تكوين
قبل أن ننطلق في تحليل عناصر الموضوع المطروح للنقاش يبدو أننا أمام تصورين مغايرين، أو لنقل مفهومين لكل منهما مجاله الخاص. الأول هو الدين: وهو مجال مطلق، تتحكم فيه عوامل كثيرة من ألوهة وطقوس وقيم أخلاقية. والثاني هو المذهب الوجودي: الذي نشأ في شكله الأول معاديا للفكر الديني، على الأقل عند الكثير من الباحثين والمتتبعين، لأنه اعتبر بأن الإنسان كائن حر لا تحكمه أي حتميات أو ضوابط علوية. هذا الخلط بين مجالين يبدوان بأنهما متناقضين من حيث المنطلقات والأسس التي يرتكز عليها كل مجال، جعلت الكثيرين يعتبرون بأن الجمع بين الوجودية والدين أمر مستحيل. وفي الحقيقة إذا ما تأملنا في الموضوع من ناحية المساحات التي يختلف فيها الدين مع الوجودية بوصفها مذهبا إنسانيا، فسنجد أن هناك الكثير من المفارقات، وأيضا من التناقضات على اعتبار أن الدين أمر صعب على مستوى تعريفه ومفهومه حتى عند المتخصصين في هذا المجال. ولعل ما طرحه ألفريد نورث هوايتهد[1] يفيدنا في هذا المجال. فاذا ما قارنا مجال العلوم الطبيعية أو العلوم الحقة، بالعلوم الدينيةـ فسنجد أن هناك بوناً شاسعا بين الاثنين. فمثلا: في العمليات الحسابية حينما نقول =2+2 4 فهذا الأمر لا يختلف فيه اثنان بالمنطق الرياضي. ولكن حينما نتحدث عن الحقائق الدينية فسنجد بأننا نتحدث عن أشياء مثار اختلاف كبير، وجدل عميق منذ النشأة الأولى للظاهرة الدينية. وهذا ما يفسر الشك المتربص دوما بالمقولات الدينية. ولا يوجد تعريف واحد يمكن الركون إليه والاطمئنان له بخصوص تعريف الدين نفسه. كما أن هناك عجز واضح بخصوص ماذا تعني بالأساس الحقائق الدينية. لهذا يقترح الكثير من الباحثين في هذا المجال اعتبار الدين واقعة حاضرة وقائمة في كل مكان على مدى التاريخ الإنساني، يجب فهمها ومناقشة مبادئها العامة.
هذا فيما يتعلق بالجانب الديني أما إذا أردنا أن نحيط مفهوم الوجودية بنوع من التوضيح والشفافية فلن نجد أحسن مما قاله سارتر مؤسس الوجودية، وهو يقوم بالرد على أعدائها ومنتقديها، حيث يقول بأنه يفهم الفلسفة الوجودية كمذهب يجعل الحياة الإنسانية ممكنة. مذهب يؤكد كذلك أن كل حقيقة، وكل عمل يستلزمان بيئة وذاتا إنسانية. هذا الفهم للوجودية حسب سارتر هدفه هو الدفاع عن الوجودية ضد منتقديها، خاصة أولئك الذين يتهمونها بأنها دعوة للاستسلام لليأس، لأنه ما دامت كل الحلول مستحيلة فإن العمل في هذا العالم مستحيل كذلك، ولا فائدة منه. وهذا بالذات هو الانتقاد الذي وجهته الشيوعية للوجودية. كما أن هناك مأخذ آخر على الوجودية ينسب إلى المسيحية، مفاده أن الوجوديين قوم ينكرون حقيقة وجدية ما يفعله البشر. لأنه ما دمنا ننكر الوصايا الإلهية والقيم الأخلاقية التي توصف بأنها أبدية فلا يتبقى إلا ما نفعله بمحض الصدفة والعفوية. هكذا فمنذ ظهور هذا المذهب الإنساني كما سماه سارتر تعرض إلى المزيد من الانتقادات من شتى المذاهب الفكرية والفلسفية. وهذه طبيعة الأفكار كلما ظهرت فكرة جديدة إلا ووجدت أمامها من يكيل لها التهم، ويبحث فيها عن مواطن الضعف والوهم، خاصة أن الوجودية قد تم اتهامها بأنها فلسفه متشائمة الشيء الذي نفاه سارتر وقال بعكسه. حيث يرى بأن الوجودية فلسفة متفائلة لأن في صميمها فلسفه تضع الإنسان في مواجهة ذاته، حيث يكون حرا يختار لنفسه ما يشاء، وهذا أمر يرفضه الكثيرون، وربما هذا هو الشيء المزعج الذي لا يعجبهم في هذا المذهب.
