تكوين

 نحن الذين يضحك علينا الشيطان…

نخسر معاركنا لأنَّنا نُعول على المبادئ العامة وننسى أنَّ المعارك لا تُكسب إلّا في التفاصيل. إذا كانت التفاصيل تتطلب التركيز مع هدوء الأعصاب، فإنَّ الخوف والغضب يُضعفان القدرة على التركيز، ويجعلان التفاصيل تبدو مُملة للنفوس ومتعِبة للعقول، لذلك ننفر من التفاصيل مكتفين بشعارات مُسيَّجة بأسلاك التخوين حتى نظل في منطقة الأمان النظري، على طريقة “كلنا مع كذا بلا قيد ولا شرط، أي بلا تفاصيل”، “كلنا ضدَّ كذا بلا قيد ولا شرط، أي بلا تفاصيل”، إلا أننا نخسر كل يوم أكثر فأكثر. حين ننسى تفاصيل الحال والمآل ننسى أيضًا أن الشيطان -كما يقال- لا يُسكن إلّا في التفاصيل، لذلك طبيعي أن ينجو الشيطان من ثوراتنا الساذجة نحن الذين نظن أن الانتصار يُحسم في مستوى المبدأ الإجمالي، ونعول على يد الله أو قوانين التاريخ مثل التعويذات، ولأجل ذلك نقدم لحركة التاريخ تضحيات مجانية مثل القرابين، بيد أن الشيطان المتواري خلف التفاصيل يستطيع أن يضحك علينا في نهاية كل مغامرة.

خيبة الثورات بوصفها قدرًا ثوريًا…

الثورة المغدورة” ذلك هو الوصف الذي أطلقه ليون تروتسكي على الثورة الروسية عقب صعود الستالينية، لكن الوصف يصدق على كل الثورات العنيفة في التاريخ، والتي تنتهي إلى أحد المآلين: حرب أهلية يتقاتل فيها الجميع أو طغيان يتسلط فيه واحد على الجميع، أو على الأرجح يتعاقب المآلان.

ماذا عن الثورة الفرنسية مثلًا؟ مئة عام من الحرب الأهلية والمقصلة والإرهاب متبوعة بعشرات السنين من الديكتاتورية، هل معناه أنَّ الثورة نجحت أم أنَّ نجاحها مجرَّد قرار اتخذه مؤرخو الجمهورية الفرنسية بأثر رجعي؟!

ماذا عن الثورة الروسية أيضًا؟ سبعون عامًا من الرعب والتطهير والغولاغ، على أمل أن يتحقق شعار “من كل حسب إمكاناته ولكل حسب حاجته”، لكن الحلم صار كابوسًا قاتمًا قبل أن ينهار كل شيء.

الأمر كذلك بخصوص الثورة الإيرانية، حيث مشانق الحرس الثوري وعصمة ولي الفقيه وأسطورة تصدير الثورة تحت شعار “كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء“، كل ذلك قد حوَّل إيران من أرض الأحلام والجمال إلى أرض المشانق والأهوال.

أما المُسمى قيد حياته بالربيع العربي ! فسرعان ما انتهى إلى أعاصير من الفتن التي لا أوّل لها ولا آخر، لا سيما في البلدان التي تعرضت فيها الثورات للتسليح مثل ليبيا وسوريا واليمن.

العُنف همجية لا ينبغي أن تكون، وإن كانت فلا ينبغي أن تطول، وإن طالت فإنها تستنزف كل ما هو إنساني في الإنسان، لذلك كل الثورات العنيفة تصير مغدورةً لا سيما وإن طال أمدها ما يكفي لتصنع أجيالًا من التوحش.

إقرأ أيضًا: التسامح بين ممكنات الواقع وفلسفة الاختلاف

كل الثورات العنيفة مغدورة في آخر الحساب حتى وإن كانت قد انتصرت في الحساب الأول، أو حسبت نفسها كذلك.

لو كان هابيل يُمارس رياضة الأيكيدو؟

هل يمكن الانتصار على عدوان عنيف بمقاومة غير عنيفة؟ هل يمكن الانتصار على عدوان مسلح بمقاومة غير مسلحة؟ وبالأحرى هل يمكن الانتصار على عدوان يقتل الناس بمقاومة لا تقتل أحدا؟

قد تبدو الإجابة الأولى كما لو أنها بدهية: لا يفلُّ الحديد إلّا الحديد ! لكن لو سألنا الزعيم الرُوحي للمقاومة الهندية ضد الاستعمار، مهاتما غاندي، سيقول: إن الأسلوب اللاعنفي في المقاومة هو الأكثر فاعلية على الدوام مهما بلغت شراسة العدوان، والشرط الأساس أن يكون المواطنون على درجة عالية من الوعي والصدق والالتزام. لو سألنا موريهاي أوشيبا مؤسس رياضة الأيكيدو، فإنه سوف يُقدم لنا ألفَ دليل على وجود أساليب قتالية تستعمل صفر عنف لشل قوة العدوان، وكل ما يتطلبه الأمر هو أن يكون المرء على درجة عالية من التركيز والمرونة.

