تكوين
تقديم :
الحديث عن “الذات” عند المفكر المغربي عبد الله العروي حديث ذو أبعاد متنوعة ومتعددة. ذلك ثمة “أبعادا” للذات في فكر هذا المفكر كثيرة. ونحن نذكر من بينها، ههنا، أبعادا ثلاثة أساسية:
- بُعدٌ تاريخي. ويتعلق هذا البعد في الحديث عن “الذات” بتشكل “الذات العربية”، بعامة، و”الذات المغربية”، بخاصة، عبر التاريخ. وهذا الأمر هو ما تكفلتْ بالحديث عن جزء منه ـ خاص بالذات المغربية ـ كتب العروي التاريخية المتخصصة؛ شأن كتابه عن “مجمل تاريخ المغرب”، وكتابه عن “أصول الوطنية المغربية”. كما تكفلت نبذ أخرى، من كتابه عن “العرب والفكر التاريخي”، وغيره بالحديث عن “الذات العربية” في تاريخيتها وفي تأخريتها. والحال أن الحديث عن “البعد التاريخي للذات المغربية والعربية” إنما هو شأن “تاريخي” محض أولى باهتمام المؤرخين.
- بُعدٌ أدبي. لطالما كرر عبد الله العروي القول بأن ما كتبه من كتابات أدبية، لا سيما منها رواياته، إنما هو ضرب من “البوح” الوجداني عما لا تستطيع “الذات” أن تعبر عنه بوفق لغة المفهوم العقلية المجردة ـ ذات الإيحاءات الهيجيلية ـ التي يتقنها عبد الله العروي أيما إتقان. فللذات من هذه الناحية “نصيبَان” أو “حَظَّان” deux parts من “التعبير” ـ “حظ” أو “قسمة” أو “نصيب” “وجداني” شأنه أن يستعمل لغة العاطفة l’affect Le langage de ، و”حظ” أو “قسمة” أو “نصيب” “عقلاني” الشأن فيه أن يستعمل لغة المفهوم Le langage du concept. والحق أن هذا الوجه من التعبير عن “الذات” إنما الذين هم أحق بالحديث عنه هم نقاد الأدب.
- بُعْدٌ فكري-فلسفي. لا شك عندي أن من أهم وأعمق المفكرين المغاربة الذين فكروا في مسألة “الذات” بفكر فلسفي-تاريخي دقيق هو الأستاذ عبد الله العروي. وهذا هو ما يمكن أن يشكل موضع اهتمام مؤرخي الأفكار والباحثين في الفلسفة بالمغرب. وهو ما تروم أن تتناوله هذه المداخلة حسب الحيز الزمني المخصص لها، وبوفق المناسبة التي استدعتها.
لكن، قبل تناول هذا الموضوع، لا بد من إبداء ملاحظة منهجية. وتتعلق بزعمنا أن مسألة “الذات” طرحت فكريا وفلسفيا، عند عبد الله العروي، من خلال مستويين اثنين: مستوى الفرد ـ ومن ثمة يمكن الحديث عن “الذات الفردية” في فكر عبد الله العروي. ومستوى الجماعة ـ ومن هناك إمكان الحديث عن “الذات الجماعية” في فكر عبد الله العروي. علما أن المستويين يتصلان عمليا، ولا ينفصلان اللهم إلا منهجيا. لنجمل القول في هتين النقطتين نقطة نقطة، ثم لنصل بينهما بعد ذلك.
ما هي الذات الفردية؟
ـ I ـ
يندرج حديث عبد الله العروي عن “الفرد” بما هو “ذات” في سياق تفكيره في موضوع “الحداثة” بعامة وفي إطار نظره في موضوع “الحداثة العربية” بخاصة. ولطالما عبر هذا المفكر عن جوهر مشروعه بالقول: “إنني أحاول أن أظهر مقومات الحداثة”. ولعل أبرز هذه “المقومات” بالذات مقوم “الذات الفردية” نفسه.
بداية، لا بد من إزاحة سوء فهم قد يحدث لكل قارئ غير ذي تمرس على قراءة كتابات عبد الله العروي. ذلك أن ظاهر كلام العروي يشي بشيء، وباطنه يعني شيئا آخر. ظاهر كلام عبد الله العروي، في بعض كتاباته، يشي بأنه مفكر “الجماعة” لا مفكر “الذات”، وأنه مفكر “الدولة” لا مفكر “الفرد”. أليس هو القائل بأن: “الانحطاط العربي أساسه الجوهري تطور أنانية الأفراد”[1]؟
لكن، علينا ألا ننسى أن عبد الله العروي ما فتئ يدعو إلى: “إعطاء الفرد العربي، ككائن حي، كجسم منتج ومستهلك، كعقل وكإرادة [أي باختصار كذات]، وسائل الاستمرار والفوز في عالم اليوم الذي يهيمن عليه منطق معين وتسيره أخلاق معينة”[2].
