تكوين
– 1 –
في واحدةٍ من أمتع المحاضرات والمناقشات التي استمتعت بها أخيرًا استمعت إلى محاضرة قيمة بعنوان (الرواية وسؤال النهضة في الثقافة العربية) ألقاها الأستاذ الدكتور خيري دومة، أستاذ الأدب العربي والنقد الحديث بجامعة القاهرة، والناقد المرموق الرصين، وتشرفت بإدارة الحوار بعدها[1].
الموضوع واحدٌ من انشغالاتي العلمية الأصيلة، منذ بدأت أتلقى تدريبي العلمي والمنهجي على يد أساتذتي الكبار بكلية الآداب (قسم اللغة العربية وآدابها) جامعة القاهرة، في السنوات الأخيرة من تسعينيات القرن الماضي.
وكان من حظي أنني استمعت إلى محاضرات قيمة عن “فن الرواية” أو “فن القص” على يد أعلام[2] ممن تركوا إسهامًا بارزا في هذا الموضوع، سواء موضوع “نشأة الرواية العربية”، وهل هي فن موروث أم وافد، أو “تطور” هذا الفن وتمايز اتجاهاته وتياراته الفنية والجمالية، منذ ظهوره في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحتى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
والحقيقة أنه يمكن القول إن ثمة مدرسة علمية نقدية أصيلة تأسَّست في قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة، تركت تراثًا نظريًّا ممتازًا ومهما حول موضوع “نشأة الرواية” في سياق تاريخي وثقافي وحضاري شديد الخصوبة والخصوصية،
وقد استهلت تلك المدرسة نشاطها أو إسهامها البارز بكتاب المرحوم الدكتور عبد المحسن بدر، تلميذ الدكتورة سهير القلماوي، والذي صار أستاذًا مرموقًا فيما بعد، وبخاصة خلال الفترة من ستينيات القرن الماضي وحتى مطالع التسعينيات، تتلمذ عليه خلالها باحثون وأساتذة مرموقون، منهم الدكتور خيري دومة[3] الذي ألقى هذه المحاضرة الممتازة وأوحى إلى صاحب هذه السطور بكتابة هذه القراءة.
والحقيقة أن د. خيري قد عرض لموضوع المحاضرة عرضا وافيا وكافيا وممتعا، وتألق تألقًا لافتًا وهو يجول بحضوره الكرام، في دروب ومسارب القرن التاسع عشر الخصب؛ ذلك القرن الكنز، المتخم بالتفاصيل الغزيرة، ويحمل في ثناياه كثيرًا من بذور وجذور البحث عن الأسئلة الصعبة والمشكلات التي نعانيها وما زلنا حتى اللحظة.
ركز د. خيري دومة جهده الأصيل -في حدود المساحة الزمنية لمحاضرته- على مسارين أو خطين أساسين:
أولهما؛ استعراض سيرة مصطلح “رواية” في الثقافة العربية الحديثة، منذ أول ظهور له على يد مارون النقاش للإشارة بها إلى المسرحيات الممثلة، وحتى استقرار المصطلح منذ أواسط القرن الماضي كمفهوم دال على ذلك النوع الأدبي الوافد الذي نما وترعرع وازدهر، وأصبح فن العربية الأول منذ ذلك التاريخ، وحتى وقتنا هذا. وهو في ذلك يعي تمامًا أن “سيرة المصطلح”، أي مصطلح، هي سيرة ثقافية خاصة جدًا وأن العلم الإنساني أو العلوم الإنسانية، خاصة الأدبية والنقدية واللغوية، هي في صميمها تتبع استقصائي دقيق لتشكل المصطلحات وسكها أو نشأتها وتحولاتها ومدلولاتها.. إلخ[4].
النهضة الحديثة
أما ثانيهما؛ وبعد تتبع رحلة المصطلح وظهوره في الثقافة العربية، واستقصاء دلالاته في ضوء التحولات التي مرّ بها هو ذاته أو في سياق التحولات الثقافية والاجتماعية التي شهدتها المجتمعات العربية في العموم، جاء الربط أو الوصل بين مصطلح “الرواية” ومفهوماته وتوظيفاته واستقباله.. والسياق التاريخي والاجتماعي والثقافي لما يعرف بحركة النهضة الحديثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحتى نهاية الثلث الأول من القرن العشرين.