حين قال هابيل لقابيل: “لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك” (قرآن مبين)، فقد كان يريد منذ البدء أن يُجهض عنف الإنسان ضدَّ أخيه الإنسان، لا سيما وأنه هو الأخ الذي تَقبل الله قربانه الحيواني في السردية الإبراهيمية، وربما لم يكن ينقصه المبدأ الأخلاقي، بل الأسلوب العملي لتصريف المبدأ. إلا أن الفقه الإسلامي القديم لم يستنبط القيمة الأخلاقية لخيار اللاعنف في الآية، وكان تبريره أن الموقف الهابيلي كان استثناءً عرضيًا، لا سيما وأنّه الطرف الخاسر والمقتول، بذلك النحو فُوِّتت فرصة اكتشاف البُعد الأخلاقي والمنفعي أيضًا في المقاومة السلمية لكل أشكال العنف، وبما يتلاءم مع الدلالة الاصطلاحية لكلمة الإسلام.

إقرأ أيضًا: مناقشة بخصوص مُعضلة العنف الديني: الجزء الأول

في أشرس ظروف العدوان هناك دائمًا فرصة للعثور على أسلوب لاعنفي لشل طاقة العدوان، حين لا نراه ليس معناه أنه غير موجود، بل معناه أننا فشلنا في أن نراه.

لم يكن بالإمكان أفضل من الآن…

صحيح أن العالم ليس عادلًا كما ينبغي، أو ليس بعد، فما تزال هنا وهناك كثيرٌ من الانتهاكات والمظالم، إلّا أنّ الاعتقاد بأنّ الأمور في الماضي كانت أجمل، هو إنكارٌ يكرس الهزيمة والفشل. صحيح أن الديمقراطية ما تزال ناقصة والحقوق مشوهة، لكن إنكار التقدم يُعَدُّ جَهلًا يُكرس التأخر ويفرط في المكتسبات، ففي العالم القديم كانت كل سلطات العالم تمتلك حقّ الحياة والموت، وكان أمرًا عاديًّا أن يُصلب المعارضون في الشوارع ليذوقوا عذاب الموت البطيء، أو تقطع أطرافهم أمام أنظار الناس، أو يرمون إلى السباع الجائعة في حلبات الموت، وفي كل مكان من العالم كان ذلك كله يُعَدُّ حقًا من حقوق السلطان. إلى وقت قريب كان المعارضون للنازية في ألمانيا يُحرقون أحياء، كان المعارضون للديكتارتوية في الأرجنتين يُلقون من الطائرات إلى أعالي المحيط الأطلسي، كان المعارضون الشيوعيون في أندونيسيا يرمون في الآبار المهجورة لتأكلهم الديدان أحياء.

صحيح أنَّ مجتمعات اليوم لم تتخلص من الفتن والاقتتال الأهلي أو ليس بعد، إلّا أن مجتمعات العالم القديم كانت في معظمها ساحات اقتتال دائم بين القبائل والعشائر والطوائف والمذاهب، وأحيانًا بين المجموعات السكنية.

إلى حدود القرن التاسع عشر كان متوسط عمر الإنسان أقل من أربعين عامًا، وكان يموت ربع المواليد في العالم، وكانت حقوق المرأة أقل من نصف حقوق الرجل.

صحيح أن الرأسمالية في العالم الجديد ليست أخلاقية كما ينبغي، ما يتطلب مزيدًا من الكفاح، لكن لا ننسَ أنَّ العبيد والإماء في العالم القديم كانوا يُباعون في الأسواق مثل الخرفان، وكان الأمر اعتياديًّا لا أحد يستنكره.

لا يبدو الماضي جميلًا إلا حين يمضي بعيدًا عنَّا. يُشبه الأمر مشاهدة قرية نائية من بعيد، حيث الرؤية الإجمالية ساحرة، لكن من بعيد، أي بعيدًا عن آلام الجوع والبرد والمرض وشلل الأطفال.

أتدري من هو الإنسان المُفلس يا صاحبي؟ !

عندما كان الغرب يُخطط للدخول في عصر صناعة الطيران كان أجدادنا يتشكَّكون ويستهزئون، وقد رأى بعضهم في سقوط عديد من الطائرات دليلًا على إفلاس الحضارة المعاصرة! عندما كان الغرب يُخطط للدخول في عصر غزو الفضاء كان آباؤنا يتشككون ويستهزئون، وقد رأى بعضهم في النسبة العالية من الفشل وانفجار بعض المكوكات دليلًا على إفلاس العلم المعاصر! اليوم نُكرر ترانيم الجَهَلُوْتَ نفسها، حيث الدول الكبرى تُخطط لبناء مستوطنات للعيش في كواكب أخرى، ومن ثم إنشاء إمبراطوريات عابرة للكواكب، لتكون فرصة لبقاء النوع البشري، غير أننا نميل إلى التشكيك والسخرية والاستهزاء، وننتظر فشل المحاولات الأولى، كي نستدلَّ بها على إفلاس الإنسان المعاصر.

أتدري من هو الإنسان المُفْلس يا صاحبي؟

الإنسان المُفْلس هو من يراهن على إفلاس الإنسان.

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete