تكوين
بعد مرحلة التأسيس -التنظير للإسلام السياسي- من كبار مؤسِسِيه (البنا/المودودي/قطب) سوف يشهد الفكر السلفي تطورًا ملحوظًا مع توالي الظروف التاريخية التي مرت بها المنطقة، إذ سوف يتحول من تنظير فكري إلى ممارسة واقعية سواء تمثلت في قيام الدول الدينية (إيران نموذجًا)، أو ظهور تيارات تستعمل العنف المادي من أجل التغيير وهو الذي عبرت عنه “السلفية الجهادية“.
فقد انتهى المطاف بأفكار “المودودي” و“سيد قطب” إلى فتح باب التشريع للقتال واستخدام العنف في الداخل الإسلامي، فقد اكتسبت نظريتهما عن الحاكمية مضمونًا تكفيريًا حادًا، فاعتنقت معظم التيارات الإسلامية الحركية مفهومهما للمجتمع الجاهلي والحاكمية الإلهية، وأضافت عليها وعمَّقت أبعادها وأكسبتها طابعًا “جهاديًا”.
-فكانت هناك مقولات “أبو الأعلى المودودي” التي حكمت بالجاهلية على الحضارة العربية الإسلامية منذ السنوات الأخيرة لحكم الراشد الثالث عثمان بن عفان نحو قوله:
“إن الجاهلية قد وجدت سبيلها إلى النظام الاجتماعي الإسلامي، منذ السنوات الأخيرة لعهد عثمان بن عفان“، “وإن الحكم والسلطة قد قاما على قواعد الجاهلية بدلًا من قواعد الإسلام منذ تحول الخلافة عن منهاج النبوة إلى الملك العضوض”([1]).
وكانت هناك -لدى شباب العنف- تلك الأحكام التي انتهى إليها “سيد قطب” التي قطع فيها:
“بأن وجود الأمة الإسلامية قد انقطع منذ انقطاع الحكم بالشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعًا… ولذلك فالمسألة في حقيقتها هي مسألة كفر وإيمان، مسألة شرك وتوحيد، مسألة جاهلية وإسلام، وهذا ما ينبغي أن يكون واضحًا”([2]).
وأمام هذه الأحكام التي حكمت على الحضارة والتاريخ والثقافة والمدنية بالجاهلية، وعلى الأمة والإسلام بالانقطاع منذ قرون، لم يكن لدى الشباب الذي استند إليها ليصوغ “نظرية العنف في التغيير”، لا القدرة ولا الجرأة على اتخاذ موقف نقدي من هذه الأحكام([3]).
إيران “الخميني” وقيام الدولة الإسلامية:
وصل تراجع السلفية الإصلاحية إلى قمته مع قيام الثورة الإيرانية عام 1979 التي أتت إلى السلطة بنظام يُسيطر عليه رجال الدين الشيعة، يرتكز على إيديولوجية أصولية رجعية تخلط بين القومية الفارسية وبعض المفاهيم الشيعية.
تأثر الإسلام السياسي في إيران “بحسن البنا وسيد قطب والمودودي” وغيرهم فتلاقت المفاهيم الأيديولوجية والأفكار والمرجعيات عند الإسلام السياسي -السني والشيعي- رغم اختلاف مذاهبه، كما انعكست الثورة الإيرانية 1979 على نهج ومسارات جماعات الإسلام السياسي السنية في المنطقة، ويمتلك الطرفان المواقف والتصورات السياسية عينها تجاه العلاقة مع الغرب، والمقاربة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وكلاهما يلتقي في محورية البُعد الديني والخطابي والموقف من الدولة الحديثة([4]).
الحكومة الإلهية وولاية الفقيه:
في منتصف القرن العشرين كان نظام الشاه “محمد رضا بهلوي” يتمتع بعلاقات وثيقة مع الغرب، خاصة الولايات المتحدة، فقد كان يُنظر إليه بوصفه حليف استراتيجي للغرب في مواجهة النفوذ السوفيتي في المنطقة، وقد شهدت تلك الفترة معارضة متزايدة للنظام الملكي داخل إيران، خاصة بين الفئات الدينية والشعبية التي رأت أن الشاه يدفع البلاد نحو التغريب على حساب القيم الإسلامية.
ففي أوائل الستينيات من القرن الماضي، عَلَّقَ الشاه عمل البرلمان وأطلق برنامج تحديث عُرف باسم الثورة البيضاء، التي تضمنت تحرير المرأة والسماح لها بحق الانتخاب وتقليص التعليم الديني وقانون الإصلاح الزراعي الذي أزعج الطبقة الأرستقراطية.
أدى تنفيذ هذه السياسات بطريق خاص إلى تقليص نفوذ الطبقة الدينية القوية، كما أثَّر أيضاً على الحياة والمجتمع الإيراني على نطاق واسع، فقد أضرت تلك السياسات بالاقتصادات الريفية، وأدت إلى سرعة التغير الثقافي والتغريب، وقلبت المعايير والقيم الاجتماعية التقليدية، وأثارت المخاوف بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومن ثم وحَّدت المعارضة للحكومة رجالَ الدين المحافظين واليسار العلماني وغيرهم من الذين وجدوا أرضية مشتركة تحت راية الهُوية الشيعية.
في هذا السياق برز “الخميني” بوصفه واحدًا من أبرز المعارضين لنظام الشاه، وبدأ بنقد السياسات الاقتصادية والاجتماعية للشاه، وخاصة الإصلاحات المتعلقة بتوزيع الأراضي التي عدها تقويضًا للقيم الإسلامية وحقوق العلماء، إذ قال “إن الشاه هو يزيدُ العصر، الحاكم الظالم”، وكان كل شيعي يعلم ويُدرك أن يزيدًا كان قد أسقط الحُسين الإمام الثالث للشيعة وقتله. فكان “الشاه يجب أن يرحل”، أحد مطالب الخُميني غير القابلة للمساومة.
فكان “الخميني” من أقسى منتقدي “محمد رضا بهلوي”، فكان أكثر ما يُنكره عليه قوانينه غير الإسلامية، والمتشبه على نحوٍ متزايد بالغرب. وقد أكسبته معارضته الصريحة هذه، وإداناته للتأثيرات الغربية، ودفاعه الدؤوب عن “النقاء الإسلامي” شعبية كبيرة في إيران([5])، إلى أن قامت الثورة الإسلامية، فتحول مصطلح “الخلافة الإسلامية” إلى “الدولة الإسلامية”، وتحول مبدأ “الحاكمية” -تماثلًا وتماهيًا- إلى مبدأ “ولاية الفقيه”.
يبدأ “الخميني” إرساء القواعد المُوجبة لتأسيس دولة إسلامية بحكومة إسلامية بقيادة الوالي/الفقيه، من منظور “عالمية الإسلام” -الأساس السياسي الذي ينطلق منه معظم الحركات والتيارات الإسلامية- فالإسلام نظام سياسي نموذجي كامل، له أسس ثقافية وهياكل قانونية وقواعد اقتصادية، تجعله قادرًا على الاستجابة لكافة المشكلات التي تواجه الإنسانية، وتقدم حلولًا وافية لها، ويُعبر الخُميني عن ذلك بقوله:
“إن كل من يلقى نظرة ولو عابرة على أحكام الإسلام وشموليتها لجميع شئون المجتمع، وعلى العبادات التي هي تكليف بين العباد وخالقهم مثل: الصلاة والحج -رغم أن هاتين العبادتين تتسمان بأبعاد اجتماعية وسياسية مرتبطة بالحياة الدنيوية- وعلى قوانينه الحقوقية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، سيرى أن الإسلام ليس بأحكام عبادية وأخلاقية صرفة… لقد جاء الإسلام ليُقيم الحكومة العادلة التي فيها بيت المال والقوانين الخاصة بالضرائب والعقوبات والقضاء والحقوق والجهاد والدفاع والمعاهدات التي تُعقد بين الدول الإسلامية والدول الأخرى”([6]).
فالإسلام وَفق “الخميني” أسَسَّ حكومةً لا على نهج الاستبداد المحكم فيه رأي الفرد، وميوله النفسانية على المجتمع، ولا على نهج الجمهورية المؤسسة على القوانين البشرية التي تفترض تحكيم آراء جماعة من البشر على المجتمع، بل حكومة تستوحي وتستمد في جميع مجالاتها من القانون الإلهي، وليس لأحد من الولاة الاستبداد برأيه، بل جميع ما يجري في الحكومة وشئونها ولوازمها لا بُد وأن يكون طِبق القانون الإلهي حتى الطاعة لولاة الأمر.
وتأسيسًا على ذلك يُعد مفهوم “ولاية الفقيه” “الترجمة الشيعية للفكرة الإسلاموية التي تقول إنه لا وجود لمجتمع إسلامي دون دولة إسلامية، فالدولة ينبغي أن تكون في جوهرها إسلامية، وخلافًا للسنّة يملك الشيعة مؤسسة تستطيع أن تُحدِّد من هو الأعلم ومن هو أفضل المسلمين ومن هو المرشد، وبما أن لدى الشيعة سلطة دينية عُليا، فإن على هذه السلطة أن تُمسك بزمام شئون الدولة العُليا، فالمرشد أو القائد مرتبته تفوق كافة المؤسسات، لأنه ليس أقل من ممثَّل الإمام الغائب”([7]).
بدأت “ولاية الفقيه” بفكرة تقاسم السلطة بين الحاكم والفقيه، وكان “أبو الحسن علي الكركي“، المتوفى عام 940 هجرية أول من مارس بعضًا من الصلاحيات التي كانت في السابق من خصائص الأئمة المعصومين وحدهم، وبدأ معه الفكر السياسي الشيعي في الانعتاق من فكرة الانتظار في زمن الغيبة، طبقًا لما ذُكر في كتاب “المباني الفقهية والبعد التاريخي لولاية الفقيه عند المحقق الكركي“، لعبير شمص.
الخطوة الكبيرة التالية في سياق البناء النظري لفكرة ولاية الفقيه سيخطها الفقيه والأصولي الإمامي “أحمد النراقي” المتوفى عام 1244 هجرية، إذ سوف يُخصص أعمالًا كاملة للحديث عن ولاية الفقيه تحت الاسم نفسه، وسوف يكون أول فقيه شيعي يبحث جوانب الولاية ويحشد ما يعدهُ أدلةً عقليةً ونقليةً على وجوب تصدي الفقيه لشئون السلطة والحكم نيابة عن الإمام الغائب، فالنراقي طور نظرية ولاية الفقيه من إجازة الملوك وتقاسم السلطة معهم كما هو الحال مع الكركي، إلى اطلاع الفقيه بنفسه بشئون الحكم وممارسة صلاحيات الإمام الغائب، وتوسع في شرح أفكاره عن الإمام والولاية في كتابه الأهم “عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام“([8]).
سوف تتطور نظرية “ولاية الفقيه” مع “الخميني” الذي سيعمل على استكمال صياغتها النظرية، وترميم أبعادها العقدية والسياسية، لتصبح نظامًا سياسيًا مكتملَ الأركان، تؤول السلطة المطلقة فيه إلى الفقيه، وتجتمع الصلاحيات كلها في يده، فسلطته المطلقة مستمدة من الله، فأثبت للفقيه كل ما هو للنبي والأئمة، فيقول: “فللفقيه العادل جميع ما للرسول والأئمة عليهم السلام مما يرجع إلى الحكومة والسياسة، لأن الوالي هو مجرى أحكام الشريعة والمُقيم للحدود الإلهية والآخذ للخراج وسائر الماليات والمُتصرف فيها بما هو صلاح المسلمين، فالنبي (ص) يضرب الزاني مئة جلدة، والإمام عليه السلام كذلك والفقيه كذلك ويأخذون الصدقات بمنوال واحد، ومع اقتضاء المصالح يأمرون الناس بالأوامر التي للوالي، ويجب إطاعتهم”([9]). “وأن الفقهاء هم ورثة الأنبياء وأمناء الرسل، ولم يرثوا العلم والحديث فقط كما هو ظاهر الروايات، فالولاية قابلة للانتقال والتوريث أيضًا”([10]).
وتتجلَّى صلاحيات الولي الفقيه -وفق الخميني– في الرسالة التي بعث بها في 31 ديسمبر/كانون الأول 1988م إلى الإمام خامنئي الذي كان رئيساً للجمهورية آنذاك، وفيها صورة لولاية الفقيه المطلقة وإطارها المرجعي كما يراه الإمام الخُميني فيقول: “كان يبدو من حديثكم -أي الإمام خامنئي– في صلاة الجمعة ويظهر أنكم لا تؤمنون أن الحكومة التي تعني الولاية المُخولة من الله إلى النبي الأكرم (ص) مقدمة على جميع الأحكام الفرعية… ولو كانت صلاحيات الحكومة (أي ولاية الفقيه) محصورة في إطار الأحكام الفرعية الإلهية لوجب أن تُلغى أطروحة الحكومة الإلهية والولاية المطلقة المُفوضة إلى نبي الإسلام (ص) وأن تصبح بلا معنى… ولا بُد أن أوضح أن الحكومة شعبة من ولاية رسول الله (ص) المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام، ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج… وتستطيع الحكومة (ولاية الفقيه) أن تلغي من طرف واحد الاتفاقات الشرعية التي تعقدها مع الشعب إذا رأتها مخالفة لمصالح البلد والإسلام… إن الحكومة تستطيع أن تمنع مؤقتا في ظروف التناقض مع مصالح البلد الإسلامي إذا رأت ذلك، أن تمنع من الحج الذي يُعدُّ من الفرائض المهمة الإلهية. وما قيل حتى الآن وما قد يقال ناشئٌ من عدم معرفة الولاية المطلقة الإلهية”([11]).
وبهذا المعنى فقد جعل “الخميني” “ولاية الفقيه” شُعبة من ولاية الرسول (ص) المُطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام، ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج، وعلى هذا النحو فالوالي الفقيه مُعين من الله عز وجل، وليس مُختارًا من الناس، وبناء عليه فهو لا يستمد شرعيته من الشعب، بل ممن ولَّاه منصبه وهو الله.
ولمبدأ إلهية الحكومة تنظيرات عديدة في مقولات الخميني، فالحكومة الإسلامية بقيادة الولي الفقيه هي وفق قوله: “حكومة القانون الإلهي على الناس” وأن “جميع ما يجري في الحكومة وشئونها ولوازمها لا بُد أن يكون طبق القانون الإلهي، حتى الطاعة لولاة الأمر”([12]).
ومن مقتضيات القول بإلهية منصب الولي الفقيه، تهميش الشعب عن أي دور سياسي، فلا يتدخل أفراد الشعب -المولَّى عليهم- في إضفاء المشروعية على الحكومة فالحقل العام ليس من شأن الشعب، ولا يعد من أمر الناس كي يجري تسليم زمامه إليهم والحصول على رضاهم فيه، بل هو داخل في أمر الله، فهي منطقة يجب على الشارع أن يتولى هو طريقة إدارتها وتدبير أمرها. وقد ترك الشارع أمر هذه المنطقة إلى الفقهاء، فالقائد هو ولي أمر الناس، وليس وكيلًا من قِبَلهم، وعلى هذا الأساس لا يُعتد بأي قانون من دون تصديق الولي الفقيه أو المنصَّبين من قِبله، كما أن المسئول حتى وإن كان مُنتخبًا من جميع أفراد الشعب لا يمكن له أن يحصل على الشرعية دون التصديق عليه وإقراره من ولي الأمر/الوالي الفقيه([13]).
وانطلاقًا من ذلك فقد وَسَّعَ “الخميني” من صلاحية “الولي الفقيه” بوصفه وريثًا للنص الذي يحدد عين الإمام المعصوم في الإمامة الإلهية، فينحصر الحكم فعليًا في الفقهاء، ويُمنع عمن سواهم. وبهذا تُحولهم إلى طبقة مُستفيدة من الحكم خاصة وأن الولي الفقيه فوق الدستور، وبهذا المعنى يقترب من الحكم الثيوقراطي الذي يحكم فيه الفقيه باسم الإله، ومن ثم إلغاء الدور السياسي للأمة، فهي تتعامل مع فقهيه نصَّبهُ الله، فلا يمكنها الاعتراض أو انتقاد سياسته([14])، فالفقهاء وفق قول “الخميني” هم “حصون الإسلام” و”أمناء الرسل” و”حجج الله على العباد“([15]).
وعلى هذا النحو فقد ساعد الخُميني باستخدام نظرية “ولاية الفقيه“، على ترسيخ فكرة الاستبداد السياسي/الديني الذي وللمفارقة كانت مناهضته من أهم ما روج إليه مفكري النهضة، وكان الكواكبي والأفغاني في طليعة الناقدين الذين عدَّا الاستبداد والحكم المطلق معارضًا للشريعة الإسلامية والعقل، مُقرين بأن تخلف المسلمين في مطلع القرن التاسع عشر عِلَّته السلطة الاستبدادية، ورأيا أن الحل يكمن في سَنِّ سلطات الدستور الذي يحدد صلاحيات الحاكم، ويشرك الشعب في السلطة.
العلاقة مع الغرب:
كان شعار “الخميني” الذي أعلنه تلقائيًا بعد إقامة الجمهورية الإسلامية عام 1979 هو “لا شرق ولا غرب، بل الإسلام وحده“، وقد قادت إيران تحت زعامة الخُميني سياسة خارجية مُعادية للغرب، خاصة الولايات المتحدة التي أُطلق عليها لقب “الشيطان الأكبر“.
وقد تجلَّى هذا الشعور المناهض للغرب في استيلاء مجموعة من المحتجين الإيرانيين على 66 رهينة في السفارة الأمريكية في نوفمبر عام 1979 مُطالبين بتسليم الشاه، الذي كان في ذلك الوقت يخضع للعلاج الطبي في الولايات المتحدة، ومن طريق الاستيلاء على السفارة، أصبح بوسع أنصار الخُميني أن يزعموا أنهم “مناهضون للإمبريالية”، وهذا منحهم في نهاية المطاف القدرة على قمع أغلب معارضي النظام من اليساريين والمعتدلين.
كان التغريب هو المسألة الأهم من وجهة نظر المفكرين الإيرانيين، وكانت الشعارات الرئيسة في إيران في ستينيات القرن العشرين هي مثل: “داء الغرب” أو “الابتلاء بالغرب” أو “التسمم بالغرب”، كان هذا كذلك الموضوع المحوري لدى عالم الاجتماع “عليّ شريعتي” (1923-1977) الذي سوف يُصبح العقل المدبر للثورة من الناحية الأيديولوجية، أصدر شريعتي مجلة باللغة الفارسية باسم “إيران الحرة” لتعطي الطلاب الإيرانيين منبرًا للإعلان عن احتجاجهم، كما أنه جاهر بمهاجمة الاستعمار الفرنسي بالجزائر، كان أساس رؤية شريعتي للموقف، أن المجتمعات الإسلامية المعاصرة في حاجة لاستعادة هُويتها الإسلامية، في كفاحها للتحرر من الفساد والركود الداخليين، والسيادة الاقتصادية والتأثير الثقافي الغربيين، فإعادة تأكيد الهُوية هذه ضرورية لأن التبعية الأيديولوجية إنما تُطيل التبعية المادية، والإسلام يضم كل السمات النظرية اللازمة لمنهج راديكالي.
أراد شريعتي أن تعود الدول الإسلامية إلى جذورها، وهو ما سماه النهج الثالث: أي الطريق بين الشيوعية والرأسمالية، وذهب إلى أنه ليكون هذا ممكنًا لا بُد أن يستعيد الإسلام بأسه الثوري الأصلي، ورغم أنه لم يشهد الثورة الإسلامية، فإن تفسيره الأيديولوجي للإسلام قد ضوع الأساس للطليعة الثورية للحركة الإسلامية([16]).
الوَحْدة الإسلامية/الدولة الإسلامية:
لئن اقترنت الدعوة إلى الوَحْدة الإسلامية بين التيارات الإسلامية الإصلاحية منها والرجعية التقليدية، دائمًا بالدعوة إلى الاستقلال وعدم التبعية للاستعمار، فإنها تباينت بشأن ماهيتها، فجاءت الدعوة إلى الوَحْدة الإسلامية من الإصلاحيين بدءًا من الأفغاني وعبده وغيرهم من ماهية عقلانية وطنية قومية تدعو إلى وَحْدَة الشعب كله على اختلاف طوائفه الدينية، في حين جاءت من الأصوليين الرجعيين من ماهية دينية إسلامية بالضرورة فيقول “سيد قطب” في هذا الشأن: “جاء الإسلام ليرفع الإنسان ويخلصه من وشائج الأرض والطين، وشائج اللحم والدم، فلا وطن للمسلم إلا الذي تُقام فيه شريعة الله، ولا جنسية للمسلم إلا عقيدته التي تجعله عضوًا في الأمة المُسلمة في دار السلام”، ويضيف أن المجتمع الإسلامي يقوم “على أساس العقيدة وحدها دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة والحدود الإقليمية السخيفة”([17]).
فجاء التضامن أو (الإخاء) بين المسلمين -فقط- من أهم المبادئ المؤسسة للتيارات الحركية، ويؤكد هذا المبدأ على أن العالمية هي إحدى الصفات المُدهشة للإسلام التي تؤسس روابط روُحانية قوية بين المسلمين في العالم أجمع، ورغم تقسيم الإسلام من طريق التعديات الأوروبية، وتمزيقه بسبب القوميات التي أقيمت بدهاء، ما يزال يقاوم بوصفه وحدةً دينية وبفضل السمة العالمية التي تتصف بها حضارته، ومن ثم أُسست فكرة الجامعة الإسلامية، لإقامة خلافة كبيرة تجمع المسلمين العرب والهنود والأفغان والأفارقة أو الآسيويين في دولة واحدة ديانتها الإسلام ودستورها القرآن، وحاكمها “خليفة” أو “إمام” للمسلمين، ولذا فإن التيار الوَحْدوي الإسلامي السياسي يدعو إلى إقام الجامعة الإسلامية/الوَحْدة الإسلامية تهدف إلى:
- المؤاخاة بين المسلمين
- تحرير المسلمين وأراضيهم من كل أشكال الاستعمار والهيمنة، وإصلاح حياتهم ومؤسساتهم الداخلية بما يتفق مع الشريعة الإسلامية
- جمع المسلمين بغض النظر عن بلادهم ولغاتهم وأجناسهم وثقافتهم، بهدف لعب دور في الساحة الدولية، وينبغي للحكومات المسلمة التعاون في خدمة الإسلام وإدراك أهمية تضامن الأمة([18]).
والواقع أن الخطاب القُطبي لعب دورًا مهمًا وسط التيارات الإسلامية، فتأثرت به خاصة السلفية الجهادية التي تبنت كثيرًا من مضامين هذه الرؤية ورأت أن الإسلام دعوةٌ متجاوزة للقوميات والعرقيات، والواجب يقتضي محاربتها، رافعة شعار “الدولة الإسلامية”.
وضمن هذا السياق نستطيع أن نقرأ عقيدة تصدير الثورة الإيرانية للعالم الإسلامي، إذ لم يكن طموح “الخميني” وطنيًا، بل كان يرى الوطنية صنمًا وطاغوتًا كما يراها “سيد قطب” وسائر منظري الأصولية المتشددة، ورأى نفسه وثورته رسالة أُممية وعالمية، وقد أكد الخُميني ذلك في الذكرى الأولى للثورة الإيرانية قائلًا: “إننا نعمل لتصدير ثورتنا إلى مختلف أنحاء العالم لأنها ثورة إسلامية”([19]).
وقد كونت “ولاية الفقيه” إطارًا أيديولوجيًا للتوسع خارج حدود إيران، وتأسيس كِيانات تدين بالولاء لطهران، وقد نجحت إيران إلى حد بعيد في زرع فكرة الولي الفقيه داخل التيارات الشيعية التي عارضت الفكرة تدريجيًا، كما هو الحال مع الحوثيين في اليمن -الذين ينتمون إلى الفرقة الزيدية- وكما هو الحال مع عدد من الجماعات الشيعية العراقية.
“حزب الله” اللبناني ما فتئ يؤكد في تصريحات قادته ووثائقه التأسيسية أنه تابع للولي الفقيه، وعبر عن ذلك “نعيم قاسم” الأمين العامل لحزب الله في كتابه “حزب الله، المنهج والتجربة” بقوله: “إن الولي الفقيه هو الذي يملك صلاحية قرار السلم والحرب”، وأكد أن صلاحياته غير محدودة، وهو الذي يُشرف على رسم السياسات وتحديد القواعد، وأن الحزب مُكلف فقط بالتفاصيل الصغيرة للعمل السياسي والثقافي ومباشرة النشاطات الميدانية، بل ذهب “نعيم قاسم” عندما فرض وصاية الولي الفقيه حتى على الشيعة الذين يقلدون مرجعيات مختلفة، فقال: “الارتباط بالولاية تكليف والتزام يشمل جميع المكلفين حتى عندما يعودون إلى مرجع آخر في التقليد، لأن الآمرية في المسيرة الإسلامية العامة للولي الفقيه المتصدي”.
“حسن نصر الله” في كثير من المحافل عبر عن فخره بصفته “فردًا في حزب ولاية الفقيه“، واختصر في وقت مبكر مشروع حزب الله بقوله: “مشروعنا الذي لا خيار لنا أن نتبنى غيره كوننا مؤمنين عقائديين هو مشروع دولة إسلامية وحكم الإسلام، وأن يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه بالحق الولي الفقيه الإمام الخميني”([20]).
تيار الجهاديين:
انفجرت موجات التأثيرات الراديكالية والتشدد في مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي، بزخم نجاح ثورة الخُميني وخطابه، وبفضل انبهار قطاعات عريضة فيه -من مختلف الاتجاهات- بطرحه الشعبوي والشعارات التي تحتكر الإسلام وتحتكر الحديث باسم الأمة وطوائفها جميعا، وقد كان الأثر الأكبر للثورة الإسلامية ماثلًا في سلوك الجماعات المتطرفة على وجه الخصوص، فقد اندفعت مجموعات “الجهاد المصري” لتتوحد في تنظيم واحد بقيادة “محمد عبد السلام فرج” بعد نجاح ثورة الخميني، الأمر الذي نتج عنه فيما بعد اغتيال الرئيس المصري أنور السادات عام 1981. وتميزت فترة الثمانينيات والتسعينيات بانتشار التيارات الثورية المتطرفة التي ازدهرت في سياق الأزمات الإقليمية، مثل استمرار قضية فلسطين والصراع الهندي الباكستاني وحرب أفغانستان والحرب العراقية الإيرانية([21]).
وفي هذا السياق تصاعدت التيارات الجهادية، وهم نشطاء ملتزمون بالعنف لأنهم معنيون بما يرونه دفاعًا عسكريًا عن الأمة ضد الأعداء الكفار -وهم الغرب بالضرورة- (أو في بعض الحالات لتوسيع دار الإسلام أي المنطقة التي خضعت تاريخيًا للحكم الإسلامي)، وضمن هذه الفئة يمكن تمييز تيارين رئيسين: السلفية الجهادية، المؤلفة من أناس ذو نظرة سلفية وعُبئوا بوصفهم متطرفينَ وتخلوا عن النشاط المسالم لينضموا إلى صفوف الجهاد المسلح. والقطبيون، وهم نشطاء تأثروا بالفكر المتطرف لسيد قطب، وكانوا في البداءة مهيأين لشن الجهاد ضد (أقرب عدو) وهو الأنظمة المحلية والتي وصفوها بالكفر، وبخاصة في مصر، وذلك قبل التوجه إلى الجهاد في العالم الخارجي ضد (العدو البعيد) وبخاصة إسرائيل والغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة([22]).
وما يميز السلفية الجهادية عن غيرها من السلفيات، ليس إعلانها جاهلية المجتمعات المعاصرة كلها، وليس إعلانها كُفرانيه النظم التي لا تحكم بما أنزل الله، بل إعلانها الصريح أن “الجهاد” المسلح هو السبيل الوحيد للتغيير، وتراهُ السبيل الوحيد كذلك لإقامة الخلافة الإسلامية، ومن ثم ترفض الدخول في البرلمانات أو التربية والتثقيف والثورة الجماهرية السلمية.
فإعداد العُدة وحتمية المواجهة بالعنف الناجز المعلق على أدنى قدرة على النكاية، والذي هو منهج هذا التيار في التغيير، أتى معلقًا على تكفيرهم للدول القائمة وتصنيفهم لبلاد المسلمين على أنها ديار كفر أو ديار مختلطة يستحق حُكامها إعلان الحَرب عليهم، بل وحتى لو لم يكفروا، فقتالهم حينها هو قتالٌ للطائفة الممتنعة لا يشترط وقوعها في الكفر([23]).
إرهاصات السلفية الجهادية:
-
“جماعة التكفير والهجر”:
عقب ثورة (1952) وإقصاء جماعة الإخوان المسلمين، انقسمت جماعة الإخوان إلى تيار سلمي بقيادة “حسن الهضيبي“، وتيار ثوري بقيادة “سيد قطب“، ونمت الجبهة الثورية بفعل الحكم السلطوي الذي مارسه عبد الناصر، والذي انتهى بالقضاء على قطب نفسه عام 1966، وفي عام 1969 بدأ الكشف عن جماعة (التكفير والهجرة)([24]).
نشأت هذه الجماعة في بادئ الأمر داخل السجون المصرية، وبعد إطلاق سراح أفرادها تبلورت أفكارها وكثر أتباعها في صعيد مصر، وبين طلبة الجامعات بخاصة. وقد رفضت موقف السلطة وأعلنت كُفر رئيس الدولة ونظامه، بل عدُّوا الذين أيدوا السلطة من إخوانهم مُرتدين عن الإسلام ومن لم يكفرهم فهو كافر، والمجتمع بأفراده كفار لأنهم موالون للحكام، ومن ثم فلا ينفعهم صوم ولا صلاة. وكان إمام هذه الفئة ومهندس أفكارها الشيخ “علي إسماعيل”. وقد صاغ مبادئ العزلة والتكفير لدى الجماعة ضمن أطر شرعية حتى تبدو وكأنها أمورًا شرعية لها أدلتها من الكتاب والسنة ومن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في الفترتين: المكية والمدنية، متأثراً في ذلك بأفكار الخوارج([25]).
تولى قيادة الجماعة داخل السجن بعد “عليّ إسماعيل“، “شكري مصطفى“، وبعد أن أُفرج عنه عقب مجيء السادات بدأ التحرك في مجال تكوين الهيكل التنظيمي لجماعته، مُثقَّلًا بأفكار سيّد قطب ناقمًا على نظام الحكم الذي نكَّل بهم سجنًا وتعذيبًا وحشيًّا، ولذلك بويعَ أميرًا للمؤمنين وقائدًا لجماعة التكفير والهجرة وفق زعمهم. فعَين أمراء للمحافظات والمناطق واستأجر عديدًا من الشقق لتكون مقارًا سرية للجماعة بالقاهرة والإسكندرية والجيزة وبعض محافظات الوجه القبلي.
ـوأمر بخروج أعضاء الجماعة إلى المناطق الجبلية بعد بيع ممتلكاتهم فيما يُسمّيه شرط الهجرة قبل الجهاد، وأخذت الجماعات تتدرَّب في معسكرات عقائديّة وعسكرية، وهذه الهجرة يبدو أنّها كانت تطويرًا لفكرة “العزلة والاِنفصال عن المجتمع الجاهلي” التي نادى بها سيّد قطب([26]).
كان من أهم أدبيات هذه الجماعة ومرجعيتها الفكرية والعقدية “وثيقتا “الاعتراف” و”الخلافة” اللتان تنصان على كُفر المجتمع، وتهدف إلى إعادة بناء جديد له من طريق مرحلتين: مرحلة الهجرة، وهي الاعتزال في الكهوف والصحراء، وبناء يثرب المعاصرة أو مجتمع المدينة، الذي أتاح للمسلمين فتح مكة. فلم يكن التنظيم في مرحلته الأولى يبغي سوى الهجرة، ولم يكن مسموحًا له بقتال أحد حتى تأتي ساعة التمكين بعد تكوين العاصمة يثرب([27]).
ويُعد التكفير عنصرًا أساسيًا في أفكار هذه الجماعة ومعتقداتها. فهم يُكفرون كلَّ من أرتكب كبيرة وأصرَّ عليها ولم يتب منها، وكذلك يُكفرون الحكام الذين لا يحكمون بما أنزل الله بإطلاق ودون تفصيل، ويكفرون المحكومين لأنهم رضوا بذلك وتابعوهم أيضًا بإطلاق ودون تفصيل، أما العلماء فيكفرونهم لأنهم لم يكفروا هؤلاء ولا أولئك، كما يُكفرون كلَّ من عرضوا عليه فكرهم فلم يقبله أو قبله ولم ينضم إلى جماعتهم ويبايع إمامهم. أما من انضم إلى جماعتهم ثم تركها فهو مرتد حلال الدم، وعلى ذلك فالجماعات الإسلامية إذا بلغتها دعوتهم ولم تُبايع إمامهم فهي كافرة مارقة من الدين([28]).
وقد أكد هؤلاء أن جماعتهم وحدها هي الجماعة المُسلمة فمن لم ينخرط فيها عَدُّوهُ كافرًا، لأن الجماعة هي السلوك الحركي للعقيدة، ومن ثم فهي جزءٌ لا يتجزأ منها “أي العقيدة”، واستشهدوا في هذا المقام ببعض الأحاديث التي تشير إلى ضرورة البيعة والالتزام بالجماعة مثل: الحديث الذي رواه “مسلم” “من مات في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية”، وفسروا الجاهلية بأنها تعني الكُفر، وأن الجماعة المقصودة هنا هي جماعتهم لأنها الجماعة الوحيدة التي تلتزم بالإسلام الصحيح في هذا العصر([29]).
وضمن سياق التكفير الذي رموا به الجميع دون سواهم، أقروا بأن التغيير والإصلاح لا يحدث إلا بالعنف المُسلح في كثير من الأحيان فـ “ذهبوا إلى أنه يجب السعي في تحطيم المجتمع الكافر، أما محاولة الإصلاح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا مكان لها في هذه المجتمعات، إذ إنها تتضمن الشهادة لهذه المجتمعات بالإيمان، ومن ثم عدوا تخريب المجتمع وتقويض دعائمه من الواجبات الشرعية لأنه مجتمع جاهلي ينبغي أن يُحطم”([30]).
-
جماعة “تنظيم الجهاد”، و”الفريضة الغائبة”
شهدت أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات صعود تنظيمات جهادية أبرزها جماعة “تنظيم الجهاد” بزعامة “محمد عبد السلام فرج” الذي وضع كتابًا يُعد الأشهر بين الكتابات الجهادية هو “الفريضة الغائبة”، ويعدُّ هذا الكتاب بمكانة الأساس الفكري الأول والمرجع الرئيس للجماعات الجهادية، إذ كان تيار الجهاد قبل كتاب “محمد عبد السلام فرج” يعتمد في تأصيل أفكاره على الكلام الشفهي الذي يتناقله أعضاء الجهاد بعضهم من بعض مع الاستعانة بأجزاء من كتب فقه وتفسير القرآن وغيرها مثل: فتوى ابن تيمية عن التتار وتفسير ابن كثير لآية “أفحكم الجاهلية يبغون” وكلامه في كتابه البداية والنهاية عن التتار وحكمهم، وكذا تفسير سيد قطب لآيات الحكم والسياسة مثل تفسيره لقوله تعالى “إن الحكم إلا لله”، فكان أعضاء الجهاد يقومون من حين لآخر بتصوير أو طباعة كميات من هذه الأجزاء التي يحتاجونها من كتب ابن تيمية وابن كثير وسيد قطب وغيرهم، للاستدلال على أفكارهم ثم يُوزعونها، إلى أن جاء “محمد عبد السلام” فجمع كل أفكار الجهاد الشفهية وضم إليها كل أقوال العلماء التي يستدل بها الجهاديون وصاغها صياغة متكاملة نسبيًا بمقاييس الفكر الجهادي في ذلك الوقت([31]).
وقد ارتكز الكتاب على عدة نقاط أهمها:
- إن الدولة تحكم بأحكام الكفر.
- حكام المسلمين اليوم لا يحملون من الإسلام إلا الأسماء.
- هدف الجماعة هو إقامة الدولة الإسلامية، لإعادة الإسلام إلى هذه الأمة.
- سبيل ذلك هو “السيف“، والأولوية في الجهاد والقتال ضد الحكام الكفرة الذين هم العدو القريب، ومن هنا تكون الانطلاقة([32]).
كما انفرد باستحضار الفقه الجهادي من بين ثنايا تراث الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، بخاصة ما تعلق بالحديث عن “دار الكفر” و”دار الإسلام”، و”الردة”، ومشروعية “الجهاد”، وأحكامه وشروطه.
ولقد كان اغتيال هذه الجماعات للرئيس “محمد أنور السادات” “البداءة” التي بلغت “الذروة” لظاهرة العنف الديني التي استمرت قرابة العشرين عامًا، التي لا تزال منطلقاتها وأدبياتها تجتذب إلى هذا الطريق جماعات جديدة من الشباب، بل لا تزال فاعلة في عديدٍ من ديار الإسلام([33]).
أساس السلفية الجهادية:
لم تتبلور “السلفية الجهادية” تبلورًا كاملًا إلا مع تأسيس “تنظيم القاعدة“، إلى الحد الذي وحَّد -داعية من دعاة الجماعات الجهادية- بين مفهوم السلفية الجهادية وتنظيم القاعدة قائلًا: “خرجت الجماعات السلفية الجهادية لتُصحح المسار ولتُنهض الأمة من غفلتها ولترفع راية جهاد سني سلفي خالٍ من شوائب الشرك والبدع”، ويضيف مؤكدًا هذا التماهي بين السلفية الجهادية والقاعدة في عرف أصحابها: “أضحت العدو الأول الذي أثخن في أعداء الله من قوى الكفر والظلام ودك عروشهم في عقر ديارهم، وبات مجرد ذكر أي جماعة من تلك الجماعات سببًا لرعب عظيم وخوف كبير واتخاذ لإجراءات أمنية مشددة وتضييق على شعوبهم، وقلب حياتهم إلى جحيم حقيقي”([34]).
-
الجهاد الأفغاني: (الجهاد التضامني)
بعد أن انخرطت التيارات الجهادية في بواكيرها الأولى -مثل: جماعة “التنظيم والهجرة”، و”تنظيم الجهاد”، و”الجماعة الإسلامية”… – في مواجهة مع ما تُسميه “العدو القريب” المُتمثل في الأنظمة العربية، طيلة الفترة الممتدة حتى الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979، شهدت ثمانينيات القرن العشرين تحولَ الجهادية نحو نموذج “الجهاد التضامني” -وفق تعبير “حسن أبو هنية” في كتابه “الجهادية العربية“- الذي يستحث الراغبين في الجهاد على الهجرة لمؤازرة مجاهدين آخرين والدفاع عن أراضي المسلمين.
ويرى أبو هنية، أن التأسيس لفكرة “الجهاد التضامني” قد تمت على أيدي ثلاثة منظرين فلسطينيين هم بدايةً “عبد الله عزام” الذي ارتكز فكره على فكرة جهاد الدفع، وتبعه في ذلك أبو قتادة الفلسطيني“، و”أبو مصعب المقدسي“([35]).
وتضمنت فكرة “الجهاد التضامني” في رسالة “عبد الله عزام” التعبوية “إلحق بالقافلة” التي يذكر فيها عدد من الأسباب والمبادئ الإيمانية التي توجب الجهاد وتشوق الفئات المستهدفة إليه، فيقول: تحت عنوان “مبررات الجهاد” “نحن إذ ندعو المسلمين ونستحث خطاهم للقتال لأسباب كثيرة وعلى رأسها:
- حتى لا يسود الكفر، فإذا توقف القتال ساد الكفر، وانتشرت الفتنة وهي الشرك.
- لقلة الرجال، ويُقصد بهم الأفغان الذين ليس فيهم من يتقن قراءة القرآن، ولا من يعرف صلاة الجنازة، ولا أحكام الجهاد الفقهية مثل: توزيع الغنائم ومعاملة الأسرى.
- الخوف من النار. إن الجهاد والهجرة إلى الجهاد جزءٌ أصيل لا يتجزأ من طبيعة هذا الدين، والدين الذي ليس فيه جهاد لا يستطيع أن يَثْبُتَ فوق أي أرض، وأصالة الجهاد التي هي من صميم هذا الدين، ليست ملابسة طارئة من ملابسات تلك الفترة التي تنزل فيها القرآن، ولو كان الجهاد ملابسة طارئة ما قال النبي (ص)، تلك الكلمة لكل مسلم إلى قيام الساعة “من مات ولم يغز ولم يُحدث نفسه بغزو، مات على شعبة من النفاق”.
- أداءً للفريضة واستجابةً للنداء الرباني، فكل من ترك الجهاد اليوم فهو تارك لفريضة، مثل: المفطر في رمضان دون عذر أو الغني الذي يمنع زكاة ماله، بل تارك الجهاد أشد.
- اتباعًا للسلف الصالح، فقد كان الجهاد دينًا للسلف، وكان صلى الله عليه وسلم سيدَ المجاهدين، وصار الصحب الكرام على سنة النبي الكريم.
- إقامةَ القاعدة الصلبة التي تكون منطلقًا للإسلام، إن إقامة المجتمع المسلم فوق بقعة أرض ضرورية للمسلمين، ضرورة الماء والهواء، وهذه الدار لن تكون إلا بحركة إسلامية منظمة تلتزم الجهاد واقعًا وشعارًا وتتخذ القتال لحمة ودثارًا.
- حمايةً المستضعفين في الأرض.
- طمعًا في الشهادة.
- إن الجهاد حفظٌ لعزة الأمة ورفعُ الذلِّ عنها.
- إن الجهاد حفظٌ لهيبة الأمة وردٌّ لكيد أعدائها.
- في الجهاد صلاح الأرض وحمايتها من الفساد([36]).
وفي المستوى التنظيمي العملي، “فحين انتقل عبد الله عزام، وأسامة بن لادن إلى أفغانستان للمشاركة في الجهاد الأفغاني ضد الروس. فبالتزامن مع ما عُرف بـ “بيت الأنصار” الذي افتتحه ابن لادن في مدينة بيشاور الباكستانية عام 1984 لاستقبال المتطوعين العرب، أسس “عبد الله عزام” “مكتب خدمات المجاهدين” العرب. وتكاملت نشاطات الرجلين ليؤديَ المكتب المهمة الإعلامية وجمع التبرعات، وحث المسلمين وخاصة العرب على الجهاد بالنفس والمال فيما يؤدي “بيت الأنصار” المهمة العملية في استقبال الراغبين في الجهاد وتوجيههم، أو الاطلاع على أوضاع الأفغان.
وبالتعاون مع بعض الكوادر من تنظيم الجهاد المصري -من أوائل من قدم إلى أفغانستان– افتتح ابن لادن مركزًا عسكريًا متقدمًا على أحد المعابر المهمة لإمداد المجاهدين، وفي هذه الفترة وصل عدد المجاهدين الذين التحقوا بساحات القتال في أفغانستان تدريجيًا إلى ما يزيد عن “أربعين ألفًا” من مختلف الجنسيات”([37]).
-
“تنظيم القاعدة”، “الجهاد المعولم”
يرى “أبو هنية” أن التأسيس النظري والعملي لفكرة الجهاد التضامني “الدفاعي” كان نقلة مهمة في اتجاه الجهاد المعولم الذي صبغ السنوات الأخيرة من القرن العشرين ومطلع القرن الحالي، ويوضح أن توجه ابن لادن، ومن خلفه “تنظيم القاعدة” نحو عولمة الجهاد، جاء نتيجةَ فشل التجارب الجهادية المحلية والتضامنية، إضافة إلى ذلك أدى تزايد الحضور العسكري الأمريكي المباشر في منطقة الخليج العربي، بعد أن اجتاح نظام صدام حسين الكويت عام 1990، إلى اشتداد العداء للولايات المتحدة وللأنظمة المحلية التي استدعت ذلك الحضور([38]).
وضمن هذا السياق سوف ينتقل ابن لادن من صاحب مشروع جهادي محدود إلى زعيم لتنظيم جهادي عالمي، ومن معارض لَيِّن بالنصيحة والمذكرات والرسائل للحكومة السعودية ولهيئة علماء المسلمين، إلى معارض شديد وصعب المراس يصبُّ جامَ غضبه على السلطة وهيئة العلماء بحملات إعلامية نشطة ومكثفة، ومن معارض للوجود الأمريكي ونازعٍ للشرعية السياسية والدينية عنه، إلى مقاومٍ بالفقه الشرعي وبالسلاح للولايات المتحدة الأمريكية في الجزيرة وفي شتى بقاع الأرض، وتبعًا لذلك كان ينبغي التوقف عن المشاريع المحدودة، وأن يجري الاستحضار الشرعي للقضية الفلسطينية برمتها باستخدام الرابط الطبيعي بين ما يراه عدوانًا أمريكيًا على المسلمين في العالم وعدوانًا إسرائيليًا صهيونيًا على المسلمين في فلسطين، ومن ثم إضافة المسجد الأقصى إلى قضية الحرمين الشريفين([39]).
وباستخدام نمط الإسلام الشمولي والعالمي أعلن “أسامة بن لادن” قيام “الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصلبيين والأمريكيين“، وضم معه عديدًا من القوى الجهادية مثل: “الجماعة الإسلامية المقاتلة” بليبيا بقيادة أبو عبد الله، و”الجماعة الإسلامية المجاهدة” في المغرب بقيادة أبو عبد الله الشريف، و”جماعة الجهاد” المصرية بقيادة أيمن الظواهري، و”تجمع المجاهدين” من الجزائريين وتونس والأردن وفلسطين…
وانطلاقًا من ذلك فقد شهدت تلك الفترة تحولًا استراتيجيًا في فكر السلفية الجهادية، وهي نشوء النظرية الثانية في الجهاد. فبعد أن كانت “نظرية العدو القريب” هي السائدة في الفكر الجهادي، بلور أسامة بن لادن ومعه أيمن الظواهري -خصوصًا- “نظرية العدو البعيد” الذي يجب قتاله، لأن العدو القريب لا قوام له ولا وجود له ولا استمرار إلا بدعم العدو البعيد الذي تُمثله أمريكا وحلفاءها([40]).
ويُعبر “ابن لادن” عن ذلك قائلًا: “أمريكا وحلفاؤها يذبحوننا في فلسطين وفي الشيشان وكشمير والعراق. وللمسلمين الحق بمهاجمة أمريكا ردًا على ما تقوم به… وينبغي للشعب الأمريكي أن يتذكر أنه يدفع ضرائبه لحاكمه وينتخبه، وأن حكومته هذه تصنع الأسلحة وتسلمها إلى إسرائيل التي ترجع وتستخدمها لذبح الفلسطينيين، والكونغرس الأمريكي بدوره يوافق على إجراءاتها هذه، مما يثبت أن أمريكا بأسرها مسئولة عن الفظاعات المرتكبة بحق المسلمين”([41]).
ويُعد كتاب “أيمن الظواهري” “فرسان تحت راية النبي” الورقة الأيديولوجية للسلفية الجهادية العالمية الجديدة. فبعد أن قدم عرضًا تاريخيًا موجزًا للجهاد في مصر، يشرح الظواهري الأسباب التي أدت إلى تغيير الإستراتيجية الجهادية من نظرية العدو القريب إلى نظرية العدو البعيد قائلًا: إن “الاقتصار على العدو الداخلي فقط، لن يُجدي في هذه المرحلة، لأنه لا يمكن تأجيل الصراع مع العدو الخارجي، فالتحالف اليهودي-الصليبي، لن يمهلنا حتى نهزم العدو الداخلي، ثم نعلن الجهاد عليه بعد ذلك”، موضحًا أن سياسة أمريكا ومعركتها، ليست مع تيار المجاهدين خصوصًا، بل مع المسلمين والإسلام بعامة، فيقول: “القوى الغربية المعادية للإسلام حددت عدوها بوضوح، وهو ما تُسميه “الأصولية الإسلامية”، ودخلت معها في هذا الحلف عدوتهم القديمة روسيا، واتخذوا عدة أدوات لمحاربة الإسلام، منها الأمم المتحدة والحكام الموالون والحاكمون لشعوب المسلمين والشركات متعددة الجنسيات وأنظمة الاتصال الدولية ووكالات الأنباء العالمية… وفي مقابل هذا الحلف يتكون حلفٌ أصولي من حركات الجهاد في بلاد الإسلام المختلفة، والدولتين اللتين حُررتا باسم الجهاد في سبيل الله: (أفغانستان، والشيشان)، وإذا كان هذا الحلف في بواكيره الأولى، وإرهاصاته البادئة، فإن تناميه يتزايد وخطورة هذا الحلف أوضح من أن تُشرح وأثره أخطر من يُوضح، فهو قوة تنمو وتتجمع تحت راية الجهاد في سبيل الله”.
ثم أخذ ينظر إلى معركة تنظيم الجهاد، بوصفها معركةً دولية فيقول: “برز في سياسة أمريكا تجاه الإسلام معالم عدة، أبرزها دور أمريكا الأساسي في إنشاء إسرائيل ودعمها التي تُعد قاعدة أمريكية ضخمة، لم تلجأ أمريكا في الفترة السابقة إلى الوجود العسكري الظاهر الكثيف لإدارة مصالحها في الشرق الأوسط، إلى أن وقعت حرب الخليج الثانية، فاندفعت أمريكا بأساطيلها وقواتها البرية والجوية إلى المنطقة لتشرف على إدارة مصالحها بنفسها وتحت فوهات مدافعها، وبهذا الوجود العسكري الأمريكي الظاهر، برزت حقائق جديدة منها انتقال أمريكا من دور محرك الأحداث من وراء الستار، إلى دور الخصم المباشر في معركتها مع المسلمين… فلا بد للحركة الإسلامية وطليعتها الجهادية، بل لا بُد للأمة الإسلامية كلها من أن تدخل أكابر المجرمين: أمريكا وروسيا وإسرائيل في المعركة، لذلك علينا أن ننقل المعركة إلى أرض العدو، حتى تحترق أيدي من يشعلون النار في بلادنا”([42]).
وتطبيقًا للإستراتيجية الجديدة، وُجهت الضربات الفعلية لأمريكا والغرب ومصالحها في الشرق، وبدأت الأعمال بتفجير سفارتي أمريكا في نيروبي ودار السلام، ثم مهاجمة المدمرة “آندي كول” قبالة السواحل اليمينية، ثم الحدث الأكبر تفجير بُرجي مركز التجارة العالمية، ومبني البنتاجون 11 سبتمبر 2001.
أثرت تلك الضربات في أمريكا تأثيرًا بالغًا، وبدأ تفعيل مكافحة ما يُسمى بالإرهاب، ومبدأ (الحرب الاستباقية أو الوقائية). ومن ذلك اهتمت السلفية الجهادية بالتأصيل الشرعي لهجمات سبتمبر –غزوة مانهاتن– التي لاقت استنكارًا واسعَ النطاق من التيارات العلمية والحركية على حد سواء، وكان التأصيل قائمًا بوصف أمريكا دولةً محاربة، ليس لها عهد ولا ذمة، وأن الأصل بين المسلمين والأمريكان هو السيف، فكتب “أبو قتادة الفلسطيني“: “الإسلام وأمريكا: علاقة السيف يصنعها”، و”عبد العزيز بن صالح الجربوع“: “التأصيل لمشروعية ما حصل في أمريكا من تدمير، و”أبو محمد المقدسي: “مشروع الشرق الأوسطي الكبير”([43]).
ورغم توابع زلزال الحادي عشر من سبتمبر، إلا أن القاعدة استطاعت إثبات وجودها، وصارت لاعبًا دوليًا جديدًا في ظل عولمة الطوارئ والحرب على الإرهاب، وتمدد ساحات مجابهتها مع الولايات المتحدة والأنظمة القُطرية، فواصلت عملياتها التفجيرية والانتحارية، وركزت على الكنائس والمدارس والمراكز الطبية التابعة لبعثات أجنبية، ومنها -على سبيل المثال- إلقاء قنبلة على كنيسة بروتستانتية في إسلام أباد، ما أسفر عن مقتل خمسة أشخاص بينهم أمريكيان، وتوالت سلسلة من التفجيرات في عواصم عربية وإسلامية وعالمية([44]).
ووفق العرض التاريخي لمسار الجهادية العالمية الذي عرضه “حسن أبو هنية” في كتابه “الجهادية العربية“، رأى أن السلفية الجهادية مرت بعدة مراحل:
- ظهرت الجهادية -في البداية- ردًا على الاستعمار
- ثم اتخذت منحى يركز على مواجهة عدوها القريب المُتمثل في الأنظمة السلطوية المستبدة التي حكمت الدول العربية بعد الاستقلال.
- ثم ركزت على “الجهاد التضامني” نظرًا إلى قمع الأنظمة السلطوية والغزو السوفياتي لأفغانستان، واستغلال الأنظمة العربية، وأمريكا للمجاهدين.
- دخلت الجهادية في طور العالمية ردة فعل على دينامية العولمة وسياسات الهيمنة([45]).
دستور السلفية الجهادية:
قدم “أبو مُصعب السوري” الذي يُعد واحدًا من أكبر مؤرخي التيار الجهادي العالمي، مشروعًا معرفيًا بعنوان: “دعوة المقاومة الإسلامية العالمية”، تناول فيه أدق تفاصيل التجربة الجهادية على امتداد أربعين عامًا، في الفترة الواقعة بين (1960-2001) والهدف منه وفق قوله: “إرساء أصول دعوة عمل وجهاد“، ويعرفه بقوله: “كتاب لدلالة الباحثين عن العمل من أجل أداء الفريضة، والقيام بالواجب في جهاد أعدائنا من الكفار الغزاة وحلفائهم وأوليائهم من المرتدين والمنافقين، ففيه فصول نقدية لمسار الصحوة وتجارب الجهاد عبر العقود المنصرمة، ونصوص شرعية في مسائل الجهاد والتحريض عليه، وفيه خلاصة دروس تجارب جهادية كثيرة عسكرية وسياسية وحركية وأمنية … “([46])، ولعل ما يعنينا بالذكر هنا هو ما تناوله “أبو مصعب السوري” تحت عنوان مسار التيار الجهادي وتجاربه.
في البداءة يُعرف التيار الجهادي: بأنه “يشمل التنظيمات والجماعات والتَّجمعات والعلماء والمفكرين والرموز والأفراد الذين تبنوا فكرة الجهاد المُسلح ضد الحكومات القائمة في بلاد العالم العربي والإسلامي، بوصفها تُمثل أنظمةَ حكم مرتدة، بسبب حكمها بغير ما أنزل الله، وتشريعها من دون الله، وولائها لأعداء الأمة من قوى الكفر المختلفة، كما تبنوا منهاج الجهاد المسلح ضد القوى الاستعمارية الهاجمة على بلاد المسلمين معتبرين تلك الأنظمة التي أسقطوا شرعيتها وخرجوا عليها حلفاء محاربين للإسلام والمسلمين”([47]).
وبعد أن يتناول باستفاضة تيار الصحوة الإسلامية وعلى رأسها حركة الإخوان المسلمين، وأهم أدبياتها ومرجعياتها الفكرية، إلى جانب تناول أهم أفكار رواد الفكر الجهادي في العصر الحديث (المودودي/ وسيد قطب)، يُقر بأن “الفكر الحركي الذي تكون داخل حركة الإخوان المسلمين، ثم تطور واستقل وتميز في الفكر (القطبي)، وما أضيف إلى هذه المدرسة من كتابات الإخوان المسلمين في السبعينيات من مختلف البلاد، أحد شطري مكونات فكر التيار الجهادي المعاصر، الذي انضم إلى تكوينه مُركب مهم آخر قَدِم من الجزيرة العربية، من بلاد نجد والحجاز”([48]) ويقصد بها “السلفية الوهابية”
فالمنهج الإخواني ذو الطابع السياسي التربوي، والحركية القطبية ذات الطابع المفاصل المتمايز بناء على مبادئ الحاكمية، قد كونَ البُعد السياسي والحركِّي في منهج التفكير في التيار الجهادي المعاصر، أما المنهج السلفي والدعوة الوهابية وإنتاجها الفقهي، قد كونت الأرضية الفقهية والعقدية، التي أجابت عن أكثر المسائل السياسية الشرعية العالقة التي طرحها المنهج الجهادي الحركي وأثارها، ودعوته للمواجهة مع الأنظمة الجاهلية الحاكمة في العالم الإسلامي، إلى جانب فقه الإمام ابن تيمية المُستند الأساسي للتيار الجهادي.
ويخلص إلى تحديد البنية الفكرية للتيار الجهادي المعاصر بالمعادلة التالية:
أساسيات من فكر الإخوان المسلمين + المنهج الحركي للشهيد سيد قطب + الفقه السياسي الشرعي للإمام ابن تيمية والمدرسة السلفية + التراث الفقهي العقدي للدعوة الوهابية = المنهج السياسي الشرعي الحركي للتيار الجهادي.
ويعرض “السوري” لدستور الجهادية أو وفق تعبيره “دعوة المقاومة” بقوله: “دعوة المقاومة الإسلامية العالمية ليست حزبًا ولا تنظيمًا ولا جماعة محدودة محددة. فهي دعوة مفتوحة، هدفها هو دفع صائل القوى الاستعمارية الصليبية الصهيونية الهاجمة على الإسلام والمسلمين. ويمكن لأي تنظيم أو جماعة أو فرد اقتنع بمنهجها وأهدافها وطريقتها، الدخول فيها دخولًا مباشرًا أو غير مباشر”([49]).
منتهيًا إلى القول بأن المكسب الأكبر للتيار الجهادي، من تلك التجربة (الأربعين سنة الماضية) هو عولمة التيار الجهادي فكريًا وحركيًا… وتبادل الفكر والخبرات، والعارف بين كوادره من البلاد المختلفة، ثم انتشار ذلك في مختلف أقطار الدنيا”، وهو ما تحقق عمليًا وفعليًا لا سيمَّا وقد تفرع عن القاعدة -بوصفه تنظيمًا عالميًا عابرًا للقارات- معظم الحركات والجماعات السلفية الجهادية، “وعلى الرغم من صعوبة رصد مثل هذه الجماعات إلا أنه يمكن الإشارة إلى بعض من أبرزها مثل تنظيم “الجماعة الإسلامية” في إندونيسيا التي يُنسب إلى أحد أعضائها تفجيرات بالي، وتنظيم “جيش عدن أبين” الذي بايع ابن لادن على الولاية عام 1998، وينسب إليه تفجيراتُ المدمرة الأمريكية كول عام 2000، و”الجماعة السلفية للدعوة والقتال” في الجزائر، و”الجماعة الإسلامية المقاتلة” الليبية، وتنظيم جماعة “أنصار الإسلام” في كردستان العراق، و”حركة الشباب المجاهدين” التي انبثقت من رحم ميليشيات المحاكم الإسلامية في الصومال، وأخيرًا “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين“([50]) -الذي سوف يتطور لاحقًا ويُعرف باسم الدولة الإسلامية في العرق والشام (داعش)- وكان هذا الأخير هو الفصيل الأهم، والأكثر شراسة وتأثيرًا في الساحة الجهادية، وهذا ما سوف نحاول الوقوف عليه في المقال القادم. يتبع
المراجع:
[1]) المودودي، الحكومة الإسلامية، ترجمة: أحمد إدريس، طبعة القاهرة، 1977، ص171.
[2]) سيد قطب، معالم في الطريق، طبعة القاهرة، 1980م، ص8، وانظر أيضًا، محمد عمارة، الفريضة الغائبة، جذور وحوارات.. دراسات.. ونصوص، نهضة مصر للنشر والتوزيع.
[3]) محمد عمارة، الفريضة الغائبة، جذور وحوارات.. دراسات.. ونصوص، نهضة مصر للنشر والتوزيع. ص12
([4]) انظر، هاني نسيرة، إيران والإخوان المسلمين: المشتركات الأيديولوجية والعلاقات التاريخية، ستراتيجيكس.
([5]) انظر، نصر حامد أبو زيد، إصلاح الفكر الإسلامي، مؤسسة هنداوي، ص56-60، وأيضًا، وليد بدران، مقال بعنوان: “من المنفى إلى “آية الله”، ماذا نعرف عن مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران؟، موقع بي بي سي.
([6]) آية الله الخميني، الحكومة الإسلامية، دار الولاء للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.
([7]) أوليفيه روا، تجربة الإسلام السياسي، دار الساقي، ترجمة: نصير مروة، ص165.
ترتد فكرة “الإمام الغائب” إلى الخلاف الشهير الذي أعقب وفاة النبي محمد، وتمحور حول من له الحق في رئاسة الدولة الإسلامية الناشئة من بعده. علي ابن أبي طالب لم يحضر السجال الذي نشب في سقيفة بني ساعدة، ولم يشهد انتقال السلطة إلى أبي بكر، ولم يعترف بالخليفة الجديد إلا بعد مرور 6 أشهر على تنصيبه. موقف عليّ بن أبي طالب فسره أنصار وشيعته بأن عليا وصى له النبي بالخلافة، وأنها حق حصري له ولأولاده من بعده. ويعتقد الشيعة أن الله عين 12 إماما معصوما، يبدأون بعليّ ابن أبي طالب، وينتهون بمحمد بن الحسن العسكري الذي ولد حسب الروايات الشيعية سنة 255 هجرية.
لكن المأزق الذي وجد فيه الفكر الإمامي نفسه حصل عشية وفاة الإمام الحادي عشر الحسن بن علي بن محمد العسكري في سامراء سنة 260 هجرية، إذ توفي دون أن يخلف ولدا تنتقل الإمامة إليه، فاختلف الشيعة في مصير الإمامة، وانقسمت فرقهم إلى أربع عشرة فرقة، واحدة منها فقط تقول بأن الحسن العسكري خلف ولدا اسمه محمد، وقد أخفاه خوفا من أن تنال منه يد السلطة الباطشة، ومن هذه اللحظة تأسست فكرة الإمام الغائب لدى الشيعة، وهو نفسه المهدي الذي سيخرج آخر الزمان ليملأ الدنيا عدلا وقسطا، وتأسست معها أيضا فكرة ” الانتظار” أي انتظار ظهور محمد بن الحسن العسكري المهدي، الذي توارى عن الأنظار قبل 1000 سنة. انظر، أحمد الكاتب، الإمام المهدي حقيقة تاريخية أم فرضية فلسفية؟، دار الشورى، لندن، الطبعة الخامسة، 2007م.
([8]) انظر، عبد الغني مزوز، ولاية الفقيه، جذور نظرية تحولت إلى أداة للهيمنة وبسط النفوذ. موقع الحرة.
([9]) الخميني، ولاية الفقيه، بحث استدلالي من كتاب البيعة، الدار الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى، 2000م، ص18.
([10]) الخميني، الحكومة الإسلامية ص150
([11]) محسن كديور، نظريات الحكم في الفقه الشيعي ص33-34.
([12]) الخميني، الحكومة الإسلامية، ص79
([13]) محسن كديور، الحكومة الولائية، ص19.
)[14]) انظر، شفيق شقير، نظرية ولاية الفقيه وتداعياتها في الفكر السياسي الإيراني المعاصر، الجزيرة. وانظر، أيضًا، الحركات الإسلامية في الوطن العربي، مجموعة مؤلفين، مركز دراسات الوَحْدة العربية، إشراف د. عبد الغني عماد، ج1، ص114.
([15]) الخميني، ولاية الفقيه، بحث استدلالي من كتاب البيع، ص24، 25
[16]) انظر، نصر أبو زيد، إصلاح الفكر الإسلامي، ص59، 60
([17]) سيد قطب، معالم في الطريق.
([18]) انظر، بتصرف، شارل سان برو، حركة الإصلاح في التراث الإسلامي، المركز القومي للترجمة، ترجمة وتقديم: أسامة نبيل، ص135، 136
[19]) انظر، هاني نسيرة، إيران والإخوان المسلمين: المشتركات الأيديولوجية والعلاقات التاريخية، موقع ستراتيجيكس.
[20]) انظر، عبد الغني مزوز، ولاية الفقيه.. جذور نظرية تحولت إلى أداة للهيمنة وبسط النفوذ، موقع الحرة.
[21]) انظر، هاني نسيرة، إيران والإخوان المسلمين: المشتركات الأيديولوجية والعلاقات التاريخية، موقع ستراتيجيكس. وأيضًا، شارل سان برو، حركة الإصلاح في التراث الإسلامي، المركز القومي للترجمة، ترجمة وتقديم: أسامة نبيل، ص151.
([22]) انظر، إشكالية الدولة والإسلام السياسي قبل وبعد ثورات الربيع العربي، مجموعة مؤلفين، المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، برلين، ألمانيا، ص17
[23]) أحمد سالم، وعمرو بسيوني، ما بعد السلفية. قراءة نقدية في الخطاب السلفي المعاصر، مركز نماء للبحوث والنشر، ص515.
[24]) أحمد سالم، وعمرو بسيوني، ما بعد السلفية. قراءة نقدية في الخطاب السلفي المعاصر، مركز نماء للبحوث والنشر، ص515
[25]) انظر، موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام، إعداد: مجموعة من الباحثين بإشراف الشيخ عَلوي بن عبد القادر السقاف، موقع الدرر السنية، ص100-102
[26]) انظر، موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام، إعداد: مجموعة من الباحثين بإشراف الشيخ عَلوي بن عبد القادر السقاف، موقع الدرر السنية، ص100-102، وأيضًا عبيد خليفي، شكري مصطفى: الإسلام الغاضب لجماعة “التكفير والهجرة”، مركز المسبار للدراسات والبحوث.
[27]) أحمد سالم، وعمرو بسيوني، ما بعد السلفية. قراءة نقدية في الخطاب السلفي المعاصر، مركز نماء للبحوث والنشر، ص516.
[28]) انظر، موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام، إعداد: مجموعة من الباحثين بإشراف الشيخ عَلوي بن عبد القادر السقاف، موقع الدرر السنية، ص103.
[29]) انظر، أحمد محمد جلي، دراسة عن الفرق في تاريخ الإسلام الخوارج والشيعة، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الطبعة الأولى 1986، ص81.
[30]) انظر، أحمد محمد جلي، دراسة عن الفرق في تاريخ الإسلام الخوارج والشيعة، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الطبعة الأولى 1986، ص81.
[31]) انظر، أحمد سالم، وعمرو بسيوني، ما بعد السلفية. قراءة نقدية في الخطاب السلفي المعاصر، مركز نماء للبحوث والنشر، ص516، وأيضًا، حسام الحداد، محمد عبد السلام فرج.. قاتل بدرجة مفتي، بوابة الحركات الإسلامية.
[32]) محمد عبد السلام فرج، الفريضة الغائبة، نقلًا عن كتاب الفريضة الغائبة، جذور وحوارات.. دراسات.. ونصوص، محمد عمارة، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ص15
[33]) انظر، محمد عمارة، الفريضة الغائبة، جذور وحوارات.. دراسات.. ونصوص، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ص15
[34]) انظر، أبو الفضل العراقي، التوحيد والجهاد، نقلًا عن كتاب الحركات الإسلامية في الوطن العربي، مجموعة مؤلفين، إشراف: عبد الغني عماد، مركز دارسات الوَحْدة العربية، ج2، ص1215.
[35]) حسن أبو هنية، الجهادية العربية: اندماج الأبعاد، النكاية والتمكين بين “الدولة الإسلامية” و”قاعدة الجهاد”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2018، ص45
[36]) عبد الله عزام، إِلحق بالقافلة، بيت المقدس، 2018.
[37]) أكرم حجازي، دراسات في السلفية الجهادية، مدارات للأبحاث والنشر، الطبعة الثالثة، 2013، ص54
[38]) انظر، حسن أبو هنية، الجهادية العربية: اندماج الأبعاد، النكاية والتمكين بين “الدولة الإسلامية” و”قاعدة الجهاد”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2018، ص79
[39]) أكرم حجازي، دراسات في السلفية الجهادية، مدارات للأبحاث والنشر، الطبعة الثالثة، 2013، ص58
[40]) انظر، أحمد سالم، وعمرو بسيوني، ما بعد السلفية. قراءة نقدية في الخطاب السلفي المعاصر، مركز نماء للبحوث والنشر، ص521
[41]) انظر، جيل كيبل، الفتنة حروب في ديار المسلمين، ترجمة: نزار أورفلي، دار الساقي، ص160، 161.
[42]) أيمن الظواهري، فرسان تحت راية الإسلام، ص41، 83. وأيضًا انظر، أحمد سالم، وعمرو بسيوني، ما بعد السلفية. قراءة نقدية في الخطاب السلفي المعاصر، مركز نماء للبحوث والنشر، ص522، وأيضًا، الحركات الإسلامية في الوطن العربي، مجموعة مؤلفين، سبق ذكره.
[43]) انظر، أحمد سالم، وعمرو بسيوني، ما بعد السلفية. قراءة نقدية في الخطاب السلفي المعاصر، مركز نماء للبحوث والنشر، ص524، 525
[44]) انظر بتصرف، الحركات الإسلامية في الوطن العربي، مجموعة مؤلفين، ج2، ص1359.
[45]) انظر، حسن أبو هنية، الجهادية العربية: اندماج الأبعاد، النكاية والتمكين بين “الدولة الإسلامية” و”قاعدة الجهاد”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2018، ص18، 19
[46]) أبو مصعب السوري، دعوة المقاومة الإسلامية العالمية، مكتبة الجيل الثالث، النسخة الالكترونية 2018م، تحقيق: أبو العباس القلموني، مقدمة الكتاب.
[47]) أبو مصعب السوري، دعوة المقاومة الإسلامية العالمية، مكتبة الجيل الثالث، النسخة الالكترونية 2018م، تحقيق: أبو العباس القلموني، ص1006
[48]) أبو مصعب السوري، دعوة المقاومة الإسلامية العالمية، مكتبة الجيل الثالث، النسخة الالكترونية 2018م، تحقيق: أبو العباس القلموني، ص1020
[49]) أبو مصعب السوري، دعوة المقاومة الإسلامية العالمية، سبق ذكره.
[50]) أكرم حجازي، دراسات في السلفية الجهادية، ص63.