لكن مع كل هذا التعارض الحاصل بين المجالين الديني والوجودي من ناحية المنطلقات والرؤية والأهداف. إلا أن إمكانية الجمع بينهما تظل ممكنة في حدودها الدنيا على الأقل، أي في المشتركات بين الدين والرؤية الوجودية للإنسان. فمن المعروف أن الوجودية بوصفها مذهبا فلسفيا إنسانيا تدور حول فلسفة الفرد بكيانه المادي الملموس. وهذا التصور بالذات هو ما يعتبره الباحثون نقطة من نقاط قوة المذهب وفي الوقت نفسه نقطة الضعف القاتلة فيه. ولقد أكد توماس آرفلين[2] في هذا الصدد على أن ما يحسب لهذا المذهب الانساني هو دفاعه عن الفرد الطبيعي الحر، أي الفرد الفاعل المكون من لحم ودم. ولعل ما يضفي على هذا المذهب رونقه وجاذبيته، هو أن الناس أو غالبيتهم تقع دوما تحت سلطة العادات والموروثات، سواء في المجتمعات القديمة، أو المجتمع الحديث. لهذا يعتبر آرفلين بأن ما يسمى فردية وجودية يعد إنجازا. فنحن كائنات ومخلوقات بيولوجية، ولكن يجب أن نصبح أفرادا وجوديين عن طريق تحمل مسؤولية أفعالنا في هذا الوجود. ربما هذا التقليد هو ما أشار إليه نيتشه نفسه حين كان يدعو الى أن يتصرف الانسان على طبيعته التي خلق عليها، لأن الناس لا تحب أن تتحمل مسؤولية أفعالها. بل تجدهم دوما يتهربون من مسؤوليتهم وحريتهم الى أماني الزحام المفتقر إلى الهوية.
- فما هي يا ترى أوجه الشبه بين الوجودية والدين؟
- وهل يمكن أن نتحدث عن وجودية دينية؟
- ذلك ما سنحاول أن نتحدث عنه فيما يلي:
- الوجودية والحرب على الكهنوت الديني:
قبل أن نجيب عن سؤال الحرب القائمة بين الوجودية بوصفها مذهبا إنسانيا والكهنوت الديني، فلا بد أن نضع تمييزا بين الدين والكهنوت الديني تحديدا، إذ أن الدين كما مر معنا مجال المقدس والمطلق، وفيه تنصهر بوتقة القيم الكبرى بالنسبة للإنسان المتدين. أما مجال الكهنوت الديني فهو جزء من الدين ولكن بفهم نسبي، وعملي محكوم بظروف، وملابسات بشرية معينة. ومن ثمة يمكن أن تقيم الوجودية علاقة ممكنة مع الدين في علوه وسموه وأخلاقه الكبرى، غير أنها لا تستطيع أن تفعل ذلك مع الكهنوت الديني، خاصة في شقه التراتبي والسلطوي، المتمثل في خلق وساطة مصطنعة تمنع وتعمل على إقامة جسر ممتد بين الإنسان والخالق. والكهنوت الديني ليس دائما مؤسسة أو سلطة فوقية كما يعتقد الكثيرون، بل هي ممارسة قد تكون بشكل مؤسساتي تسهر عليها أجهزة لها وظائفها المحددة سلفا، وقد تكون عبارة عن سلطات تبدأ بسلطة الفرد على نفسه، انتهاء بما يفرضه النص والقواعد والضوابط والاجتهادات البشرية على العقل البشري. فكل ما يعطل القدرة على العطاء والنماء، ويقزم الاجتهاد والتجديد البشري لقضايا العصر، تحت أي مسمى ينتمي للكهنوت الديني الذي دوما يحتكر الكلام باسم الدين، ويوقع باسم الله على كل شيء مرتبط بالدين، بدءا من تفاصيل الحياة الصغيرة، إلى أعقد المسائل وأكبرها. وهكذا يكون الكهنوت في مواجهة الوجودية باعتبارها استقلالية فردية تركز على الحرية والمسؤولية الفردية للكائن الإنسان اتجاه ذاته وأفعاله.
ولكن قبل أن نخوض غمار العلاقة بين الوجودية والكهنوت الديني لا بأس أن نقف مع نظرة موجزة لأهم المحطات التأسيسية لهذا اللفظ خاصة مع الديانات السماوية الثلاث:
اليهودية:
ظل مفهوم الكهنوت Sacerdoce يعني في الأدبيات اليهودية تلك الطقوس التي كان يمارسها اللاويون، طقوس ممتدة في ثقافات تأثرت بشكل كبير بالحضارة المصرية القديمة، وثقافة ما بين النهرين بالعراق. هذه الثقافة اعتمدت بشكل أساسي على ولاية الملك لوظيفة الكهنوت بمساعدة طبقة كهنوتية يحكمها منطق وراثي بدرجة كبيرة. ونجد هذا النوع من الطقوس قد أشارت إليه التوراة نفسها منذ عهد موسى الذي كان ينتمي هو نفسه لما يسمى بسبط لاوي ” و للاوي قال تميمك و أوريمك لرجلك الصديق الذي جربته في مسة و خاصمته عند ماء مريبة الذي قال عن أبيه و أمه لم أرهما و بإخوته لم يعترف و أولاده لم يعرف بل حفظوا كلامك و صانوا عهدك يعلمون يعقوب أحكامك و إسرائيل ناموسك يضعون بخورا في أنفك و محرقات على مذبحك بارك يا رب قوته و ارتض بعمل يديه احطم متون مقاوميه و مبغضيه حتى لا يقوموا “. التثنية 33/ 8- 11.
