تكوين
المعنى الشّائع لكلمة رجل هو إحالتها على “معروف الذّكر من نوع الإنسان بخلاف المرأة”[1]. ولكنّنا باستقرائنا القرآن الكريم، نزعم أنّه يضفي على كلمة “رجل” دلالات تتجاوز هذا المعنى الأوّل المنتشر، وتفتح آفاقا على معان أخرى ينظر فيها هذا المقال ويسائل أبعادها.
من نافل القول أنّ كلمة “رجل” تقبل في القرآن معناها الأوّل الشّائع. يكون ذلك في أغلب الأحيان بورودها في تقابل مع كلمة النّساء. والأمثلة كثيرة جدّا ترد في سياق التّمييز البيولوجيّ الّذي يصف الواقع، أو في سياق التّمييز في الأحكام الّذي ينشئ الواقع. فمن التّمييز البيولوجيّ قوله تعالى: “وبثّ منهما رجالا كثيرا ونساء”[2] أو “أئنّكم لتأتون الرّجال شهوة من دون النّساء”[3]. ومن التّمييز في الأحكام نذكر: “واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممّن ترضون من الشّهداء”[4] ونذكر: “للرّجال نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون وللنّساء نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون”[5].
واستنادا إلى هذا المعنى الأوّل الشّائع، عمدت آيات قرآنيّة إلى كلمة “رجل”، لا للإشارة إلى عموم الجنس الذّكريّ المخصوص، وإنّما للإحالة على علم مفرد يظهره سياق الخطاب. فقد أشارت كلمة رجل إلى نوح عليه السّلام في قوله تعالى: “أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربّكم على رجل منكم لينذركم”[6]، وتكرّرت الآية نفسها في إحالة على هود عليه السّلام[7]. وأشارت مفردة “رجل” إلى صالح عليه السّلام: “إن هو إلاّ رجل افترى على الله كذبا”[8]. وكان الرّجل في آيات أخرى محمّدا عليه الصّلاة والسّلام: “وقال الّذين كفروا هل ندلّكم على رجل ينبّئكم إذا مزّقتم كلّ ممزّق إنّكم لفي خلق جديد”[9].
إقرأ أيضا: لا نسخ في القرآن الكريم بنص القرآن نفسه
وقد يسكت السّياق عن الرّجل العَلَم المقصود فتسعفه الأخبار وأسباب النّزول. وهو شأن قوله تعالى: “وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى”[10]. فهذا الرّجل هو عند الطّبري “مؤمن آل فرعون، وكان اسمه فـيـما قـيـل: سمعان. وقال بعضهم: بـل كان اسمه شمعون”[11]. وهو عند الزّمخشري “ابن عمّ فرعون”[12]. وهو عند الشّوكاني “حزقيل، وهو مؤمن آل فرعون، وكان ابن عمّ موسى”[13].
ومن اللّطيف أنّ كلمة “رجال” يمكن أن تكون جمعا لرجل، ويمكن أن تكون جمعا ل”راجل” الصّفة المشبّهة الّتي تفيد من يمشي على رجلين. وهذا يرجح في وجود التّقابل مع كلمة: ركبان، كما هو الشّأن في قوله تعالى: “فإن خفتم فرجالا أو ركبانا”[14]، فالطّبري يفسّر الآية بقوله: “فصلّوا رجالا مشاة على أرجلكم…أو ركبانا على ظهور دوابكم”[15]. وهو يرجّح المعنى نفسه للرّجال في قوله تعالى: “وأذّن في النّاس بالحجّ يأتوك رجالا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق”[16]، ويستند في ذلك إلى التّقابل بين من “يأتون البـيت…مشاة علـى أرجلهم” ومن يأتون “ركبانا…على الإبل المهازيل”[17].
