تكوين
قبل أن نبدأ
خبرت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية على مدار تاريخها الطويل والممتد تحولات عميقة شملت جوانب اجتماعية واقتصادية كانت لها الأثر الملحوظ في نسك الرهبنة التي تُعدُّ ركيزة أساسية لبنية الكنيسة والممر الآمن لجميع الرتب الكهنوتية.
على هامش تلك التحولات التي عَلِقَتْ ببنية المجتمع المصري وحال مواطنيه الاقتصادية والاجتماعية، لا سيما الطموح نحو الصعود الطبقي، بمعنى سعيهم الدؤوب إلى انتقال الأفراد أو الفئات الاجتماعية من مستوى اقتصادي واجتماعي أدنى إلى مستوى أعلى، بدت الرهبنة بوصفها نمطًا للتدين، أحد العوامل اللافتة في تحفيز الشباب القبطي للاندماج في منظومة الرهبنة، مرة سواء من طريق ضرورة التعرف على ماهية المنضمين والطالبين للانخراط في الرهبنة، وأخرى بسبب طبيعة الدور الذي باتت تلعبه الأديرة في هيكل الاقتصاد الوطني وما يصخه من أموال لصالح اقتصاديات الكنيسة ووضعها المالي رغم القيود والاشتراطات التي تحرص عليها مؤسسة الكنيسة لضبط مسارات الرهبنة وقيمها الأساسية.
تهتم هذه الورقة بالبحث في محددات العلاقة بين التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على حال المجتمع المصري في العقود الأخيرة ومدى تأثيرها في حال الرهبنة والمنخرطين فيها للدرجة التي بدت معها وقائع قتل داخل الأديرة “مقتل الأنبا أبيفانيوس”
إذًا نهدف في هذه الورقة إلى تفحص كيفية تفاعل الكنيسة عمومًا والرهبنة تحديدًا مع مجمل التغيرات الطبقية في المجتمع المصري بعامة والقبطي بخاصة، ومدى قدرتها نحو التمسك بتقاليدها في ظل هذه التحولات.
مما يدفع نحو صياغة سؤال مركزي:
- هل أدَّت هذه التغيرات إلى تحوُّل الرهبنة إلى مسار مختلف عن جذورها الزهدية الأولى؟
- وهل أضحت الأديرة بأنشطتها الإنتاجية مراكز جذب للطبقات الطامحة اقتصاديًا؟
مقدمة
تُعدُّ الرهبنة القبطية الأرثوذكسية من أقدم أشكال الرهبنة المسيحية في العالم، وعطية الكنيسة المصرية لجُل الكنائس المسيحية فقد نشأت في مصر خلال القرن الثالث الميلادي، وسرعان ما انتشرت إلى بقية أنحاء العالم المسيحي. وقد لعبت الرهبنة دورًا بارزًا في الحفاظ على التراث الرُوحي والعقائدي للكنيسة القبطية، فضلًا عن دورها الاجتماعي والثقافي.
نشأة الرهبنة القبطية وتطورها
ترجع أصول الرهبنة في الكنيسة القبطية إلى القديس أنطونيوس الكبير الذي يُعرف بأب الرهبان، فقد اعتزل الحياة في الصحراء بحثًا عن التكريس الكامل لله. تبعه القديس باخوميوس الذي أسس نظام الرهبنة الجماعية، مما أدى إلى انتشار الأديرة في مصر وخارجها. وقد تأثرت الرهبنة القبطية لاحقًا بتطورات سياسية واجتماعية مختلفة، لكنها حافظت على طابعها الرُوحي القائم على النسك والصلاة.
ويشير الباحثان لبيب حبشي وزكي تواضروس في كتابهما في صحراء العرب والأديرة الشرقية إلى أنَّ الرهبنة تُعد قديمة قِدَم النسخة المصرية من المسيحية التي تعود إلى القرن الثالث الميلادي. وترتبط نشأتها بخلفيات وظروف تاريخية، تعود إلى ممارسات التعذيب والقمع التي تعرّض لها المسيحيين الأوائل في مصر، مما دفعهم إلى اتخاذ الكهوف والمغاور ملاجئ للهرب من بطش الرومان.
وتُعدُّ الرهبنة في المسيحية نذرًا اختياريًا يقطعه المرء على نفسه باعتزال العالم، وما فيه من مال وأقارب ومتع زائلة، متجنبًا الحياة الزوجية، ومكرِّسًا حياته للعبادة وخدمة الدين.١
أنظمة الرهبنة القبطية
تتنوع الرهبنة القبطية إلى ثلاثة أنظمة رئيسة[1]:
- رهبنة العزلة والتوحد، يعيش الراهب فيها متوحدًا في الصحراء.
- رهبنة نظام الجماعات الرهبانية، التي أسسها القديس باخوميوس، ويعيش فيها الرهبان ضمن أديرة تحت إشراف رئيس الدير.
- نظام الشركة الرهبانية، وهو خليط بين الرهبنة الفردية والجماعية، يكون للراهب قلايته الخاصة، لكنه يشارك في الحياة الديرية.
دور الرهبنة في الكنيسة والمجتمع
منذ أول يوم عرف فيه العالم الرهبنة، كانت الرهبنة رمزًا للوحدة بين كنائس المسيح المتعددة. وجميعكم تعلمون أن الرهبنة نشأت أولًا على يد القديس أنطونيوس الكبير المصري، وبعد أن كتب القديس أثناسيوس الرسولي سيرته، جذبت هذه السيرة كثيرًا من الشباب من الكنائس المختلفة. وكان أشهر من تأثر به القديس إيلاريون الذي أسس الرهبنة في فلسطين والقديس أغسطينوس والذي أسس الرهبنة في منطقة شمال إفريقيا.
وفي عصر القديس أنطونيوس ظهر القديس باخوميوس أب الشركة في صعيد مصر، والقديس مقاريوس الكبير في صحراء أسقيط مصر، اللذان جذبا إليهما انتباه كثيرٍ من المسيحيين من جميع بقاع الأرض، مثل القديس أرسانيوس من روما والقديس يوحنا كاسيان وروفينوس والقديس باسيليوس الكبير، وهكذا كانت الرهبنة في بداءة ظهورها تربة خصبة لتلاقي المسيحيين من كل بقاع الأرض، التلاقي والانسجام في الروح الواحد، والشعور بالوحدة في جسد المسيح مهما اختلفت اللغات والثقافات[2].
إلى ذلك أسهمت الرهبنة القبطية في تكوين العقيدة واللاهوت المسيحي من طريق كتابات آباء الكنيسة وتعاليمهم، كما لعبت الأديرة دورًا ثقافيًا عبر العصور، فقد كانت مراكز للنسخ والتأليف، فضلًا عن دورها في تقديم الخدمات الاجتماعية والتعليمية، كما أن عديدًا من الباباوات البطاركة في الكنيسة القبطية جاؤوا من الرهبنة.
تحديات الرهبنة القبطية في العصر الحديث
رغم استمرار الرهبنة القبطية في الازدهار، إلا أنها تواجه تحديات معاصرة مثل:
- التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تعمل لتغيير وتبديل طبيعة الدير والرهبنة بفعل تراكم تلك التغيرات واحتشاد تأثيراتها.
- العولمة وتطور تكنولوجيا الاتصالات والانترنت الذي قد يؤثر في النسك التقليدي.
- الحاجة إلى توفيق المسافات بين الالتزام الرهباني استنادا لمبادئه الأولى ومقتضيات الخدمة المجتمعية المتزايدة.
الرهبنة بوصفها مسارًا للحراك الاجتماعي والطبقي
نحو مسار زمني آخر فقدت الكنيسة مضمون عمل المجلس المِلِّي ودور العلمانيين الاقباط فيما يختص بإدارة الشؤون المالية والإدارية للكنيسة والأديرة مما دفع أن يكون ذلك كله في قبضة الإكليروس والأساقفة وحدهم، ممّا دفع الجميع إلى النظر في واقع السلطة والمال التي دانت في تلك الأديرة بوصفها مؤسسات إنتاجية اقتصادية.
من هنا بدا الوضع الاقتصادي داخل المجتمع المصري حافزًا للبعض نحو التفكير في الانخراط الكنسي عبر الرهبنة كونها مسلكًا لتأمين حياة الموارد المستقرة لدى بعضهم، إذ رسخ في ذهن بعضهم أن الرهبنة فرصة للهروب من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، إذ توفر الأديرة للراهب احتياجاته الأساسية من طعام ومسكن وعلاج، ما يجعله في وضع اقتصادي أكثر استقرارًا مما كان عليه في حياته المدنية.