وحسب هذا النص فقد تحددت وظيفة الكهان في حفظ الكلام وصيانة العهد وتعليم النواميس، إضافة إلى طقوس المحرقات والذبائح. أضف إلى ذلك ما كان يسمى بالكهنوت العائلي في النظام الملكي إلى جانب الكهنوت اللاوي. حيث كان الملك يقدم ذبائح ويبارك الشعب وذلك منذ الملك شاول وداود إلى آحاز. وكي لا نغرق في الشرح أكثر فالكهنة في هذا النظام القديم كانوا خدّاما للطقوس، وحرّاسا للتقاليد الموروثة والمقدسة، وتركزت جل وظائفهم في مهمتين أساسيتين: خدمة الطقوس المقدسة وخدمة الكلمة.
المسيحية:
ظل العهد الجديد وفيا لما قبله من العهد القديم، وقد تنبأ هذا الأخير بأن المسيح سيكون كاهناً:” أقسم الرب ولن يندم. أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق الرب عن يمينك يحطم في يوم رجزه ملوكا “. (مزمور 110: 4). كما حدد الوظيفة التي يقوم بها الكاهن:” لأن كل رئيس كهنة مأخوذ من الناس يقام لأجل الناس في ما للّه لكي يقدم قرابين وذبائح عن الخطايا قادرا أن يترفق بالجهال والضالين إذ هو أيضا محاط بالضعف ولهذا الضعف يلتزم أنه كما يقدم عن الخطايا لأجل الشعب هكذا أيضا لأجل نفسه “. (عبرانيين 5: 1-3)، ولم تكن هذه الوظيفة هي وحدها ما يقوم به المسيح الكاهن، بل تجاوزها بتقديم نفسه فداء على الصليب. ” وأما المسيح وهو قد جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة فبالمسكن الأعظم والأكمل غير المصنوع بيد أي الذي ليس من هذه الخليقة وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبديا. لأنه إن كان دم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشوش على المنجسين يقدس إلى طهارة الجسد فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح أزلي قدم نفسه للّه بلا عيب يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي “(عبرانيين 13-9).
الإسلام:
بالنسبة للإسلام لا بد من التمييز بين القرآن الكريم والسنة النبوية في تناول مفهوم الكهانة، إذ كل واحد من هذين الأصلين المعرفيين كان لهما وجهة نظر مختلفة. ولنأخذ على سبيل المثال قوله تعالى:” فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ “، حيث نفى بشكل قاطع أن يكون النبي كاهنا أو يمارس وظيفة الكهان كما تعارف عليها الناس تاريخيا. حاصراً وظيفة الرسول في إبلاغ الرسالة والتذكير وهداية الناس إلى الطريق القويم. وفي آية أخري يقول عن القرآن الكريم:” وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ “، نافيا بذلك أن يكون القرآن الكريم من سجع الكهان، أو كلام عابر من خلط العقول والأساطير الأولى.
أما بالنسبة للسنة النبوية ورواياتها فقد تعاملت مع هذا اللفظ بطريقة أخرى، حيث شحنته بمعنى من يتكهن بالغيب، ويتنبأ بالمستقبل كالعرافين والسحرة، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك من قبيل: قول النبي:” من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ” وفي رواية “من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد “ وعن عمران بن حصين قال قال رسول الله:” ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد “.
الحل الوجودي للدين؟
هنا نريد أن نقف مع تجربة رائدة في العالم الإسلامي، تجربة مزجت بين التجربة الوجودية والتجربة الدينية، أي أنها استطاعت أن تؤسس لوضع جديد للدين بأفق وجودي يضطلع فيه الفرد الإنساني المسلم، على الجماعة الإسلامية أو الكهنوت الديني الذي اختطف الدين، وجعله أسيرا للجماعة والمعتقدات المسبقة، إلى درجة لم يعد الإنسان يستطيع أن يميز في الدين بين الإلهي والبشري، ولا حدود المطلق والنسبي. وهي تجربة تستحق أن تدرس نظرا لأن صاحبها استطاع بفضل قلمه وفكره وإبداعاته أن يمزج بين الأدب والفكر، ويعالج موضوعات الدين عن طريق الشذرات الفكرية والأسلوب الأدبي الممتع. إنها تجربة عبد الرزاق الجبران صاحب القلم الفكري المبدع، والمواجهة للكهنوت الديني، والمحطم لكل آمال المنتعشين والمرتزقين من احتكار واستعمال الدين لأغراض دنيوية. عبد الرزاق الجبران أحد كبار الكتاب والمفكرين العراقيين والمؤسسين للوجودية الدينية في العالم الإسلامي. بدأت مسيرته مع مجلة الوعي المعاصر حينما كان في دمشق ثم بدأت ملامح الوعي تتفتق لديه مع ظهور نوع من التمرد والثورية الفكرية إن صح التعبير من خلال مختلف كتاباته. والناظر في مختلف كتابات الرجل سنجد أن هناك خيطا ناظما يربط كل أجزاء هذه الكتابات سواء كتاب لصوص الله، جمهورية النبي، جمهورية الله، مبغى المعبد، وجندار السر الأحمر، كلها تنتظم تحت ما يمكن تسميته تعرية الكهنوت الديني، أو محاولة رسم بروفايل شخصي للكاهن الديني. ومن ثمة الهجوم عليه معرفيا إلى غاية استنفاده كنموذج صالح لقيادة الجمهور المتدين. إنه نسق يهدف إلى التمرد على كل أشكال الكهنوت الديني، ومحاولة رسم معالم العودة إلى حيث الصفاء من خلال ما يسميه بديانة القلب التي يدعو إليها ويعتقد بأنها الأصلح والأبقى، وليس ديانة الفقهاء التي ارتسمت معالمها في مختلف الحقب التاريخية، وحولت الدين إلى طقوس وأشكال وأوثان يصعب الانفكاك عنها.
لكن ما يميز الجبران عن غيره ليس هو الأفكار، فالتعبير عن هذه الأخيرة قد تم في كل مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني وبأشكال متعددة، ولكن الجديد هو أسلوب التعرية الذي يعتمده والأشبه بالحكي الروائي المنتظم والجميل والممزوج بالحس الإبداعي. فكم من فكرة جيدة لا تجد من يسوق لها أو يلبسها الثوب اللائق فتضيع بين الأفكار لا يلقي لها أحد بالا. وهو أسلوب جميل وفريد وخاص يعالج قضايا فكرية وفلسفية وثقافية ودينية بأسلوب يعتمد الجمال والأناقة، بدل أن يكون أسلوبا جافا صارما كما هو مختلف الكتابات الفلسفية والدينية. الكتابة مثلها مثل أيّ شكل من أشكال التعبير والتفكير والتأمل ليست فعلاً يقوده الاغتصاب. لماذا؟ يجيبنا جمال علي الحلاق[3] بأن الكاتب وربما أيضا المفكر وكل من يجترح مناطق التفكر والتأمل لا يقع وقوع البهيمة على الورقة البيضاء. صحيح أن البياض يغري ويغوي، ولكنه يتطلب شهوة تتقن الدخول كلص يجعل البياض يرفع راية الاستسلام.
لكن لماذا يلجأ البعض إلى التّظاهر بالعمق، أو إلى استعمال عبارات ومفاهيم غير معتادة، وربَّما غير متداولة؟. لأنّه ببساطة كما يؤكد آلان دو بوتون[4] الكتابة البسيطة تستلزم شجاعة، وليس تواضعاً. إنَّه خوف الكاتب من الإقصاء لكونه متواضع الفهم، من جانب من يمتلكون إيمانا عنيدا بأنّ النثر العويص، أو الصعب، وأن المفاهيم الغامضة هي منتهى الذكاء. كان مونتين يمقت الأسلوب العصي على الفهم بالرغم من أن الكثيرين يعتبرونه جزءا من عبقرية الكاتب أو عمق تفكيره. لهذا فالأسلوب النثري أو أي أسلوب آخر يستعصي على العقل هضمه هو علامة على الكسل أكثر منه علامة على الذكاء. لماذا؟ لأن خلف كل هذه الالتواءات يكمن السر وهو تقديم حماية فريدة ضد عدم امتلاك شيء لتقوله. الخلاصة هي أن الصعوبة عملة يستحضرها المتعلمون كي لا تكشف خواء دراساتهم، فيميل الغباء البشري إلى قبولها مسبقا.
تجربة عبد الرزاق الجبران تجربة فريدة من ناحية الأسلوب، وليس من ناحية الفكرة كما مر معنا، إذ أنه استطاع أن يمزج بين الفكرة والمضمون، وعمق الطرح الفكري، خاصة أننا ننتمي إلى ثقافة يشكل الكهنوت الديني عصب حياتها الاجتماعية والفكرية والدينية. لهذا قدم الجبران نفسه بالأسلوب الأدبي الفكري الممتع إلى الدرجة التي تستهويك فيها أفكاره، وإن كنت تخالفها وتعارضها، وهنا تتجلى قوة الفكرة. فبدل أن تغضبك قد تتوقف عندها متأملا ومفكرا، هذا بالطبع إذا كنت ممن تهوى الفكرة الموجعة. ولنأخذ على ذلك مثالا ففي جمهورية النبي[5] يبتدئ الجبران بالقول: هل يمكنني القول إن أهم لحظة تراودنا هي لحظة اكتشاف الحقيقة؟ حتى لو اكتشفت أنك حمار. ليس البلية أن تعرف أنك حمار. البلية أن تعرف أنك نبي داعيتك حمار. هذا هو وادي تاريخنا، وهذا هي كلمته التي يستحق في معابده. مفاد هذا الكلام أننا أمام محنة ثقافة مزورة تمتد إلى آلاف السنين، وليست مهمة سهلة أن تحفر في هذا التراث، بله أن تنتقده وتتجاوزه. جمهورية النبي لدى الجبران تشبه جمهورية أفلاطون تحمل إنسانيتها معها. لأنها تمتح من أفق آخر، إنه ديانة القلب النقيض المباشر لديانة الفقه، لأنه لم يقتل الإسلام غير ديانة الفقه، كما لم يدمر المعبد إلا الكاهن. ديانة القلب تقوم في أحد أهم أسسها على الإنسان ووجوده وليس على المعبد ومكانته. وهذا المعنى هو ما نبحث عنه أي المكان الذي تلتقي فيه الوجودية بالدين كأفق إنساني. لأن الوجودية ظلمت في التاريخ كما ظلم الدين، فإذا كان الدين يهدف إلى الانتصار إلى القيم الإنسانية، فإن الوجودية كذلك جعلت الإنسانية مصدر الكون الأكبر. ولهذا أكد الجبران: أنه لم تكن غاية النبي تربية اللحى والحجاب والمساجد لتشير إلى الله. وإنما تربية قلوب تشير الى الإنسان، فليس الله هو مشكلة الوجود، الإنسان هو مشكلته. لأن التدين هو كيف تغدو إنسانا في الشارع وليس كهنوتيا في المعبد.
