون اللبنان الذي ينبغي له أن يكون”14 إذًا في مواجهة القوميات القائمة على أسسٍ دينية، على الدين في لبنان أن يرتكز على القومية لأن الدين ليس قضيةً فردية، بل هو على ارتباط وثيق بالوطن، وتساعد القومية الإنسان على تجسيد القيم السماوية الرابضة في لاوعيه الديني. في ذاك السياق أكد الحاج فضل الدين في نشوء القومية اللبنانية، معتبرًا التاريخ عمومًا الشاهد الأول على صلة الدين بالدولة، والتاريخ اللبناني خصوصًا ذا “نكهةٍ دينيةٍ خالصة”15

وتفاديًا لأي التباسٍ بين مفهومي الدولة والحكومة، فقد وصف الدولة بقوله “هي شخصية المجتمع المعنوية، هي كمال قوميته، هي ناحيته الحقوقية. إذًا هي قيمة جوهرية على عكس الحكومة التي هي مجموع الأجهزة الإدارية.”16 والحكومة لا علاقة لها بالدين، بل هي منفصلة عنه، وفسر ذلك بتحديده الدولة والدين بوصفهما جوهريْن، والحكومة والطائفية بوصفها وجوديْن، ويقع الفصل بين الموجودات لا الجواهر. من هنا كان انتقاده المُطالبين بإلغاء الطائفية، لا سيما الأحزاب الداعية إلى علمنة الدولة، لأنهم يقعون في الخلط الشائع بين مُصطلحي الدولة والحكومة.

واستكمالًا للدفاع عن روابط الدين والدولة عمد الحاج إلى تحليل واقع الشرق والغرب مستندًا إلى أمثلةٍ عدة. فأورد جزءًا من الخطاب الذي ألقاه ملك المغرب محمد الخامس (1909-1961) أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في التاسع من كانون الأول عام 1957 حين قال: إذا كانت دولتنا تمتاز بأنها دولة فتية، فإنها في الوقت نفسه “أمة عريقة متشبثة بعقائدها الدينية وبقيم الإسلام الرُوحية، تلك القيم التي هي أسس حضارة شديدة الحرص على السلم والعدالة والمساواة.”17 وحتى في تونس وعلى رغم إقرار الزواج المدني، فقد جاء في خطابٍ ألقاه الرئيس الحبيب بورقيبة (1903-2000) عام 1955 في مؤتمر صفاقس:

“إن الأمة التونسية عربية مسلمة منذ أكثر من 13 قرنًا ونصف القرن، وهي أمة مسلمة إلا أقلية ضئيلة، وستبقى عربية مسلمة إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها وهو خير الوارثين…”18

مُضيفًا أن منع تعدد الزوجات لا يُمثل مخالفةً للقرآن الذي -وفق رأيه- ساير وضعًا نفسيًا وبيئيًا، أما في حال استقام الوضعان، فتعدد الزوجات يكون مُنافيًا لرُوح القرآن. إذًا المنع لا يعني فصل الدين عن الدولة، وكما في الشرق كذلك في الغرب لم يُفصل الدين عن الدولة لأن هذا الفصل غير مُنسجمٍ مع العقيدة المسيحية، والاعتقاد أن الدول الغربية هي دول لادينية هو اعتقاد خاطئ، “ففي بريطانيا يجب أن يكون رئيس الدولة مسيحيًا وينتمي إلى الكنيسة الإنجيلية، وفي الدانمارك والنروج يجب أن يكون مسيحيًا ينتمي إلى الكنيسة اللوثرية، وفي السويد يجب أن يكون مسيحيًا كاثوليكيًا، وفي اليونان يجب أن يكون مسيحيًا منتميًا إلى الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية”19

ج- المسيحية دينًا ودولة

   “الذين يعدون المسيحية ديانة ماورائية ليسوا محقين. إن ملكوت الله لا يكون وراء التاريخ وفوق العالم. التاريخ والعالم هما مكان تجلي الأبدية، ونحن لا نستطيع أن نهرب من التاريخ ولا من العالم”20

  لا فصل في المسيحية بين الدين والدولة، والذين يتذرعون بعبارة المسيح: أوفوا “ما لقيصر لقيصر وما لله لله”21  للدلالة على عكس ذلك مخطئين. فالكتبة والفريسيون لم يرتاحوا لوجود يسوع وكانوا يخططون لإسقاطه، كما جاء في إنجيل مرقس: “وأرسلوا إليه نفرًا من الفريسيين والهيرودوسيين ليتسقطوه في كلامه”22  وأتت عبارته في رأي الحاج، نتيجة اتصالها بالظرفيْن المكاني والزماني، ولم تعنِ الفصل مطلقًا. وبما أن الجزية أمر إداري، فقد عالج يسوع في تلك الواقعة مسألةً إداريةً تعود إلى الحكومة وليس قضيةً سياسية في المستوى الإداري. وردًا على المتسائلين في شأن عدم إعطاء يسوع شريعة خاصة لكل الحالات الاجتماعية، أجاب الحاج أن يسوع شَرَّعَ عمومًا مُقدمًا للإنسان ركائز جوهرية عامة تلمس الكِيان البشري في عمقه، من هنا كان قوله

“إن السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول”23

وعلى رغم كون الرئاسة الدينية تفوق في أهميتها الرئاسة الدنيوية، فالمسيحية هي أكثر الأديان على الاطلاق دينًا ودولة. أضف أن المسيح، وهو “أتم تجسيدٍ لله في عالم الكائنات”24 أبدى اهتمامه بالقومية موكدًا وجوب أن تكون كل قومية بمنزلة نافذة للإنسانية العامة. في هذا السياق وعندما سُئل الحاج عن المسيح في احتفالية عيد الميلاد، قال: ” أدركته يوم أدركت لبنانيتي وعروبتي معًا. قول غريب، ولكنه الواقع الذي أشعر به في هذا العيد. لقد غدا المسيح عندي محور سياسات العالم منذ ألفي سنة”24

د- الإسلام دينًا ودولة

  “الإسلام دينًا ودولة. كل ما يمسُّ الدولة يمسُّ الدين”25

وصف الحاج الإسلام دينًا ودولة في القرآن الكريم بالأمثل والأكمل، وفي تحليلٍ تاريخي لذاك النص، رأى أن الخليفة كان يُجسد السلطتيْن الدينية والدنيوية، فلا يخرج شرع دنيوي عما نص عليه الدين، ومن ثمَّ يُقبل كل أمرٍ دنيوي لا يتعارض مع الأحكام الدينية، ولا يُقبل منه ما يُعارض سنة الدين. من هذا المنطلق رأى علمنة المجتمع الإسلامي أمرًا مستحيلًا، ذلك أن الإسلام بعدما وَعَى حقيقة الإنسان في عمقها وبالارتكاز على آيات القرآن، قطع الطريق أمام إمكان تلك العلمنة، ودمج الدين والدولة عضويًا، إذ بات على المسلم أن يختار أحد أمريْن: إما أن يكون مؤمنًا فيعترف علانيةً بالإسلام دينًا ودولة، وإما أن يُنادي بالعكس فيُعدُّ مُلحدًا. ثم لماذا الفصل ما دام الإسلام نظامًا شَرَّعَ للدولة سياسةً واجتماعًا واقتصادًا، فوضع أنظمةً تامة للعلاقات المجتمعية ولأصول الحكم، وكذلك لقوانين الحرب والسلم وللمعاملات التجارية… ولسوى ذلك مما تمتلئ به الشريعة الإسلامية؟ وفي رأيه أن البلدان العربية أحسنت وأبدعت في التزامها هذه الوَحْدة، فاستمر المشرق العربي يقتاس بمفاهيم الدين والرُوحانيات.

  1. رجال الدين والسياسة

بعدما شدد الحاج على توثيق العلاقة بين الدين والدولة، جاء طرحه صلاحيات رجال الدين في السياسة. فما هو مفهومه عن السياسة؟ وكيف برر تدخل رجل الدين في الشؤون السياسية؟

  • السياسة
  • ماهية السياسة وأهميتها

  السياسة وفق تعريف الحاج، “فعل إنساني خالص لا مفر منه”26 ، هي تجسيد للقيم الإنسانية في المجتمع، وهي تتدخل وتتداخل في كِيانية الفرد المجتمعي. غير أن تفكيره المثالي هذا لم يمنعه التمييز بين معنييْن للسياسة: السياسة العمودية بطابعها العقيدي، والسياسة الأفقية الانتهازية العشائرية. “الأولى تغور في شاهقات الفكر، وهي ذاتها صنوٌ للتاريخ والفلسفة أيضًا. الأخرى تُراوغ وتداهن وتتاجر، تشتري بأبخس الأثمان وتبيع بأغلاها وأفحشها”27 وقد عبر عن توجسه من الأخرى لأنها أوقعت لبنان في نارها وخيبت آمال اللبنانيين، وبرأ نفسه منها.

