تكوين
مقدمة
تعد “الظاهرة الدينية” ذات بعد إشكالي في المجتمعات المعاصرة نظرا لتوظيفاتها السياسية من ناحية ولتأثيراتها الاجتماعية من ناحية أخرى، فتاريخيا كانت كل محاولات الإصلاح تبدأ بالدين وفاعليه في علاقتهم بالفاعلين السياسيين، وكيفية تقسيم المجال الاجتماعي بينهما في سياق الحدود والسلطة، كما أن الاهتمام بالمسألة الدينية هو متجذرٌ في كل المجتمعات سواء كانت عربية أو حتى غربية، لسبب مهم جدًا وهو أن الدين بات أيديولوجيا مُوظف لتحقيق مآرب سياسية، وبالعودة إلى الوراء وخاصة في مرحلة الحداثة ساد الاعتقاد بأفول الدين وهيمنة النزعة العقلانية أو “بنزع السحر عن العالم” وفق تعبير (ماكس فبير)، نظرا لأن الدين كان في عصر الأنوار مصدرًا للدوغمائية والهيمنة على الأفراد، والهيمنة ليست سياسية فقط وإنما أيضًا اقتصادية وهو أساس ورقتنا هذه والتي سنتكلم فيها عن الرأسمال الديني ومفهوم السوق الدينية.
-
الدين من الاعتقاد إلى الاقتصاد
بداءة يجب أن نُشير إلى نقطة مهمة وهي صعوبة تحديد ماهية الدين وكُنهه، فمثلا لو عدنا إلى بعض تعريفات العلماء والمفكرين فسنجد اختلافات متباينة، فمثلا نجد (فويرباخ) يُعرفه في أولى محاضراته عن “ماهية الدين” قائلًا:
“إن كل كتاباتي تهدف إلى دراسة الدين واللاهوت وما يتصل بهما… وكان شغلي دائما وقبل كل شيء أن أنير المناطق المظلمة للدين بمصابيح للإنسان أن لا يقع ضحية للقوى المعادية التي تستفيد من غموض الدين لتقهر الجنس البشري”[1]،
وما نفهمه في هذا السياق أن الدين عند (فويرباخ) ما هو إلا “نتاج النفسية الإنسانية ولكنه لا ينبع من عقل الإنسان بل ينبع من خياله وتصوره“[2]، أما مع أوغست كونت فإن دراسة علاقة الإنسان بالمقدس اتخذت منعرجًا جديدًا خصوصًا مع نظريته عن قانون المراحل الثلاث والذي أشار فيه إلى أن علم الاجتماع ينقسم إلى قسمين:
- الأول، مجال الثبات الاجتماعي
- الآخر، مجال الحراك الاجتماعي.
ووفق هذا القانون أو الحالات الثلاث فإن المجتمعات تتطور انطلاقا من المستوى الأول “لاهوتي أو خرافي أو وهمي”، إلى ثان أوسط “غيبي أو مجرد”، إلى ثالث نهائي يُتوج بانتشار العقلانية العلمية، الاختتام بالتأكيد هي مرحلة “الوضعية أو العلمية” ويسير اندفاع التنظيم وتطوره الداخلي وفق هذا القانون“[3]
- ففي المرحلة الأولى يرى (كونت) أن الإنسان كان يعتمد رُؤى ومبادئ لتفسير محيطه الاجتماعي
- أما المرحلة الثانية وفق ما ذهب إليه أن الإنسان يتطور عما سبقه نظرًا لاعتماده على الفلسفة لتحليل الإشكالات التي تطغى على عالمه الاجتماعي، ومن ثم فإن تفسير الوجود لا يتم إلا من طريق هذا الوجود، ولكن بشرط الانطلاق من الطبيعة بافتراض أن النظام الاجتماعي هنا قائم على النظام الطبيعي
- أما في المرحلة الأخيرة فهي المرحلة الوضعية التي وصل فيها الإنسان إلى إدراك العالم الاجتماعي والطبيعي وتفسيره من طريق المعرفة العلمية الصرفة.