جمهورية النبي هي فضاء فسيح لا وجود للفقهاء فيه، لا كأناس لهم الحق في هذا الوجود أيضا، ولكن كعقبات وجودية نحو الالتقاء بالذات والتعرف على قيم الدين السمحة. إنها محاولة من نوع خاص يبشر بها الجبران في كتابه ويقلب فيها مجموعة من المفاهيم المتداولة التي أسرت العقل البشري الديني، وسجنته في مفاهيمها وسحرها وتسلطها. الفقهاء دوما مثلوا بالنسبة إلى الجبران لصوصا لله، من خلال ترتيباتهم وأحكامهم وتشددهم وغلوهم، في كتابه المعنون بلصوص الله يقول الجبران[6] أن “عجوزا في سمرقند تسأل فقيه جيش فتح بلادها بعد سلب ونهب … ما الذي جاء بكم إلينا؟
الفقيه : الله أرسلنا إليكم
العجوز : لم أكن أعلم من قبل أن لله لصوصا …
كلام يوحي بأن هناك انقلاب وقع في تاريخ المسلمين بفعل التزوير الذي حدث في تراثهم وتاريخهم، وساهم بذلك في خلق نموذج من الإسلام الذي أصبح فيه الكاهن والطاغية هما المتحكمان في رسم معالم الاسلامي الجديد، إسلام ما بعد النبوة، وإسلام الفقه، لا إسلام القلب كما يؤكد الجبران. هذا الواقع الثقافي الذي يرشد إليه الكاتب يبين بوضوح بأن الإسلام تعرض لنكسة وجودية، بحيث أنه أصبح هناك تناقض تام بين الدين بوصفه قيما عليا وأخلاقا مثلى، وبين أنماط التدينات الأخرى. هنا يقول لنا الجبران بأسلوبه المبدع بأن من يعلمك أن الطاغية عظيم هو يسرق تاريخك، ومن يعلمك أن تقتل باسم الجهاد هو يسرق دمك، فإذا قتلت الآخرين هو يسرق يدك. ومن يعلمك حرمة العشق فهو يسرق حبك. ومن يعلمك دخول مساجد الأغنياء فهو يسرق صلاتك. ومن يعلمك أن الآخر كافر هو يسرق إيمانك. ومن يعلمك أنه مباح في دمه وعرضه وماله وأرضه هو يسرق إنسانيتك. ومن يعلمك الكذب باسم الحيلة الشرعية هو يسرق صدقك.
بهذه الكلمات يمكن أن نشير الى أن هناك انقلاب حقيقي قد وقع في التاريخ الديني الإنساني، بحيث أصبحت المفاهيم تشير بوضوح إلى أضدادها. من هنا جاء كتاب الجبران انقلاب المعبد، هذا الانقلاب المفاهيمي الخطير يؤشر إلى أزمة تشكلت عبر التاريخ فيما يسمى بحكم الفقهاء، حيث أصبح الدين عبارة عن أحكام فقهيه أشبه ما يكون بالقانون الإنساني، واتسعت دائرة التحريم بدل الإباحة، وأصبح كل شيء يعيش أزمة لا زالت آثارها تسري في تاريخنا وكتبنا ورواياتنا. وإذا انتقلنا من جمهوريه النبي إلى جمهورية الله يبدو العنوان صادما ومثيرا، خاصة في ثقافة محافظة تنتمي فيها هذه العناوين إلى عالم الكفر والتنقيص. ولكن بالرغم من أن العنوان يبدو صادما، إلا أنه يحمل في طياته مجموعة من المؤشرات قد نتفق معها وقد لا نتفق. المهم هذه المرة يحكي لنا الجبران واقعة صادمة قال لصاحبه الله بيع كثيرا من معبد لمعبد، الأديان لم تعبد الله، الأديان استعبدته. هذا الكلام يمكن أن يكون إلحادا في عرف الفقهاء وأحكامهم وتعاليمهم، ولكنه هنا في خضم هذه الجمهورية الإلحاد ليس نفيا لوجود الله كما يقول عبد الرزاق الجبران. ولكنه رفض لجماعته والمتاجرين باسمه. من هنا يمكننا العودة بالمفاهيم إلى أصولها الحقيقية كي نرى الله جميلا. وقد نتساءل من مزق كل هذه الثقافة وجعلها سجنا للمغيبين والتائهين، فنجد الجواب إنها لوثة الطائفية، فكلنا نعتبر أنفسنا أحسن من الآخرين، وأفضلهم، والمستحقين للخيرية أكثر منهم. لكن فلا قُبْح ولا سخرية أكثر من صلاة الفرقة الناجية. سبعون فرقة للنّار وواحدة ناجية. لكَمْ جعلوا الله قاسياً. حتَّى القاضي الدّنيء لا يقبل سبعين سجينا وبريء واحد…من يكسب عشيرة يخسر الله. فلا عشيرة لله، إنّه مشاعٌ كما الوجود. إذن كنْ بلا فرقة تكنْ ناجياً.