كيف نفسر، إذن، هذه “المناقضة” البَدِيَّة الظاهرة؟
أرى أنها مناقضة إنما حدثت في الظاهر فقط، ولمن لم يقرأ نص العروي في جدليته المعهودة. وقد بين بعض الباحثين المغاربة هذا الأمر[3]؛ بحيث أظهر أن ثمة سوء فهم حاصل في قراءة الصلة بين “الدولة” و”الفرد” كما تتبدى في كتابات عبد الله العروي. ووجد هذا الباحث أن هذا الأمر ينضوي سوء فهم مزدوج لما كتبه عبد الله العروي: من جهة أولى، “الفرد” الذي يرفض العروي القول به، و”الفردانية” التي يستبعدها ـ كما كان استبعدها هيجل من قبله لخوائها عند الفيلسوفين الألمانييين يعقوبي وفيشته، مثلا، حيث تمسي هذه الذات “أنا فارغة” جوهرها القول: “أنا أنا”؛ أي تمسي “أنانة” ـ إنما هي تلك: “النزعة الذاتية المغالية المتطرفة” التي ترى أن: “الشر كله [كامن] في الدولة التي [يُفترض أنها] تنظم حياة الناس وتضيق الخناق على مبادرة الفرد”[4]. فهذا التصور الذاتوي المغرق إنما يرى فيه مفكرنا تحقيقا لضرب من “الفردانية المتطرفة الفوضوية” كما كانت تشهد عليها، أيام تواجده بباريس، الفلسفة الوجودية، مثلا؛ تلك الفلسفة التي تدعي أن الأفراد أحرار طلقاء لا حكم للتاريخ ولا للمجتمع ولا للذكريات عليهم[5]؛ أي أن عبد الله العروي يلمح في هذا الموقف تجسيدا لتلك النزعة: “الفوضوية التي تدعو إلى تقديس الفرد وإرادة الفرد وتريد كل شيء في خدمة الفرد من الآن وبدون انتظار بناء قواعد مادية وتنظيمية ـ [تلك النزعة التي] ترى في الدولة والتنظيم والعائلة … عدوا للفرد وخطرا عليه ـ ولا تسوغ أبدا أن تقبل مؤقتا تقوية الدولة بعد التغلب عليها عن طريق الثورة وبناء قاعدة اقتصادية وتنظيم جديد للعلاقات العائلية كوسائل مؤقتة لتحرير الفرد”[6].
والحال أن هذه النزعة الذاتوية المتطرفة هي، عند عبد الله العروي، وكما وصفها مرارا وتكرارا مجرد “طوبى”؛ أي أنها محض نزعة حالمة تروم: “إحياء الفرد الحر الكامل الذي لم يدخل بعد في قوالب العائلة والمجتمع والدولة”. والحق أن عبد الله العروي يرفض رفضا قاطعا أن يتصور “الذات” أو “الفرد” خارج الدولة، ويرفض أن يميز تمييزا حدِّيا بين “الدولة” و”المجتمع”[7]. وإلا، فإنه: “عندما نتصور فردا خارج الدولة [فإننا] نتصور فردا غير إنساني: حيوان أو ملاك”[8]؛ بمعنى أن عبد الله العروي لا يرى في “ذات الإنسان”، حين يُفترض افتراضا واهما أنها عن “المجتمع” بمعزل، إلا مَسْخاً من بين مسوخ. فالتفكير في “الذات” أو التفكير في “الفرد” ـ ذاك التفكير الذي يريده عبد الله العروي تفكيرا سياسيا وتاريخيا ـ إِنْ هو تم بمنأى عن المجتمع، يمسي تفكيرا في “كائن لا وجود له”، حسب تعبيره.
يذكرنا حديث عبد الله العروي هذا بحديث هيجل، في كتابه فينومينولوجيا الروح، عن “الروح الجميلة”؛ أي عن تلك “الذات” التي تريد أن تكون “نقية” و”صافية” و”طاهرة” و”نزيهة”؛ فلا تقرب المجتمع الذي يفترض أنه “موحش” لها و”مؤذ” و”ملوث” لطهرانيتها المزعومة. ولعل عبد الله العروي وهو يكتب ما يكتب عن هذه الذات ـ الروح الجميلة ـ كان يستحضر في ذهنه ضربا من “الذات” لطالما شهد عليها المجتمع المغربي شهودا هي “الذات الصوفية” التي كانت تطمح دوما إلى أن “تعلو” على سفاسف المجتمع وألا تتسخ بما يتسخ به؛ أي بالواقع من حيث أنه واقع متعدد متنوع يشهد على مظاهر الفضيلة كما يشهد على مظاهر الرذيلة. أُنظُرْهُ يقول ملمحا غير مصرح إلى هذه “الذات الصوفية الجميلة”: “الفرد الصالح [المتوهم المفترض=الروح الجميلة] لا يحتاج إلى مجتمع أو إلى دولة، لكنه افتراض لا وجود له في عالم الملموسات”[9].
وهكذا تتحدد “الذات”، عند عبد الله العروي، على جهة السلب؛ أي من حيث هي الذات التي لا يَعُدُّهَا “ذاتا حقيقية” وإنما يعتبرها مجرد “ذات شبيهية”؛ وهي الذات التي تدعو إليها “النزعة الذاتية المتطرفة”: ذات شديدة التطوُّس، شديدة الحساسية بأَنَوِيَّتِها، كثيرة التعني والتغني بأنانتها، منعزلة عن المجتمع رافضة للخلطة، بل وحتى محتقرة للمجتمع، ومتمردة على الدولة.
وإذن، وبالبَدَل: ترى ما هي “الذات” التي فكر فيها عبد الله العروي؟
والجواب: هي “الذات” المتفاعلة مع “الدولة” ومع “المجتمع”. وهكذا بعد أن انتقد عبد الله العروي الذات المنعزلة، فإنه لا ينسى أن ينتقد أيضا الدولة التي لا تعترف بذات الفرد اعترافا بل وتمحقها محقا: “الدولة التي تجهل الذات [يعني ذات الفرد وفرديته وحريته] ناقصة، وكذلك الدولة التي تتجمد عند تناقضها مع الذات [مع ذات الفرد]. أما الدولة الكاملة، المعقولة، فهي التي تعترف بحرية الذات وتعمل على غمس الذات في المبدأ العام [مبدأ الكونية]، التي تترك الفرد حرا يفعل ما يريد في الوقت الذي يطبق فيه تلقائيا القانون العام”[10].
وهكذا، يؤلف عبد الله العروي في العبارة الواحدة بين نقده للذات المعزولة ـ القائمة على دعوى الذاتية المتطرفة ـ وبين نقده للدولة الساحقة للذات ـ القائمة على دعوى الدولة الكليانية ـ فتلفيه يقول: “أليس اعتبار الإنسان خارج الظروف الإنسانية، وتصور الحرية خارج الدولة، أسطورتين طوباويتين؟»[11]
وعليه، فإنه إذا كان عبد الله العروي قد رفض “الذات الفوضوية” و”الذات المتطرفة”، فإنه قال، تلقاء ذلك، بالذات الفاعلة في التاريخ؛ أي أنه تصور الأفراد فاعلين في التاريخ وعاملين مؤثرين[12].
وبهذا، إِنْ نحن استبنا أمر هذين التوضيحين، تبدى لنا أن تناول الأستاذ عبد الله العروي لمسألة “الفرد” و”الفردانية” كان تناولا تاريخيا، إِنْ لم نقل إنه كان تناولا تاريخانيا. ولهذا الأمر، فإنه لا غرابة أن يعتبر عبد الله العروي “مسألة الذاتية” في مشروع الحداثة؛ فيقول عنه القول الجامع: «إن الحداثة تنتصر ومعها تنتصر النزعة الفردانية»[13].
ويقيم عبد الله العروي ضربا من “جنيالوجيا الذات”، فيرى أنه مفهوم جوهري من مقومات الحداثة. ذلك أن “مستهل الحداثة” شهد على تسلل مفهوم “الذات”، ذي الأصول الفلسفية، شيئا فشيئا إلى الفكر الغربي برمته[14]. فالتصور الحداثي إنما هو تصور قام على اعتبار الإنسان الفرد ـ الذات ـ الفاعل صاحب الاختيار والابتدار. وقد اعتبر عبد الله العروي أن الأصل في مبدأ “الذات” هذا إنما هو الفيلسوف الإغريقي سقراط. ذلك أن هذا المفهوم ـ الذات ـ لم يوجد على عهد القدامة المتقدم على سقراط، ولا على عهد القرون الوسطى، ولا في الفلسفات الشرقية. إذ في هذه ـ وفي هذا التحليل يظل عبد الله العروي مخلصا لهيجل، كما يلاحظ ذلك بحق زميلنا محمد الشيخ ـ انوجد مفهوم “الموضوعية” أو “الجوهرية” أو “الكلية” ـ وكلها مفاهيم مناقضة لمفهوم “الذات” و”الذاتية” ـ التي من شأنها أن “تسحق” الفرد وأن “تمحق” الذات وأن “تذوِّب” الأنا في محلول “الكل” أو “الجملة”، وأن تذهب أثر الفرد وتذيب ذاتيته في مهواة لا قرار لها[15].
هذا في مرحلة أولى، وفي مرحلة ثانية، صارت هذه “الذات” “فردا”؛ بالمعنى الاجتماعي والسياسي لكلمة “فرد”؛ يعني الفرد العاقل المالك لحياته وبدنه وذهنه وعلمه. وذاك كان هو مفهوم عصر الأنوار لمعنى “الفرد”[16]؛ عنينا هذا المفهوم “الذات” من حيث هي “فرد عاقل”.
وفي عهد ثالث، اقترن مفهوم “الفرد” بمعنى “المبادرة الخلاقة”؛ حيث صير إلى التخلي عن “تجريدية الأنوار” ـ الذات العاقلة التي لا وجود لها في الواقع التاريخي ولا كيان ولا قيام ـ واستعيض عنها بتبني مفهوم “الفرد الفاعل” أو “الذات الفاعلة”. ويقصد عبد العروي بذلك الذات الفاعلة الواقعية وليس الفرد الخيالي[17]. وهذا المفهوم للذات وللفرد هو الذي يقف عنده عبد الله العروي بديلا مرتضيا له، ويجد أنه يلائم وضعنا الاجتماعي والاقتصادي ويؤهلنا لتبني الحداثة.
أما العهد الرابع، عهد ما بعد الحداثة، فهو عهد “الفرد المغاير” و”الذات المخالفة”. وهو عهد لا يجد عبد الله العروي أنه يناسب ما عندنا؛ لأنه يعكس الروح النخبوية المتمردة على الديمقراطية والاشتراكية. هذا هو تاريخ الذات الحديثة ـ الغربية ـ مختصرا.
ـ II ـ
الذات الجماعية عند عبد الله العروي
لطالما تحددت “الذات الجماعية”، عند عبد الله العروي، بمفهوم “التأخر التاريخي”: الذات الجماعية العربية بعامة والمغربية بخاصة ذات متأخرة تاريخيا. وتلك سمتها الجوهرية. ذلك أنه لما كان قد كثر الحديث عن “الأصالة” ـ وهي التي عادة ما توصف بها الذات العربية الجماعية، حدث ذات مرة أن انتفض عبد الله العروي ضد هذه “الهجيرى” صارخا: لئن كان ثمة من أصالة للذات العربية؛ أي من سمة تتميز بها، فإنما هي سمة “التخلف”: إنما التخلف هو ما أمسى اليوم يميز الذات الجمعية العربية.
على أن لهذه “الذات الجماعية”، بدورها، “جنيالوجيا” عند عبد الله العروي. سبق أن استعرضنا تشكل مفهومي “الذاتية” و”الفردانية” في الثقافة الغربية؛ أي عندهم؛ أما عندنا ـ والفكر العربي المعاصر دائما فكر مقارن بين “ما عندنا” و”ما عندهم”، كما لاحظ ذلك عبد العروي منذ كتابه المبكر “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” ـ في عهد الدولة الإسلامية (دولة السلطنة)، فإن الفرد ما كان هو نتاج المبادرة وإنما شأن: “الفردانية [أنها كانت] ثمرة الاستبداد وثورة سلبية عليه”[18]. إذ كانت تجربة الدولة الإسلامية تجربة “التخارج بين قانون الجماعة ووجدان الفرد”[19]. ذلك أنه ما وُجِدَ الفرد، في ثنايا هذه الدولة، إلا “مُستعبدا” و”مُستتبعا”: “الفرد داخل الدولة [الإسلامية القديمة] مستعبد بالتعريف، فلا يعرف الحرية إلا إذا خرج منها أو عليها”[20]. والحال أن: “ما من دولة سلطانية إلا والفرد مستعبد فيها”[21]. ولهذا السبب، كما يلاحظ ذلك محمد الشيخ، يقرن عبد الله العروي بين “فردانية الأجداد” و”استبداد دولتهم”: “الفردانية نتيجة الاستبداد”[22]. إذ لم يكن تبلور مفهوم “الفرد” ـ أو “الذات” ـ في الحضارة الإسلامية، باستثناء الفرد المجرد الأوحد الأعزل الذي شأنه أنه يحيا على هامش نظام السلطنة الجامح[23]. وإنه للفرد المتوحد النابتة ـ الذات المتطرفة ـ ذاك الفرد الذي: “فردانيته نتيجة جدلية للسلطنة القائمة”[24]. وإنه للفرد الذي يعتزل المجتمع وينكمش على ذاته بغاية تزكية نفسه مواهبه الروحية وتنميتها. ولعله تجسيد للذات الصوفية التي شكلت نموذج “الذات” العربية لأمد طويل.
والحال أن في دولة هذا شأنها ـ الدولة السلطانية ـ يصير الفرد العاقل ـ أي الذات العاقلة ـ يرى ف الدولة قبل شيء “جهاز قمع”، وأن له الحق في أن ينجو بنفسه، كما أن له الحق في أن يحقق حريته عن غيره بمَبعَد، فيكون أن يطلب الطوبى التي لا تتحقق: دولة الحكمة (الفيلسوف النابتة) أو دولة الخلافة (الفقيه المقهور) أو دار السعادة (الصوفي). وإذن، الحل عنده حل ذاتي فرداني طوباوي لا يستهدف “تأنيس الدولة”، وإنما هجرها والفرار منها. وما من سبيل إلى تحقيق هذا المبتغى السلبي الانعزالي الانفرادي إلا بتخيل يوطوبيا فَرّارة أشبه شيء تكون بيوطوبيا الذات الرواقية. والحال أن من شأن هذا الحل الذاتوي المتطرف والفرداني المُغرِق أن يناقض العقلانية السياسية والاجتماعية التي تقوم على مبادئ “المبادرة” و”التقدم” و”النمو” و”التطور”. إذ لا أمر من هذه الأمور بمكنته أن يتحقق بالفرد الأفرد الأوحد الأعزل وعن الدولة بمنأى ومبعد ومعزل؛ أي أنه لا يمكن أن يتحقق بذات متطرفة …[25] فقد انجلى بهذا إذن أن: “السلوك الذي ورثه الفرد العربي لا يوافق كيان دولة حديثة”[26].
ذاك كان حال العرب على عهد القدامة. وفي الزمن الحديث، على عهد التنظيمات، انحلت بنية المجتمع العربي العشائرية، فكان أن برز مفهوم أول للفرد صار يجد في روابط العشيرة قيودا، وانتقض بناء الحرفة والعائلة والزاوية ـ وهي البناءات التي كانت تمنع بروز مفهوم “الفرد” ـ أو “الذات ـ وتعيق ظهوره ـ فكان أن نشأ مفهوم “الشخصية”. وكانت هذه “الشخصية” مخالفة لفردية المجتمع التقليدي. إذ ما كان “الفرد” القديم ليعي فرديته إلا بعد أن يهجر هو الجماعة ويجابه الدولة أو يرفضها مطلق الرفض، وإن كان هذا الرفض، على التدقيق، رفضا مجردا. ولك كما يقول العروي أن تتأمل مثال هذا الفرد في “الصعلوك” وموقفه إزاء قيم الجماعة، كما لك أن تنظر إلى صورته في “المتصوف” وفي موقفه من الدولة، فإنك لا محالة تتخبر عن حاله وتستشف أمره.
لكن، وكما يرى عبد الله العروي ـ ونحن نقتفي أثر محمد الشيخ هنا في تحليله ـ ها هو الفرد قد صار الآن، على عهد التنظيمات، يحس بقيمة ذاته من حيث هو عضو فعال في الأسرة والدولة. وهو وعي تَعَالَقَ ومشاركته في حياة الجماعة وإحساسه بالمسؤولية. وإذ كان الفرد التقليدي يجد أن ذاته مدينة بكل شيء إلى القبيلة والعشيرة، فيرضى بحاله، فإنه ها هو الفرد العربي الحديث ـ الذات العربية ـ صار يتسخط على وضعه القديم ويطالب بتحرير المرأة والطفل والتلميذ والصانع من عسف التقليد: التحرر المشخص لا التحرر المجرد، والتحرر الواقعي لا التحرر الصوفي[27]. وهكذا، من الذات غير الاجتماعية ـ الفرد المجرد ـ إلى الذات ـ الشخص ـ المسؤولة اجتماعيا، ومن الفردية إلى الشخصية، قد تم قطع مسافة ما بين أتون القدامة وبداية الحداثة. ولذلك فإنه حين يتحدث عبد الله العروي عن “الفرد الحر المسؤول”، فإنه يقرنه دوما باسم “المواطن الحديث”. فهل صار الفرد العربي، على العهد العربي الحديث، “مواطنا حديثا”؟
يجيب الأستاذ عبد الله العروي بأن النقص الذي عانت منه “الفردية” التي نادى بها العرب يتمثل في كونها أرادت أن تكون “فردية ليبرالية” ـ أعلى مراتب الفردية الغربية وآخرها ـ ما دامت هي تغنت بالمبادرة الفردية، ونادت بتكسير الإجماع، وطالبت بتأكيد سلطة الفرد على ذاته وفكره وبدنه … والحال أن ما كان ينقصها هو أنها لم تتمثل جيدا معنى “الفردية” الاجتماعي والسياسي؛ أي الفردية الحرة المسؤولة، فقلدت فردية جون ستيوارت ميل الليبرالية لا فردية الفاعلية التاريخية؛ نعني الفردانية الاجتماعية والسياسية. ذاك كان وجه نقصها. وتلك من معاطب الذات العربية الحديثة التي يقف عنده عبد الله العروي باعتبارها أخد تخوم هذه الذات.
ـ III ـ
ما الفرق بين الذات الفردية والذات الجماعية؟
جدلية “الذات الفردية” و”الذات الجماعية”: ذات المثقف
يمكن أن نجد نموذجا لأنماط التفاعل ـ السلبية في غالبها ـ بين “الذات الفردية” و”الذات الجماعية”، عند عبد الله العروي، في نموذج “ذات المثقف”. لربما لم يَقْسُ مثقف مغربي، ولا حتى عربي، على الذوات المثقفة بالقدر عينه الذي قسا به عبد الله العروي على هذه “الذوات”. ومَعْقِدُ نقد عبد الله العروي للذات المثقفة يكمن في ما يشكفه فيها من تناقضات صارخة. وهي تناقضات عادة ما يعبر عنها باسم “الأزمة”: “أزمة المثقفين العرب”. والحال أنها أزمة تظهر بدية في ما يمكن أن نسميه “انفصام ذات المثقف”. وكثيرا ما ضرب عبد الله العروي أمثلة عن هذا “الانفصام” في أهم كتاباته. منها أن المثقف ـ ذات فردية ـ وهو إنسان منا وفينا ـ ذات جماعية ـ يجد نفسه، كما يقول العروي: “يعيش (…) عندنا في عالمين منفصلين، يواجه يوميا مظاهر التخلف واللا معقول ـ وهي كلها مظاهر تدل على عدم استيفاء شروط الحداثة في مجتمعنا. يتألم منها ويتشكى، لكنه عندما يكتب فإنه يبقى سجين المرويات والمقروءات، فيفعل كما لو كان يعيش في مجتمع متقدم”[28]. والحال أنه كما يقول عبد الله العروي: “تواجهنا اللا حداثة يوميا في الشارع والمكتب والمصنع، يجب نفيها من الشارع لا من الورقة أو من اللسان”[29]. هذا بينما المثقف الدونكيشوتي يواجه مظاهر اللاحداثة على الورق لا في الشارع، بل قد يحدث له أن يدعي “تجاوز الحداثة” نحو “ما بعد الحداثة”، وذلك في حين أن أناه الجمعية ـ ذاته الجماعية ـ تغرق في زمن ما قبل الحداثة. ذلك أن عبد الله العروي لطالما استثقل حديث المثقفين العرب عن مشروع “ما بعد الحداثة”. قال في حواره مع جريدة “السياسة الجديدة”: “لقد كثر الكلام لدى بعض المثقفين أو أنصافهم عن مجتمع ما بعد الحداثة! أَيُّ مجتمع ما بعد الحداثة بالنسبة للمغرب؟! نعرف مجتمع ما قبل الحداثة، ولم نر مجتمع الحداثة بعد، ويبقى هذا الكلام منقولا من الخارج وغير مطابق لحالنا، وغير مفيد من الناحية العملية”[30]. وقد حدد عبد الله العروي تيار “ما بعد الحداثة” بكونه ذاك التيار: “الذي ظهر أولا في أوساط نقاد الفن في أمريكا ومنها اكتسح أوربا ثم البلاد العربية”. وقد عاتب أقرانه من المفكرين المغاربة قائلا: “وكالعادة تقبلنا [هذه] الأفكار دون كبير تمحيص”[31]، وألمع عبد الله العروي إلى سمات هذا التيار الذي يشكل “ردة فعل ضد الحداثة”، واسماً إياه، وله منتقدا: “يقال إن التاريخ وهم والمجتمع قهر والاقتصاد توحش والدولة قمع، فترفع ألوية الفرد أو العشيرة أو اللا معقول كما لو كان الواجب هو هدم ما أنجزه القرن الحالي باسم الوطنية أو الرأسمالية أو الأممية”[32]. لكن نقد الأستاذ عبد الله العروي لدعاة “ما بعد الحداثة” كان أشد على المفكرين العرب الذين، في رأيه، أحدثوا “فوضى فكرية” بحديثهم غير المسؤول هذا عن “تجاوز الحداثة” نحو ما يعلو عليها ويجبها جبا. قال عبد الله العروي : “نقرأ اليوم كتبا تنتقد فكرة الحداثة ونعتمد عليها للقول إن إشكالية الحداثة أصبحت كلها متجاوزة، هل هذا صحيح؟ هل يحق لنا أن نفعل كما لو كنا تجاوزنا الحداثة مثل الأوربيين الذي عاشوا في أحضانها منذ ما يزيد على ثلاثة قرون تزيد أو تنقص حسب البلدان؟ يعيش المثقف عندنا في عالمين منفصلين، يواجه يوميا مظاهر التخلف واللا معقول وهي كلها مظاهر تدل على عدم استيفاء شروط الحداثة في مجتمعنا، يتألم منها ويتشكى، لكنه عندما يكتب فإنه يبقى سجين المرويات والمقروءات، فيفعل كما لو كان يعيش في مجتمع متقدم … يجوز لألان تورين أن ينتقد مفهوم الحداثة، هل يجوز لأستاذ مغربي أن يردد كلامه بدون التفاتة إلى ما يحيط به من سلوك سابق على عهد الحداثة؟”[33]
وهكذا، فإنه إذا كان الأستاذ عبد الله العروي قد تحدث مرارا عن “التباسات الحداثة”[34] وعن “ضحايا الحداثة”[35] وعن “الشعور بالقلق اتجاه الحداثة”[36]، كما يلاحظ ذلك الباحث المغربي محمد الشيخ، إلا أن هذا الأمر ما دفعه أبدا إلى الدعوة إلى “تجاوز الحداثة” وطلب شيء آخر غيرها؛ شأن هذا الخليط العجيب من الأفكار، كما يراه العروي، الذي صاروا يسمونه اليوم بوسم “ما بعد الحداثة”.
ولهذا السبب، فإنه إذ يجعل عبد الله العروي مما يسميه “تحديث الفكر والمجتمع العربيين” مشروعه الفكري الأول بامتياز[37]، فإنه أيضا يجعل من نقد “الذات” المثقفة، وبيان عجزها وأزمتها، أذاته الجوهرية في بناء مشروعه النقيض لمشاريع غيره من المثقفين.
ومن جهة بناء مشروع حداثي، في صلته بذات المثقف، يلاحظ عبد الله العروي أمرين: أولا؛ أنه ينبغي التمييز في أمر “الحداثة” بين الحداثة من حيث هي “مسار تاريخي كوني” دل على أن مجموعة من البشر أرادت “تعميم” حقبة من الأحداث التاريخية التي حدثت في لحظة معينة ومكان معين على سائر البشر[38]، أكثر من هذا، الذوات المثقفة ـ الأنتلجنسيا ـ في أوربا هي التي فرضت وجهة نظرها الحداثية هذه. فالحداثة بهذا ـ شئنا ذاك أم أبيناه ـ هي دائما من فرض “أقلية” على “أكثرية”. ولهذا ستظل تتبدى دوما ـ وهذا أمر طبيعي ـ على أنها نزعة إمبريالية أو استعمارية أو استكراهية. أنكى من هذا، ذات المثقف نفسه ـ سواء أكان في الحداثة معتقدا أم كان لها منتقدا ـ هو نفسه ظاهرة حديثة[39]. فلا مثقف بلا حداثة ولا حداثة بلا مثقف. ثانيا؛ هذا وجه للحداثة، والوجه الآخر أن الحداثة، فضلا عن أنها مسار كوني، فإنها “نظيمة أفكار” شأن “العقل” و”الحرية” و”التاريخ” و”الفرد” … وهي أفكار وإن “استُنبتت” بأوربا فقد دل التاريخ على إمكانية “زرعها” لدى شعوب أخرى غير الشعوب التي نبتت عندها، وذلك لأن شأنها أنها تدخل ضمن مجال “الأفكار المتاحة للبشرية جمعاء” تنهل منها متى تحصل لها الوعي بذاتها وبتاريخها وقايست حالها بحال غيرها أو اضطرت إلى الرد على تحدي الحداثة الخارجي الذي يحاصرها ويتهددها ويتوعدها الوعيد[40].