الأعمّ الأغلب إذن أنّ كلمة “رجل” تدلّ على الإنسان المذكّر في مقابل المؤنّث أو تدلّ على أعلام مخصوصين من الذّكور أو تدلّ في صيغة الجمع على الرّاجلين في مقابل الرّاكبين. غير أنّ المتأمّل في القرآن يتبيّن أنّه قد تتضافر على كلمة “رجل” دلالات التزاميّة أخرى. وقد وجدنا أنّ هذه الدّلالات ثلاث سنحاول النّظر فيها وفي أبعادها:
+ كلمة “رجل” محيلة على الإنسان
يضرب القرآن الأمثال أكثر من مرّة بحكاية “رجلين”، وقد ظهرا منفصلين رجلا ورجلا في قوله تعالى: “ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان…”[18]، واعتمد القرآن صيغة المثنّى مرّتين، مرّة في قوله تعالى: “واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنّتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا”[19]، ومرّة في قوله عزّ وجلّ: “وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء…”[20]. والرّجلان المذكوران هما شخصيّتان لمجرّد التّمثيل وهدف استحضارهما العبرة، ولم يكن الأمر ليتغيّر لو ضُرب المثل بامرأتين، وهو ما يرجّح أنّ كلمة “رجل” هنا تحيل على شخص مّا وتفيد الإنسان عامّة. ولكنّ الأمر يختلف إذ يضرب القرآن المثالَ بامرأتين. صحيح أنّه تمّت المحافظة على المثنّى فقد ضرب الله مثلا للّذين كفروا بامرأة نوح وامرأة لوط، وضرب مثلا للّذين آمنوا بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران[21]. ولكنّ السّياق لا يسمح بأن يعاوض النّساء الأربع الممثّل بهنّ برجال أربعة.
وليس هذا المثال وحده ما يثبت لنا أنّ كلمة “رجل” تحيل في القرآن على الإنسان. فاللّه تعالى يقول مخاطبا قوم لوط: “أليس منكم رجل رشيد؟”[22]. ولئن كان الرّجل الرّشيد قابلا لأن يُحمل على معنى الذّكورة وحدها إذ النّساء قد يكنّ “ناقصات عقل”، فلا نتصوّر أنّ الله تعالى يعيب في سورة الجنّ على رجال الإنس أن يعوذوا برجال الجنّ ويرحّب بذلك إن كنّ من نساء الإنس[23]، ولا نتصوّر أنّ القرآن يشيد بالرّجال الّذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ويقبل ذلك إذا كنّ من النّساء[24]. صحيح أنّ الرّازي طرح سؤال: “لم خص الرّجال بالذكر؟” وأجاب عنه ب”أنّ النّساء لسن من أهل التّجارات أو الجماعات”[25]. وقد حاول ابن عاشور من جهته أن يوجد تفسيرا للاقتصار على ذكر الرّجال، فقال: “وتخصيص التّسبيح بالرّجال على هذا لأنّهم الغالب على المساجد كما في الحديث : “. . . ورجلٌ قلبه معلّق بالمساجد”.
على أنّ هذا الضّرب من التّفاسير مشكل، إذ المفروض أنّ القرآن يتّجه إلى المؤمنين والمؤمنات جميعا في كلّ زمان ومكان، فإذا قرأنا الرّجال بمعنى الذّكور، فهل تبيح الآية لامرأة أعمال اليوم بأن تستند إلى القرآن لتمتنع عن التّسبيح لله أو لتبجّل نشاطها التّجاريّ على ذكر الله؟
الأرجح أنّ القرآن يعمِد إلى كلمة “رجل” بمعنى إنسان. وليس هذا غريبا عن استعمالات القرون الوسطى حيث يعدّ المخيال الجمعيّ الرّجل طرازا للإنسان. إنّ الطّراز يفيد وفق عالم الدّلالة كليبير (Kleiber) المقولة الأكثر تمثيلا للمجموعة[26]، والمرأة كما الطّفل ما كانتا مقولتين مستقلّتين، إن هما إلاّ تابعان للذّكر البالغ. وهذا ما تؤكّده الاستعمالات اللّغويّة الّتي تجعل الخطاب بصيغة الذّكور وإن اتّجه إلى ألف امرأة وذكر واحد، وهذا ما تجسّم في القرآن الّذي لم يخاطب مجموعة النّساء قطّ، فهو مثلا يقول: “ولا تَنكحوا المشركات” مخاطبا الرّجال فيما يخصّهم، ويقول: “ولا تُنكحوا النّساء” مخاطبا الرّجال أيضا فيما يخصّ النّساء. في سياق آخر يقول: “ولكم نصف ما ترك أزواجكم”[27] مخاطبا الرّجال، أمّا النّساء فيخبر الرّجال في شأنهنّ معتمدا ضمير الغائب: “…ولهنّ الرّبع ممّا تركتم…”[28].