والحقيقة أن د. خيري دومة قد برع براعة منقطة النظير في تكثيف المسارين، والوقوف عند محطاتهما الرئيسية وانتقالاتهما المفصلية، والإشارة إلى نقاط التحول في كل مسار على يد كاتب أو أديب أو مثقف (مصري أو شامي أو أيا ما كان) والتقاط المفهوم أو استخلاصه من نصوص هذا الكاتب أو ذاك[5].
– 2 –
من الأفكار المنهجية ذات الدلالة استعراضه الممتع لرحلة مصطلح “الرواية” تحديد الخطوات التي تتتبع رحلة المصطلح، والوقوف عند الكتب والدراسات التي عالجت هذه المسألة. ولم يكن مفر من الانتقاء والاختيار من بين عشرات الكتب والدراسات التي تعرضت لموضوع “نشأة الرواية” وتاريخ الرواية أو “تطور الرواية”.. إلخ. يقول دومة:
“يلزم التوقف عند بعض الدراسات السابقة في الموضوع. ولأن الإشارة إلى مصطلح “الرواية” ومشكلاته ترِد تقريبًا وبدرجات متفاوتة، في كل دراسة تناولت نشأة الرواية العربية، سيكون من الصعب النظر إلى كل هذا بصفته دراسات سابقة، ولكن تجدر الإشارة بداية إلى كتب محددة لعبت دورًا في بلورة وعي الباحثين بالموضوع”[6].
الإشارة هنا إلى “كتبٍ محددة” لعبت دورًا في بلورة وعي الباحثين بالموضوع أظنها إشارة في غاية الأهمية من حيث كونها إجراء منهجيا ضروريا ولازمًا، فلا معنى للحشد والجمع والإحصاء والتكرار إذا كان من الممكن الاختيار والانتقاء على أسسٍ واضحة ومعايير محددة تكون حاكمة وضابطة في النظر إلى هذه “الكتب المحددة” أو بعبارةٍ أخرى فإن اختيار “العينة الأساسية” هي التي ستكون بمثابة المادة الخاضعة للمعالجة والتحليل. وهي عينة ليست عشوائية، وليست كيفما اتفق.. أبدًا.
ومن هنا فقد استهل الدكتور خيري دومة محاضرته بالإشارة إلى كتاب الدكتور عبد المحسن طه بدر «تطور الرواية العربية الحديث في مصر (1870-1938)»[7]، وقد اتخذ دومة من أولية الكتاب، ومرجعيته في دراسة تاريخ الرواية العربية ونشأتها، نقطة انطلاق لمقاربة موضوعه، إما بالعودة إلى تاريخ سابق للكتاب، وإما بالجهود اللاحقة التي تلته، كما سنشير إلى ذلك بعد قليل.
توقف دومة عند جهد عبد المحسن بدر التأسيسي التأصيلي في وضع خريطة عامة لتصنيف الروايات الأولى في الأدب العربي الحديث (في النصف الثاني من القرن التاسع عشر)، وقدَّم مسحا شاملا وكليا واستقصائيا حتى زمنه لكمٍّ مهول من الروايات التي صنفها بين دائرتين أو وفق مضمونها العام إلى اتجاهين رئيسيين:
“رواية التسلية والترفيه”؛ التي تعرض فيها أو أشار خلالها إلى أسماء الروايات الأول التي اجتهد في البحث عنها واستقصاء ظهورها وحضورها في الثقافة العربية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى الربع الأول من القرن العشرين. و”الرواية التعليمية”، التي ضمنها روايات جورجي زيدان التاريخية.