الترقي داخل النظام الكنسي، كما أن بعضهم يفكر في الأمر على نحو أن الرهبان يمتلكون الفرصة نحو الترقي إلى السلم الكهنوتي وبلوغ مناصب عُليا داخل تراتبية المناصب الكنسية، وهو ما يمنحهم نفوذًا واسعًا يضعهم في طبقة اجتماعية أعلى مقارنةً على النقيض تمامًا من فلسفة الرهبنة والتوحد والموت عن العالم بدءًا من ارتدائه الزي الأسود.
تراكم الثروات داخل الأديرة ومدى تأثيرها في الرهبان
إدارة الأصول المالية والعقارية، بعض الأديرة تمتلك أراضٍ زراعية وتحقق استثماراتها أرباحًا كبيرة، مما يجعل الرهبان الذين يديرون هذه الموارد في وضع مالي مريح نسبيًا، على عكس الصورة التقليدية للراهب الزاهد الذي يعيش على الكفاف.
التأثير في الصورة المجتمعية للرهبنة
تراجع الصورة التقليدية للراهب الفقير، مع تزايد ثروة الأديرة ونفوذ بعض الرهبان، بدأت صورة الراهب المتقشف تتراجع أمام صورة الراهب الذي يدير مشروعات ويسافر ويملك علاقات نافذة: شخصيات نافذة ماليًا وكذا مع مسؤولين.
تزايد اهتمام العائلات بإرسال أبنائها إلى الرهبنة، في بعض الحالات أصبح الالتحاق بالرهبنة خيارًا مربحًا من بعض العائلات، خاصة إذا كان يؤدي إلى نفوذ اجتماعي أو استقرار اقتصادي على المدى الطويل بفعل تلك العوامل المؤثرة.
بينما حقيقة الأمر تظل الرهبنة في جوهرها ومبادئها الرئيسة، دعوة صادقة للزهد والابتعاد عن الحياة المادية.
في المقابل يبدو الانفتاح الاقتصادي للأديرة في مصر ممرًا نحو خلق نوع من الحراك الطبقي داخلها، فأصبح لبعض الرهبان نفوذًا اقتصاديًا واجتماعيًا أوسع مما كان متاحًا لهم في حياتهم السابقة، الأمر الذي يُثير تساؤلات بشأن مدى قدرة الملتحقين بنسك الرهبنة على التمسك بمبادئها التقليدية.
الأديرة تحولات العولمة والاقتصاد
في مصر شهدت الأديرة تحولات اقتصادية كبيرة في العقود الأخيرة، فقد انتقلت من الاكتفاء الذاتي التقليدي إلى إدارة مشاريع استثمارية واسعة. هذا التغير أثّر في البنية الداخلية للأديرة وعلى علاقتها بالمجتمع والدولة، وأثار جدلًا بخصوص تأثير الرأسمالية في النسق الرهباني من طريق جملة التحولات الاقتصادية للأديرة في مصر
أولًا، تنامي النشاط الاقتصادي للأديرة
- مشاريع زراعية وصناعية
بعض الأديرة: مثل دير الأنبا مقار في وادي النطرون، تُدير مزارع ضخمة لإنتاج الزيتون والبلح، وأخرى تعمل في الصناعات الغذائية مثل الألبان والمخبوزات وانتقل هذا النسق إلى عديد من الأديرة خاصة في دائرة وادي النطرون وامتدت مزارعها نحو أماكن عديدة في صحراء مصر.
- الاستثمار في العقارات والأراضي
تمتلك الأديرة مساحات شاسعة من الأراضي، بعضها استثمر في مشروعات عقارية أو زراعية، ما زاد من قيمتها الاقتصادية.
- السياحة الدينية
بعض الأديرة مثل دير سانت كاترين، تعتمد على السياحة الدينية وتحصيل رسوم من الزوار، مما يوفر لها دخلًا ثابتًا.
ثانيًا، تداعيات التحول الاقتصادي على الرهبنة
-
تغيُّر مفهوم الزهد
بينما كان الرهبان في الماضي يعتمدون على العمل اليدوي والتقشف، أصبحوا اليوم يُشرفون على مشروعات ضخمة تتطلب إدارة حديثة، ما أدى إلى انتقادات بخصوص مدى سلامة تمسك الأديرة بالمبادئ النسكية والاحتياج اللافت لمراجعة الأوضاع الحالية وهو الأمر الذي تولاه البابا تواضروس الثاني بابا الكنيسة منذ سيامته بطريركًا.
-
صراعات داخلية بين الرهبان
بعض الأديرة شهدت خلافات بين الرهبان بخصوص إدارة الموارد المالية، كما حدث في دير الأنبا مقار عقب وفاة الأب متى المسكين، فقد نشأت توترات بين من يؤيدون التوسع الاقتصادي ومن يرون أنه يتعارض مع الحياة الرهبانية.
-
تحول بعض الرهبان إلى رجال أعمال
مع توسع الأنشطة الاقتصادية، دخل بعض الرهبان في علاقات مالية مع مستثمرين ورجال أعمال، ما أدى إلى اتهامات بتضارب المصالح وتجاوز قواعد الرهبنة التقليدية وهو الأمر الذي تجلي مع حُرُمات وتجريد طالت البعض في بعض الكنائس سواء في الداخل أو الخارج، نتيجة لتعاملات مالية غير مشروعة وهو ما حدث مؤخرًا عند تجريد “فادي شكري اسكندر الشهير ب فادي البراموسي من درجته الشموسية وهي درجة” “دياكون” وفق بيان رسمي نشره المتحدث الرسمي باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في الصفحة الرسمية للكنيسة. مع الانتباه أنه لا ينتسب إلى الرهبنة، رغم اسم الشهرة الذي يوحي بذلك، وما يُثار بشأنه يتعلق بزعمه أن لديه شبكة علاقات واسعة مع مسئولين غربيين يُمكنه من طريقها تسهيل حصول المهاجرين على فرصة هجرة غير شرعية بمقابل مالي مما يوفر لهم إقامة قانونية في تلك البلاد[3].
ثالثًا، العلاقة مع الدولة والمجتمع
- نزاعات على الأراضي
بسبب امتلاك الأديرة لمساحات واسعة، نشأت خلافات مع الدولة بشأن تقنين أو استغلال بعض الأراضي، كما حدث في وادي الريان بمحمية في صحراء الفيوم عندما أزالت الحكومة تعديات لدير هناك.
-
تعزيز النفوذ الاقتصادي للكنيسة
ثمة اتجاه أن ازدياد ثروة الأديرة عزَّز من نفوذ الكنيسة في الحياة العامة، وجعلها لاعبًا اقتصاديًا مؤثرًا في بعض القطاعات، مما دفع بعضهم إلى المطالبة بمزيد من الشفافية في إدارتها المالية.
- تأثير في العلاقات الاجتماعية
بينما كانت الأديرة تاريخيًا عاملًا مساعدًا ومحفزًا على نمط العزلة الاختيارية وموت العالم في قلب الراهب، غير أن الواقع الجديد وارتباط الاديرة بالسوق أصبح له تأثيرًا مباشرًا في الاقتصاد المحلي سواء من طريق تشغيل عمالة مدنية أو من طريق السيطرة على موارد طبيعية.
إن تحول نمط الأديرة في مصر إلى مراكز ونقاط اقتصادية خلق تحديات جديدة، فقد أصبحت أكثر اندماجًا في السوق الرأسمالي، ما أضعف جانبًا من طابعها النسكي وأدى إلى صراعات داخلية وخارجية. ورغم أن هذا التحول ساعد في تأمين الاستدامة المالية، بيد أنه فتح الباب أمام تساؤلات عن مدى تأثير الرأسمالية والوفرة المالية في هُوية الرهبنة القبطية.