إلى ذلك عزا أهمية السياسة إلى كونها رابطة قومية على علاقةٍ بأرضنا وتاريخنا ولغتنا واقتصادنا، “ولما كانت تلك الرابطة القومية محضًا من محاض كِياننا السياسي، فقد كانت السياسة (بهذا المعنى) محضًا من محاض كِياننا الإنساني.”28 من ذاك المنطلق أبدى تقديره لوصف أرسطو Aristote (384-322 ق.م.) الإنسان “بالحيوان السياسي” لأن السياسة ضاربةٌ في أعمق أعماق الإنسان.

وإضافةً إلى معنييْها، تتجلى السياسة كذلك بمظهريْن: الدولة والحكومة. الأولى تُمثل الحق في وجه الباطل وترمي إلى تحقيق ما يجب أن يكون، والأخرى تُمثل القوة في نطاق الحق والقانون بهدف حماية ما تحققه الدولة وتفادي الوقوع في الفوضى. الأولى تُشرع والأخرى تُنفذ. والحقيقة أن الإنسان لم يفهم السياسة من منظورها العلمي ولم يُمارسها بوصفها رسالةً اجتماعيةً سامية ولا بوصفها نظامًا اقتصاديًا فاعل، بل أقدم عليها كونها غواية وترف، فأخفق فيها وظن أنها السبب في “خراب بيته”.

  • السياسة والأخلاق

السياسة “هي من صلب الأخلاق أكثر، لقد أصبحت من صلب الدين ذاته. لا قيمة لسياسةٍ لا ترمي إلى غايةٍ أخلاقية، ولا فاعلية لأخلاقٍ لا ترتبط بالسياسة”29  فالأخلاق جزء أساسي من كِيان كل ديانة. إلا أن الحاج لم يقصد بالسياسة الأحزاب والمناصب، وإنما القيم الرُوحية المُتمثلة في حماية الحياة والأملاك والحريات. وعلى العقيدة أن تكون موجودةً حَكَمًا في حياة كل سياسي، مع العلم أنه ميز بين نوعين منها: العقيدة التي تعقد الفرد في جهة الخير فيسعى نحو الصلاح، والأخرى التي تعقده في جهة الشر فيميل نحو الطرف المعاكس، كما حدث في محطاتٍ تاريخية عدة. فما يوثق صلة السياسة بالأخلاق إذًا هو بُعدها الإنساني الذي ينبغي أن يقوم على الخير والمحبة والعدالة، والحكومة هي من يطبق العدالة في تلك الأمور السياسية، وتلعب الكنيسة هذا الدور في الأمور الدينية، على قاعدة أن العدالة الصحيحة تكون واحدة في السياسة وفي الدين. أما في حالة الفصل بين السياسة والأخلاق، فتنقلب السياسة عنفًا وأنانية وبربرية وعنصرية.

  • السياسة والتاريخ

  إن التاريخ هو الزمان في أبعاده الثلاثة معًا، فهو مجموعة العادات والتقاليد التي يلتقطها الإنسان من ماضيه، بهدف عيش الحاضر وتحقيق ما يصبو إليه مستقبلًا. “هو كل ما يرثه الإنسان من الماضي، ويعايشه في الحاضر، ويأمله في المستقبل.”30  آمن الحاج إذًا بالنظرة الشمولية للتاريخ. فكل مؤسسات المجتمع في معناها الإنساني هي تاريخ: العلم والفلسفة والثقافة، الفن والبناء، التربية والسياسة والدين… كلها ميادين موسومة بتاريخٍ طويل. ولبنان على علاقة وثيقة بالتاريخ بِدءًا بالمعنى الإثني للكلمة الذي يدل على الشعب اللبناني في كل مكانٍ وزمان، وصولًا إلى معناها الحضاري الذي يبرز عبر تاريخٍ لبناني حضاري عريق. لكن لبنان/التاريخ يتميز عن لبنان/السياسة جوهريًا تميزًا جذريًا، وللدلالة على ذلك فقد حلل أسطورة “الله ولبنان” فكتب:

“هناك أسطورة تقول بأن الله وقد خلق العالم أراد تتويجه بالكمال، فأبدع لبنان. لما انتهى من عمله ونظر إليه ارتاح وابتسم، لكن إبليس لم يطمئن إلى هذا التاج المُرصع في قمة الخليقة، فقام ليلًا واندس خِلسةً من تحت عرش الله وخلق اللبنانيين نِكايةً بلبنان. هكذا أوجد السياسة، ثم عاد إلى فراشه وحتى اليوم لم ينم. ما كاد إبليس يخلد إلى وكره حتى ماجت الأركان، وهاجت الرواسي، وتخضخض لبنان من الذي حدث. منذ ذلك الحين وسياسة اللبنانيين تصارع تاريخ لبنان”31

لبنان/التاريخ إذًا ثابت ودهري، فيما لبنان/السياسة عابر وآني. الأول جوهر متصل بالإنسان والدين، فيما الآخر فوجود مرهون بالحزب والاقطاع؛ تاريخ لبنان هو “ديمومة الزمان في كل حاضر”32 ، أما سياسته فحاضر “هروب في مجاري الوقت”33  من هذا المنطلق على الحاكم الحكيم أن يكون أستاذًا في التاريخ وتلميذًا له في آن، فيُحسن قراءته ويستخلص منه العبَر. أضف أن استصغار لبنان في السياسة يقابله استكبارًا له في التاريخ، وكما قال: “ألا ترى في اسم قدموس جذر “ق، د، م،” الذي يشير إلى القِدَم؟”34

  إن الإخفاق في سياستنا هو نتيجة جهلنا تاريخ وطننا، والسياسيون اللبنانيون يعرفون تاريخ لبنان معرفةً معلوماتيةً محدودة، لا معرفة فلسفية محددة المعالم والمفاهيم. ومن يهزأ بسلطة التاريخ ويُنكر قيمتها يجهل أن الإنسان في ذاته تاريخ وأن “جهله لتاريخه تاريخ لجهله”35 التاريخ الكبير يُعمر والسياسة الصغيرة تُدمر، وتاريخ لبنان في رأي الحاج، محكمة صارمة لسياسة اللبنانيين.

  • السياسة والفلسفة

  “ويل لأمةٍ لا يتفلسف ساستها ولا يتسيس فلاسفتها. إن أمةً كهذه تعيش في انعزال فكرًا وفعلًا، أعني ثقافةً وسياسة”36

متأثرًا بأفلاطون Platon (428-347 ق.م.) في “جمهوريته” وبالفارابي (870-950) في “مدينته الفاضلة“، اشترط الحاج على الحاكم أن يكون سياسيًا وفيلسوفًا في الوقت ذاته، لأن السياسي الذي لا يدرك الفلسفة ولا يعتمدها في حكمه وأحكامه هو سياسي غير مبصر ولا متبصر، كما أن الفيلسوف الذي لا يتسيس يغدو مقعدًا عاجزًا عن العطاء. وعليه فإن التزام القضايا السياسية الكبرى يجب أن يتم بروحٍ فلسفية، لأن القول الفلسفي والعمل السياسي غير منفصليْن في الجوهر. من هنا جاء قوله: “حتمًا أرمي إلى الفلسفة بحقيقتها الواقعية التي هي سياسة الجسد، لكن على صعيد الرُوح، تلك هي المثالية الحقة، وأرمي إلى السياسة بحقيقتها المثالية التي هي فلسفة الروح، لكن على صعيد الجسد، تلك هي الواقعية الحقة”37 وإذ رأى السياسة فلسفةً عملية، والفلسفة سياسة نظرية، فقد تساءل في موضع آخر: “وهل نجد كالفلسفة مجالًا فكريًا أكثر واقعيةً؟ وكالسياسة مجالًا عمليًا أكثر مثالية؟”38