وقد اعتبر دومة -مع اختلافه مع الحكم أو التحليل الذي قدمه بدر لهذه الروايات بإسقاط قيمتها الفنية والجمالية معتبرًا فقط أن كانت تؤدي وظيفة إمتاعية تقتصر على التسلية والترفيه، ولا تتجاوز أبعد من ذلك لا فنيا ولا فكريا ولا ثقافيا- اعتبر هذا الكم الكبير من الروايات التي استقصاها بدر كنزًا بكل معنى الكلمة، وأن هناك ضرورة ملحة للعودة إلى هذه الأعمال وقراءتها من جديد، لأننا يمكن في هذه الحالة أن نعدِّل كثيرًا من الأحكام التي ورثناها وتناقلناها من عبد المحسن بدر ومن تابعه، من دون الوقوف عندها وإطالة النظر فيها وربما الاختلاف معها وتجاوزها أيضًا.
فيما يرى دومة، بل يؤكد جازمًا أن “استخدام مصطلحات من قبيل «رواية التعليم»، و«رواية التسلية والترفيه»، في مقابل «الرواية الفنية»، كان استخدامًا ينطوي على تبسيط وازدراء وتهميش لمساحة كبيرة من إنتاج هؤلاء التنويريين الأوائل، وقد أفضى بالفعل إلى مزيدٍ من الإهمال لذلك القرن المؤسس في تاريخ ثقافتنا الحديثة، وهو أمر بدأت الحركة النقدية في العقود الأخيرة تعيد النظر فيه، فتبحث عن النصوص الروائية الأولى في مظانها وتنشرها وتعيد تقييمها على ضوء وجهات النظر الجديدة في فن الرواية وعلم التاريخ، وكان لجابر عصفور فضل كبير في ذلك”[8].
– 3 –
وبالتالي، كان منطقيًّا الانتقال من جهد عبد المحسن بدر في «تطور الرواية العربية الحديثة في مصر» إلى جهود جابر عصفور الوافرة عبر فترة طويلة من الزمن استغرقت قرابة العقود الثلاثة، لينتقل دومة بعدها إلى محطة رئيسية أخرى في معالجة موضوع “الرواية ونشأتها” وأولياتها، فضلا على بحث تاريخ المصطلح ذاته، وبدايات ظهوره وتداوله في الثقافة العربية، في إطار الحراك الفكري والثقافي والحضاري الذي يشار إليه باسم “النهضة العربية الحديثة”.
ويشير دومة إلى أن جابر عصفور قد قارب هذا الموضوع مقاربة مستفيضة في إطار نظرته لمعالجة موضوع “التنوير” أو “النهضة” في الثقافة العربية ككل، خاصة مع انخراطه في الدفاع عن “التنوير” و”قيم التنوير” منذ مطالع تسعينيات القرن الماضي، وحتى رحيله في ديسمبر 2021.
يقول دومة:
في أواخر تسعينيات القرن العشرين، وضمن احتفال كبير بذكرى عبد المحسن طه بدر، ألقى جابر عصفور بمدرج (78) الشهير بكلية الآداب، محاضرة لعلها كانت الأولى التي طرح فيها أفكاره حول موضوع نشأة الرواية العربية. وقد عقب على المحاضرة -وقتها- محمد الجوهري، وفاطمة موسى، ورضوى عاشور.. وآخرون كثيرون كنت واحدًا منهم،
ثم نشر [جابر عصفور] أفكاره الأولى هذه في مجلة «فصول» الشهيرة (مج 16، ع 4، 1998، ص 9- 23) تحت عنوان «فجر الرواية العربية: ريادات مهمشة»، وبعدها بسنواتٍ أشار مرة أخرى إلى محاضرته تلك في مقدمة كتابه «الرواية والاستنارة» (كتاب دبي الثقافية، العدد 55، نوفمبر 2011، ص 18).
لم يكتف جابر عصفور بالإشارة إلى تلك المحاضرة البعيدة، وإنما ركز -في مقدمة الكتاب- على تطور الفكرة وتبلورها في ذهنه على مدار سنواتٍ طويلة، يعود بها إلى نقطة زمنية أبعد عام 1989، حين احتفل مع مجموعة من زملائه بمرور مائة عام على مولد طه حسين، وكان احتفالهم البحثي تحت عنوان «مائة عام من الاستنارة».