-
إشكاليات الرهبنة المعاصرة “رؤية من الداخل”[4]
على أية حال لا ينبغي فهم كم التحولات التي طرأت على حال الرهبنة في الأديرة التي خبرت الزراعة والإنتاج، ومن ثمَّ الوفرة المالية دون الانتباه جيدًا لما آلت إليه أدوار العلمانيين عمومًا والمجلس المِلِّي خاصة في الأمور الإدارية والمالية في العقود الأخيرة سيما حين جلس البابا شنودة الثالث على الكرسي المرقسي، وأعاد تفعيل دور المجلس المِلِّي الذي تعطل في أيام البابا كيرلس السادس، بيد أنه ارتأى حتمية عزل الدور الحقيقي لهذا المجلس عبر رسامة أعضاء المجلس من العلمانيين شمامسة “درجة كنسية أقل من الكاهن” ليضعهم في حرج مناقشة الإكليروس رجال الدين في أي قرارات يتخذونها مما عده الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي في مقالة له في صفحات جريدة وطني بعنوان ” الخطاب المفتوح إلى المجلس المِلِّي” عام 1974 يقول فيها: “أسفت على رسامة أعضاء المجلس المِلِّي العام من المدنيين شمامسة، لأن هذه الرسامة تنطوي على فهم ناقص لدور العلمانيين أو المدنيين الصريح في كنيستنا، وتجاهل لأهميتهم ودورهم في تكوين الكنيسة”، ويؤكد أسقف التعليم في خطابه أن المجلس المِلِّي لا بُد وأن يضم تخصصات مدنية مختلفة مثل: القانونيين والمحاسبين و رجال تعليم ورجال أعمال وأدباء وأخصائيين في علم النفس والاجتماع والاقتصاد” وختم الأنبا غريغوريوس خطابه بعدد من المقترحات أبرزها أن تخصص بعض الجلسات لتكون حلقاتَ نقاشيةٍ من وقت إلى آخر للاستماع لواحد أو أكثر من الشخصيات البارزة في المجتمع القبطي من غير أعضاء المجلس لإلقاء محاضرة يشرح فيها تصوره للإصلاح القبطي من واقع الدراسات والأبحاث والخبرات الميدانية.
في نوفمبر 2021 دعا قداسة البابا تواضروس الثاني إلى سيمنار لجميع رؤساء وأُمناء ومشرفي الأديرة وممثِّلين للآباء الرهبان من كل الأديرة حول موضوع: ”الرهبنة بين الواقع والأمل“.
وقد حضر بعض الآباء الرهبان من دير القديس أنبا مقار هذا المؤتمر وقدَّموا ورقة إسهامٍ في هذا المؤتمر، كان نصُّها: الرهبنة، الواقع والأمل.
الرهبنة هي قلب الكنيسة النابض، فإذا صحَّ القلب صحَّت الكنيسة كلُّها، وإذا اعتلَّ القلب اعتلَّت الكنيسة.
الواقع الحالي
الرهبنة في هذه الأيام ضعفت أهم خصائصها، وهي نذورها الثلاثة الرئيسة المعروفة: الطاعة والفقر والبتولية. فاهتزَّت أعمدتها، وأضحت الطاعة فيها طاعة لأهواء الذات، والفقر مظهرًا لاستدرار عطف الأغنياء، والبتولية ثوبًا ممزَّقًا يكشف كلوم المجروحين بسهام الشهوة.
العلل الأساسية وراء الواقع المرير للرهبنة حاليًا
هناك عوامل شتَّى تضافرت معًا مُسبِّبة ذلك الواقع المرير، ولكن وراء كل تلك الأسباب سببان رئيسان جوهريان تنبثق منهما كل تلك العوامل، وهما:
- أولًا، انفتاح الأديرة على العالم.
- ثانيًا، عدم التدقيق في اختيار مَن يتقدَّم للرهبنة.
أولًا، انفتاح الأديرة على العالم
انفتاح الأديرة على العالم بمختلف الطرق وشتَّى الأساليب، بدءًا من فَتْح بوَّابات الأديرة للزائرين، وانتهاءً بالموبايل والنّت والدِّش. وقد أثَّر ذلك في الرهبنة والرهبان بالسَّلْب كما يظهر مما نُعايشه من واقعٍ أليم. وكان من نتائج انفتاح الأديرة على العالم:
- نسيان الراهب للهدف الذي من أجله خرج
فبانفتاح الأديرة على العالم توغَّل العلمانيون في أعماق الأديرة، حاملين معهم همومهم ومشاكلهم، وشاركهم الرهبان وجدانيًّا -وأحيانًا كثيرة عمليًا- في حَمْل كل هذه المشاكل وحلِّها. ونسوا أنفسهم وسط تلك الدوامة التي تبدو في ظاهرها عطفًا ورحمةً، ولكنها في الحقيقة تحويرٌ لدور الرهبان إزاء العالم، وهو الصلاة من أجل العالم كله بهمومه وأحزانه، هذه هي مشاركة الرهبنة الفاعلة في هموم الجسد الواحد. ولنضع أمامنا مَثَلَ الأنبا بولا الذي لَمَّا رأى الأنبا أنطونيوس، سأله عن أحوال العالم وعن مياه النيل دون أن يعرف أو يهتم بواحد مُعيَّن من أهل العالم يسأل عنه وعن مشاكله ويُتابع حل المشكلة.
- تغلغُل شهوة الكهنوت بين الرهبان
وكان أيضًا من نتائج انتشار العلمانيين بين أروقة الأديرة، أن اشتهى الرهبان الكهنوت، حتى يستطيعوا إقامة القدَّاسات وأَخْذ الاعترافات والرشم بالزيت والتعميد وعَقْد الخطوبات والأكاليل والصلاة في الجنازات… في حين أنَّ الكهنوت هو خاص بالخدمة ولا يمتُّ للرهبنة بصِلة. فالكاهن هو الشخص الذي تَعْهَد إليه الكنيسة برعاية شعب وله رعية يرعاها، أما الراهب فلا خدمة له ولا شعبًا ليرعاه -إلاَّ إذا دَعَته الكنيسة إلى ذلك- فلماذا يُطالِب الرهبان بالكهنوت؟ أليس هذا حَيَدانًا عن الطريق؟ ألم يكن الرهبان في عهد الأنبا باخوميوس بالآلاف في الصحراء، وكانوا يُحضِرون لهم كاهنًا من القرية المجاورة، كي يُصلِّي لهم قدَّاس الأحد؟ لأن الأنبا باخوميوس لم يُدخِل الكهنوت إلى رهبنته، بل إنه هو نفسه عند حضور البابا أثناسيوس لزيارة الأديرة الباخومية في صعيد مصر هرب لئلا يُسام كاهنًا.
وقد مدحه البابا أثناسيوس قائلًا لأبنائه
[عظيمٌ هو أبوكم، قولوا له: لقد هربتَ من ذاك الذي يقود للغيرة والحسد والتطاحُن، فاختبأت عنَّا لأنك اخترتَ لنفسك ما هو أفضل وهو الاحتماء في الرب يسوع. وبما أنك هربتَ من المجد الباطل والعظمة الزائلة، فإنني أطلب من الله أن يحفظك من كليهما. وقولوا له: إن الأمر الذي هربتَ لأجله لن يحدث.]
والأنبا أنطونيوس نفسه مؤسِّس الرهبنة والعمود المنير الذي نسير على هَدْي نوره، لم يكن كاهنًا؟! وكذلك مكسيموس ودوماديوس لم يكونا كاهنَيْن. أما الأنبا مقار فإنه وإنْ كان قد رُسِمَ كاهنًا رُغمًا عنه وهو بعد علمانيٌّ، إلاَّ أنه لم يؤْثِر أن يتقلَّد هذه الرتبة وفق قوله، ففرَّ هاربًا إلى مكانٍ آخر، وبعد الرهبنة كان يسير أميالًا من الإسقيط ليحضر القدَّاس الإلهي يوم الأحد في نتريا. والأنبا أرسانيوس مُعلِّم أولاد الملوك أيضًا لم يكن كاهنًا، بل كان دائمًا ما يُذكِّر نفسه بدعوته قائلًا: ”أرساني، أرساني، تأمَّل فيما خرجت من أجله“.
- انفراط عقد حياة الشركة المجمعية في الأديرة
أما الأَثر الثالث لانفتاح الأديرة على العالم، فهو اتجاه الرهبان لبناء القلالي والمضايف الخارجية بعيدًا عن أنظار مجمع الدير. ولا نُنكر أن فيهم بعضُ مُحبِّي الوِحْدة، ولكن آخرين يستقبلون فيها مَن يُريدون بلا ضابط. وفي تلك القلالي المنعزلة ينفرد الشيطان بالراهب ليفعل به ما يريد دون رقيب أيضًا. ولا مُعين لذلك الراهب المسكين الذي ربما يَصل به الأمر إلى أن يخدعه الشيطان بأنَّ له مواهبُ شفاء المرضى وإخراج الشياطين، ويقوده الشيطان كما يُقاد الأعمى إلى هاوية مُخيفة مُرعبة! وربما يبدأ الراهب ببناء كنيسة خاصة به هناك، يستقبل فيها الرحلات ليُقيم لهم فيها القدَّاسات، راسمًا على وجهه علامات المتوحِّد، منتحلًا لمظهر الناسك الزاهد المنقطع عن العالم، كي يستدرَّ عطف الناس، ويستدرَّ أيضًا أموالهم، خادعًا إيَّاهم، بل وربما خادعًا نفسه أيضًا، أو مخدوعًا من الشيطان. وكان حَرِيًّا به أن يسأل نفسه: إذا كان بالفعل متوحِّدًا قد هجر العالم، فلماذا يستقبل العالم في قلايته؟! ونتيجة لذلك: فَقَدَ الرهبان وحدتهم المجمعية، وقلبهم الواحد.