على سبيل الختم:
ختاما؛ قد يلاحظ مستمع ما يلي: لقد انتهينا مع عبد الله العروي إلى نتيجتين سلبيتين في ما يخص الذات المغربية بخاصة والذات العربية بعامة: الذات الفردية ذات منفصمة، والذات الجماعية أيضا تعاني من انقسام. وقد يتساءل هذا المصغي: أليس في هذا “نزعة حتمية متشائمة”؟ الحال أن عبد الله العروي يجمع بين ما يمكن أن نعتبره “تشاؤمية الفكر” و”تفاؤلية الوجدان”؛ وذاك ديدن كل مثقف أصيل ينظر بنظرة واعية إلى واقع بلده وعالمه العربي. علينا أن نتذكر دوما في هذا المقام مهاجمة الرجل لكل: “حتمية متشائمة لا تترك أية حرية للأفراد”[41]، ودعوته العميقة: “إعطاء الفرد العربي، ككائن حي، كجسم منتج ومستهلك، كعقل وكإرادة، وسائل الاستمرار والفوز في عالم اليوم الذي يهيمن عليه منطق معين وتسيره أخلاق معينة”[42].
المراجع
[1] Abdallah LAROUI, Islamisme, modernisme, libéralisme, centre culturel arabe. Casablanca: 1997, p.135.
[2] عبد الله العروي: العرب والفكر التاريخي، دار الحقيقة. بيروت 1973. ص. 23.
[3] أنظر محمد الشيخ: مسألة الحداثة في الفكر المغربي المعاصر، منشورات الزمن، سلسلة شرفات 13، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2004، وأنوه هنا إلى أنني أفدت كثيرا من كتاب محمد الشيخ هذا واستلهمته منه الكثير من الأفكار الواردة في هذا البحث.
[4] عبد الله العروي : مفهوم الحرية . دار التنوير، الدار البيضاء ـ بيروت. الطبعة الثالثة، 1984. ص 40.
[5] عبد الله العروي : مفهوم الدولة. هامش 15. ص 153.
[6] عبد الله العروي : العرب والفكر التاريخي . ص 12.
[7] محمد الشيخ: مسألة الحداثة في الفكر المغربي المعاصر، ص.44-45.
[8] عبد الله العروي : مفهوم الدولة، ص. 18.
[9] المصدر نفسه. ص 19.
[10] المصدر نفسه. ص 22.
[11] المصدر نفسه. ص 30.
[12] محمد الشيخ: مسألة الحداثة في الفكر المغربي المعاصر، ص. 45-46.
[13] Abdallah Laroui, Islam et modernité, Coll. Armillaire. Edit : La découverte, 1987, p. 77.
[14] محمد الشيخ: مسألة الحداثة في الفكر المغربي المعاصر، ص. 46-47.
[15] عبد الله العروي : مفهوم الحرية. ص 40.
[16] المصدر نفسه. ص 40.
[17] المصدر نفسه. ص 41.
[18] عبد الله العروي : مفهوم الدولة. ص 116.
[19] المصدر نفسه. ص 116.
[20] المصدر نفسه. ص 116.
[21] المصدر نفسه. ص 116.
[22] عبد الله العروي : مفهوم الدولة. ص 158.
[23] عبد الله العروي : مفهوم الدولة. ص 109.
[24] المصدر نفسه . ص 113.
[25] المصدر نفسه. ص 150-149.
[26] المصدر نفسه. ص 156.
[27] عبد العروي : مفهوم الحرية. ص 32-31.
[28] عبد الله العروي: التحديث والديمقراطية، حوار مع مجلة “آفاق”. العدد 3ـ4. 1992. ص 158.
[29] عبد الله العروي : مفهوم العقل. المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء ـ بيروت. الطبعة الأولى، 1996. ص 17.
[30] عبد الله العروي : حوار مع جريدة “السياسة الجديدة”. عدد 29-23 أكتوبر 1998، ص 6.
[31] عبد الله العروي : تأصيل العلوم الاجتماعية : المقارنة والتأويل. منشورات كلية الآداب. جامعة القاضي عياض. سلسلة الدروس الافتتاحية. الدرس الأول. المطبعة والوراقة الوطنية. 2000. هامش 7. ص 20.
[32] المصدر نفسه. ص 18.
[33] عبد الله العروي : حوار مع مجلة “آفاق”. ص 158.
[34] Abdallah LAROUI, Islam et Modernité. op. cit, p. 67.
[35] Ibid, p. 66.
[36] Ibid, p. 66.
[37] عبد الله العروي : العرب والفكر التاريخي. ص 33.
[38] Abdallah LAROUI, Islamisme, modernisme, libéralisme, op. cit., p. 25-27.
[39] Ibid, p. 39.
[40] محمد الشيخ: مسألة الحداثة في الفكر المغربي المعاصر، ص. 25.
[41] عبد الله العروي : العرب والفكر التاريخي. ص 22.
[42] المصدر نفسه. ص 23 .