يقول: «وقد انشغلت منذ ذلك العام (1989) بالكتابة عن الميراث التنويري الذي تركه هؤلاء الأعلام الذين أورثوني أفكارهم عن أهمية الدولة المدنية، واقترانها بحرية الفكر وحق العقل كل عقل في الانفتاح على كل نتاج العالم المتقدم والإفادة منه… وما أكثر ما كتبت عن هذا كله في مجلة «إبداع» القاهرية، وفي جريدة «الحياة» [اللندنية] وفي غيرهما من المنابر الثقافية.
لقد شكَّل حصاد هذه المراجعة، والرحلة الطويلة، معظم ما كتبه جابر عصفور من مقالات ضمَّنها كتبه المنشورة في العقود الأخيرة، منذ «هوامش على دفتر التنوير» (1993)، حتى «زمن القص» (2019)، وبينهما بالطبع كتب كثيرة؛ مثل: «زمن الرواية» (1999)، و«الهوية الثقافية والنقد الأدبي»، و«نقد ثقافة التخلف»، ولعل أهمها كتاب «القص في هذا الزمان» (2014) الذي بدأه بالمقالة نفسها التي بدأ بها كتابه (الرواية والاستنارة)، لكن مع تعديلات في الصياغة، وتوسيع في المجال، وتغيير عنوان المقال من (فجر الرواية العربية) إلى «ابتداء زمن الرواية: ملاحظات منهجية» (القص في هذا الزمان، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ص 21- 72)[9].
– 4 –
إذن فقد قرر جابر عصفور أن يعيد النظر مرة أخرى في المصطلح الدال على تلك الحركة النشطة من الاهتمام بالفكر والثقافة التعليم والفنون والآداب منذ رفاعة الطهطاوي، وحتى ظهور جيل طه حسين وأقرانه في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. وبدأ يتساءل: هل هي كما شاع عنها فعلًا حركة “إحياء وبعث ويقظة” أم حركة “نهضة” شاملة؟
وقد أوضح عصفور -في مقالاته ودراساته العديدة التي نشرها خلال عقد التسعينيات بأكمله- أننا نعاني من ارتباكٍ واضح في تحديد معنى “النهضة” من ناحية، ومجالها الزمني من ناحية موازية، وأسباب صعودها أو هبوطها من ناحية ثالثة، يقول:
“أذكر أن أساتذتي في قسم اللغة العربية كانوا يتحدثون في محاضراتهم عن عصر الانحطاط، مطلقين هذه التسمية علي التاريخ العربي، ابتداء من سقوط بغداد سنة 1258م وانتهاء بمجيء الحملة الفرنسية علي مصر سنة 1798م، وكانوا يرون في مقدم الحملة الفرنسية “صدمة” أحدثت تغيرا كبيرا في الوعي المصري، فأيقظته من سبات تخلفه، وطرحت عليه تحديا كبيرا، كان عليه أن يواجهه إذا أراد أن يستمر في الوجود والتقدم.
وقد رأى الكثيرون أن هذا التقدم لن يكون إلا بالعودة إلى الماضي العربي القديم في عصور ازدهارها، ولذلك أطلقوا على هذا الزمن “عصر الإحياء” أو “عصر البعث“، ذلك لأن النهضة -في الشعر علي سبيل المثال- قد قامت علي “بعث” التيارات الشعرية القديمة لأمثال أبي تمام والمتنبي، وأبي العلاء المعري، وغيرهم من كبار الشعراء العرب، و”إحياء” شعرهم عن طريق اتباع أساليبه وصوره.. إلخ. ولذلك كنا نسمي مرحلة الشعر العربي، من بداية الحملة الفرنسية إلى بداية الحرب العالمية الأولي سنة 1914، باسم مرحلة “الإحياء” أو “البعث“.
ولكن تيارًا آخر من أساتذتنا كان يرى رأيًا [آخر] مخالفا، وهو رأي يؤكد أن هذا لم يكن معنى النهضة؛ فالنهضة لم تقم على إحياء الماضي الزاهر فحسب، وإنما الإضافة إلى هذا الإحياء بما هو مأخوذ من الآخر الأوروبي من آداب لم تكن موجودة -أو معترفًا بها على الأقل- في التراث القديم، وكانت التسمية الأقرب إلى الازدهار -عند أصحاب هذا الاتجاه في هذا الوقت- هي تسمية “النهضة” التي تشمل كتابة الشعر، وظهور المسرحية وفن القصة، وفنون المقال الصحفي بأنواعه المختلفة، وما يشبه ذلك”[10].