ونتمنَّى أن يكون هناك القدَّاس الواحد الذي يجمع الرهبان كلهم ليُصلُّوا معًا في وحدة تجتذب أنظار سكان السماء، ومائدة المحبة الواحدة التي يجتمع فيها الرهبان باسم المسيح.
أليست الوحدة في المستوى الصغير في الأديرة، وفي المستوى الأوسع في الكنيسة بعامةً، هي ما يجعل العالم يؤمن بالمسيح، بحسب قول رب المجد: “ليكون الجميع واحدًا، كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني” يو 17: 21.
- تسرُّب محبة المال إلى قلب الراهب
ولاحتياج الراهب إلى مزيدٍ من الأموال، كي يصرفها في خدمة الذين تعرَّف عليهم ويقصدونه، أصبح بعض الرهبان يأخذون ريع المشروع القائمين عليه في الدير، ليعطوا الدير جزءًا منه، والباقي لا يَعْلَم عنه أحدٌ شيئًا. وربما يصل بهم الأمر إلى إقامة مشاريعهم الخاصة دون استئذانٍ من أحد. وفي هذا يُسْكِت الشيطان ضمائرهم، بأنهم يصرفون تلك الأموال على المساكين والمرضى، ولحلِّ مشكلات الناس، ولا يأخذون شيئًا لأنفسهم.
ويا ليت الأمر يتوقَّف عند هذا الحدِّ، بل إن الراهب المسكين يتجاسر فيقبل صدقات العلمانيين وعطاياهم ويأخذها لنفسه. والنتيجة المؤسفة أنْ: أصبح لدينا رهبان أغنياء يملكون سيارات على أحدث موديل، وموبايل فون على أحدث طراز، ويرتدون أفخر الجلاليب والملابس، ويُعظِّمون معيشتهم، ويفقدون فقرهم الذي اختاروه ونذروه يومًا، كأول نذور الرهبنة. كل هذا من أموال الصَّدَقة، متناسين قول الأب زينون في بستان الرهبان: ”إنَّ الراهب الذي يأخذ صَدَقَة، سوف يُعطي عنها جوابًا“، والقديس يوحنا القصير الذي لَمَّا رأى أخًا يضحك وهو يأكل، تنهَّد وقال: إنه كان عليه أن يبكي، لأنه يأكل من مال الصَّدَقَة! إننا نسألكم: ماذا نفعل والخمير قارَب أن يُخمِّر العجين كله؟!
- طواف الرهبان في شوارع العالم، وطَرْقُهم أبواب البيوت
وكان من أَثر الانفتاح في العالم أيضًا أن تَعَوَّد الرهبان على العلمانيين، وزالت الكُلْفَة بينهم؛ فأَلِفوا النزول إلى المدن؛ يزورون معارفهم في منازلهم ومحلاَّتهم، ويذهبون لتأدية واجبات العزاء لهم أو المشاركة في أفراحهم، ويبيتون خارج الدير أيامًا دون عِلْم المسئولين أو بحجة العلاج، مع معرفة الكل بأنَّ الحال ليس كذلك.
ومع ذلك الحال الذي لا يُرضي أحدًا، فإذا تعرَّض أولئك الرهبان لأيِّ نقد من المسؤول في الدير أو محاولة لتقويم السيرة، لن يكون ردُّ فعلهم إلاَّ كَسْرًا لنِير الطاعة، الذي هو نذرهم الثاني. وليحفظ الله رهباننا جميعًا من هُوَّة كَسْر النذر الثالث أَلا وهو نذر البتولية.
ثانيًا، عدم التدقيق في اختيار مَن يتقدَّم للرهبنة
وهؤلاء يُمكن تقسيمهم إلى فئاتٍ ثلاث:
- 1. فئة غير المدعوِّين
وهؤلاء هم الذين أخطأوا الطريق عن جهلٍ وعدم دراية بدعوتهم الحقيقية، فظنُّوا أنَّ دعوتهم في الدير، وما هذه بدعوتهم أبدًا. وهذه الفئة منوطٌ بالدير أن يكتشفها ويُوجِّهها إلى دعوتها، وهي فئة يسهل اكتشافها لِمَن له بعض الإفراز.
- فئة صغيري النفوس
وهؤلاء هم الذين فشلوا في أيٍّ من مَنَاحي حياتهم: سواء أكانت الاجتماعية أم النفسية أم الدراسية أم المادية أم العاطفية، ومِنْ ثمَّ تَصْغُر نفوسهم، فيلجأون إلى الأديرة هربًا من واقعهم المرير، عسى أن يجدوا في الدير ما يُعوِّضهم عن حياتهم البائسة.
- فئة المنتفعين
وهؤلاء هم الذين يدخلون الرهبنة لا حُبًّا في المسيح ولا طلبًا للتفرُّغ للصلاة والعبادة، بل طمعًا في أمجادٍ وكراماتٍ ومناصبَ عالمية. وهذه الفئة من أصعب الفئات في اكتشافها وتشخيصها، إذ إنَّ أصحابها يُتقنون فن التمثيل والرياء.
هذا هو واقعنا وآلامنا ومعاناتنا في هذه الأيام، ولكن مع اشتداد ظلمة الليل الحالكة السواد، نأمل ببزوغ نورِ فجرٍ جديد، في عودة الرهبنة إلى أصالتها الأولى، أصالة رهبنة الأنبا أنطونيوس والأنبا بولا والأنبا مقار والأنبا بيشوي والأنبا يوحنا القصير. وإلى تنقية ذلك الناردين الفاخر الذي صنعه يومًا آباء الرهبنة الأُوَلُ، وتصفيته مِمَّا دسَّه فيه الزمن والشياطين من شوائب وأدناس، لتعود الرهبنة إلى مجدها التليد، جاذبةً العالم إلى المسيح بعَبَق رائحتها الزكية.
ما نأمله
ركيزتان للإصلاح المنشود:
أولًا، تقنين زيارات العلمانيين إلى الأديرة
على سبيل المثال، إغلاق الأديرة في جميع فترات الأصوام على مدار السنة، وتحديد أيام معينة في الأسبوع يُسمَح فيها بدخول الزوَّار، في حدود ساعات مُعيَّنة وأعداد محددة، وبعلمٍ سابق، ويكون مسئولًا عنهم طوال فترة وجودهم بالدير أحدُ الرهبان المشهود له بالأمانة للطريق الرهباني ليشرح لهم معالم الدير، ويُعطيهم كلمة رُوحية، ثم يُشرف على ضيافتهم، حتى لا ينتشروا في أروقة الدير مُفسدين على الرهبان هدوءهم.
ثانيًا، التدقيق الشديد في اختيار طالبي الرهبنة
أ – من جهة المُتقدِّم إلى الرهبنة
يُقدَّم للمتقدِّم إلى الرهبنة قائمة المبادئ الرهبانية التي سوف يلتزم بها إلى آخر أيام حياته، كي يكون على بيِّنة من أمره، واقتراحًا أَوَّليًا لهذه القائمة نُقدِّم ما يلي:
- أن يَرضَى أن يعيش راهبًا طوال أيام حياته، دون أن يُطالِب بأيَّة درجة كهنوتية، إلاَّ إذا دُعِيَ إلى هذه الدرجة من رئيس الدير أو الرئاسة الكنسية.
- ألا تكون له أية ملكية شخصية، لأن الدير سيتكفَّل برعايته من جميع النواحي، دون أن يحتاج إلى أن يتعامل مع المال بأية وسيلة.
- ألا يُطالِب بدخول قريب أو صديق له الدير في غير أوقات الزيارة المسموح بها، ولا يُطالِب أن يُقابلهم كأنَّ هذا حقٌّ له.
- ألا ينزل من الدير لأيِّ سببٍ كان، إلاَّ إذا كُلِّف بذلك من رئيس الدير للقيام بأشغال الدير.
ب – من جهة الدير
وهو ما يختص بالتعامُل مع الثلاث فئات المُتقدِّمة للرهبنة، والتي سبق الحديث عنها:
- فئة غير المدعوِّين، وهذه تتطلَّب أن يكون القائم على استقبال طالبي الرهبنة وقبولهم واختبارهم، شيخًا مُجرَّبًا حكيمًا ذا إفراز، وليس كل مَن طال عمره وشاب شعره، كما أوصى أنبا موسى الأسود في البستان.
- فئة صغيري النفوس، أن يتمَّ التحرِّي الدقيق عن الشخص المُتقدِّم إلى الرهبنة، وذلك بالاتصال بآباء اعترافهم وكنائسهم والمحيط الذي كانوا يعيشون فيه.
- فئة المنتفعين، وهذه لا حَلَّ لها سوى إفراغ الدعوة الرهبانية من كل ما يُغري من أمجاد وكرامات، فإذا عادت الرهبنة موتًا حقيقيًّا عن العالم، فلن تجتذب إليها سوى مُريديها الحقيقيين، الذين لا يبتغون من ورائها شيئًا آخر غيرها.
ج – من جهة كلٍّ من الدير والمُتقدِّم إلى الرهبنة
بوصفها قاعدةً عموميةً لصحة اكتشاف واختيار كل المتقدِّمين للرهبنة، يحسن جدًا ألاَّ تَقِلَّ فترة الاختبار عن ثلاث سنوات، مع توافُر إمكان إخلاء سبيل الأخ طالب الرهبنة في أيِّ وقت في هذه الفترة، رحمةً به وبالرهبنة.
خاتمة النص
نأمل للرهبنة عَوْدًا إلى أصولها الأولى التي نَمَت في الصحراء البعيدة عن العالم ومشاغله، في الأديرة التي تُحْكِمْ إغلاق أبوابها على نفسها، هناك حيث الصلاة الدائمة والقوة الكامنة والانحلال من كل أحد.
الكنيسة القبطية، قيامة الدم
كشفت قضية مقتل الأنبا أبيفانيوس رئيس دير الأنبا مقار بوادي النطرون، نهاية تموز (يوليو) العام 2018، عديدًا من الإشكاليات التي تواجه الكنيسة الأرثوذكسية، والتحديات التي يواجهها البابا تواضروس الثاني بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، وسعيه الدؤوب نحو إعادة ترتيب البيت الكنسي وتنظيمه من الداخل وبعث الإصلاح بين جنبات المؤسسة الدينية، لا سيما أنّ البابا الذي انتُخب في ظرف استثنائي، يواجه الكنيسة القبطية والدولة المصرية في آن معًا.
ليس ثمة شكّ في أنّ واقعة مقتل الأنبا أبيفانيوس تتقاطع والجدل الدائر بخصوص الكنيسة، وما تعتريها من علامات استفهام عديدة، فيما يتصل بمساحة الدور الخاص بالإكليروس والدور المنوط بالعلمانيين، وكيف يلتقيان معًا في علاقة تصالحية وتكاملية، من أجل تأمين الكنيسة الأرثوذكسية وترميمها من أية تصدعات وانقسامات، خاصة أنّ هذا الدور تعرض للإزاحة، منذ عصري البابا كيرلس السادس والبابا شنودة؛ إذ استقرّ في عقيدة البابا شنودة أنّ العلمانيين يزاحمون الإكليروس في إدارة شؤون الكنيسة.
تأسست الحركة البتولية وفق إجماع الدارسين، على ركائز أربع هي: البتولية، الوحدة، التجرد، الطاعة. وذلك ما يحمي مسيرة الراهب في سعيه نحو الأبدية، حتى يشعر الراهب بحاجته المستمرة إلى رحمة الله.
وثمة ملاحظة يُشير إليها المفكر القبطي كمال زاخر في كتابه: «قراءة في واقعنا الكنسي شهادة ورؤية» قائلًا: إنّ «روّاد الرهبنة الأوائل في عصور الازدهار لم يحصلوا على أية درجة كهنوتية، بل رفضوا بإصرار، وهربوا من الضغوط المتوالية من الكنيسة لإعطائهم أيّ منها، حتى درجة الشموسية». ويضيف زاخر: «الآباء الأساقفة المعاصرين الذين تناولوا الحركة الرهبانية في كتاباتهم، لم تستطع كتاباتهم أن تخفي أنينًا مكتومًا يعتمل في قلوبهم، وكأنهم يتمنون فرصة للعودة إلى قلاليهم الأولى»[5].
لم تعرف الأديرة المصرية في تاريخها الطويل، منذ القرن الرابع الميلادي وحتى أواخر القرن الماضي محبة المال، فالرهبنة تُبنى على ثلاثة مبادئ أساسية: أولها، الزهد والفقر الاختياري، وثانيها، اعتزال العالم، وثالثها، البتولية والعفة. ولأنّ الزهد يعني عدم الاهتمام بالماديات، كان من أساسيات الرهبنة، بيد أنه مع بداءات النصف الثاني من القرن المنصرم، بدأ اهتمام الأديرة بالمشروعات الإنتاجية، التي تُدرُّ ربحًا ومالًا، بغرض استخدامه في مشروعات خيرية كثيرة، وفي مساعدة الفقراء، واضطرت الأديرة تكليف رهبان بعينهم بمسؤولية إدارة هذه المشروعات، ما حدا بالرهبان إلى حيازة المال واستثماره في إطار تحقيق هذه الخدمات، وبالتبعية، أدّى ذلك إلى تطور في حياة الرهبان، منذ وجد كثيرٌ منهم في هذا الأمر هوىً في نفسه، إذ إنّ الأموال تحظى ببريق لا يسلم من إغراءاته إلا القليلين، فسقط بعض من هؤلاء في محبة المال، التي قال عنها الإنجيل: «إنّه أصل لكلّ الشرور»[6].
زار الأنبا أبيفانيوس إيطاليا في أيلول (سبتمبر) 2015، للمشاركة في مؤتمر دولي عن الرُوحانية الأرثوذكسية، وقرّر رئيس الدير أن يجمع لقاءات الأسقف أبيفانيوس مع الرهبان والراهبات المشاركين في المؤتمر، في كتيب يضمُّ أقوالًا للأسقف وردوده عن أسئلة المشاركين.
وفي سؤال طُرح على الأنبا أبيفانيوس عن عدد الرهبان الموجودين في دير أبو مقار، أجاب الأخير: إنّه فيما يتصل بالرهبان الحقيقيين، فإن عددهم قليل جدًا، وأما من يحملون اسم راهب فهم مئة وأربعون تقريبًا.
وبسؤاله عن عدد الكهنة في الدير، أجاب أبيفانيوس عن هذا السؤال: إنّ عددهم قليل حتى وفاة الأب متى المسكين، وبعد ذلك تمت رسامة أربعة عشر، ثم ثمانية وعشرون آخرين، والآن هناك رؤساء أديرة يضغطون عليه لرسم باقي الرهبان، وأردف في هذا السياق، بأنّ موقفه في هذا الشأن واضح للغاية مع طالبي الرهبنة؛ فمن شاء منهم رسامة الكهنة فليذهب إلى دير آخر، لأنّ لديه قناعة بأنّ ما شوّه الرهبنة هو المال والكهنوت، وفق تعبيره[7].
في إطار سعى البابا تواضروس في ضبط الحياة الرهبانية، في ضوء حادث مقتل الأنبا أبيفانيوس، أسقف ورئيس دير أبو مقار بوادي النطرون، عقدت لجنة الرهبنة بالمجمع المقدس اجتماعًا، في شهر آب (أغسطس) 2018 برئاسة البطريرك، وأصدرت عدة قرارات كان من أهمها على الإطلاق:
وقف رهبنة أو قبول أخوة جدد في جميع الأديرة داخل مصر لمدة عام يبدأ من آب (أغسطس) 2018.
تحديد عدد الراهبات في كلِّ دير وفق ظروفه وإمكاناته، وعدم تجاوز هذا العدد لضبط الحياة الرهبانية وتجويد العمل الرهباني.
إيقاف رسامة الرهبان في الدرجات الكهنوتية «قسيس وقمص» لمدة ثلاثة أعوام.
الاهتمام بحياة الراهب والتزامه الرهباني داخل الدير واهتمامه بأبديته التي خرج من أجلها.