ومن طريق ما تقدم نرى أنَّ (كونت) لم يهتم بدراسة الدين في جوهره العقائدي، بل اهتم بالدواعي التي جعلت الإنسان يهتم به ويعطيه حيزًا كبيرًا في حياته الاجتماعية والفكرية، لذلك فالدين بهذا المعنى استراتيجية اجتماعية لخلق التوافق بين الافراد إذ أن كل مجتمع في انتظامه يرتكز على قيم مشتركة من أجل توازنه.
فالدين لدى كل من (كونت ومن بعده دوركايم)، وسيلة لتلبية حاجات “معرفية وسلوكية” لدى الفرد كما أنه يُمَكنُهُ من الاستقرار الاجتماعي، وقد دعا (كونت) في أواخر حياته من طريق مؤلفاته الاجتماعية والفلسفية إلى تأسيس دين جوهره العلم يرتقي بالبعد العقلاني للمجتمع بعيدًا عن فوضوية الأفراد بوصفه أساس النظام.
وأما (دوركايم) فقد أشار في جُلَّ مؤلفاته إلى أهميَّة دور الدين في حياة الجماعات وسلوك أفرادها، ولهذا عَرَّفُه بأنه:
“منظومة متلاحمة من الاعتقادات، والممارسات المرتبطة مع أشياء مقدسة، بمعنى مفصولة، ممنوعة، معتقدات وممارسات تجمع في جماعة أخلاقية واحدة، تُسمى الكنيسة، كل أولئك الذين ينخرطون فيها”[4]
ففي دراسته لظاهرة الانتحار أشار إلى أن الفرد الذي يعيش في عزلة دون الانخراط في مجموعات هو الأكثر عرضة لمواجهة أزمة نفسية والتي قد تتطور فيما بعد إلى الانتحار، لذلك يرى أن الانتماء إلى جماعة ما أو إلى فئة اجتماعية دينية يُعززُ بالضرورة الارتباط مع باقي الفئات في المجتمع، وطبعا هذا يوجد في المذهب الكاثوليكي والديانة اليهودية لأنهما قادرتان من منظور (دوركايم) على إملاء نسق من المعايير والقيم، ومن ثم السلوكيات ذات طابع جماعي بعكس المجتمعات التي تأسست بفعل التراث الديني البروتستانتي.
فالدين بالنسبة لـ (دوركايم) هو مصدر للتماسك الاجتماعي كما أنَّ المقدس لديه هو:
*انفصال الأشياء والأفكار عن الواقع، وتكون مغايرة تمامًا للمدنس فالمقدس هو سلخ الأشياء من العالم المجرد لتكون مؤهلة للوظائف غير المدنسة، فالمقدس هو من إنتاج البشر ذاتهم.
*هذا الانفصال هو نتاج سياق وسيرورة اجتماعية، يتكون من طريقها النظام الاجتماعي وفيها تعتمد الجماعة على المقدس من أجل شرعنة مجموعة النظم الجماعية وقواعدها وقيمها التي تكون مفروضة من أجل بناء الوفاق الاجتماعي، لذلك يذهب (دوركايم) إلى أن الدين هو
“الشكل المنظم والمؤسساتي للمقدس من جهة، وهو نمط لإنتاج المعايير الجماعية والوعي الاجتماعي من جهة ثانية، وهو من ثم ما يضمن ويحقق الاندماج الاجتماعي، الذي تتأسس عليه أهمية الطقوس الدينية التي تبقي على الوعي الجمعي في حالة صحو دائم”[5]
وذلك من طريق الطقوس التي لها أهمية كبرى في تنبيه وإيقاظ الوعي الجماعي وطبعا فيها يتداخل جانب التعلم مع الممارسة لتصبح في مرحلة ما قاعدة دينية وسلوكية، كما أن القواعد الدينية تتسم بالجدلية خاصة منها التي تدخل في باب “الحلال والحرام” أو “الطاهر والنجس” لأنّها تتحوَّل إلى قوانين وتعاليم تُهَيكلُ الحياة الاجتماعية للأفراد وتنظمها، وهي تختلف من ديانة إلى أخرى فما هو محرم عند اتباع ديانة ما هو حلال عند أتباع ديانة أخرى، وخلاصة التنظير الدوركايمي نجد أنَّ “الديني” هو مكملٌ لـ “الاجتماعي” والعكس صحيح.