وعلى هذا الأساس كان أصحاب هذا التيار يطلقون كلمة “النهضة” على المرحلة الزمنية التي تبدأ من 1798 إلى 1914م.
وقد ألح عصفور على فكرة أنه كان “مذبذبًا” بين التيارين إلى أن حسم أمره، وأخذ يميل إلى تسمية هذه المرحلة بعصر النهضة بوصفها التسمية الأدق، والتي كانت تعبيرًا عن واقع تاريخي مغاير بالفعل. وقد استند في اختياره هذا أو تفضيله لتسمية عصر النهضة للعوامل الآتية:
فقد أدرك المصريون -على سبيل المثال- أنه لا سبيل أمامهم لمواجهة الحملة الفرنسية، وأمثالها، إلا بأن يتقدموا ويحصلوا من العلوم وأدوات التحضر والقوة ما يتيح لهم أن يكونوا أندادًا للمستعمرين الذين لم يتوقفوا علي جنود الحملة الفرنسية. وكان هذا يعني الانقطاع عن الماضي المتخلف، وتبني الاتجاهات الجديدة، وتقبل الفنون وأدوات العصر الجديدة في آن.
وحتى في الشعر القديم لم يرجع محمود سامي البارودي، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم وأمثالهم إلى عصور الانحطاط، وإنما استبدلوا بها عصور الازدهار، فكأنهم انقطعوا عن قديم ميت، واستبدلوا به قديما متوثبا بالحياة، قابلا للامتداد، وهو الأمر نفسه الذي حدث في مجالات موازية؛ منها تقبل فكرة البرلمانات الحديثة بوصفها نوعًا من الشورى التي تحدث عنها الإسلام. وكان هذا الانقطاع عن بعض الماضي واستبدال غيره به، هو المبدأ الحاسم الذي دعا أبناء هذا العصر إلى استقبال فن القصة الأوروبية واستخدامها سلاحًا للاستنارة[11].
باختصار -أو كما قال دومة بتعبيره في المحاضرة- فإن جابر عصفور كان يرى أن الرواية هي “فن النهضة” أو “فن التنوير” بامتياز، وأنها الفن الحامل لقيم النهضة والتنوير، والداعي لهذه القيم خصوصًا مع ما شهده وعايشه العرب المحدثون، أبناء المدن الحديثة، وأبناء الطبقة الوسطى تحديدًا التي ارتبطت بظهور هذه المدن الحديثة، اختلاف قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج بها. ولذلك فلم يكن من قبيل المصادفة أن يكون مستقبلو فن الرواية الحديثة، وقراء القصة الحديثة في الجرائد، أو مشاهدو المسرح من أبناء الطبقة الوسطى الوليدة التي برزت بقوة في “عصر إسماعيل باشا” الذي أراد أن يجعل من مصر قطعة من أوروبا، ومن القاهرة نسخة أخرى من باريس.
يقول جابر عصفور في مقدمته لكتاب «الرواية والاستنارة»:
“قررتُ أن أعرف تراث القرن التاسع عشر الفكري، حيث الذين أسماهم المرحوم أحمد أمين (زعماء الإصلاح)، في موازاة معرفة التراث الإبداعي للقرن نفسه. وفوجئت في هذا السياق بالتلازم الوثيق بين فن الرواية وفكر الاستنارة في القرن التاسع عشر، واكتشفت مدى العمى الجزئي الذي أصابنا بسبب إعطاء الأولوية لفن الشعر وحده، دون أن نهتم بالفنون الموازية أو المغايرة له، وكيف أن الإلحاح على مصطلح عصر الإحياء أو البعث كان يرسخ أولوية الشعر في أذهاننا… على الرغم من أن هذا العصر كان يؤسس لفنين جديدين، وحتى لو كانت لهما أوجه شبه قديمة، فإن ما فيهما من جدة لا يمكن أن تحتويها دلالة الإحياء وحدها؛ فالأوفق في تسمية صعود القرن التاسع عشر «عصر النهضة»، تلك التسمية التي تتوافق مع ما كان فيه من قطيعة مع ميراث الماضي، خصوصًا مع تدافع تكوين الطبقة الوسطى بعد الثلث الأول من هذا القرن، واكتمال تكوينها في عصر إسماعيل، مع اكتمال ميلاد المدينة الحديثة الذي ارتبط بالطبقة الوسطى، متفاعلة معها في تأسيس ما أسميه «الوعي المديني» لهذه الطبقة، وهو الوعي الذي كان مقدرًا له إنتاج فن الرواية واستهلاكها”[12]..