- الدين والوجودية: الإنسان محور الوجود
سبق وأن أشرنا في بداية هذا المقال أن الوجودية كما رآها سارتر هي فلسفه إنسانية، وحينما قال عنها ذلك فلقد كان يعني أنها تضع الإنسان في صلب اهتمامها، وعلى قمة هرم قيمها كما أكد آرفلين. ولعل هذا الاعتراف من سارتر ومن آرفلين نفسه يؤكد على أن الوجودية تصر بلا هوادة على أن القيمة المطلقة والغاية من الوجود كله، يجب أن تكون هي رعاية حريه الفرد التي كان يقصد بها سارتر تحسين إمكانياته الملموسة في الاختيار. وبالتالي لا يجب علينا أن نضحي بهذه الحرية الفردية، مقابل أي قيمة أخرى كيفما كان سموها، سواء أكانت الطبقة لدى الماركسيين، أو الإله لدى المؤمنين… هذا التصور يوافق إلى حد بعيد الصورة التي سماها نيتشه بالأرواح الحرة في كتابه هو ذا الانسان.
وإذا كانت هذه هي نظرة الوجودية للفرد الإنسان المسؤول، فإن الدين يتقاطع بشكل كبير مع هذه النظرة، وهنا يمكننا أن نطرح تساؤلا طرحه زكي نجيب محمود حول ما الذي يجعل الإنسان إنسانا؟ سؤال مثير في طرحه، ومثير في الإجابة عنه، لأن الكثير مما نعتبره أمرا بديهيا يصبح هو المعضلة الكبرى. لكن كيف يجيب زكي نجيب محمود عن هذا السؤال، خاصة أنه يعتبر بأن مجرد السؤال عنه هو بلوغ الإنسان ما يدنو به إلى الكمال؛ لأن كل شيء في هذه الحياة يخضع لمنطق معين، ووظيفة محددة يؤديها، ومهام تناسبه تعطيه معنى لحياته. وهذا هو ما يُحسِّن أداءه لوظيفته التي خُلق من أجلها، تلك الوظيفة التي عبرعنها الله تعالى بوظيفة الاستخلاف، أي عمارة الأرض والإصلاح فيها، والعمل على تنقيتها من كل مظاهر الفساد الاجتماعي والثقافي والفكري. وبناء على ذلك يمكننا أن نطرح هذا السؤال: ما الذي يجعل الإنسان إنسانًا؟ وهو سؤال أيضا قد طرحته كل الفلسفات على مر التاريخ وهي ترصد مكامن التمييز بين الكائن الإنساني وغيره من الكائنات الأخرى. أي أنها حاولت منذ البداية أن تبحث عن صورة مثلى للإنسان ليُقاس عليها سائر الأفراد. وهنا لا بد حسب هذا الطرح الفكري من أن نبحث أولا عن المشتركات بين الإنسان وباقي الموجودات التي تقاسمه الحياة على هذه الأرض. هنا يمكننا أن نرصد مجموعة من القواسم المشتركة بينه وبين النباتات والحيوانات في عمليات النمو والتغذية ثم التكاثر. ولكن إذا أردنا أن نبحث عن التمييز فصورة الكمال المنشودة في الإنسان تتمثل بالأساس في قدرته العقلية، وتدبره الفكري في مختلف مناحي حياته العملية. ولهذا هناك من قال بأن للإنسان وجهان من الكمال: كمال في دقة التفكير وتسامي أهدافه، وكمال آخر في إتقان التنفيذ عند التطبيق. ومهما بحثنا في أوجه التمييز والاختلاف بين الإنسان وباقي الكائنات فسنجد أن كل هذه الاختلافات تنحو نحو ما هو فكري وعقلي.
بالرجوع أيضا إلى القرآن الكريم نجد بأن القرآن الكريم استعمل في حق هذا الإنسان اسم خليفة:” وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة “، وهي وظيفة هامة لا ينوب فيها الإنسان عن الله، لأنه لم يقل إني جاعل في الأرض خليفتي كما تداولت مختلف التفاسير، بل الخلافة وظيفة، أي أن تخلف من سبقك من حيث المهام والوظائف، ولو أن خطاب الملائكة كان خطابا اعتراضيا، أو على الأقل استفهاميا على حال خليفة سيخلف من سبقه بسفك الدماء وإفساد الأرض، إلا أن الرد الإلهي كان واضحا حينما قال إني أعلم ما لا تعلمون، فالإمكانيات التي يتوفر عليها هذا الخليفة والمتمثلة أساسا في هذه البنية العقلية المتطورة ستمكنه من تجاوز حدود غريزته، إلى طور يكون فيه متمدنا ومتحضرا، متجاوزا بذلك أصوله البدائية المتوحشة. هنا يمكننا أن نجد نقطة الالتقاء بين هذا الوجود الذاتي للإنسان كفرد مستقل له إرادته في إعمار الأرض، وبين مسمى الخليفة الذي يزكي هذا الطرح الوجودي. فإذا كانت الفلسفة الوجودية فلسفة إنسانية، فالقرآن يؤكد الوجود التام للفرد بوصفه صانعا للحضارة، ومؤسسا لقيم العلم، غير متوقف عند حدود ما اعتقدت الملائكة نفسها، أن هذا الخليفة لن يتجاوز من سبقوه من ناحية التوحش والبدائية. وهذا هو علم الله المطلق، فما تراه الملائكة لا يتجاوز الإدراك الحسي، والقياس العقلي، أما علم الله فعلم وجودي ينفذ إلى أعماق الأشياء ليجد الصلات بين الوجودية والدين، وبين الخلافة والعلم.
هذا في حدود ما نستطيع أن نستخلصه من المشتركات بين الوجودية والدين، وهو ما أكد عليه القرآن في العديد من الآيات خاصة آية الأمانة:” إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا “، وقد أشارت عائشة بنت الشاطئ[7] إلى هذه الآية ووقفت عندها بشكل كبير، وهو توقف أيضا يستحق منا كل التأمل، فماذا تعني الأمانة؟
كي لا نغرق مع التفسيرات التي أرادت أن تفسر الأمانة من خلال مجموعة من الروايات الأثرية التي تمتلئ بها التفاسير المأثورة. فيبدو من خلال سياق الآية أن الأمانة يمكن أن تكون هي هذه الحرية الممنوحة للإنسان دون غيره من باقي الكائنات، وبموجبها تم تكليفه، وخلافته، وتفوقه على العديد من باقي الموجودات. وهذا التأويل أو التفسير للآية يسعفنا بشكل كبير على إيجاد مسوغات الاتفاق بين الوجودية والدين، أو لنقل إمكانية الجمع بين الوجودية والدين، على أساس أن الحرية هي ما يعطي للفرد مسوغ وجوده، وينقله من الحالة الغرائزية إلى الحالة التي يصير فيها فرد مسؤولا، وقادرا على الإنتاج والإبداع والابتكار. إنها الأمانة التي أشفقت منها الجمادات وتحملها هذا الإنسان، فصار سيدا على غيره، ولكن إذا لم يوظفها التوظيف الأصلح والأجود، تحولت هذه الحرية إلى عبثية أشبه بالجهل والظلم، لهذا كان ظلوما جهولا.
- الإنسانوية ومركزية العقل
إذا كان الانسان هو محور الوجود بالنسبة للوجودية كمذهب انساني، وبين الدين كإطار ناظم مطلق يعلو فيه الإنسان، ويتبوؤ مرتبة عليا بالمقارنة مع غيره من الكائنات والموجودات. فيحق لنا أن نؤكد أيضا بأن العقل الإنساني هو رابط أساسي بين الوجودية والدين أيضا. لهذا يمكن أن ننظر إلى قضية العقل باعتبارها مركزية في التفكير الوجودي والتفكير الديني على حد سواء. هنا لابد لنا من أن نتحدث ولو بشكل موجز عن نشأة التيار الإنسانوي، وقد طرح ستيفن لو[8] هذا السؤال ما الإنسانوية؟ فأجاب بشكل موجز بأنها كلمة تحمل ولا زالت العديد من المعاني، فهي تشير في معناها الرحب إلى منظومة فكرية تُعتبر فيها القيم والاهتمامات والكرامة الإنسانية ذات أهمية خاصة. وبهذا المعنى، ربما يصبح تقريبًا كلُّ شخص منا إنسانويًّا. إلا أن المنضمين إلى لواء «الإنسانوية» اليوم، ولا سيما في المملكة المتحدة، يَقصدون شيئًا آخر؛ اعتمادا على رؤية للعالم من نوع خاص لا يقبلها الجميع بالتأكيد، لهذا لا بد من طرح السؤال من جديد ما الذي الذي يميز الرؤية الإنسانوية إذن؟ لكي نختصر كل ما ذكره ستيفن لو بشكل يفيد الجميع، ويسهل معه الاستيعاب نقول بأن الإنسانوية تؤمن بالعلم، والعقل بشكل أعمَّ، وتعتبرهما أداة لفهم العالم دون غيرهما من الأدوات الميتافزيقية والغيبية. فالإنسانويون بهذا المعنى أو لنقل غالبيتهم ينتمون إلى قاعدة إلحادية صلبة، أو على أقل تقدير هم متشككون أو لاأدريون أو لا دينيون لا يؤمنون بالحقائق الدينية، كما تعارف عليها الناس خاصة المتدينون. وإذا كان الأمر كذلك فهم ينفون كل الغيبيات بما في ذلك وجود حياة أخرى بعد الموت، أو ما يسميه المتدينون البعث وكل الأمور الغيبية المرتبطة به. لكن بالرغم من كل هذه الحدة في الطرح العقائدي فإن الإنسانوية في جانب من جوانبها تؤمن بأهمية القيمة الأخلاقية. هذه الأخلاق التي يجب أن يستمدها الإنسان من دراسته للطبيعة، وكل ما يمكن أن يساعد الإنسان على الازدهار في حياته وتطوير مجتمعه. فالقيمة الأخلاقية بالنسبة إليهم لا تنبع من مصدر علوي كما يزعم المتدينون. ولكن تنبع من الحاجة البشرية إلى أخلاق تساعدهم على البقاء والاستمرار دون توحش أو بدائية فكرية تعتمد القوة والعنف. هنا تلتقي الإنسانوية مع المذهب الوجودي الذي يؤكد على استقلالنا الأخلاقي، فنحن مسؤولون عن أخلاقنا وأحكامنا الأخلاقية، دون أن نحاول أن ننسبها إلى جهات خارجية عنا. هذا هو المعنى للحياة كما يتجسد عند الإنسانوي، معنى يكون خارج الإله. لهذا تجدهم غالبا ما يكونون ملحدون أو علمانيون في تفكيرهم، أي أنهم يفضلون مجتمعا مفتوحا وديمقراطيا لا شأن للدولة فيه بأفكار الناس وعقائدهم وطرق تديناتهم.