وتبعًا لذلك، تحدَّد أنَّ كلَّ راهب يأتي بالأفعال الآتية يُعرِّض نفسه للمساءلة والتجريد من الرهبنة والكهنوت، وإعلان ذلك رسميًا:
عدم الظهور الإعلامي بأيّة صورة أو وسيلة.
عدم التورط في أيّة معاملات مالية أو مشروعات لم يُكلفه بها ديره.
عدم الوجود خارج الدير دون مبرر.
مناشدة جموع الأقباط بعدم الدخول في أيَّة معاملات مالية أو مشروعات مع الرهبان أو الراهبات، وعدم تقديم أيّة تبرعات: عينية أو مادّية، إلا من طريق رئاسة الدير.
دير أبو مقار يُفجِّر الأزمات
جاءت وفاة الراهب زينون المقاري وسط روايات عن انتحاره بتناول السُمّ، لتؤجج الجدل مرة أخرى داخل دير أبو مقار بوادي النطرون الذي احتوى بين جدرانه لأعوام الخلاف بين البطريرك المتنحي البابا شنودة الثالث، والقمص المتنحي الأب متى المسكين؛ وهو الخلاف الذي يعود إلى ستينيات القرن الماضي، واستمر يضرب علاقة البطريرك والقمص، حتى وفاة صاحب مؤلَّف «الكنيسة والدولة» (متى المسكين) عام 2006، وهي الأرض ذاتها التي شهدت محاولة انتحار المتهم الأول والثاني بقتل الأنبا أبيفانيوس، رئيس دير الأنبا مقار في نهاية تموز يوليو 2018.
بدا البابا تواضروس الثاني بطريرك الكرازة المرقسية، حزينًا باكيًا في صلاة جنازة الأسقف القتيل، بيد أنَّ الحزن والغضب لم يمنعاه التحدث والإشارة إلى لُبِّ الأزمة وجوهرها، وذلك حين قال: «أخرجوا الانحراف بعيدًا عن الرهبنة، أنتم لا تتبعون أحدًا بعينه، فأنتم رهبان القديس العظيم الأنبا مقار، لا تتحدثوا للإعلام، لأنّ الرهبنة موت عن العالم»[8].
خرجت كلمات البابا وهو يعي جيدًا ما يقصده، آملًا أن تستقر في ذهن وعقل كلّ الرهبان، لا سيما الموجودين داخل دير الأنبا مقار، وفي الوقت ذاته ترجمها البابا في صورة قرارات كنسية، إذ أصدرت لجنة شؤون الأديرة والرهبنة، في 25 آب أغسطس 2018، قرارًا ينصّ على نقل ستة من رهبان الدير إلى ستة أديرة أخرى، وذلك بعدما قام ممثلين عن اللجنة، تحت إشراف البطريرك، بإجراء تحقيقات مع عدد من الرهبان، بغية إعادة ضبط الحياة الرهبانية.
جاء الراهب زينون المقاري ضمن الستة الذين قررت اللجنة نقلهم إلى عدد من الأديرة، وجاء قرار نقل زينون إلى دير المحرق بالقوصية في أسيوط بصعيد مصر، وكشف الأنبا بيجول أسقف الدير ورئيسه، أنّ الراهب غادر الدير بعد أسبوع من قدومه إلى دير المحرق، وتنفيذه لقرار اللجنة؛ فقد أرسل رسالة إلى رئيس الدير يخبره فيها بأمر المغادرة، ثم ما لبث أن عاد بعد مغادرته بثلاثة أيام وطلب الرجوع، فقد تمت الموافقة له وعاد مرة أخرى إلى أن غيّبه الموت في نهاية أيلول (سبتمبر) 2018[9].
ربما يستحيل الاقتراب من الأحداث الراهنة ومعرفة ماهيتها وتفاصيلها وفضّ تعقيداتها والالتباسات العديدة حولها، دون الاشتباك بدأب مع الرهبنة وتطور علاقتها بالكنيسة الأرثوذكسية، في إطارها التاريخي، لا سيما بين قداسة البابا شنودة الثالث والأب متى المسكين، وكيف أضحت الرهبنة سبيلًا لقيادة الكنيسة، رغم حرص مؤسّسيها على أن يحتفظوا بمسافة بينهم وبين المناصب الكهنوتية، منذ لحظة ولادتها وعلى امتداد قرون، إذ كانت الأديرة حتى منتصف القرن العشرين تحتل مواقع بعيدة عن العمران، وكان يصعب التواصل معها، لوعورة الطرق وانعدام المواصلات السهلة والممكنة في بعض الأحيان، ورغم ما تضمه من معرفة لاهوتية، إلّا أنّ تلك الأديرة في هذه الحقبة، لم يكن لها دورًا فاعلًا في الخدمة الكنسية، إلا عبر اختيار الآباء الأساقفة والبطاركة، طبقًا لما استقر في تقاليد الكنيسة وطقوسها وترتيباتها.
قبل أن يُغيب الموت البابا شنودة بثلاثة أعوام زار دير الأنبا مقار، وجاءت تلك الزيارة بعدما أعلن الأنبا ميخائيل مطران أسيوط، استقالته من رئاسة الدير في آذار مارس 2009، وذلك بعد ما مضى قرابة خمسة وستين عامًا على خدمته في رئاسة الدير، وحينها أعلن البطريرك شنودة الثالث مسؤوليته المباشرة عن الدير والرهبان، وتحقُّق للبابا سعيه؛ في إخضاع الرهبان ودير أبو مقار لسلطة الكنيسة الأرثوذكسية، قاطعًا حالة الاستقلال الذي حظي به دير أبو مقار، طيلة حياة الأب متى المسكين.
وفي إطار تعزيز قبضة البابا على الدير، رسم البابا شنودة الثالث عددًا من الرهبان، وألحقهم بالدير عام 2010، وتباعًا قرّر إلباس كلّ رهبان الدير «القلنسوة الرهبانية المشقوقة»، التي كان يمتنع الأب متى المسكين ورهبانه عن ارتدائها خلافا لبقية رهبان الكنيسة الأرثوذكسية، الأمر الذي يسمح لنيافة البطريرك شنودة الثالث أن يُميز من يخضع لتعليماته من رهبان دير أبو مقار، في مقابل من ظلَّ قابضًا على تعليمات ونسك الأب متى المسكين.
وتُطرح التساؤلات نفسها عن واقع دير الأنبا أبو مقار، وكيف كان الرهبان تحت مظلة الأب متى المسكين؟ وما الذي تعرض له الدير بعد وفاته عام 2006، بعد أن أضحى الدير تحت إشراف البابا شنودة الثالث؟ وما هي محاولاته لبسط إرادته الكنسية والفكرية على الدير؟
ويضاف إلى ذلك الكيفية التي واجه بها البابا تواضروس بعد ذلك واقع الرهبان وحالهم، وقد بدا حالهم وكأنّهم فريقين: أحدهما، يتبع مسار شيخ آباء الكنيسة متى المسكين ورؤاه، والآخر، يلتزم برؤى البابا شنودة الثالث، ويُحسب الأنبا أبيفانيوس بصورة كبيرة على مدرسة الأب متى المسكين، الذي كان يعمل بمنهجه ويحرص على إحيائه، بدعم من البطريرك تواضروس الثاني، ونجد ذلك كلِّّه في كلمة الأنبا أبيفانيوس إبان مشاركته في مؤتمر «بوذي» في بريطانيا عام 2016، وكان يُلقي كلمة عن الأب متى المسكين في الذكرى العاشرة لنياحته، و فيها يقول: «كلفني البابا تواضروس الثاني المشاركة في هذا المؤتمر، إذ تحلُّ علينا الذكرى العاشرة لنياحة أبينا الرُوحي متى المسكين، الذي تتلمذنا على يديه، وتعلمنا منه الكثير، وما نزال كلّ يوم نتعلم من كتاباته وسيرته، التي تركها لنا زخرًا للكنيسة الجامعة، وترك لأولاده ميراثًا عزيزًا، إنسانيًا ورُوحيًا، ما نزال ننهل منه حتى الآن، ولا ندّعي أننا قد استطعنا أن نستوعبه كلّه، أو حتى ندرك أبعاده”[10].
تأسّست الرهبنة على ركائز أساسية هي: البتولية، الوحدة، الفقر الاختياري، الطاعة. ولا يُمكن تصور الكنيسة الأرثوذكسية المصرية دون الرهبنة، فهي المخزون الإستراتيجي للاهوت، وتعلُّم عقائد وطقوس الكنيسة والداعم الرئيس لها، فضلًا عن أنها فكر مصريٌّ نبت على أرضها، وامتدّ إلى العالم كلّه، وقد أضحت الرهبنة في العقود الأخيرة الممرَّ الرئيس لتولِّي كلِّ المواقع الخدمية للكنيسة، لا سيما بعد التوسعة في سيامة الأساقفة العموم، وإزاحة العلمانيين عن جميع المواقع الكنسية.
يرتبط واقع الكنيسة وحالها بحال الرهبنة، تزدهر بازدهارها وصلاح حالها وحال رهبانها، وتتراجع بتراجعها وتضاؤل دورها وتأثيرها، فيكون من الضروري أن تتجه عقول من يبحثون في حال الكنيسة ومستقبلها نحو الرهبنة؛ يدقّقون واقعها وحالها ويحللون أزماتها وما اعتراها من تباينات ومتغيرات.
ثمّة ملاحظتان لا تخطئهما عين دارس لتاريخ حركة الرهبنة:
الأولى، أنّ روّاد الرهبنة الأوائل في عصور الازدهار لم يحصلوا على أيّة درجة كهنوتية، بل رفضوا ذلك بإصرار. والأخرى، أنّ الآباء الأساقفة المعاصرين الذين تناولوا الحركة الرهبانية في كتاباتهم، لم يستطيعوا إخفاء أنينًا مكتومًا يعتمل في قلوبهم، ففي داخلهم حنين العودة إلى قلاليهم.
يرى نيافة الأنبا باخوميوس أنّه مبدئيًا فإنّ «الكنيسة حاليًا تسمح للرهبان بالمشاركة في مسؤولياتها للضرورة، لكن لا يجب على الرهبان مزاولة أيّ عمل في الكنيسة، لأنّ حياة المجتمع تمنع الراهب ممارسة تأملاته الفردية الضرورية، ليكون مع الله.»
بينما يرى الأنبا باخوم أنّ «أيّة فكرة في حيازة رتبة كهنوتية كفيلة أن تقضي على السلام في الدير، وأنها شرارةٌ تسقط على القمح، فتضيع عمل ومجهود سنة بكاملها»، والرهبنة عند الأب متى المسكين دعوة لها خصوصيتها، ولها منهج معين في السلوك والصلاة، وتختلف عن دعوة الكهنوت، ويرى أنّ «المدعوّ إلى الرهبنة عليه أن يبني قلبه وفكره، وكلّ حياته، على سيرة الآباء القديسين، ويضع أمام عينيه باستمرار وصيتهم الأولى والعظمى أن يبتعد عن العالم والرئاسات»[11].
يعدُّ دير القديس الأنبا مقار بوادي النطرون، أحد أشهر وأقدم الأديرة القبطية الذي تبلغ مساحته ما يقرب ثلاثة آلاف فدان، نصفها أراضٍ مزروعة، ويعدُّ الأنبا متى المسكين الأب الرُوحي للدير، منذ نهاية الستينيات من القرن الماضي، وذلك بناء على تكليف من قداسة البابا كيرلس السادس، ويعدُّ متى المسكين باعثَ النهضة في الحياة الرهبانية القبطية، منذ تركه لممتلكاته وانخراطه في الرهبنة عام 1948، وذلك من طريق أربعة أديرة، دير الأنبا صموئيل دير السريان، دير صموئيل، مغائر وادي الريان، وأخيرًا، في دير الأنبا مقار، وعن دخوله في الرهبنة يقول الـأب متى المسكين في سيرته الذاتية: «كنت قد حددت في ضميري فترة ستة شهور، منذ أول لحظة عزمت فيها على ذلك في قلبي، وطلبت من الله أن يطلقني دون خسارات كثيرة، لأن أموالًا كثيرة كانت طرف المتعاملين معي، وفي الموعد تمامًا وجدت كلّ شيء معي، فانطلقت وتركت ورائي منزلي بأثاثه، وكتبي وملابسي وحقائبي وأموالي، ووزعتها وخرجت من دمنهور الساعة العاشرة مساء، ومعي جنيهان أجرة المواصلات حتى الدير»[12].
حمل الأب متى المسكين على عاتقه مسؤوليات تجديد الحياة النسكية مع الاحتفاظ بالأصالة الآبائية القديمة، وحمل مِشعل العلم والتنوير اللاهوتي، وانتقل بالرهبنة نحو عصر الرهبانية المتفانية في العبادة والمتفاعلة مع الناس.
منذ عام 1969 استقرّ الأب متى المسكين في دير الأنبا مقار، وعن ذلك يقول:
«منذ أن دخلنا دير الأنبا مقار شعرنا بالمسؤولية، وأهمية ترميم هذا الدير، إذ إنّه كان في حالة يرثى لها، وكأنه على ميعاد معنا، وذلك يتبقى من رهبانه الشيوخ جميعا إلا أربعة رهبان فقط، واحد منهم ضرير، والآخر طريح الفراش، ولا توجد قلاية واحدة -غرفة راهب- تصلح للسكن، وشرعت العمل في الدير معتمدًا على الرهبان الذين يرسلهم الله في الحين الحسن، بنعمة فائقة حتى وصل عددهم ثمانين راهبًا عام 1978»[13].
وفي تحقيق صحفي لجريدة «الأهرام» نُشر في السادس عشر من شهر آب (أغسطس) عام 2003، أوضح حديث الراهب يوحنا أحد رهبان دير أبو مقار، في إجابته عن سؤال بشأن ما يتردّد عن أنّ الدير يعدُّ من أغنى الأديرة، وقد أشار البابا شنودة في أحد لقاءاته إلى أنَّ عائد الدير وفائضه يتجاوز عدة ملايين من الجنيهات، قال الراهب يوحنا: «ربما يأتي هذا الانطباع لأننا نهتم باستقبال الضيوف القليلين، ونحن لا نسمح بالرحلات التي تأتي للتسلية والترفيه، للحفاظ على حياة الهدوء والنسك الذي جاء من أجله الرهبان إلى الدير»[14].
ويُمثّل فكر الأب متى المسكين خطأً إصلاحيًا لافتًا ومتمايزًا، عن الخطّ الكنسي الأرثوذكسي السائد؛ إذ يرى أنَّ التربية الرُوحية هي الدور الرئيس والفعال للكنيسة، وأن أيّ ارتكان للكنيسة على السلطة الزمنية أو السياسية، يعدُّ هجرانًا وإنكارًا للرُوح القدس بوصفها مصدرًا للقوة.
رغم الحمولات الرُوحية التي اعتملت في نَفْس الأب متى المسكين وفكره، منذ ميلاد الرهبنة في قلبه، إلا أنَّ الخبرات الإدارية كان لها أيضًا نصيبًا في حياته، وفي ذلك يُشير إلى أنّه عام 1954، وإبان حبرية البابا يوساب الثاني، دعاه البطريرك للعمل وكيلًا للبطريركية بالإسكندرية فرفض، ثم أعيد عليه الطلب برجاء من البطريرك، وبعد تكرار الطلب والإلحاح وافق الأب متى المسكين.
ويقول: «عملت منذ أول لحظة بعقلية منظمة وتخطيط، لإعادة أوضاع البطريركية المنهارة، فديون البطريركية كانت تزيد على خمسة آلاف جنيه، ورواتب الموظفين غير مدفوعة منذ ثلاثة أشهر»، ويضيف «رتبت رواتب ثابتة للكهنة، للمرة الأولى في مصر، وكانت هذه الرواتب عالية، إذ يبدأ الكاهن بمبلغ 25 جنيه مع علاوة سنوية، علمًا بأنّ خريج الجامعة كان يتقاضى اثنا عشر جنيهًا، وبدأت أعين المسؤولين في كلّ كنيسة لحصر الدخول في الخدمات، فارتفع الدخل سريعًا، لكن يبدو أنّ الكهنة كانوا يتقاضون من هذه الدخول لأنفسهم مبالغ غير قليلة، وهنا بدأ التكتل من الكهنة، للتخلص مني بأية وسيلة، واستطاعوا بمعاونة اثنين من المطارنة إقناع البطريرك بتعيين وكيل غيري»[15].