يستنتج خيري دومة من النص الأخير، ومن غيره من النصوص لجابر عصفور، في سياق مراجعته الجذرية لحركة النهضة العربية الحديثة، وتراث القرن التاسع عشر كله، أن الدكتور جابر عصفور في رحلة المراجعة والتنقيب هذه، قد تخلى عن العنوان الأول لبحث (فجر الرواية العربية)، بعد أن بدا هذا العنوان كأنه لون من المعارضة لعنوان يحيى حقي الشهير (فجر القصة المصرية)، واستبدل به عناوين أخرى أقرب إلى وجهة نظره التي بلورتها كتاباته، وكان فيها يقف فيما يبدو أنه الجهة المقابلة لما طرحه يحيى حقي، ومعه عبد المحسن طه بدر، وغيرهما، عن نشأة الرواية العربية[13]، بإهمال النصوص الأول التي كتبت خلال القرن التاسع عشر ونظر إليها على أنها محض روايات “تسلية وترفيه”، ونظر إليها جابر نظرة أخرى مغايرة في ضوء قراءته لتراث القرن التاسع عشر ونصوص أعلامه من النهضويين والتنويريين.
لقد كان جابر عصفور، على مدار هذه العقود، يقلب أفكاره ويعمقها ويطورها حول “نشأة الرواية العربية“، والظروف التي أحاطت بهذه النشأة، ضمن معركة أوسع خاضها على الأرض، منتصرًا لما كان يطلق عليه قيم «التنوير» و«الاستنارة» و«التحديث» و«المدنية» و«النهضة».. وذلك في مواجهة ما كان يخشاه من قيم «الإظلام» و«الإرهاب» و«التعصب» و«التخلف» التي تصاعدت في عالمنا العربي على نحوٍ لافت، وكان على طول الرحلة يقلِّب أفكاره، ويستفيد من كل جديد يطرح على الساحة الثقافية.
وكانت هذه واحدة من ميزات الرجل الكبرى، أنه يخوض المعركة على أكثر من جبهة، وأنه لا يتوقف عن المتابعة وعن تقليب الفكرة ومراجعتها أحيانًا، ولعلها كانت الميزة التي أغرتنا -نحن تلاميذه- بأن نناقشه وأن “نناكفه” أحيانًا، معجبين بدأبه ونفسه الطويل[14].. ولعلي أنا كاتب هذه السطور قد ورثت منه ومن تلاميذه الجرثومة ذاتها؛ جرثومة البحث والمراجعة والسؤال بلا كلل أو ملل!
المراجع:
جابر عصفور:
– الرواية والاستنارة، كتاب دبي الثقافية، العدد (55)، نوفمبر 2011.
– زمن القص شعر الدنيا الحديثة، الدار المصرية اللبنانية، ط1، 2019
– القص في هذا الزمان، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 2014.
خيري دومة:
– الرواية ـ سيرة مصطلح عربي، بحث قدم للسيمنار العلمي بقسم اللغة العربية بآداب القاهرة، وألقاه صاحبه بتاريخ؛ 2 يناير 2023.
– فجر الرواية العربية كما رآه جابر عصفور، مجلة (فصول)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، العدد (107)، ربيع 2022.