قد عبر عن كل هذا الأمر لوك فيري[9] حين تحدث عن منشأ هذا التيار الإنسانوي عند بيك ديلا ميريندول وكانت تعني أنه لا وجود لطبيعة إنسانية، ولا أي نظام طبيعي يلزم الإنسان أن يتبعه أو يمتثل له، أو يخضع لقوانينه. لأن الإنسان وهذا من ميزاته الأساسية يستطيع أن يتخلص من الطبيعة بسبب الحرية الممنوحة له، فهو كائن مميز في هذه الطبيعة. ولأنه حر فله حقوق وله تاريخ. وبالرغم من التطور الذي عرفه المذهب الإنسانوي في صلابته وقدرته على الانتشار والإقناع. إلا أن ذلك لم يعفه من الكثير من الانتقادات والغموض. لأنه على الرغم من الارتباط الكبير للمذهب الإنساني بحقوق الإنسان في صيغتها الكونية. فستنساق الإنسانوية دون وعي منها إلى اعتبار الشعوب المستضعفة، والحضارات المتخلفة شعوبا وحضارات دونية، لأنها تتمسك بالتقاليد والعادات الموروثة عن الأجداد. وبذلك قدمت المبررات الكافية لحضارة الأنوار زمن الحملات الإمبريالية أن ترفع شعار الإنسانوية لتفرضها على الشعوب المستضعفة بالعنف دون مراعاة لأدنى متطلبات حقوق الانسان.
وإذا كانت الإنسانوية مذهبا يعلي من شأن الإنسان وحقوقه، فإن الأمر نفسه يتم مع التوجه الوجودي والديني خاصة أن ما يميز الإنسان كما مر معنا هو اعتناؤه بالعقل والتعقل، وقد كتب الكثيرون في هذا الصدد متتبعين العديد من الآيات الدالة على أهمية العقل واستخدامه في القرآن الكريم واعتباره فيصلا في التمييز بين الإنسان العاقل والحيوان والجماد. وقد أكد القرآن الكريم على أن تحكيم العقل أمر واجب حسب العديد من الآيات القرآنية وفي مواضع متعددة منه، وقد أنحى باللائمة على من لا يستخدمون هذه الملكة، واعتبرهم في مستوى الأنعام التي لا تفقه ولا تعي غير ما تأكل وتشرب. والإنسان حسب هذا التصور مطالب بأن يتفكر في نفسه: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم (الروم: ٨)، وأن يتفكر في الكون كله: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (آل عمران: ١٩١)، وفي كل المحيط والمشاهد: كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (البقرة: ٢٤٢) وإِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (البقرة: ١٦٤.
المراجع:
[1] – ألفرد نورث، هوايتهد. كيف يتكون الدين. ترجمة رضوان السيد. بيروت، جداول للنشر والتوزيع والنشر،ط1، 2017. ص:17 .
[2] – توماس، آرفلين. الوجودية مقدمة قصيرة جدا. ترجمة مروة عبد السلام. مؤسسة هنداوي، ط1، 2014، ص: 55.
[3] – جمال، علي الحلاق. تأجيل اللذة تأملات في الفن والأدب والحياة. مكتبة الفكر الجديد. 2010 . ص: 11.
[4] – آلان، دوبوتون. عزاءات الفلسفة. ترجمة يزن الحاج. دار التنوير للطباعة والنشر. ط1، 2016.
[5] – الجبران، عبد الرزاق. جمهورية النبي عودة وجودية. ص: 7.
[6] – الجبران، عبد الرزاق. لصوص الله إنقاذ اليوتوبيا الإسلامية.
[7] ، عائشة، بنت الشاطئ. القرآن وقضايا الإنسان. دار المعارف، ص: 63.
[8] ستيفن، لو. الإنسانوية مقدمة قصيرة جدا. ترجمة ضياء وراد. مؤسسة هنداوي،ط1، 2016، ص: 7.
[9] – لوك، فيري. أجمل قصة في تاريخ الفلسفة. ترجمة محمود بن جماعة. التنوير،ط1،2015، ص:149.