ولم يخاطب القرآن النّساء إلاّ في قوله: “يا مريم اقنتي لربّك…”[29] أو في قوله: “يا نساء النّبيّ”، وهذا ما يرجّح قراءتنا. ف”مريم” ليست مجموعة النّساء، وإنّما هي فرد متميّز عن سائر النّساء، لها درجة مخصوصة ارتقت بها من المخبَر عنه إلى المخاطب. وكذا شأن نساء النّبيّ اللّواتي يختلفن عن باقي النّساء بصريح الكلام: “يا نساء النّبيّ لستنّ كأحد من النّساء إن اتّقيتنّ…”[30].
إنّ اعتماد كلمة “رجل” في القرآن لِلإحالة على الذّكور والإناث هو تقليد لغويّ شائع في القرون الوسطى، وهو يكشف عن تصوّر تراتبيّ معياريّ يجعل الرّجل في أعلى درجة الإنسانيّة ويجعل المرأة مجرّد موضوع تابع له. وليس غريبا أن يجنح القرآن إلى استعمالات لغويّة تلائم سياقه التّاريخيّ. فهو مثلما يتوجّه إلى العالمين جميعا توجّه أيضا إلى مجتمع مخصوص له أسس ثقافيّة ومخيال جمعيّ، ولا يمكن أن يعتمد مقولات لا يمكن التّفكير فيها في “إبستميّة” مخصوصة (épistémè)[31] بعبارة الفيلسوف فوكو.
وهذا ما يتجسّم في لغات أخرى شأن اللّغة الفرنسيّة الّتي تستعمل نفس الكلمة للإحالة على رجل وعلى إنسان وهي كلمة: “homme” ولا يُميّز بين اللّفظين إلاّ بحرف التّاج “majuscule” للدّلالة على الإنسان[32].
ورغم هذا كلّه، فقد وجدنا القرآن يعتمد المذكّر والمؤنّث كليهما في بعض الآيات: “إنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصّادقين والصّادقات والصّابرين والصّابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدّقين والمتصدّقات والصّائمين والصّائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذّاكرين الله كثيرا والذّاكرات أعدّ الله لهم مغفرة وأجرا عظيما”[33]. وقد كان ذلك نتيجة احتجاج النّساء على “إقصائهنّ”. فقد ورد في كتب التّراث أنّ “أمّ سلـمة قالت:… يا رسول الله، أيُذكر الرجال فـي كلّ شيء، ولا نُذكر؟”[34]، فنزلت هذه الآية. صحيح أنّها آية لا تخاطب النّساء، ولكنّ الإخبار عنهنّ وذكرهنّ في وسم معجميّ صريح يعدّ من الثّورات اللّغويّة زمنها.
+ كلمة رجل محيلة على الفعل والحركة
من الواضح وجود اتّصال اشتقاقيّ بين كلمة: “رَجُل” والعضو الجسديّ: “رِجْل”. وهو ما يؤكّده قول ابن منظور: “كلّ رجل تكلّم ومشى على رجلين، فهو رجل”[35]. ولا عجب حينئذ أن يكون المعنى الالتزاميّ لكلمة “رجل” ذا صلة بالحركة وبالفعل، فالمشي فعل وحركة.
ويرى ابن عربي أنّ “الرّجل لا يكون محمولا والرّاكب محمول”[36]. فالرّجل هو ذاك الّذي يسعى بنفسه ويبذل جهده من أجل القيام بالأشياء، وبعبارة أخرى، فالرّجل هو الّذي يتّصف بالحركة. ف” لمّا كان الوجود مبدأه على الحركة لم يتمكّن أن يكون فيه سكون لأنّه لو سكن لعاد إلى أصله وهو العدم”[37]. وهذه الحركة هي في المنظور الدّينيّ سعي نحو الله تعالى. فالرّجال المذكورون في سورة النّور يسبّحون لله تعالى بالغدوّ والآصال في حركة مستمرّة لا تني ولا تتوقّف[38]. وهم يحبّون أن يتطهّروا وكلمة “يحبّون” هي “كناية عن عمل الشّيء المحبوب لأنّ الّذي يحبّ شيئاً ممكناً يعمله لا محالة”[39]. إنّ ابن عاشور يصرّح هنا بأبرز سمات الرّجولة بما هي عمل، ويؤكّد ابن عربي أنّها سعي إذ يجعل هؤلاء الرّجال “أهل إرادة وسعي في التّطهّر عن الذّنوب”[40]، والسّعي عمل. ويضمر ابن عطاء أنّ الرّجولة حركة إذ يتحدّث عن الوفود، فيعتبرهم “رجالاً استخلصناهم للوفود علينا فليس يصلح لكلّ أحد أن يكون وفدًا إلى سيّده”[41].