كلّ تلك الخبرات التي تموضعت في عقل الأب متى المسكين وقلبه، أفرغها في وجدان الرهبان وعقولهم الذين دخلوا معه دير الأنبا مقار، والذين توافدوا على الدير عبر العقود التي مضت، وذلك عبر محور العمل والتدبير وإلقاء الكلمات الرُوحية، التي تُعدُّ خلاصة الفكر الرهباني والإنجيلي الآبائي، كما احتشد في عقل الأب متى المسكين، عبر قراءاته في اللاهوت بلغاتها الأصلية، وكانت تلك الملمات تسجل، ومن ثم تخرج في شكل كتيبات ومقالات، فضلًا عن الكتب والمؤلفات التي تخرج عن الدير وفق ذلك المفهوم، وتلك الحياة المنظمة جاءت حياة الرهبان بدير الأنبا مقار، تحت الرعاية الرُوحية والفكرية للأب متى المسكين.
ويقول الأب متى المسكين عن الرهبان بدير الأنبا مقار: «أصبحوا شخصيات منظمة، وعلى مستوى المسؤوليات والقيادة في أيّ موقع، ومنهم شخصيات فريدة ونادرة، وأيضًا كلّ هؤلاء موضوعون تحت المحاصرة، فلا يختار منهم أساقفة ولا يدعون لحضور مؤتمرات، ولا يشتركون في أيّ نشاط عام للكنيسة، وفي هذا كلّه يزداد حبّنا وتجرّدنا»[16].
كان دير القديس الأنبا مقار أقرب للمستقل فكريًا وإداريًا عن الكنيسة والبطريرك شنودة الثالث ،1971 -2012؛ يرتدي رهبانه ملابس مختلفة، ويقرؤون ويترجمون ويصدرون كتبًا تترجم لعدة لغات، ويعلن البابا شنودة خلافه معهم علنًا، حين يقول في إحدى لقاءاته في جوابه لأحد السائلين عن رغبته في الرهبنة بدير أبو مقار: «إنْ رُحت هناك هتتعب وتخرج، وأفضل لك تأخذها من قاصرها وابحث على مكان تاني، عدد الذين خرجوا من الدير حتى الآن اثنين وخمسين راهبًا، مكتوبين عندي بالاسم، منهم من جاء سليمًا، ومنهم من خضع لعلاج نفسي وعقلي، ومنهم من ترك الرهبنة نهائيًا، ومنهم من يوجد عندي في دير الأنبا بيشوي، وعمومًا يا ابني ابحث عن الرفيق قبل الطريق»[17].
ويؤكّد البابا شنودة الثالث في موضع آخر أنّه أرسل إلى القمص متى المسكين أكثر من مرة ملاحظاته، إلا أنّ الأخير صمّم على طباعة كتبه بنفس ما جاء فيها، ما دفع البابا إلى الردّ على تلك الكتب والمطبوعات والمؤلفات التي يصدرها في أثناء محاضراته بالكلية الإكليريكية، لكن دون ذكر اسم الكاتب، ثم وصف القمص متى المسكين في كتاباته بأنّه «راهب أمين، لكنه لا يُدرك خطورة التعبير اللاهوتي الخاطئ[18]. في حين قال الأب متى المسكين أنه قال للبابا شنودة أن يرسل له ملاحظاته وسوف يُعيد طباعة الكتب محتوية على رأى البابا ويضعها في هامش مقرونة بالنص الألى الذي كتبه القمص متى المسكين.
ثمة عدة آراء تتجه نحو تفسير المسافة البينية بين الأب متى المسكين والبابا شنودة الثالث، تتمركز غالبيتها في محاولة سرد تاريخ الخلاف بينهما الذي يبدأ عقائديًا، حينما رسم الأنبا شنودة أسقفا للتعليم، وبدأ يضع ملاحظاته على مؤلفات الأب متى المسكين، إلّا أنّ الأخير لم يلتفت إلى ذلك، ونشر كتبه فضلًا عن خروج كتب دير أبو مقار دون صورة البطريرك البابا شنودة الثالث.
ويرى آخرون أنّه الأب متى المسكين وجد الفرصة لقراءة مجموعة كاملة لأقوال الآباء باللغة الإنجليزية، فقرأها بنهم فانطبع عليه فكرهم، وفي ذلك يقول الأب متى المسكين في سيرته: «حينما نزلت إلى العالم من الدير بعد ثلاثة أعوام؛ اكتشفت بعد حديثي مع بعض الشخصيات، أنّ مدركاتي الرُوحية والإنجيلية صارت من نوع آخر تمامًا وبعمق آخر، وحاولت أن اختصر في علاقاتي حتى لا أُثير حولي أيّة حركة.»
وذلك كلّه يوضح لنا حجم المتغيرات العنيفة، التي لحقت بدير الأنبا مقار ورهبانه، بعد وفاة الأب متى المسكين عام 2006، ثم قرار الأنبا ميخائيل مطران أسيوط والرئيس التاريخي للدير بالاستقالة من منصبه عام 2009، اعتراضًا منه على إنهاء استقلالية الدير، ودخول رهبان جدد إليه عام 2010، ومحاولة جذب الدير ورهبانه إلى رؤية وإدارة البابا شنودة؛ الـأمر الذي خلق حالة «صراع» لم يكن يعرفها الدير ولا الرهبان من قبل، وانتهت بمقتل الأنبا أبيفانيوس، وما أعقب الحادث من تطورات درامية[19].
ونختم هذه الورقة البحثية بكلمة البطريرك تواضروس الثاني في أثناء جنازة الأنبا أبيفانيوس رئيس دير الأنبا مقار، عندما قال: “أخرجوا الانحراف بعيدًا عن الرهبنة، أنتم لا تتبعون أحدًا بعينه، أنتم رهبان القديس العظيم الأنبا مقار، لا تتحدثوا للإعلام، لأنّ الرهبنة موت عن العالم.»
المراجع:
[1] لبيب حبشي وزكي تواضروس: في صحراء العرب والأديرة الشرقية، دار مدبولي، الطبعة الأولى، القاهرة، 1993، ص ص 9–10.
[2] أمير نصر: كتاب كلمة في الرهبنة، نسخة الكترونية من موقع النبأ تكلا هيمانوت.
الرابط: https://st-takla.org/P-1_.html
[3] موقع الأنبا إبيفانيوس، الرهبنة والوحدة المسيحية
الرابط: https://2u.pw/zhieI
[4] – نص البيان عبر الصفحة الرسمية للكنيسة:
https://www.facebook.com/share/16BWC2rkXZ/
[5] سيمنار عقد بالمقر البابوي بدير الأنبا بيشوي، والذي ختم أعماله في 19 نوفمبر 2021، ونشر نصها في مجلة مرقس التي تصدر عن دير أنبا مقار عدد ديسمبر 2021.
الرابط: https://www.stmacariusmonastery.org/old/st_mark/sm031303.htm
[6] كمال زاخر: قراءة في واقعنا الكنسي، مطبعة جي سي سنتر، القاهرة، 2015، ص ص 106 – 107.
[7] إسحاق حنا، مقابلة شخصية، أيلول (سبتمبر) 2018.
[8] جريدة الوطن، العدد 2323، عدد 8 أيلول (سبتمبر) 2018.
[9] الأقباط اليوم ،2 آب (أغسطس) 2018.
[10] اليوم السابع، تصريحات الأنبا بيجول، أسقف ورئيس دير السيدة العذراء، السبت 29 أيلول (سبتمبر) 2018.
[11] كلمة نيافـة الأنبا إبيفانيوس، أسقف ورئيس ديـر القديس أنبا مقار، في مؤتمر «بوزيBose “بإيطاليا، بمناسبة الذكرى العاشرة لنياحة الأب متى المسكين.
https://www.stmacariusmonastery.org/old/st_mark/sm061605.htm
[12] كمال زاخر: الكنيسة صراع أم مخاض أم ميلاد، الأقباط متحدون، الأحد 26 آب (أغسطس) 2018.
[13] أبونا متى المسكين، السيرة الذاتية، الطبعة الثالثة، دير الأنبا مقار، 2011، ص 26.
[14] المرجع السابق نفسه، ص 51.
[15] أشرف صادق، الأهرام العربي، الاقتصـــــــاد الديني في ديــــر أبو مقـــار، عدد 13 آب (أغسطس) 2003.
[16] أبونا متى المسكين، السيرة الذاتية.. مرجع سبق ذكره، ص ص 24- 25.
[17] نفسه، ص 53.
[18] فيديو للبابا شنودة منشور على:
https://youtu.be/xZ0vcb0hqlc?si=916n6YeD7HhpTv1s
[19] أندرو نادر: وثائق أسرار الخلافات بين الأب متى المسكين والبابا كيرلس، دوت مصر، الثلاثاء 20 أيلول (سبتمبر) 2016.