من هذ المنطلق شدد على وجوب تشارك الفلسفة والسياسة في بناء لبنان الغد. وتلك هي تحديدًا مُهمة الفلسفة اللبنانية التي لطالما ناضل من أجلها والتي ينبغي الركون إليها لأن فيها بعضًا من الرؤيا، وفي أعماقها الحلول المنتظرة لأزماتنا المتتالية. إلى ذلك فقد ربط الفلسفة بالقومية، وكذلك بالثورة التي إذا ما خلت من المضمون الفلسفي، فإنها تؤدي حتمًا إلى صراعات دموية. كذلك قارن بين الشرق حيث التباعد بين الفلسفة والسياسة، والغرب حيث تُمثلان وَحْدةً. ففي الشرق تكثر “طفاواتنا وترهلاتنا وارتكاساتنا. فساستنا لا يتفلسفون، وفلاسفتنا لا يتسيسون. بذلك يخسر فكرنا أرضًا يتجسد فيها، ويفقد عملنا سماءً يتجه نحوها”39 أما الغرب فعرف فلاسفة سياسيين أمثال الفيلسوف الفرنسي سارتر Jean-Paul Sartre (1905-1980)، والبريطانييْن راسل Bertrand Russel (1872-1970) وياسبرز Karl Jaspers  (1883-1969)، ولأنهم دخلوا مُعترك السياسة فصوتهم لم يَخْفُت، وقلمهم لم يَجْمُد. إذًا بين الأفعول الفلسفي والأعمول السياسي علاقة تاريخية طويلة، فالتاريخ هو الشاهد الأصدق على كون الفلسفة مشروعًا سياسيًا، والسياسة تجسيدًا فلسفيًا.

  • رجال الدين والسياسة

  • علاقة الراهب بالسياسة

رأى الحاج أن الوَحْدة الإنسانية لا تتجزأ، فلا سياسة على حدة ولا دين على حدة. من هذا المنطلق علاقة الراهب بالسياسة بديهية وأساسية، وتجريد رجل الدين من حقوقه المدنية والقومية هو إسقاط لصفة المواطنة عنه. إذًا من حق رجل الدين، لا بل من واجبه أن يخوض غمار السياسة وأن يراقب السياسة الوطنية في شكلٍ فاعل، وأن يزاول القيم الرُوحانية في المجتمع، لأن الرهبنة هي أكثر الحركات التزامًا بالزمنيات لناحية غاياتها وأهدافها، كما يجب عليه ألا يغض الطَرْف عن الخيانات القومية التي ترتكبها الحكومة أو عن التصدع الأخلاقي الذي يُبيحه السياسيون. ويأتي تدخله في القضايا السياسية من صفته إنسانًا أولًا ورجلَ دين تاليًا، وخدمةً لأرضه وتاريخه ولغته، ولن يكون راضيًا عن ذاته دينيًا واجتماعيًا إذا هو لم يشارك في تقرير مصير وطنه والذود عنه إذ يجب أن يفعل. إلى ذلك أشار الحاج إلى الاختلاف البيئي والسياسي والاجتماعي بين الراهب اللبناني والراهب الغربي، وإلى أن القدر ألقى على الأول مسؤوليةً مسيحيةً على درجةٍ كبيرةٍ من الدقة لأن الصهيونية -وفق تعبيره- وهي “ألد أعداء المسيحية بعد الشيطان تُطالب برأس المسيح في الراهب اللبناني”40 لذا فقد رأى أن الداعين إلى تحقيق العَلمانية وإلغاء الطائفية وإقصاء الراهب عن السياسة لا يدركون حجم خطورة سياستهم.

  • بكركي والسياسة

كما ذكرنا بخصوص الراهب، فالأمر ذاته، لا، بل المسؤولية مُضاعفة بخصوص البطريرك الماروني. هو لبناني قبل أن يكون بطريركًا، وبكركي مدعوة حكمًا إلى أن تلعب دورًا سياسيًا فاعلًا لأنها المدافع الأول عن حقوق المسيحيين عمومًا والموارنة خصوصًا. وتأدية ذاك الدور المُلتزم لا تُحدث مطلقًا أي شرخٍ بينها وبين رئاسة الجمهورية، لا بل تؤدي إلى تعاضدٍ قوي، انطلاقًا من عد الرئاسة الزمنية ذات قاعدة رُوحية، والرئاسة الرُوحية ذات قاعدة زمنية. وخلافَ ذلك قد يعني خسارة لبنان معناه الحضاري الرائد في العالم العربي.

تكمن مناعة لبنان إذًا في عدم الفصل بين الجمهورية والبكركية. ويُخطئ من يعتقد أن بكركي “لمجرد الرُوحيات. لقد جعلتها المواضي البعيدة والقريبة في أساس لبنان، وهكذا غدت لصيقةً به وغدا لصيقًا بها”41 كذلك هي ليست “لمجرد الزمنيات، لفئةٍ دون فئة. لقد جعلتها المواضي البعيدة والقريبة السقف الذي يستظله اللبنانيون كلهم… المسلم في دارها لبناني، والدرزي في دارها لبناني، والمسيحي في دارها لبناني. كلنا أبناؤها، وهي أم للجميع”42

ذاك الالتصاق في الرئاستيْن إلى حدود التماهي أفضى إلى لعب بكركي دورًا قياديًا بعد إعلان الميثاق الوطني عبر إلقاء الضوء على بُعده الحضاري ومنع السلطات المدنية الجنوح عن حقيقة معناه. وكما كان على بكركي أن تنتشل السياسة من الهاوية، كان عليها أيضًا أن تُبرز كونية الميثاق وكينونته. كما كان لزامًا عليها أن تتبع سياسة التفاهم والتصافي ونبذ التعصب الطائفي ومحاربته بمختلف الوسائل المتاحة، حفاظًا على سندي التاريخ اللبناني “العقائد الدينية والمقومات الوطنية.”43  من هنا كان انتقاد الحاج عدم استشارة البطريركية المارونية في شأن القضية الفلسطينية، لأن المعركة -كما كانت تعتقد بكركي- “لن تُدار إلا من عندنا في أهدافها المصيرية، وأن الكلمة الأخيرة لن تُعطى إلا من لبنان”44

إلى ذلك أكد الحاج أن دفاعه عن بكركي وعن سيدها هو في العمق دفاع عن الكِيان الماروني لبنانيًا وعربيًا وإنسانيًا. والبطريرك -في رأيه- لا يُحاسب الأشخاص والحكومات والعهود، لأنه لا يتكلم باسم شخصٍ أو حكومةٍ أو عهد، وإنما هو يُحاسب ذهنية الانحراف والتخريب والمؤامرة والتعصب الطائفي الذي يتهدد الكِيان اللبناني كله. وكان على يقينٍ بأن التاريخ سيكون دومًا إلى جانب بكركي بالارتكاز على مواقفها الوطنية الخالصة. وكما قال: “لبنان التاريخ هو تاريخ لبنان، وتحت سقف بكركي أقداس هذا التاريخ الذي لنا”45   

ثالثًا: الطائفية في فكر الحاج

  1. النصلامية

     في لبنان يجتمع الإنجيل والقرآن، ويتلاقى الكاهن والشيخ، في تجسيدٍ عالِ الصدقية لجوهر الدين. والتعايش بين النصرانية والإسلام حتمي… من هنا أطلق الحاج اسم “النصلامية” على دين القومية اللبنانية، وذلك لسببيْن: “السبب الأول أن القومية اللبنانية خليط عضوي من الدينيْن معًا، فلا هي نصرانية مئة بالمئة، ولا هي إسلامية مئة بالمئة. إنها الاثنتان في وقتٍ واحد… السبب الآخر أن تكاتفهما ضروري من أجل الصمود في وجه عدوهما المشترك… أعني الصهيونية”46

إن القومية التي آمن بها إذًا أتت نتيجة تياراتٍ دينيةٍ عدة يختصرها اليوم مصطلح “النصلامية“، ذلك أن تقاربًا جوهريًا يجمع بين الديانتيْن المسيحية والإسلامية، لا سيما على صعيد العقائد. ولتأكيد ما ذكره فقد أورد كمثال قصة ميلاد المسيح كما وردت في إنجيل متى وفي سورة مريم. وحثَّ المسيحيين والمسلمين على التآخي والتعاون والتفاهم مُحذراُ الفئتيْن من جهل إحداهما للأخرى، فرأى واجبًا على المسيحي الاطلاع على حقيقة الإسلام في عمقه، كي لا ينظر إلى المسلم بوصفه عدوًا له، وفي المقابل رأى الواجب ذاته على المسلم، فيبتعد الاثنان بذلك عن وصمةٍ اجتماعيةٍ قد تطالهما معًا وتضر بمستقبلهما في الوطن. وفي الجمع بين الاثنيْن ووقوفهما كتفًا إلى كتف تحقيقًا للرسالة اللبنانية في مثاليتها وواقعيتها في آن، ما عبر عنه الحاج بأسلوبٍ أدبي-فلسفي حين كتب: “هنا فقط في لبنان يختلط الاثنان لحمًا ودمًا. هنا يتجاسدان، وهذا أكثر من تعايش خارجي، إنه استرشاح من الباطن.”47 ونبه إلى أن التآخي ينبغي أن يتم على صعيدي الدين والطائفة لأن المزاولة الصحيحة للدين تكون في إطارٍ طائفي، ما يؤدي حتمًا إلى تعاهدٍ ديني ووحْدةٍ مصيريةٍ بين المسيحية العربية والإسلام العربي في مستوى أكثر عموميةً. ولأن اللغة العربية ملتصقة بالإسلام كونه دينًا، ولأنها لغة المسيحيين العرب كذلك، فقد شكر القدر على عيش المسيحي في هذا الحيز من العالم الخصيب بالمشاريع الحضارية.

إقرأ أيضًا: نصارى أم مسيحيين؟ قراءة في تاريخ المسيحية المبكرة

إلى ذلك حذر الحاج من النظر إلى الروابط بين الطائفتيْن بعين الإدارة والوظيفة، فالحضارة “هي المِفتاح الأكبر لوجودنا الإداري، ولكننا قلبنا الوضع جهلًا منا، فدارت المعركة بخصوص مراكز إدارية.”48 ويجب على المسيحي أن يُدرك أن حياته مع المسلم نعمة وأنه مسوق إلى التعايش معه بحكم التاريخ واللغة والأرض، داعيًا إياه إلى التبصر في الحضارة الإسلامية العريقة، وفي الطابع الإثني الخاص بلبنان الذي يُسهل مهمة التلاقي. وتحدث أخيرًا عما سماه “الواقعية الرُوحانية” التي تُميز وطننا، تلك الواقعية التي كما شدت المسيح إلى لبنان، فقد شدت الفقيه اللبناني عبد الرحمن الأوزاعي (700-774 م.) إليه أيضًا بعدما كثرت الأحداث وانفصلت للأسف عُرى الأخوة بين الناس.

  1. الطائفية

   “جئت أقول صراحةً وبصوتٍ عالٍ واقتناعٍ مسؤول: أنا طائفي”49

  • ماهية الطائفية

  انبرى الحاج الطائفي بالقوة وبالفعل، بالفكر وبالعمل، إلى تحديد مفهوم “الطائفية” لُغويًا وفكريًا. “لغةً، الطائفية مُشتقة من الطائف. نقول مثلًا طاف بالمكان أي دار حوله، طاف بالشيء أي قاربه. نقول أيضًا طاف على الشيء أي طرقه ليلًا. ومنها الطوف، أي العسس، الذين يطوفون بالليل يحرسون الناس، ومنها الطيف الذي هو الخيال. والطوف أيضًا هو ما يعوم على سطح الماء”50 وفي محاضرةٍ له توقف عند كلمة “طيف” معتبرًا هذا الطيف طوافًا بمظاهره، أي أنه يُمثل الانتقال الذي “هو الزمان، والزمان تغييرٌ يجب أن يطرأ على مظاهر الطائفية”51 ومن الناحية التاريخية، الطائفية هي “حصيلة طقوسٍ مادية المظهر، شكلية، واجبة الوجود، غايتها تجسيد المبادئ الجوهرية، ثم إبراقها للنفس ثانيةً عن طريق الحواس”52

ولأن الطائفية مرتبطة بطقوس الطوائف اللبنانية كلها، فقد عدها ظاهرةً حضارية لأنها جمعت اللبنانيين على اختلاف مذاهبهم وانتماءاتهم، ولأن الله خص لبنان بقوة التوفيق بين النصرانية والإسلام، فهذا ما جعل الطائفية المُبرر الأول لوجود لبنان. وتَقَصَّدَ الرد على الذين عملوا لمحاربة الطائفية غير مدركين كنهها الحقيقي، مُبينًا أنها تحمل ثلاثة أوجه تكون وَحْدةً عضويةً : الوجه الأول فلسفي، والثاني سياسي، والثالث إداري. ومن المؤسف الاعتراف فقط بهذا الوجه الأخير لأنه فرع، وفي ذلك تغاضٍ عن الأصل المُتمثل في الوجهيْن الأول والثاني. فالقضية الطائفية -في رأيه- تتعدى مستوى التوظيف في أجهزة الحكومة، وهي في حاجةٍ إلى مقاربةٍ فلسفيةٍ في مستوى مسؤول من الوعي واللباقة، إلا أن السياسة في لبنان انحرفت عن هذا الأمر، فعجزت عن الغوص في دقائق الأمور، ما جعل البحث في الطائفية يستحيل جهلًا لمفهوم الدولة ونفاقًا في الدين.

إقرأ أيضًا: فلسفة بناء الكِيان اللبناني في فكر ميشال شيحا

وقد ولجت الفلسفة بالفعل في صلب المفاهيم والعقائد السياسية الكبرى: كالأمة والقومية والدولة واللغة والطائفية، فأتت لتصقلها جميعها وتعيدها إلى نصابها الحق. وما يحتاجه اللبناني بالتالي هو الجرأة الكاملة في طرحه مسألة الطائفية، وفي هذا قال الحاج: “… لقد رفعتها من حضيض الابتذال إلى السماك الأرفع. أعطيتها معنىً تاريخيًا. أعطيتها الدلالة الحضارية التي لها، بل التي يجب أن تكون لها، وذلك بدافع إيماني بلبنان…”53

  • الدين والطائفية؛ جوهر ووجود

  “الدين جوهر، الطائفية وجود”54

بدايةً كيف حدد الحاج كُلًا من الجوهر والوجود؟ لكل من المفهوميْن نهجٌ خاص، الأول ذو طابعٍ استنتاجي، والآخر استقرائي. الأول استنزال يهبط من الأعلى، والآخر استعلاء يصعد من الأسفل. لا يعترف الجوهر إلا بالماهية، ولا يُسلم الوجود إلا بالفرد. “الجوهر عقلي يُعمم، فيفكر فيه. الوجود شعوري يخصص، فيُحس به”55 انطلاقًا من هذا التمييز، فقد سعى في تحديد الدين والطائفية في مستويي الجوهر والوجود. الدين قوة وعلاقة شخصية بين الإنسان والخالق، أما الطائفية ففعل وعلاقة اجتماعية بين الإنسان والإنسان. والطائفية هي التي تُمظهر الدين للإنسان لأن الدين لا يُزاول في الدين، بل في المجتمع عن طريق الطائفية. وإذا كان الدين جوهرًا ثابتًا مُطلقًا، فالطائفية وجودًا متحركًا يتصف بالنسبية. إلى ذلك لا دين دون طائفية إذ لا دين دون طقوس، والطائفية هي مجموع الطقوس التي تعمل لتمظهر الدين فتكون الوجود الفعلي لجوهره، انطلاقًا من كونها الجهة الوجودية المرئية من الدين.

وكي يُبرر منطقيًا ارتباط الدين بالطائفية، لأن تجريد الدين منها يُحولها إلى شعورٍ فردي غامض وإلى أنانية، فقد عمد إلى إعطاء أمثلةٍ عدة بشأن المسألة مُتحدثًا عن أهمية المرئيات، فلا بُد من الأذن لتزاول مَلَكة السمع وهي جوهر، ولا بُد من العين لتزاول مَلَكة النظر وهي جوهر. ونفس الإنسان -في رأيه- في حاجةٍ إلى جسد، فإذا تدين الكائن البشري “(وهذا جوهر باطن)، فإنه يتدين بحواس جسده (وهذا وجود ظاهر). تلك هي الطائفية”56 أضف أنه طرح كذلك قضية الأخلاقيات بوصفها جوهرًا ومدى علاقتها بالوجود، فلا عدالة دون إنسانٍ عادل، ولا كرم دون إنسانٍ كريم. من هنا انتقد “الجوهريين” الذين ألَّهوا الجوهر ناظرين إلى الوجود بوصفه تدنيسًا له، وأيَّد في المقابل ناحيةً من الفكر الوجودي الذي أعاد الوصل بين الجوهر والوجود على قاعدة أن لا جوهر إلا في الوجود، فلا تكون إنسانية في عالمٍ لا يقطنه إنسان، وذلك على رغم اعتراضه على مغالاة الوجودية عمومًا.