أما كارل ماركس فيعد الدين
“صورة عينية للوقائع الاجتماعية والاقتصادية، ممّا يحتم إرساء تحليل كلي للوقائع الدينية من الجانب الخارجي، إذ أنَّ خاصية الموقف الديني ليست سوى وظيفة للشرط الاجتماعي للفرد أو الجماعة المُشكلة للصورة الأيديولوجية”[6]
كما أن اهتمامه بالدين هو في الأصل اهتمام بتأثيراته في الجانبين الاقتصادي والاجتماعي لا غير، فالروحانيات والعقائد ليست مهمة بل الأهم عنده هو الممارسات التعسفية والتسلطية والهيمنة المشرعنة بالدين، ولهذا عبر عن الدين بأنه “أفيون الشعوب“، وكذلك بأنه “سعادة الشعب الوهمية“، لأنّه يُمثل الملجأ الهلامي للإنسان العاجز عن مواجهة ظروف العمل، ومن ثم الفرار من واقعه
“إلى ذلك العالم الوهمي الذي لا قلب له وهو بلا روح، فهو يعطل الإنسان عن الاندماج في الواقع المعاش، فيجعله لا يستطيع أن يفكر أو يعمل أو يرسم واقعه كأي إنسان إلا إذا تخلص من ذلك المسلك الروحاني الذي يجعل الفرد مجرد صورة دون فعل”[7]
بمعنى أن الدين هو ملاذ الأفراد الذين يلجؤون إليه هربًا من القهر الاجتماعي بما فيه من بؤس وفقر، فالله وفق (ماركس) هو صورة تعكس شقائهم وعجزهم أمام الطبقة المسيطرة، لذلك يتخلون عن حقوقهم الدنيوية مقابل الحصول عليها بعد وفاتهم ولهذا أسماه ماركس بالوهم، فماركس يرى أنّ الدين هو آليّة من آليّات الهيمنة في المجتمعات الرأسمالية، فقد تحالفت السلطة الدينية مع الطبقة البرجوازية من أجل إجبار العمال على الرضوخ لها والاقتناع بما يعيشونه، فالدين عند الماركسية أداة لخدمة مصالح أصحاب السلطة والنفوذ، كما أنّه يُؤدِّي إلى الاغتراب الاجتماعي الذي يُؤدِّي بدوره إلى الاغتراب النفسي، وفي هذا السياق ترى الماركسية
“أنّ الحياة الاجتماعية لا يمكنها أن تقوم إلا بعد تخلصها من ذلك الطابع الرُوحاني الذي يُبعد الإنسان عن رؤية الواقع، فالحياة لديه شفافة وواقعية”[8]
وهذا ما يعني وجوب التخلي عن الدين حتى يتحرر الأفراد من كل علاقات الهيمنة والسيطرة المستندة إليه خصوصًا،
“أن فهم ماركس للدين يختزل الإنسان في احتياجاته المادية، من دون أن يستطيع استبطان أعمان النفس البشرية ومتطلباتها الروحية المزمنة”[9].
وقد كونت في السياق ذاته دراسات وإسهامات (ماكس فيبر) منعرجًا كبيرًا في دراسة الدين بوصفه إطارا أيديولوجيا ونسقا قيميا من جهة، وبين طبيعة العلاقات ونمط الإنتاج من جهة أخرى.
فدراسات فيبر تعدُّ من أهم المرجعيات في علم الاجتماع الديني، فرغم تناوله للظاهرة الدينية من الجانب الاقتصادي إلا أن فكره يناقض تمامًا الفكر الماركسي، فهو لا يدرس الأديان من جانب أنها مجموعة من المعتقدات تتكون وفق نظم بعينها، إنما يتناولها بوصفها أنساق تنظيمية توحد من طريقها عديد من الأفراد المؤمنين، من هنا منح (فيبر) أهمية للسلوكيات العملية للأفراد وللمعنى الذي ينتجونه من طريق معيشهم اليومي وهو ما يستحق الدراسة والتحليل، لهذا فإن دراساته للدين كان أساسها الكشف عن الأسباب والمحفزات التي تدفع الفرد للفعل، الذي هو ليس غايته في التحليل بقدر الأبعاد الدلالية لهذا الفعل، ومن هذا الطريق ذهب فيبر إلى أنَّ
“أخلاق الدين المسيحي وتحديدا البروتستانتي (الكالفيني)، أسهم بدرجة كبيرة في ظهور الرأسمالية، فرجالُ الأعمال وأصحاب الحيازات الرأسمالية، وكذا ممثلو الشرائح العليا المصنفة من اليد العاملة، وفوق ذلك المالك التقني والتجاري ذو الثقافة الرفيعة في المؤسسات الحديثة، هم بأغلبية كبيرة من الطائفة البروتستانتية”[10].
فالرأسمالية من منظور فيبر هي نتاج القيم الثقافية والدينية، وهذا مَكمَن اختلافه مع كارل ماركس الذي رأى أن سبب ظهور الرأسمالية هو المُحدد الاقتصادي والرغبة في السلطة والهيمنة، بينما يرى فيبر أن البعد المادي والثقافي والديني والتاريخي مهم جدًا في تكوين المجتمعات وإحداث التغيير في صلبها، فالدين البروتستانتي وفق فيبر يُحفز المعتقد فيه على الالتزام بمجموعة القيم المعيارية التي هي أساس الإيمان الديني، ومنها نجدُ أنَّ الفرد الكالفيني ملتزم وجاد ولا يغش، ناهيك أن حبه لعمله مستمد من عقيدته الدينية، وهذا ما يدفعه لإتقانه لأنَّهُ يبحث عن رضا الله فيه، إلى جانب السيطرة على الذات ورغباتها وهو ما يُؤكِّده فيبر في سياق مقارنته بين البروتستانتية والكاثوليكية بقوله:
“فالكاثوليكي هو الأكثر هدوءً ومسكون بعطش قليل جدا إلى الكسب، ويفضل حياة آمنة، ولو مع مدخول ضئيل جدا، على حياة إثارة ومجازفة ولو وُفرت له الثروات والأمجاد، تقول الحكمة الشعبية بطرافة: إمَّا أن تأكل جيدا، أو أن تنام جيدا، في الحالة الحاضرة يفضل البروتستانتي أن يأكل جيدا بينما يفضل الكاثوليكي أن ينام هادئا“[11].
إنّ ما أراد ماكس فيبر تأكيده من طريق طرحه أن الرأسمالية لم تتأسس من طريق الدين، وإنما هو كان السبب في بلورة روحها المتشبثة بالبعد الأخلاقي لا النفعي، فهو يرى أن الدين يُعد شأنا دنيويا
“يشارك في عقلنة المجتمعات ويحدد سلوكهم في الحياة، كما ينتج حوافز عملية تجعل الافراد قادرين على ممارسة الفعل العقلاني، كما يسهم في صياغة النسق الاجتماعي والاقتصادي، فهو ذو علاقة مباشرة تماما بالعوامل الاجتماعية والثقافية”[12]
كما أنَّ دراسة أشكال التدين بوصفها سلوكًا اجتماعيًا لا يعني غض النظر في التحليل عن فهم الدين الذي هو مصدر التشريع العقائدي، وهذا ما حاول فيبر تبيانه عبر دراساته السوسيولوجية للجملة من الأديان مثل الكونفوشيوسية والمسيحية والبوذية والهندوسية واليهودية والإسلام، فقد أكد من طريق هذه الدراسات أو المقارنات أن الهدف ليس دراسة الدين بوصفه تعاليم وعقائد، بل الهدف يكمن في دراسة الدوافع العملية التي تبلور أفعال الافراد في أثناء تفاعلاتهم اليومية وما ينتج عنها من أثار نفسية ونفعية لهم، بمعنى أدق دراسة الكِيانات الاجتماعية هي موضوع البحث السوسيولوجي الديني.
وقد أشار فيبر إلى أهمية اتسام الأديان بالعقلانية التي تُلغي أو تُزيل كل أشكال السحر عن العالم وفق تعبيره، لأنه من طريق الفعل العقلي يستطيع الفرد إدراك محيطه الاجتماعي والإسهام في تطوره وتغييره، وذلك عبر مزاوجته بين النظام الرأسمالي من جهة وبين المسيحية في تأويلها الكالفيني، مؤكدًا أهمية البعد الأخلاقي الذي عدهُ أحد مقومات التغيير والتطور في المجتمعات التي شهدت عقلنة كل المجالات فيها.
2. من الرأسمال الاجتماعي إلى الرأسمال الديني
يعدُّ مفهوم الرأسمال الاجتماعي من المفاهيم الأكثر تداولًا في النظريات الاجتماعية، وأكثر من اهتم به هو (بيار بورديو) في سياق مشروعه النظري عن نظرية الممارسة، وقدمه بوصفه “مجموع الموارد الفعلية التي يمتلكها الفرد من امتلاكه شبكة قوية من العلاقات والاعتراف المتبادل“[13]، وهذا ما سبق أن نظر إليه دوركايم وماركس لذلك عده بعض الباحثين من المفاهيم المتداولة وليس بالجديد إلا من حيث التسمية، إلا أن البعض الآخر يذهب إلى أن بيار بورديو كان الأكثر دقة من الناحية النظرية وكذلك من ناحية توظيف هذا المصطلح في الخطاب الاجتماعي المعاصر.
فقد تعامل مع مفهوم “الرأسمال الاجتماعي” بوصفه أداة تُركز في الفوائد التي تطال الأفراد في ظل مشاركتهم داخل مجموعات وهو ما يُؤكده بقوله إن:
“الأرباح الناجمة عن العضوية في مجموعة هي أساس التضامن الذي يجعلها ممكنة”[14]
فالشبكات الاجتماعية لديه ليست معطىً طبيعيًا، بل تُبنى وفقا للاستراتيجيات التي تُؤسس للعلاقات الترابطية بين الأفراد وفقا لمبدأ النفعية إن صح القول والقائم على عنصرين مهمين:
- الاول، التبادل العلائقي بين الأفراد الذي يخول لهم النفاذ إلى موارد بعضهم
- والآخر، كمية تلك الموارد ونوعيتها وهذا ما يحلينا بالضرورة إلى الرأسمال الاقتصادي والثقافي أيضا،
فيرى بورديو أن الرأسمال الاجتماعي يمكن تداوله ومراكمته تمامًا كالرأسمال المادي، لذلك هو يقوم على النفعية والتبادل من أجل تحسين الوضعية الاجتماعية والنفسية والاقتصادية للفرد.
وللقارئ أن يسأل هنا عن كيفية تكون الرأسمال الاجتماعي؟ وللإجابة عن هذا نقول إن للتنشئة الاجتماعية دورًا مهما في تكوين هذا الرأسمال الاجتماعي والثقافي وحتى الرمزي وتوريثهم، ولكن تذهب بعض الآراء إلى الدور المهم الذي يلعبه الدين في بلورة هذا المفهوم رغم الاختلاف بشأن إيجابيته من عدمها، فالدين عند بعض الباحثين مثل “بوتنام” لا تتمثلُ إيجابيته إلا في كونه مرجعية قيمية وأخلاقية وروحية لا غير نظرًا لأنه يُمثل رأسمال اجتماعي أقل في المقابل يرى ” لكولمان” أن الدين يسهم في بناء رأسمال اجتماعي يتسم بالفضيلة والقيم وأن
“هناك عامل يؤثر في خلق أو تدمير رأس المال الاجتماعي هو الأيديولوجية، ويمكن للأيديولوجية أن تخلق رأس المال الاجتماعي من طريق لفت الانتباه لمصالح الآخرين وليس فقط بالتركيز في مصالحهم الخاصة”[15]
وهنا نجد أن الدين جزء من مبدأ النفعية الحتمية في طبيعة العلاقات بين الأفراد، ولكن نوه بعض الباحثين إلى أنه يمكن للرأسمال الاجتماعي القائم على أساس ديني أن يكون وبالًا على الأفراد، مثل الجماعات الدينية المتطرفة والارهابية وهو ما يُولد علاقات يشوبها الصراع وفي سياقه تتعطل كل رؤوس الأموال، سواء كانت اقتصادية أو مادية أو ثقافية، فالرأسمال الاجتماعي القائم على النزعة الدينية لا يتعامل مع الدين كونه عقائديًّا بما يحمله من تعاليم وشعائر، بل يتخذونه مَطِيَّةً لتحقيق مآرب سياسية، وغالبًا في جُل الأنظمة بالعالم يتخذون موقف المعارضة مستندين إلى الدين من أجل شرعنة مساراتهم وتوجهاتهم السياسية والتي في الغالب تكون بعيد كل البعد عن النص الديني.
هذا وقد تناول بورديو البعد الثقافي بالتحليل خاصة في تحليله للرأسمال الثقافي بوصفه وسطا للعلاقات الاجتماعية، ومن أهم مكوناته هو الدين، الذي لم يتناوله بورديو بالتحليل إلا في كتابين وهما: “الرأسمال الروحي” le capital spirituel”، و”الرأسمال الديني ” le capital religieux “، يتناول هذا النموذج لـ بورديو كلا من المعرفة الدينية والكفاءات الدينية بوصفها معطيات دالة على الرتبة الاجتماعية ضمن اقتصاد رمزي تنافسي، وتقييم الرأسمال الروحي هو موضوع مثير للجدل، لأنه يخضع لاختلافات زمنية وثقافية، كما أن الرأسمال الروحي يُفسر لنا بعض الظواهر مثل تغير الدين والانتقائية في التعبد…
أما الرأسمال الديني فيحملُ معنيين، الأول، إيجابي وفيه أشار فيبر إلى أن القيم الدينية تحث على العمل بصدق لأجل تحقيق الربح، وأما المعنى الآخر، فهو سلبي يتمثل في اعتماد الدين بوصفه وسيلة للسيطرة على الأفراد من أجل تبوأ مكانة اجتماعية واقتصادية عالية في المجتمع، وأهم الوسائل التي يتبعها أصحاب رأس المال الديني السلبي، هي العنف الديني والوعظ وإبراز بعض جوانب الترهيب أو ادعاء العلاج بالنص الديني وطبعا كله مصبغة بالتعاليم الدينية التي تساعدهم في تقديس أفعالهم وهذا ليس منوط بالديانة الإسلامية فقط وإنما تقريبا نجده في كل الديانات والعقائد.
أما عند السوق الديني كما أشار إليه بورديو هو أساسي لكل رأسمال رمزي الذي تتجلى قيمته في كيفية اكتساب “عاطفة المجتمع“، وينقسم هذا السوق إلى قسمين:
- قسم الخدمات الدينية، والتي تحوي خدمات مثل الرُقية الشرعية (أو المسحة أو العوذة في الديانات غير الإسلامية) وفك السحر واستخراج الجان وغيرها من الخدمات والتي تعد الفتاوى أهمها بسبب التأثير الذي تمارسه في الأفراد المعتقدين، خصوصا مع ولوج هذه التجارة الدينية للإعلام أولًا ثم انتشارها على الشبكات العنكبوتية، فأصبحت مُتاحة لجميع الفئات، كما أنها باتت أيضا مصادر دخل للعديد من تجار الدين بالأخص الذين ينشطون ضمن تطبيقات توفر الربح المادي وفقا لعدد المشاهدات مثل (اليوتيوب، TikTok ، سناب شات…) طبعا إلى جانب تهافت الشركات للترويج لمنتوجاتها من طريق الإشهار في المواقع الأكثر مشاهدة لهؤلاء ومن ثم يصبح الربح المادي مزدوجًا.
- أما القسم الآخر، فهو القسم الخاص بالسلع المُؤدلجة مثل الأناشيد الدينية الحماسية؛ الأناشيد الجهادية والتي انتشرت خاصة إبان الثورات العربية، والتي مَثلت إحدى آليات (الدمغجة) والاستقطاب للحركات الأصولية نظرًا لتأجيجها مفاهيم ثورية مثل الهُوية والأمة والأمجاد الإسلامية… والتي كونت أهم ملامح العُطوبة النفسية للمستقطبين الذين وهبوا أنفسهم إلى الجهاد في سبيل إحياء هذه المفاهيم، أو كذلك الأناشيد واللطميات الشيعية التي تكرس في عديد منها للنزعة الطائفية ومن ثم استثمارها في إحياء الذاكرة الشيعية الموجوعة، وهو ما يكون وعاء هُوياتي أساسه ديمومة الصراع الشيعي السني إلى ما لا نهاية.
وغيرها من الأنشطة التي تحمل في طياتها دلالات دينية مثل المسابقات الدينية أو الخيم الدعوية أو حتى الحركات التبشيرية، ناهيك أيضا عن انتشار الاستثمار في الملابس الدينية والترويج لها في منصات التواصل الاجتماعي فتحول هذا الفضاء الرقمي إلى سوق رقمية دينية متنوعة الروافد من العصري إلى التقليدي إلى الأفغاني… واستنادًا إلى هذا صاغ بورديو مفهوم الهابيوس والذي هو مجموع الآليات المُحركة للرأس المال الرمزي بعامة، كما تحوي أيضًا مهارات الفرد الذاتية وخبراته وقدراته على تقدير المواقف الاجتماعية، “والهابيتوس يُشبه مفتاح “ماستر كي” الذي يفتح جميع الأبواب، ويعمل الهابيتوس وفق استراتيجيات يسلكها الفرد ويمارسها داخل السوق الديني. ويعد الهابيتوس الذي يملكه الفرد المحرك الرئيس لرأس المال الديني”، وهو وفق بورديو مجموعة استعدادات لُغوية وجسدية وعقلية واعية وغير واعية، متجذرة في طبيعة الفرد وذهنيته عبر سنوات تنشئته الاجتماعية، والتي تجعله يتصرف بكل عفوية ودون تكلف والأهم بدرجة كبيرة من القناعة، وهو ما يمكن أن نفهم به كيفية تحول الأفراد إلى بيادق استثمارية بيد تجار الدين.
وهنا تتجلى أهمية التحليل السوســيولوجي الذي يسمح للباحث بفهم العوالم الدينية وآثارهــا الاجتماعية سواء كان ذلك في مستوى الفاعلين أو التنظيمات والأيديولوجيات، كما يركز في النشــاط الديني مثل نشــاط اجتماعي يربط بيــن الأفراد بوصفهم فاعلين في الحقل الديني وعلاقتهم بالفاعلين الآخرين وعادة ما تربطهم به وفق ما تقدم علاقة جدلية، وهو ما أشار إليه بورديو بقوله:
“كلّ حقل تيولوجي هو سيرورة تاريخية، فهو يمرُّ بعدة مراحل طويلة وبطيئة وصراعات متعددة الهدف منها الحصول على الاستقلال الذاتي، فهو سوق تنافسي تسود فيه علاقات القوة والاحتكار والمقاومة والاستراتيجيات والمصالح والفرص المادية والاجتماعية والرمزية”[16].
خاتمة:
يعدُّ الدين ذا مركزية مهمة داخل المجتمعات فهو يكون مشتركًا جمعيًا، كما أنه يعد وعاء هُوياتي للجماعات البشرية، إلى درجة أن كل الهُويات الأخرى تنتفي بحضوره حتى مفهوم المواطنة والهُوية الوطنية لا يصبح لها قيمة إلا من طريق وحدة الدين، وكأن بهذا الانتماء للوطن والاعتراف بمواطنة الفرد لا تتم إلا من طريق الانتماء إلى دين الأغلبية، وهذا ما حَوله إلى أيديولوجيا مُوظفة سواء من النظم السياسية الرأسمالية في محاولة سيطرتها على مجتمعات العالم الثالث بواسطة تأجيج الصراعات الطائفية، أو حتى من طريق رجال الدين الذين يعتمدون على الدين في زيادة رأسمالهم الاجتماعي والذي يتحول فيما بعد إلى رأسمال مادي (سلطة وحظوة اجتماعية ورفاهية مادية…)، وهذا الأمر حاصل في كل الأديان والعقائد الموجودة في الأرض، فعلى الرغم من أن الدين يجب أن يكون مسألة فردية مرتبطة بمستوى تدين الفرد إلا أنه في المجتمعات العربية خصوصًا يعد مسألة جماعية وكأنه بهذا يمثلُ الحضور الجمعي وهذا ما يجعله سهل التوظيف والاستغلال من المستثمرين فيه في شكل رأسمال قابل للتراكم.