– من مصطلحات السرد العربي (مصطلح “الحديث”، محاولة للتأصيل)، مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة، مجلد 61- العدد 1، يناير 2001.
عبد المحسن طه بدر:
– الرواية العربية الحديثة في مصر (1870-1938)، مكتبة الدارسات الأدبية، دار المعارف، القاهرة، ط 1، 1963.
[1]– المحاضرة واحدة من فعاليات البرنامج الثقافي الحافل لمؤسسة تكوين بالقاهرة والإسكندرية والمحافظات، بالتعاون مع مركز الجزويت الثقافي بالإسكندرية، وهذه المحاضرة هي باكورة لسلسلةٍ من الندوات والمحاضرات التي تتصل بموضوع واحد أو عدة موضوعات تعالج فكر “النهضة” وتاريخ النهضة، والبحث عنها منذ بواكيرها الأولى في القرن التاسع عشر، وحتى وقتنا هذا..
[2]– منهم المرحوم الدكتور عبد المنعم تليمة، والمرحوم الدكتور جابر عصفور، والمرحوم الدكتور سيد البحراوي.. والدكتور حسين حمودة، والدكتور سامي سليمان، مد الله في عمرهما ومتعهما بالصحة والعافية.
[3]– أشرف عبد المحسن طه بدر على خيري دومة في رسالته للماجستير، وكانت في موضوع “القصة القصيرة عند سعد مكاوي”.
[4]– خيري دومة، “الرواية” سيرة مصطلح عربي، بحث مقدم للسيمنار العلمي بآداب القاهرة، ألقي بتاريخ 2 يناير 2023.
[5]– استعرض دومة رحلة تبلور مصطلح “الرواية” في الثقافة العربية للمرة الأولى على يد مارون النقاش، وتطورات استخدامه التالية على يد كل من سليم البستاني، ومن قبله أبوه بطرس البستاني، ثم جورجي زيدان، وصولًا إلى عبد المحسن طه بدر.
[6]– خيري دومة، الرواية سيرة مصطلح عربي، المرجع السابق.
[7]– نوقش الكتاب في صورته الأولى كأطروحة دكتوراه عام 1962 بإشراف سهير القلماوي، بقسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب جامعة القاهرة (راجع دليل الرسائل الجامعية التي أجازتها كلية الآداب، منذ إنشائها حتى 1990، أعده هاشم فرحات وناصر عبد الرحمن بإشراف حشمت قاسم، وصدر عن مركز النشر بجامعة القاهرة 1992، المجلد الأول، ص 24)، ثم نشرت الرسالة في كتابٍ صدرت طبعته الأولى عن دار المعارف بالقاهرة عام 1963، ثم توالت طبعاته منذ ذلك التاريخ، وحتى وقتنا هذا.
[8]– خيري دومة، فجر الرواية العربية كما رآه جابر عصفور، مجلة (فصول)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، العدد (107)، ربيع 2022، ص 290.
[9]– خيري دومة، فجر الرواية العربية كما رآه جابر عصفور، المرجع السابق، ص 287-288.
[10]– الرواية والاستنارة، كتاب (دبي) الثقافية، العدد (55)، نوفمبر 2011. وراجع أيضًا: جابر عصفور، زمن القص ـ شعر الدنيا الحديثة، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 2019.
[11]– ناقش جابر عصفور ذلك كله تفصيليا في كتابه عن «الرواية والاستنارة»، الذي صدرت طبعته الأولى عن مؤسسة دبي للصحافة والإعلام عام ….، وكان رحمه الله يعد لطبعة مزيدة منه قبل وفاته، ولما تصدر بعد حتى الآن. وهو يرى أن الأمر نفسه قد حدث مع فن المسرح، وغيره من الفنون التي ارتبطت بظهور فن الطباعة، وازدهار الصحافة العربية بوجه عام.
[12]– جابر عصفور، الرواية والاستنارة، المرجع السابق، ص 16- 17.
[13]– خيري دومة، فجر الرواية العربية كما رآه جابر عصفور، مرجع سابق، ص 288.
[14]– خيري دومة، فجر الرواية العربية كما رآه جابر عصفور، مرجع سابق، ص 288.