ودخل الحاج مرحلة الوصف الأدبي لعلاقة الدين والطائفية، فعدَّ مَثَلهما “مثل الحب والحبيب. الإنسان لا يحب الحب الذي هو جوهر عام. الإنسان يحب الحبيب الذي هو وجود خاص. هكذا يُزاول جوهر الحب في الحبيب، وكذلك يُزاول جوهر الدين في وجود الطائفية”57 ونستخلص أن العلاقة بين المفهوميْن هي علاقة تداخل عضوية تربض في أصل كِيانية الفرد، وأي فصلٍ بينهما يكون جريمةً مُقترفة ومتأتية من سوء إدراك الأمور.

ج- التعصب

  “كلنا متعصبون. تلك هي جِبِلَّتُنا”58

فالتعصب ناموسٌ طبيعي موجود في ذات كل إنسان له مشاعره وانتماءاته، لكن المغالاة فيه تُؤدي حتمًا إلى عواقب سلبية. ويعود سبب التعصب إلى قطع الوجود عن الجوهر. فالوجود خاص والجوهر عام، وبتر الأول عن الآخر نتيجته الحتمية، تعصب مجرد من أي طابعٍ إنساني. هكذا حال الأم التي لا ترى أنجب من ابنها، وحال العاشق الذي لا يرى أجمل من معشوقه، وحال الحزبي الذي لا يؤمن بغير حزبه… وإلى ما هنالك من وجهات نظر مُنعقدة على العاطفة وتُعمي الفرد عن فاعلية ما هو كائن لدى سواه. وبما أن الطائفية وجود والدين جوهر، يكون التعصب إذًا نتيجة بتر تلك الطائفية عن الدين. فالوجود الخاص للطائفية فُصِلَ عن الجوهر العام للدين، ولم يعد في مقدور الإنسان أن يرى سوى طائفته منطلقًا نحو الحقيقة، وطبيعي أن يضيق عندئذٍ نظره عند حصره كُلية الأمور فيما يخصه، فيندفع نحو بُغض الآخر والتصادم معه. أضف أن التعصب المرتكز على النزعة الدينية لدى الفرد يخلق جدليةً بين الوَحْدة الإلهية والتنوع البشري وإلى استبعاد إمكان التزاوج بين وَحْدة السماء وتنوع الأرض.

إلى ذلك أكد الحاج ناحيتيْن للتعصب: نفسية وأخلاقية. الناحية النفسية هي ظاهرة طبيعية تتجاوز نطاق إرادة الإنسان، فيعد التعصب موجودًا مع الإنسان وعائدًا إلى العصب، أما الناحية الأخلاقية فهي ظاهرة غير طبيعية تدخل في نطاق الإرادة البشرية، ويعد التعصب آتيًا من العُصابة أي المنديل الذي يُلف على العينيْن فيحرمهما البصر، ويسمى هذا النوع “أنانية”. في ذاك المجال نلاحظ مأخذ الحاج على الفيلسوف الألماني كنط Emmanuel Kant (1724-1804) الذي حاول إسكات نداء العصب ليحل الواجب محله، ورأى أن التعصب ما يُزال وإنما يُعالج عن طريق التربية وعد التسامح فضيلة والاعتراف الطوعي بالحق، وذلك ضمن مؤسستي العائلة والمدرسة. فالتربية تحتم على الأم أن تقبل الحق إذا ما أخطأ ابنها، وكذلك عندما يتبين بالدليل أن المسيحي أخطأ، فينبغي على كل مسيحي أن يرى خطأه، والأمر ذاته لدى المسلم.

وفي الإطار عينه ميز الحاج بين التعصب الديني والتعصب الطائفي. فالأول تزمت في الشعور الديني ويدل على تعصب المواطن اللبناني إزاء إخوته في المواطنة. لكنه زال أو في طريقه إلى الزوال بعدما تحقق الانفتاح بين الأديان وفق رؤيته. أما التعصب الطائفي الذي يُمثل الدين ويتمظهر في نطاق الاجتماع فهو يُمثل الوجه الإيجابي الذي يُرشدنا إلى ثبات الدين في الكِيان اللبناني، ومن ثمَّ فالطائفية ليست التعصب، ولا التعصب وليدَ الطائفية. التعصب مسألة مزاج وخلق ومسلك فردي، فيما الطائفية “ضرورة اجتماعية للدين تُمظهره بواسطة التاريخ في تقاليد وعادات وطقوس ومراسيم وتراثات”59 ولا يتأتى الخطر منها، بل من الجهل المترافق مع الإقطاعية. فصحيح أن الطائفية تأتي بالموظف إلى الإدارة، لكنها لا تجبره ألا يعدل في وظيفته بين جميع المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الطائفية. هي الإقطاعية التي تلعب ذاك الدور السلبي الذي ينحرف بالإنسان عن خط العدالة، وهي التي تقف في وجه الكفايات العالية المستحقة وظائف معينة. وإذا أردنا التحرر من ربقة الإقطاعية علينا أن نقضي على الزعامات التي تتحكم بأتباعها. فعلة التعصب إذًا ليست في الطائفية، بل في جهلنا حقيقتها وتجريد اللبناني الذي يعمل في الادارة من صفة الطائفية لا يمنع الفساد، ما يمنعه هو تربية خلقية ومدنية صارمة.

د- الدفاع عن “الميثاق الوطني”

  “الميثاق هو أكثر من عهدٍ بين إنسانٍ وطبيعة. إنه عهد أولًا وآخرًا بين إنسانٍ وإنسان في سبيل خلق حضارةٍ معينة”60

بهذا التعبير عرف الحاج “الميثاق الوطني” الذي أُعلن عام 1943، وكان تكريسًا للنظام الطائفي في لبنان، ذلك النظام الذي دافع عن وجوب استمراريته وعن صدقية توجهاته. ورأى في الميثاق خمسة مداميك: القومية اللبنانية، الإيمان بالله، الطائفية البناءة، الأخوة العربية، خطر الصهيونية.

فيما يخص المدماك الأول، أكد أن الميثاق قَوْنَنَ القومية اللبنانية وفَعْلنها. وربط مفهوم “القومية” بمفهومي “الكِيان” و “الكَينونة”، داعيًا الشعب اللبناني إلى وعيٍ كامل بسيادته واستقلاله بهدف الحفاظ على قوميته وعلى وطنه بوصفه كِيانًا نهائيًا، وعلى تحرره سياسيًا وبلوغه أعلى درجات الرُقي المجتمعي. أما في شأن المدماك الثاني، فوصف قضية لبنان بالرُوحية، مفترضًا أن الميثاق تناولها في جديةٍ وتفهمٍ عميقيْن في وصله بين الديانة المسيحية التي تُمثل حضارةً غربية والديانة الإسلامية التي تُمثل حضارةً شرقية، أي بين الرسالتيْن الكبيرتيْن الموحدتيْن: النصرانية والإسلام. فكان الميثاق تاليًا تسويةً حضارية لا إدارية، تهدف إلى جمع كنوز العقيدتيْن. وبخصوص المدماك الثالث، لبنان في الميثاق بلد طائفي، والطائفية إيجابية وبنَّاءة تهدف إلى الإنصاف لا إلى الإجحاف، ويتماهى المضمون الطائفي مع المضمون الديني. أما المدماك الرابع، فوصل بين الميثاق والعروبة، مفترضًا أن الميثاق يُنقذ العروبة من الاندحار ويُمثل خشبة خلاصٍ لها. ورأى أخيرًا أنه الحِصْنُ المنيع في مواجهة الخطر الصهيوني.

خاطب الميثاق اللبنانيين بحكمة، وأظهر القومية اللبنانية كما ينبغي، وحث على خلق حضارةٍ نصلامية غير مُرتهنةٍ للدين، وواجه الصهيونية التي سلبت أقدس أرضٍ تحت السماء، لا، بل إنه حمل في طياته بذورًا لفلسفةٍ قوميةٍ، فكان فعلًا فلسفيًا بحق. هو لم يكن ملكًا لفردٍ أو لحزب، بل لكل مواطنٍ لبناني. هو “يعكس لبنان قوامًا. فإذا زال الميثاق زال لبنان جبرًا لا اختيارًا، ذلك لأنهما يتواجبان”61

ه- رفض إلغاء الطائفية

  “إن الأرض والسماء تزولان، والطائفية لن تزول من لبنان”62

يستحيل في رأي الحاج، إلغاء الطائفية لا فلسفيًا ولا اجتماعيًا، هي ركيزة الكِيانية اللبنانية، والسلاح الأقوى في وجه الشيوعية والصهيونية. وإذا أقدم المسلم على القبول بالإلغاء، فهو يُلغي بذلك الدين الإسلامي، وإذا فعل المسيحي الأمر نفسه، فسيبتلع النصف الإسلامي النصف المسيحي، ما يؤدي إلى إزالة لبنان بوصفها رسالةً حضاريةً جامعة بين الديانتيْن. وانتقد الذين يتمظهرون باللاطائفية ناعتًا إياهم بالسماسرة والغوغائيين والدساسين والشوارعيين. وبما أن لبنان جزءٌ من العالم العربي، فهو يتطور بتطوره وطبعًا نحو الطائفية، لأن الإسلام -الدين والدولة- يستمر طائفيا مهما بلغت درجة ولوُجه مجالات العصرنة.

وفي المستوى الإداري وجه انتقاده للساعين في تحقيق الوظائف على أساس الكفاءة، متسائلًا: من يكفل في هذه الحالة ألا تعود الوظائف في غالبيتها إلى المسيحيين؟ ومن يكفل استمرار إقدام المسلمين على تحصيل الشهادات العليا؟ أضف أن الكفاءات العلمية والمناقبية التي قد تأتي بالموظفين إلى مراكز الدولة لن تزيل التوجس القائم بين المسيحي اللبناني والمسلم اللبناني لأن الطائفية الادارية هي جزء من الطائفية الاجتماعية، وهذه الأخيرة كذلك هي جزء أعم من الطائفية السياسية. كلنا سنصبح طائفيين -كما رأى- وسوف يأتي وقت تُلغى فيه المناداة بإلغاء الطائفية ذات المناعة الصامدة.

و- القومية والطائفية

  • مفهوم القومية

  “إن كلمة قومية مُشتقة من قوم. وكلمة قَوْم هي الجذر الثلاثي الذي يتألف منه فعل استقام. القومية تحمل فيها إذًا معنى الاستقامة”63

والقوم جماعة من البشر تستقيم الروابط فيما بينهم وتقوم على أسسٍ عصبيةٍ محكمة. وميز الحاج بين القومية والمجتمع والاجتماع، مُلقيًا الضوء على وجوه التقارب والتباعد بين المفاهيم الثلاثة: “كل قوميةٍ هي بالضرورة مجتمع، وليس كل مجتمع قومية بالضرورة، إنه اجتماع بالأحرى لا مجتمع. المجتمع يقوم على اندماج أعضائه كيفيًا، من أجل هذا أتى عصبيًا. الاجتماع يقوم على اختلاط أعضائه كميًا، من أجل هذا لم يأتِ عصبيًا. الأول قومي، الآخر لا قومي”64 هذه الرؤية الفلسفية للقومية قادته إلى توضيح مسألة الأمة واختلافها عن القومية، وطرح جدلية العلاقة بين المصطلحيْن في مستويي الجوهر والوجود. فعد الأمة جوهرًا لُغويًا “شرطها أن يتشابه أفرادها في الإجابة اللسانية عن متطلبات الرُوح العاقلة”65 ، فيما رأى في القومية وجودًا سياسيًا ويتشابه أفرادها “في الإجابة الجسمية والنفسية عن مُحرضاتٍ جغرافية، اقتصادية، تاريخية”66

إقرأ أيضًا: أنطون سعادة: بين حلم القومية السورية والفكر التنويري المنشود

وكان اختيار الحاج القومية اللبنانية عقيدةً له وليدَ قناعة عميقة مُنعقدة على المنطق السياسي-الاجتماعي وعلى تفكره الفلسفي لواقع السياسة اللبنانية. فالقومية اللبنانية -كما رآها- موجودةً بالفعل وبالقانون وتعود بجذورها التاريخية إلى مئات السنين. وفي المقابل فقد عارض بشدة القوميات العربية والسورية الاجتماعية والصهيونية، على رغم إقراره بصعوبة القضاء على أسسها لأن القومية عقيدة، والعقيدة تصعب إزالتها، لكن تجدر الاشارة إلى أن رفضه القومية العربية لم يمنعه الاعتراف بعروبة لبنان، لكن على صعيد الجوهر اللُغوي فقط. فلبنان بلد عربي لبنانيًا، عروبته ضرورة لبنانية كما لبنانيته ضرورة عربية. ولو لم يكن لبنان عربيًا، لكان يجب أن يكون، ولو لم يكن موجودًا في البلاد العربية، لكان يجب أن يُوجد، لكن بكِيانه اللبناني. في حين عارض كل قوميةٍ عنصريةٍ قائمة على الأنانية، فقد رحب بالقومية الإنسانية المرتكزة على الغيرية. وتحتاج القومية حكمًا إلى الوَحْدة السياسية التي لا يُمكن إلا للدولة أن تكون التعبير الأكمل عنها.

  • العلاقة بين القومية والطائفية

  الطائفية هي القاعدة الأساسية لقوميتنا اللبنانية كما رأى الحاج. وبما أن القومية مُرتكزة على عوامل المجتمع، فالطائفية -بوصفها ظاهرةً اجتماعية- تدخل حتمًا في خانة التراث القومي. والطائفية هي قلب القومية اللبنانية، وأي محاولةٍ للفصل بينهما سوف تؤدي إلى ضرب الدولة والمجتمع والدين. والدين -في الحقيقة- هو ركيزة في الشعور القومي لا سيما لدى الشعوب العربية، هو جزء من التراث التاريخي الذي يترتب علينا أن نُدافع عنه بقوة لأن التاريخ “هو أحد العناصر الأربعة التي تُكون القومية، بجانب الأرض والاقتصاد واللغة”67 أما لماذا يعتقد البعض أن لا علاقة تجمع الدين بالقومية؟ فلأن الدين لا يتعرض دومًا لخطر من الخارج، فلا يظهر في أمامية الشعور القومي. وينطبق ذاك التحليل على المجتمع الذي يضم دينًا واحدًا كالمجتمعات: المسيحية الصرف والإسلامية الصرف، إذ يكون الدين رابضًا في اللاوعي. أما الشعور القومي فلا يستيقظ إلا في الأزمات والمخاطر التي تطال جميع عناصر القومية، وأولها الأرض، فتقفز بوصفها عنصرَ أساس إلى أمامية هذا الشعور. إلا أن الطائفية المتصلة بالقومية هي المتحررة من أي شائبةٍ تعصبية، من هنا جاء قول الحاج: ” كل الفلسفة الصحيحة لقوميةٍ لبنانيةٍ صامدة على الدهر، لقوميةٍ ملؤها الرفض للطائفية عندما تكون الطائفية مرادفة للتعصب، لقوميةٍ ملؤها التمسك بالدين، لقوميةٍ لا مجال فيها للأحزاب إلا وقت يكون المناخ صافيًا. أما في العواصف والأعاصير والزوابع، فالدين وَحْده ذو الكلمة الفصل”68

ز- الإيمان ومواجهة الشيوعية والصهيونية

  كان الحاج مؤمنًا قولًا وفعلًا. ففي الله تلتقي جميع دروب الفكر وتنبض إنسانية الشعوب. وعزا قيام البناء وحدوث النهضات التاريخية في حياة الأمم إلى الوجود الإلهي الذي يحتاج إليه الإنسان في مناحي حياته كلها، اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا وفنيًا، على أن يُدرك دومًا كمال الله، ذلك الروح البسيط الذي “لا يُرى أبدًا ولا يُمس ولا يُدرك، لأنه ملْء الأزل”69 أضف أن الالحاد يتناقض مع جوهر الحياة، ولا بُد للملحد أن يعود “إلى إلهٍ يرتأيه بنفسه، لأن الحياة لا تقبل القطيعة، إنها الديمومة”70 وعد ذاك الإيمان مركزيًا في بنية النظام الطائفي اللبناني وفي كِيان الدولة اللبنانية، واصفًا موجات الإلحاد التي تضرب عالمنا الحاضر بالإيمان “المُتكابر” وهو أكثر أنواع الإلحاد خطورةً.

إقرأ أيضًا: مئة وعشرون عامًا على صدور كتابه يقظة الأمة العربية نجيب العازوري داعية الوَحْدَةِ العربية وأول من نَبَّهَ إلى الخطر الصهيوني على الأمة العربية

ومن منطلق إيمانه هذا فقد عارض الشيوعية والصهيونية. فالشيوعية ليست نظامًا سياسيًا، وإنما خطًا فلسفيًا ونظامًا أخلاقيًا واجتماعيًا، ولا فصل فيها بين السياسة والأخلاقيات. ولا يكمن خطأ العقيدة الشيوعية في عدها الدين ظاهرةً اجتماعية، بل في اضطهادها إياه وفي رؤيته مُعاكسًا للدولة. ومن ثمَّ “لا تُقهر إلا بحركةٍ نضاليةٍ مضادة”71 وحذر من الخطر الفلسفي الذي قد ينتج عن إلغاء الطائفية، وتوجه إلى المطالبين بهذا الإلغاء مؤكدًا لهم أنهم ينادون، بوعيٍ منهم أو دون وعي، بإلغاء الدين وبسيطرة الإلحاد. ولا تَقِلُّ الصهيونية خطورةً عن الشيوعية. تقوم الفلسفة الصهيونية في رأيه على أسسٍ ثلاثة: القومية والعرقية وإيمان اليهود بأنهم شعب الله المختار. وهي تُمثل خطرًا على لبنان في المستوييْن الإنساني والجغرافي. وفي حين يعترف الإسلام بالمسيح “نبيًا مُرسلًا من رُوح الله”72 فالصهيونية تقول إنه لم يأتِ، وهي تحاول إثارة الحروب الطبقية بين الفئات المسيحية. وقال واصفًا الصهاينة: “لسانهم غير لساننا، عاداتهم غير عاداتنا، تاريخهم غير تاريخنا، حضارتهم غير حضارتنا. وقد اغتصبوا أرض فلسطين، وفي قلوبهم بغضٌ محقون منذ آلاف السنين لكل ما هو غير صهيوني”73 وبما أن صراعنا مع الصهاينة ليس صراعًا سياسيًا، وإنما صراعًا على أساس العقيدة الدينية، فقد رأى الحاج إلغاء الطائفية تَخَلِّيًا عن السلاح الأقوى في مواجهة الخطر الصهيوني. فالصراع بين لبنان وإسرائيل هو صراع سياسةٍ ودين: “سياسة لأننا في الشرق جغرفة، ودين لأننا في الغرب نصرنة”74 فإذا ما أُلغيت الطائفية لا يعود من داعٍ للقطيعة مع إسرائيل، ما يسمح تاليًا لليهود بالتغلغل في الإدارة والحكومة والمراكز السياسية العُليا في لبنان، وهذا ما ينبغي تجنبه في شكلٍ جِدي وحاسم.

  1. مخاطر العَلمانية

  العَلمانية في رأي الحاج هي النظام الأكثر خطورةً وسلبيةً بين أنظمة العالم كلها. فعلمنة الدولة لا تعني حيادها مع الدين، بل هي نظام سياسي يقوم على ركائز عدة تُحارب -في غالبيتها- جميع مظاهر الدين. مشروعها الأول هو قلب النظام السياسي وتجريد الدولة كُليانيًا من طابعها الديني، إضافةً إلى العمل لإلغاء التعليم الديني والمؤسسات الدينية والاستعاضة عن المحاكم الشرعية بالقوانين المدنية.

وقد اعترف الحاج بمفهوميْن للعَلمانية: الأول يُشدد على احترام أصحاب الكفاءة العلمية في ميادين الاختصاص، ويرمي إلى تطوير إدارات الدولة، وهو معقول لأنه يقتصر على المجال الاداري، أما الأخر فهو نظرة فلسفية خاصة في الوجود تعتمد العلم وتُطالب بإلغاء الدين، ووصفه بالجرثومة الفتاكة. وثار في وجه العَلمانيين الذين يرومون فصل الدين عن الدولة، مُشيرًا إلى أن الأسس التي يقوم عليها كلٌ من الدين والدولة واحدة، ومُحذرًا في الوقت عينه من تعجرف السياسة وانحرافها عن السبيل القويم إذا ما خلا لها الميدان. أضف أن العلم براء منهم، لا سيما أن العَلماني مُلحد من الخطر أن يَقْبض على ناصية الحكم، لكنه ألمح إلى عدم قلقه من النزعات اللادينية المستوردة من الخارج تحت مُسمى “العَلمانية”، والمتضمنة اللامبالاة الدينية والانسياق وراء التيارات المُلحدة، مفترضًا أنها نزعات طارئة لا تتجاوب عضويًا مع الذهنية اللبنانية، لأن اسم لبنان موسوم بالدين الثابت في أرضنا، ولأن كِياننا الفلسفي موصول بحضارة الأديان.

وفي المجال ذاته طرح مسألة رئاسة الجمهورية مُشددًا على معناها الحضاري، ورأى أن انتقال الرئاسة الأولى إلى غير المسيحيين في لبنان لا يتم إلا بالعلمنة وقد استبعدها كليًا، وإما بالطائفية. وأتى استبعاده العلمنة، لا، بل رفضها قطعيًا، من باب المشكلات التي يُمكن أن تُحدثها، خصوصًا إذا تبوأ لبناني من الطائفة اليهودية مثلًا ذاك المنصب، ما معناه “وضع ديناميت ساحق ماحق في صميم الشرق العربي والعالم كله”74 وهزأ من تذرع المتصارعين بشأن المنصب الرئاسي الأول بمبادئ العلمنة التي عدها أقنعةً تُخفي وراءها حقيقةً واحدة: غير المسيحيين يريدون الرئاسة، والمسيحيون لا يتخلون عنها حفاظًا على لبنان والأمة العربية وكذلك على المسيحية العالمية قاطبة.

إلى ذلك مَيَّزَ الحاج بين فئتيْن تُطالبان بالعلمانية في لبنان: فئةٌ جاهلة، وأخرى مُتجاهلة. الأولى ترمي إلى محاكاة الغرب غير مُدركةٍ أن العلمنة تُفضي بنا إلى دولة مُلحدة وتُعرض الوطن للخطر دون وعيٍ منها، أما الأخرى فمتآمرة، وبوعيٍ تام منها، على لبنان، وهي ترى في التسرب إلى المراكز العُليا في الحكم تحقيقًا لمآربها، فتهدم بذلك كل ما هو لبناني.

وفي المختصر لن تُلغى الطائفية ولن تُطبق العلمانية في رأي الحاج، مؤكدًا أن قرارات الأحزاب السياسية والنواب والوزراء بإلغاء الطائفية هي قراراتٌ واهية. فالطائفية تزيد حِدَّةً يومًا بعد آخر، وهي ضاربةٌ في جذورنا. لذا فتصدينا لمخاطر العلمانية يسمح لنا بالحفاظ على قيمنا الإنسانية والوطنية.

خاتمة

  بلغةٍ فلسفيةٍ راقية، ومُعتصمًا بالحكمة التي استنبطها من رؤيته الخاصة بالنصرانية والإسلام، انعقد فكر الحاج على قوميةٍ لبنانيةٍ واجبة الوجود، تتمظهر في دولةٍ لبنانية أرادها قويةً قائمةً على أسسٍ واضحة المعالم، بعيدًا عن سياسات الخداع والمواربة.

كان مُلتزمًا بالعروبة اللسانية المُرتكزة على اللغة العربية، لا على القومية العربية. رفض أنصاف الحلول في شأن القضية الفلسطينية، كما في شأن كل قضيةٍ مفصليةٍ في الحياة السياسية لأي بلد، فكان رؤيويًا لأن ما يحدث اليوم في فلسطين وفي لبنان يؤكد أن الدول الكبرى تتلاعب بعبثيةٍ وخبثٍ بمصائر دولٍ وشعوبٍ وضحايا أبرياء.

أعلن كمال يوسف الحاج أن اليد التي سوف تغدر بلبنان سيقطعها التاريخ من الكتف… تلك اليد غدرت به شخصيًا، فخسرنا قامةً فكريةً كبيرة، وغدرت بالوطن وما نزال إلى اليوم ندفع غاليًا جدًا ثمن هذا الغدر، تلك اليد لم تُقطع بعد للأسف، بل هي مستمرة في رسم أحداث تاريخ لبنان والمنطقة العربية بحبر الدماء المتناثرة آثارها وأهوالها في كل مكانٍ إلا في ضمائر الحكام.