الحواشي المراجع:
[1] فويرباخ، أصل الدين، ط1، ترجمة أحمد عبد الحليم عطية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1991، ص 3.
2 انجلز، لودفيغ فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، ترجمة: الياس شاهين، دار التقدم موسكو، 1988، ص 89.
3سابينو أكوافيفا وإنزو باتشي، علم الاجتماع الديني: الإشكالات والسياقات، ترجمة عزالدين عناية، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2011، ص 31.
4 Emile Durkheim, Les formes élémentaires de la vie religieuse, PUF, 1985, p.65.
5عياد ابلال، الجهل المركب، مرجع سابق، ص 46، نقلا عن: لحسن محسن خوخو، في موقف علم الاجتماع من التدين، مجلة فكر ونقد، عدد51، ص116.
6 ميشال مسلان، علم الأديان، مساهمة في التأسيس، ط1، ترجمة عز الدين عناية، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2009، ص84.
7روبرت سولمون، الدين من المنظور الفلسفي، ط1، ترجمة حسون السراي، دار العارف، بيروت، 2009، ص171.170.
8 دانيال هيرفيه وجان بول ويلام، سوسيولوجيا الدين، ترجمة درويش الحلوجي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005، ص 20.
9عبد الجبار الرفاعي، تمهيد لدراسة فلسفة الدين، ط1، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، 2014، ص 13.
10 ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ترجمة محمد علي مقلد، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990، ص 16.
11 المرجع نفسه، ص 19.
12 لوران فلوري، ماكس فيبر، ط1، ترجمة محمد علي مقلد، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2008، ص64.
13 Pierre Bourdieu, The forms of capital, Richardson, J., Handbook of Theory and Research for the Sociology of Education (1986),. Westport, CT: Greenwood, pp. 15.29.
14 Op cit, p 249.
15James Coleman, “Social capital in the creation of human capital”, American Journal of Sociology, vol 94, p 320.
16Pierre Bourdieu, « Genèse Et Structure Du Champ Religieux », Revue Française de Sociologie, n°12, 1971, p.334.
[1] فويرباخ، أصل الدين، ط1، ترجمة أحمد عبد الحليم عطية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1991، ص 3.
[2] انجلز، لودفيغ فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، ترجمة: الياس شاهين، دار التقدم موسكو، 1988، ص 89.
[3]سابينو أكوافيفا وإنزو باتشي، علم الاجتماع الديني: الإشكالات والسياقات، ترجمة عزالدين عناية، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2011، ص 31.
[4] Emile Durkheim, Les formes élémentaires de la vie religieuse, PUF, 1985, p.65.
[5]عياد ابلال، الجهل المركب، مرجع سابق، ص 46، نقلا عن: لحسن محسن خوخو، في موقف علم الاجتماع من التدين، مجلة فكر ونقد، عدد51، ص116.
[6] ميشال مسلان، علم الأديان، مساهمة في التأسيس، ط1، ترجمة عز الدين عناية، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2009، ص84.
[7]روبرت سولمون، الدين من المنظور الفلسفي، ط1، ترجمة حسون السراي، دار العارف، بيروت، 2009، ص171.170.
[8] دانيال هيرفيه وجان بول ويلام، سوسيولوجيا الدين، ترجمة درويش الحلوجي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005، ص 20.
[9]عبد الجبار الرفاعي، تمهيد لدراسة فلسفة الدين، ط1، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، 2014، ص 13.
[10] ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ترجمة محمد علي مقلد، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990، ص
[11] المرجع نفسه، ص 19.
[12] لوران فلوري، ماكس فيبر، ط1، ترجمة محمد علي مقلد، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2008، ص64.
[13]Pierre Bourdieu, The forms of capital, Richardson, J., Handbook of Theory and Research for the Sociology of Education (1986),. Westport, CT: Greenwood, pp. 15.29.
[14] Op cit, p 249.
[15] James Coleman, “Social capital in the creation of human capital”, American Journal of Sociology, vol 94, p 320.
[16]Pierre Bourdieu, « Genèse Et Structure Du Champ Religieux », Revue Française de Sociologie, n°12, 1971, p.334.