بهذا المعنى تكون الرّجولة كلّ فعل أو حركة يقوم بها الإنسان في سعيه نحو لقاء الله تعالى. ف”ما أراد بالرّجال في هذه الآيات الذّكران خاصّة وإنّما أراد هذا الصّنف الإنسانيّ ذكرا كان أو أنثى”[42]. ولا عجب أن تتكرّر في القرآن عبارة “جاء رجل يسعى”[43]. وهي جملة يتضاعف فيها معنى الحركة من خلال فعل “جاء” الّذي يفيد الإتيان، ومن خلال فعل “يسعى” الّذي يفيد “العدو دون الشّدّ”[44].
+ كلمة رجل محيلة على “الإنسان الكامل”
يقول ابن منظور: “قد يكون الرّجل صفةً يعني بذلك الشّدّة والكمال”[45]. والكمال المقصود من كلمة “رجل” في القرآن هو كمال روحانيّ. فلا شكّ أنّ جميع البشر مستَوْلٍ عليهم النّقص، والكمال الرّوحانيّ ليس مقصودا به خروج الإنسان من مرتبته البشريّة إلى المرتبة الملائكيّة، وإنّما المقصود به اكتمال المعرفة بالله. لنفهم معنى الكمال الرّوحاني يجب أن نعود إلى مفهوم الإنسان الكامل عند ابن عربي، وهو ذاك الّذي يكون “بوجوده وكمال صورته غنيّ(ا) عن الّدلالة عليه لأنّ وجوده عيْن دلالته على نفسه”[46]. إنّه من بلغ درجة من التّرقّي الرّوحانيّ تجعله يستحضر الله في كلّ لحظة ولا يغفل عن جوهره الألوهيّ البتّة. صحيح أنّه مثل سائر البشر “يتقلّب في أحواله وخواطره وأفعاله وأسراره كلها في صور مختلفة”[47]، وهذا ما يُذكّر بمعنى الحركة، ولكنّه مع هذا التّقليب والتحوّل تشدّه وحدةٌ ثابتة هي وحدة حضرة الذّات الإلهيّة الّتي لا تتبدّل ولا تتغيّر. إنّ الإنسان الكامل هو من الرّجال الّذين “لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله”، وليست التّجارة والبيع هنا سوى تخصيصين بنشاط شائع، أمّا دلالتهما فعامّة شاملة. والمقصود أنّه لا يشغل الرّجلَ/الإنسانَ الكامل أيُّ شيء عن “غاية الاستغراق في مقام الشّهود”[48]. وهذا ما جعل عبد القادر الجيلاني يصفهم بأنّهم: “رجال مؤمنون كاملون في الإيمان”[49].
إقرأ أيضا: الجنس في الجنّة بين الحقيقة والمجاز
وليس غريبا والحال تلك أن يكون “الرّجل” أو الإنسان الكامل هو ذاك الّذي صدق ما عاهد الله عليه: “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا”[50]. ويحيل هذا العهد على الميثاق الأوّل المذكور في سورة المائدة: “وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين”[51]. فمن يتذكّر عهد الله لا ينسى لحظة أنّه عابد وأنّ الله هو المعبود: (“ألست بربّكم؟”). وحينها تذوب الإرادة الفرديّة في الإرادة المطلقة ذوبانا تامّا، فلا تبقى سوى الإرادة الإلهيّة. وهذا ما عبّر عنه السّلمي بقوله: “هو أن يترك الصّادق إرادته لإرادة الله واختياره لاختياره ومحابّه لمحابّه وتدبيره لتدبيره حتى يرى من قلبه ونفسه وجميع جوارحه أنه لا يريد إلاّ ما أراد الله يصحّ ذلك قوله: “رجال صدقوا ما عاهدوا ٱللّه عليه””[52].
ولعلّ الآية تجمع بين المعنيين الثّاني والثّالث لكلمة رجل. فهي تميّز بين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وقضوْا نحبهم، وبين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وما زالوا ينتظرون قضاء نحبهم. وإذا فهمنا قضاء النّحب بمعنى قضاء النّذر، انتهينا إلى أنّ صنفي الرّجال كلاهما صادق، لكنّ صنفا ما زال يعمل ويتحرّك ويسعى نحو تحقيق ما أقامه مع الله تعالى من عهد العبادة المطلقة، والصّنف الثّاني قد نجح في تحقيق ذلك و”فرغ من العمل الذي كان نذره الله وأوجبه له علـى نفسه”[53].
وهكذا يكون استعمال كلمة “رجل” حاملا معنى التّشريف والتّقدير بمعزل عن أيّ مرجعيّة بيولوجيّة. وهو ما يثبته ابن عربي: “رجال أيّ رجال، ما أعظم قدرهم”[54]، وما يتجلّى لدى القشيري: “وسمّاهم رجالاً إثباتاً لخصوصية رتبتهم وتمييزاً لهم من بين أشكالهم بعلوّ الحالة والمنزلة”[55]، وما يؤكّده ابن عاشور: “والإخبار عنهم برجال زيادة في الثّناء لأنّ الرّجل مشتقّ من الرّجْل وهي قوة اعتماد الإنسان كما اشتق الأيد من اليد”[56].
الخلاصة:
انتهينا إلى أنّ كلمة “رجل” في القرآن تزخر بالمعاني الالتزاميّة الممكنة، وبيّنّا أنّها قد تدلّ على الإنسان عموما أوّلا وعلى الإنسان السّائر على طريق المعرفة الرّوحانيّة ثانيا وعلى الإنسان الّذي بلغ منتهى التّجربة ثالثا. والوعي بهذه الإمكانات الدّلاليّة يفتح باب قراءات جديدة للقرآن نتبسّط فيها في مقالات قادمة. ولعلّ بعضها قراءات “ثوريّة” تسائل المخيال الجمعيّ، وهو ما كان ابن عربي سبّاقا إليه إذ لم يقل بقوامة الذّكور على الإناث، وإنّما بقوامة الأفراد الواصلين على النّاقصين القاصرين عن الوصول[57]. وهذا ما قد يجعل درجة الرّجال على النّساء هي درجة العارفين على غير العارفين، فالله تعالى “وصف الله العارفين بالرجولية”[58]، واختار أن ينعت أصحاب الأعراف ب”الرّجال” لأنّهم بعلوّ همّتهم ترقّوا عن حضيض البشرية ودركات النيران وصعدوا على ذروة الرّوحانيّة ودرجات الجنان”[59]. والمهمّ أنّ اعتبار الرّجولة سمة إنسانيّة وسلوكيّة وروحانيّة تدخل اضطرابا كبيرا على المقاربات الفقهيّة “المجندرة” كما سنرى[60].
المراجع:
[1] لسان العرب لابن منظور: باب اللاّم، فصل الرّاء.
[2] النّساء، 1.
[3] الأعراف، 81.
[4] البقرة، 282.
[5] النّساء، 7
[6] الأعراف، 63.
[7] الأعراف، 69.
[8] المؤمنون، 38
[9] سبأ، 7.
[10] القصص، 20.
[11] أبو جرير الطّبري، جامع البيان في تفسير القرآن، تفسير الآية 20 من سورة القصص.
[12] جار الله الزّمخشري، الكشّاف عن حقائق التّنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التّأويل ، تفسير الآية 20 من سورة القصص.
[13] محمّد بن عليّ الشّوكاني، فتح القدير، تفسير الآية 20 من سورة القصص.
[14] البقرة، 239.
[15] جامع البيان، تفسير الآية 239 من سورة البقرة.
[16] الحجّ، 27.
[17] جامع البيان، تفسير سورة الحجّ، 27.
[18] الزّمر، 29.
[19] الكهف، 32.
[20] النّحل، 76.
[21] “ضرب الله مثلا للّذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النّار مع الدّاخلين- وضرب الله مثلا للّذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت ربّ ابن لي عندك بيتا في الجنّة ونجّني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظّالمين-ومريم ابنة عمران الّتي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا”، التّحريم، 10-11-12.
[22] هود، 78.
[23] “وأنّه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجنّ فزادوهم رهقا” الجنّ، 6.
[24] في إحالة على قوله تعالى: “في بيوت أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه يسبّح له فيها بالغدوّ والآصال-رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة…” النّور، 36-37.
[25] فخر الدين الرّازي:مفاتيح الغيب، تفسير الآيتين 36 و37 من سورة النّور.
[26] راجع: Georges Kleiber : La sémantique du prototype, Paris, Puf 1990
[27] النّساء، 12.
[28] السّابق.
[29] آل عمران، 43.
[30] الأحزاب، 32.
[31] المصطلح للفيلسوف الفرنسيّ فوكو (Foucault)، ويشير إلى القواعد الذّهنيّة الّتي تحكم معارف مّا في سياق ثقافيّ وتاريخيّ مخصوص.
[32] قد يعمد القرآن إلى كلمة: “إنسان” شأن قوله تعالى: “وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى” النّجم، 39.
[33] الأحزاب، 35.
[34] تفسير “جامع البيان” للآية 35 من سورة الأحزاب.
[35] لسان العرب، جذر “ر،ج، ل”.
[36] محي الدّين بن عربي، ابن عربي، الفتوحات المكّيّة، بيروت، دار صادر (د-ت)، ج4، ص10.
[37] محي الدّين بن عربي، كتاب الإسفار عن نتائج الأسفار، تونس، سراس للنّشر 1999، ص5.
[38] “…يسبّح له فيها بالغدوّ والآصال-رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله…” النّور، 36-37.
[39] محمّد الطّاهر ابن عاشور: تفسير التّحرير والتّنوير، تفسير الآية 108 من سورة التّوبة.
[40] تفسير ابن عربي للآية 108 من سورة التّوبة.
[41] أبو الرّحمان السّلمي، حقائق التّفسير، تفسير الآية 27 سورة الحجّ.
[42] الفتوحات المكّيّة، ج4، ص10.
[43] القصص، 20 ويس، 20.
[44] لسان العرب لابن منظور، جذر: “ر،ج،ل”.
[45] السّابق.
[46] الفتوحات ج3، ص282.
[47] السّابق.
[48] إسماعيل حقّي، روح البيان في تفسير القرآن، تفسير الآية 37 من سورة النّور.
[49] تفسير عبد القادر الجيلاني للآية 108 من سورة التّوبة.
[50] الأحزاب، 23.
[51] الأعراف، 172.
[52] حقائق التّفسير، تفسير الآية 23 من سورة الأحزاب.
[53] جامع البيان، تفسير الآية 23 من سورة الأحزاب.
[54] ابن عربي، تفسير الآية 23 من سورة الأحزاب.
[55] تفسير القشيري في “لطائف الإشارات” للآية 23 من سورة الأحزاب. ومعنى الارتفاع موجود في معجم ابن فارس أيضا: “فأمّا قولهم: ترجّل النهار، إذا ارتفع، فهو من الباب الأوّل، كأنه استعارة، أي إنّه قام على رجله”.
[56] التّحرير والتّنوير، تفسير الآية 23 من سورة الأحزاب.
[57] تفسير ابن عربي للآية 34 من سورة النّساء.
[58] البقلي، عرائس البيان في حقائق القرآن، تفسير الآية 37 من سورة النّور.
[59] أحمد بن عمر، التّأويلات النّجمية في التّفسير الإشاريّ الصّوفيّ، تفسير الآية 46 من سورة الأعراف.
[60] تحيل عبارة الاضطراب في الجندر على كتاب:
Judith Butler, Trouble dans le genre, le féminisme et la subversion de l’identité, Paris, La découverte 2008.
و”مجندرة” هي ترجمة ل “genré”، وتعني توزيع الأدوار وفق الأجناس البيولوجيّة والجماعيّة السّائدة في ثقافة مّا.