 

المراجع:

[1 ] سيرة كمال يوسف الحاج وأبرز منجزاته، زوق مصبح، لبنان،  WWW.ndu.edu.lb

[ 2] كمال يوسف الحاج، فلسفة الميثاق الوطني، مبحث فلسفي لاهوتي سياسي حول الطائفية في لبنان على ضوء الميثاق الوطني، مطبعة الرهبانية اللبنانية، بيروت، 1961، ص. 22.

[3] المرجع نفسه

[4] المرجع نفسه، ص. 31.

[5] كمال يوسف الحاج، أبعاد الطائفية في لبنان والعالم العربي، (محاضرة)، محاضرات جامعة الروح القدس، “حول العَلمانية”، الكسليك، لبنان، 1969، ص. 43.

[6] الكتاب المقدس، العهد الجديد،، (متى 22: 37-40)، ص. 47.

[7] كمال يوسف الحاج، فلسفة الميثاق الوطني، مرجع مذكور، ص. 48.

[8] المرجع نفسه، ص. 24.

[9] كمال يوسف الحاج، فلسفيات، الجزء الأول، دار ريحاني للطباعة والنشر، بيروت، 1956، ص. 182.

[10] كمال يوسف الحاج، قوميات إزاء القومية اللبنانية، (محاضرة)، محاضرات جامعة الروح القدس حول “أبعاد القومية اللبنانية”، الكسليك، لبنان، 1970، ص. 50.

[11] كمال يوسف الحاج، فلسفة الميثاق الوطني، مرجع مذكور، ص. 132.

[12] المرجع نفسه، ص. 55.

[13] المرجع نفسه، ص. 47.

[14] كمال يوسف الحاج، المبرر الفلسفي للقومية اللبنانية، (محاضرة)، منشورات الندوة الثقافية، جامعة الروح القدس، الكسليك، 1963، ص. 29.

[15] كمال يوسف الحاج، لبنان في اللهب، هل يحترق؟، المحاضرة الرابعة: “لبنان كما يجب أن يكون”، مطبعة دار الفنون، حركة الرعية، حمانا، 28 آب 1969، ص. 30.

[16] كمال يوسف الحاج، الطائفية البناءة، (محاضرة)، منشورات الندوة اللبنانية، السنة الرابعة عشرة، النشرة 3-4، 31 آذار 1960، ص. 115.

[17] كمال يوسف الحاج، فلسفة الميثاق الوطني، مرجع مذكور، ص. 215.

[18] المرجع نفسه، ص. 216.

[19] المرجع نفسه، ص. 60.

[20] كمال يوسف الحاج، أبعاد الطائفية في لبنان والعالم العربي، (محاضرة)، مرجع مذكور، ص. 47.

[21] الكتاب المقدس، العهد الجديد، (متى 21: 22)، ص. 47.

[22] المرجع نفسه، (مرقس 12: 13)، ص. 92-93.

[23] كمال يوسف الحاج، فلسفة الميثاق الوطني، مرجع مذكور، ص. 129.

[24] المرجع نفسه، ص. 55.

[25] المرجع نفسه، ص. 222.

[26] كمال يوسف الحاج، بكركي صخرة الخلاص، مطابع الكريم الحديثة، إخراج د. جوزيف الرعيدي، جونيه، 29 حزيران 1973، ص. 27.

[27] كمال يوسف الحاج، موجز الفلسفة اللبنانية، معالم الفكر الإنساني، مطابع الكريم الحديثة، جونيه، لبنان، 1974، ص. 25.

[28] كمال يوسف الحاج، القومية ليست مرحلة، منشورات عويدات، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان، 1959، ص. 104-105.

[29] كمال يوسف الحاج، فلسفة الميثاق الوطني، مرجع مذكور، ص. 106.

[30] المرجع نفسه، ص. 37.

[31] كمال يوسف الحاج، موجز الفلسفة اللبنانية، مرجع مذكور، ص. 24-25.

[32] كمال يوسف الحاج، بكركي صخرة الخلاص، مرجع مذكور، ص. 39.

[33] المرجع نفسه.

[34] كمال يوسف الحاج، موجز الفلسفة اللبنانية، مرجع مذكور، ص. 24.

[35] كمال يوسف الحاج، في فلسفة اللغة، دار النهار للنشر، الطبعة الثانية، بيروت، 1978، ص. 292.

[36] كمال يوسف الحاج، من الجوهر إلى الوجود، منشورات عويدات، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان، نيسان 1958، ص. 55.

[37] كمال يوسف الحاج، المبرر الفلسفي للقومية اللبنانية، (محاضرة)، ص. 22-23.

[38] كمال يوسف الحاج، في غرة الحقيقة، رسالة توضيحية إلى مؤسس “الندوة اللبنانية” مع بيانٍ حولها لميشال أسمر، منشورات “الندوة اللبنانية”، بيروت، 1966، ص. 22.

[39] المرجع نفسه، ص. 24.

[40] كمال يوسف الحاج، فلسفة الميثاق الوطني، مرجع مذكور، ص. 130.

[41] كمال يوسف الحاج، بكركي صخرة الخلاص، مرجع مذكور، ص. 50.

[42] المرجع نفسه.

[43] المرجع نفسه، ص. 43.

[44] المرجع نفسه، ص. 33.

[45] المرجع نفسه، ص. 40.

[46] كمال يوسف الحاج، المبرر الفلسفي للقومية اللبنانية، (محاضرة)، مرجع مذكور، ص. 30.

[47] كمال يوسف الحاج، فلسفة الميثاق الوطني، مرجع مذكور، ص. 157.

[48] المرجع نفسه، ص. 156.

[49] كمال يوسف الحاج، الطائفية البناءة، (محاضرة)، مرجع مذكور، ص. 103.

[50] كمال يوسف الحاج، فلسفة الميثاق الوطني، مرجع مذكور، ص. 21.

[51] كمال يوسف الحاج، أبعاد الطائفية في لبنان والعالم العربي، (محاضرة)، ص. 45.

[52] كمال يوسف الحاج، فلسفة الميثاق الوطني، مرجع مذكور، ص. 33.

[53] كمال يوسف الحاج، أبعاد الطائفية في لبنان والعالم العربي، (محاضرة)، ص. 71-72.

[54] المرجع نفسه، ص. 44.

[55] كمال يوسف الحاج، من الجوهر إلى الوجود، منشورات عويدات، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان، نيسان، 1958، ص. 13.

[56] كمال يوسف الحاج، فلسفة الميثاق الوطني، مرجع مذكور، ص. 35.

[57] المرجع نفسه، ص. 232.

[58] المرجع نفسه، ص. 213.

[59] كمال يوسف الحاج، أبعاد الطائفية في لبنان والعالم العربي، (محاضرة)، مرجع مذكور، ص. 44.

[60] كمال يوسف الحاج، فلسفة الميثاق الوطني، مرجع مذكور، ص. 146.

[61] المرجع نفسه، ص. 14.

[62] المرجع نفسه، ص. 133.

[63] كمال يوسف الحاج، في القومية والإنسانية، منشورات عويدات، بيروت، لبنان، تشرين الثاني 1957، ص. 27.

[64] المرجع نفسه، ص. 27-28.

[65] كمال يوسف الحاج، في غرة الحقيقة، مرجع مذكور، ص. 45.

[66] المرجع نفسه.

[67] كمال يوسف الحاج، الطائفية البناءة، (محاضرة)، مرجع مذكور، ص. 114.

[68] كمال يوسف الحاج، لبنان في اللهب، هل يحترق؟، (محاضرة)، مرجع مذكور، ص. 32.

[69] كمال يوسف الحاج، من الجوهر إلى الوجود، مرجع مذكور، ص. 24.

[70] كمال يوسف الحاج، فلسفة الميثاق الوطني، مرجع مذكور، ص. 29.

[71] المرجع نفسه، ص. 53.

[72] كمال يوسف الحاج، أبعاد الطائفية في لبنان والعالم العربي، (محاضرة)، مرجع مذكور، ص. 69.

[73] كمال يوسف الحاج، فلسفة الميثاق الوطني، مرجع مذكور، ص. 188.

[74] كمال يوسف الحاج، أبعاد الطائفية في لبنان والعالم العربي، (محاضرة)، مرجع مذكور، ص. 63.

 

إقتباسات

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete