السَّلَفِيَّةُ: النَّشْأةُ والتَّطورُ التاَرِيخِيُّ.. من الإِصلاحِ الإسلاميِّ إلى النُّسَخِ (الرَّجْعِية) الجزءُ الثاني: السَّلَفِيَّةُ الوَهَّابِيَّةُ

تكوين

لئن اجتمعت السلفية الإصلاحية النهضوية مع السلفية التقليدية الرجعية (الوهابية والمُسَيَّسَةُ والجهادية) في إحداث تغيير في المجتمع العربي الإسلامي، سواء بتحقيق نهضة عربية إسلامية ومُجابهة الاستعمار الغربي وَفق السلفية الإصلاحية أو بمجابهة البدع والخرافات وفَق السلفية الوهابية، باستخدام المرجعية المعرفية نفسها بالعودة إلى التراث والاقتداء بالسلف، بل ويشتركان -أحيانًا- في تشغيل النظام المفهومي نفسه، فإن التباين سيكون في كيفية التعامل، أي -وفق تعبير “عبد الإله بلقزيز”- في المُنطلقات والخيارات الأيديولوجية، وفي مناهج النظر إلى الموضوع -بين منهج عقلاني نقدي وآخر اتباعي تقليدي نقلي- كما في أدوات العمل المُتَوَسَّلُ بها لتحقيق الأهداف “البرنامجية” لكل منهما.

انقضي القرن التاسع عشر بمفكريه ورواده الإصلاحيين الذين مضوا تحت وطأة الاستعمار، إلى محاولة تحقيق نهضة عربية إسلامية من طريق التوفيق بين الإسلام بنصوصه التأسيسية (القرآن والسنة) والحداثة الغربية، مُؤكدين أنه لا تنافي بين جوهر النصوص المُؤسِسَّة للإسلام والحداثة المنشودة، فانكبوا على قراءة النصوص الدينية بمنهج عقلاني شامل لإعادة تفسيرها بما يتوافق مع مُقتضيات العصر الحديث، فكانت جُهود هؤلاء الرواد بمنزلة اللَّبِنَة التي تأسست عليها جيل لاحق حمل راية الإصلاح في القرن العشرين.

فعلى سبيل المثال بَرَزَ قاسم أمين ونبوية موسى ونظيرة زين الدين وطاهر الحداد في قضية المرأة، ومصطفى عبد الرازق في قضية العقل والفلسفة، وعبد المتعال الصعيدي وهو صاحب كتاب (الحرية الدينية في الإسلام) الذي أعلن فيه معارضته لحكم الردّة ودافع عن مبدأ (أن المرتد يُستتاب أبدًا ولا يُقتل)، وعلي عبد الرازق صاحب (الإسلام وأصول الحكم)، وفي لبنان لعب الأمير أرسلان متأثرًا -بسلفية الإمام محمد عبده الإصلاحية- دورًا كبيرًا من أجل الدفاع عن العالم العربي الإسلامي، وتساءل أرسلان في كتابه (لماذا تأخر المسلمون وتقدم الغربيون؟) عن أسباب تأخر العالم الإسلامي ودافع عن إقرار العلوم الغربية، في حين أدان اتباع الأخلاق الغربية، وفي سوريا وبعد المُصلح “جمال الدين القاسمي”، دافع الشيخ “طاهر الجزائري” عن أفكار الإصلاح وتحديث التعليم.

وفي الجزائر شارك “عبد الحميد بن باديس” (مؤسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) في الإصلاح، فأولى ابن باديس التربية والتعليم اهتمامًا بالغًا في نشاطه الإصلاحي، ونقدَ التيار المُتشدد لبعض الجماعات الدينية وأسهم في تخليص الإسلام الجزائري من كل الممارسات التي لا تتوافق مع القرآن والسنة وأكد  دور العقل مُوضحًا أن الإسلام حرر العقل من كل المعتقدات القائمة على أساس سلطوي وأعطاه سيادة كاملة يجب من طريقها أن يُسوي كل الأمور بناء على حكمه وحكمته، وفي المغرب العربي كان لحركة الإصلاح السلفية نفوذًا كبيرًا، فبعد “عبد الله بن إدريس السنوسي” (رائد الإصلاح الحديث في المغرب) ظهرت سلفية “علال الفاسي” (الإصلاحية الوطنية) الذي كرّس نفسه للإصلاح الديني والسياسي فأسس الحزب الوطني ثم حزب الاستقلال، مع استمراره في الدعوة إلى التجديد في الإسلام، وفي الهند سيجد التيار الإصلاحي أحد المتحدثين باسمه من أحد عمالقة الإسلام في القرن العشرين “محمد إقبال”، الذي دعا إلى العودة إلى المبادئ الرئيسة للوحي لتستخدم بوصفها أساسًا لتحقيق إصلاح في مجال الفقه، وفي هذا الشأن يعتقد أن السلفية لا تقوم على اتباع الإيضاحات والتفسيرات التي قدمتها الأجيال الأولى من علماء الدين ثم أخذتها التفسيرات اللاحقة وأخيرًا تَجمدت بسبب التقليد وبالأحرى يجب الأخذ من الأصول. فاتسمت التوجهات الإصلاحية لهذا الجيل بالراديكالية، لا سِيَّما وقد تطلبت قضايا الأزمنة الجديدة مراجعات تأويلية وتغليبًا للمقاصد على حرفية النص ([1]).

أثارت هذه التوجهات الإصلاحية الراديكالية في القرن العشرين كثيرًا من الاختلافات والاعتراضات، إلى جانب تغير المناخ العام -في الصعيد السياسي بخاصة- وسقوط الخلافة العثمانية أدى إلى تراجع الاهتمام بمشروع الإصلاح الديني (السلفية الإصلاحية) وظهور السلفية التقليدية ذات التوجهات الأيديولوجيا الدينية والسياسية.

في هذه المقالة سوف نتناول السلفية الوهابية وكيف نشأت وتبلورت في شبه الجزيرة العربية، وكيف ذاعت وانتشرت في مختلف الأقطار الإسلامية على يد الشيخ رشيد رضا، الذي بدأ سلفيًا إصلاحيًا، ثم انقلب على التيار الإصلاحي إلى أن وصل الأمر إلى عَدَّهِ مؤسسًا للسلفية الوهابية في مصر، وذلك من طريق تناول بعض القضايا المحورية التي أُثيرت ضمن قضايا الإصلاح في القرن العشرين وتفاعل معها رشيد رضا، مُعربين عن بيان تداعيات التحول والانقلاب الوهابي.

سلفية رشيد رضا الإصلاحية

تعارف الباحثون على عدِّ رشيد رضا في بدايته بوصفه من أشهر رُوَّاد الإصلاح الإسلامي في النصف الأول من القرن الـ 20، فهو تلميذ الإمام “محمد عبده” وأحد الذين تأثروا برؤيته للإصلاح لا سيمَّا من طريق نشر الثقافة الإسلامية والتربية وتطوير مناهج التعليم الديني والانفتاح على المفيد من الحضارة الغربية في مجال العلوم والمعارف.

ويسير “رشيد رضا” في بداية فكره -وفَق ألبرت حوراني- على نهج أستاذه الإمام مَعنيًا بالتساؤل الذي انشغل به من سبقوه من رواد النهضة، وهو لماذا البلدان الإسلامية مُتخلفة في كل ناحية من نواحي التمدن؟ وما إذا كان هناك توافق بين الإسلام والحداثة؟ مُجيبًا عن ذلك بقوله “أن تعاليم الإسلام وقواعده الخلقية من شأنها، إذا فُهمت على حقيقتها وطُبقت بكاملها أن تؤدي إلى الفَلَاح، في جميع أشكاله المعروفة في العالم: القوة والهيبة والتمدن والسعادة، أما إذا لم تُفهم على حقيقتها أو لم تُطبق، فإنها تُفضي إلى الضعف والفساد والبربرية، فالأمة الإسلامية كانت قلب العالم المتمدن حين كانت حقًا إسلامية، أما الآن فالمسلمون متخلفون في مضمار العلم والتمدن أكثر من غير المسلمين، وسبب وهذا التخلف هو أن المسلمين قد فرطوا بحقيقة دينهم بتشجيع من حكّام سياسيين فاسدين، فالإسلام الحقيقي ينطوي على أمرين: القول بالتوحيد، والشورى في شئون الدولة” ([2]).

واستجابةً للتحديات المعاصرة المتعلقة بمسائل الإصلاحات العامة والعقلانية ومجابهة تخلف الأمة الإسلامية، مضي رشيد رضا يُؤكد أن تحقيق التمدن والإصلاح إنما يأتي بالعودة إلى الإسلام الحقيقي، وذلك من طريق عدة عوامل:

1- التمييز بين ما هو جوهري في الإسلام وما هو عرضي، ما يعني بيان الفرق بين ما نص عليه القرآن الكريم والحديث الصحيح وبين تلك العادات والتقاليد التي نشأت وتراكمت حولهما.

2- عندما يتعارض نص خاص مع نص عام يتضمن مبدأً خُلقيًا عامًا، مثل مبدأ (لا ضرر ولا ضرار)، أو مثل مبدأ (الضرورات تُبيح المحظورات)، فمن الواجب ترجيح العام على الخاص.

3- عند التعرض إلى مسائل لم يرد بها نصٌّ قط أو ورد فيها نصٌّ غامضٌ أو مشكوك في صحته، فيجب اللجوء إلى العقل البشري لمعرفة ما هو أكثر انسجامًا مع روح الإسلام.

4- على العقل أن يهتدي في عمله (بمبدأ المصلحة)، مُفسرًا على ضوء المبادئ العامة الواردة في القرآن والحديث. ([3])

وإعمالًا بمبدأ المصلحة عّوَّلَ رشيد رضا على “نجم الدين الطوفي” ([4]) في نظرية المصلحة التي عدَّها الطوفي أقوى أدلة الشرع على الإطلاق ومقدمة على النصوص الدينية، لأنه يمكن إدراكها بواسطة العقل.

فقد دَعَّمَ “رشيد رضا” نظرية الطوفي في المصلحة ونَشَرَ رسالته في أحد أعداد “مجلة المنار” وأيَّدَ ما جاء فيها، فَعَدَّ المصلحة أصلًا في الأحكام السياسية والمدنية يُرجع إليه في غير تحليل المحرمات أو إبطال الواجبات، فتحريم المباحات أو إيجابها جائزٌ طبقًا للمصلحة، مؤكدًا  تقديم المصلحة على النص مُستشهدًا بعمل الصحابة في تأكيدهم للحدود أو تعطيلها لأجل المصلحة، وذلك على النحو الذي أقَرَّهُ في مجلة المنار تحت عنوان: “أدلة الشرع وتقديم المصلحة في المعاملات على النص” فيقول: “كتبنا في بعض أجزاء المجلدين الثالث والرابع فصولًا عنوانها: (محاورات المُصلح والمُقلد) بَيَّنَّا فيها طريق الوحدة الإسلامية وجمع كلمة المسلمين المختلفين في المذاهب على الحق الذي أمرهم الله أن يقيموه ولا يتفرقوا فيه، ومما بيناه فيها أن الأحكام السياسية والقضائية والإدارية – وهي ما يعبر عنها علماؤنا بالمعاملات- مدارها في الشريعة الإسلامية على قاعدة درء المفاسد وحفظ المصالح أو جلبها، واستشهدنا على ذلك بترك سيدنا عمر وغيره من الصحابة إقامة الحدود أحيانًا لأجل المصلحة، فدل ذلك على أنها تُقدم على النص! وقد طُبعت في هذه الأيام مجموعة رسائل في الأصول لبعض أئمة الشافعية والحنابلة والظاهرية منها: رسالة للإمام نجم الدين الطوفي الحنبلي المتوفى سنة ٧١٦ تكلم فيها عن المصلحة بما لم نَرَ مثله لغيره من الفقهاء” ([5]).

ومن ذلك لم يتردد رشيد رضا بوضع التراث الإسلامي في غربال العقل والمصلحة لتقديم إسهام لإصلاح الشريعة الإسلامية وإضفاء كثير من المرونة على أحكامها وتكييفها مع الظروف المتغيرة، فَوَلَّى وجهه -كسابقية من الإصلاحيين- شَطَرَ الاجتهاد والمصلحة التي هي وسيلة من وسائله، “وأمام هذه الحاجة الجديدة، لا بد للشرائع -وَفَقَ ما أقَرَّ رشيد رضا– أن تتغير تغيرًا كبيرًا لم يسبق له مثيل، وهذا التغير المنشود يجب أن لا يقتصر على تعديل المذاهب الأربعة القائمة، بل يجب أن يتعداه إلى إنشاء مذهب واحد جديد، لذلك دعا علماء زمانه إلى العمل معا في سبيل إخراج كتاب في الشرائع قائم على الكتاب والحديث ومنسجم مع الوقت وحاجات العصر، ويُورد في كل باب من أبواب المعاملات فيه تعريفًا واضحًا يُميز بين ما هو فعل إيمان قائم على النصوص وبين ما هو استنتاج عقلي، وبذلك يكون حجة ناطقة على كل من يَنسب القصور إلى الشريعة أو الدين” ([6]).

وبخصوص قضايا الإصلاح المُلِّحة مثل: (قضايا المرأة والتعليم والحرية الدينية إلخ) تَخلى رشيد رضا عن الموقف التقليدي إزاء هذه القضايا، ليتخذ موقفًا أكثر عقلانية وتوافقًا مع روح العصر والعلم الحديث وتوافقًا بالأساس مع سلفيته الإصلاحية.

قضايا المرأة

تناول رشيد رضا قضايا المرأة ودافع عن حقوقها إسهامًا منه في الجدل الذي أثاره “قاسم أمين” بشأن هذا الموضوع، “فعندما أصدر قاسم أمين كتابه عن “تحرير المرأة” عام 1899 ثارت عليه حملة شعواء لم تكن سائغة حتى بمقاييس ذلك العصر، والمثير للاهتمام بما يتصل بهذه الضجة التي أثارها كتاب قاسم أمين هو وقوف مجلة المنار ورئيس تحريرها الشيخ رشيد رضا إلى جانب قاسم أمين، فقد عَمَدَ رشيد رضا إلى مناقشة الكتاب في ثلاثة من أعداد المنار مُنتهيًا إلى أن ما فيه هو مقتضي الشرع والعقل” ([7]).

أُثيرت قضية المرأة في الأزمنة العربية الحديثة مع “رفاعة الطهطاوي”، الذي يُعد “أول من لمس الحاجة إلى “التربية”، متأثرًا في ذلك بما شهد من أمر المرأة الأوروبية بعامة والفرنسية بخاصة، وقد حشد الطهطاوي طائفة كُبرى من الملاحظات والشواهد والأدلة النقلية والعقلية من أجل تقرير وجوب تعليم المرأة وتسويغ عملها عند الحاجة الاجتماعية” ([8]).

وفي حثه على جانب التربية والتعليم من طريق مدرسته الاجتهادية، خَصَّصَ “محمد عبده” حيزًا كبيرًا من اجتهاده لقضايا المرأة في المساواة والكفالة والتعدد والطلاق واستقلال المرأة المالي والاقتصادي، كما أولت عدد من النساء المصريات من أمثال “عائشة التيمورية” “وزينب فواز” أمر تربية المرأة وتهذيبها وتقرير حقوقها، إلى أن جاء “قاسم أمين” وأصدر كتابه “تحرير المرأة” عام 1899، وفي البداءة دعا قاسم أمين إلى أمرين: “تطبيق الشريعة الإسلامية في التعامل مع المرأة، وليس وَفق مقتضيات التقاليد والعادات، وتربية المرأة وتهذيبها وتعليمها، كي تستطيع أن تُعين نفسها وأطفالها الذين تُسأل عنهم هي وحدها في سنوات العمر الأولى” ([9]).

وربط قاسم أمين بين انحطاط المرأة وانحطاط الأُمَّة، وبين ارتقاء المرأة وتقدم الأُمَّة ومدنيتها، ويرى أن تدني وضع المرأة يعود إلى الاستبداد السياسي، فهناك تلازم بين الحالة السياسية والحالة العائلية، وشَبَّهَ بين الحاكم ومعاملته المُستبدة المُطلقة للمحكومين والرجل ومعاملته المُستبدة هو الآخر للمرأة فيقول “لما كنا محكومين بالاستبداد فظننا أن السلطة العائلية لا تُؤسس إلا على الاستبداد، فسجنا نسائنا وسلبناهم حريتهن، وكنا جُهالا فتخيلنا أن المرأة لا وظيفة لها ولا عمل إلا أن تكون موضعًا لشهوة الرجل” ([10]).

وراح يؤكد أن تَدَنِّى وَضُعُ المرأة لا يعود إلى الإسلام، بل إلى العادات والتقاليد، ومن ثمَّ نادى بتعليم المرأة وتربيتها تربية أدبية وعقلية، كما أن عليها تعلم العلوم والفنون والموسيقى، فهي كالرجل على حد سواء في الاحتياج إلى الانتفاع بالعلم والتمتع به، كما دافع عن أحقيتها في العمل، فيؤكد أنَّ التعليم ليس مجرد حشو الذهن بالمواد وإنما هو مزاولة الأعمال ومشاهدة الحوادث ومخالطة الناس والاحتكاك بهم، ويمكن القول بأن أراء قاسم أمين قد التقت مع أراء أستاذه محمد عبده خاصة في موضوع تعدد الزوجات والطلاق، الذي يرى كما يرى أستاذه أنه من الأفضل أن يكون الطلاق بأمر القاضي، حِفَاظًا على الزواج وتضيق الطلاق.

وقد أدرك قاسم أمين وضعية المرأة العربية الإسلامية ومدى دونيتها وتدهورها، مُقارًنا إياها بالمرأة الغربية الباريسية منها -بخاصة- وما حظيت به من تعليم ورُقى جعله يشير إلى “أن الجهل وإهمال التربية هو المانع أمام المرأة المصرية من أن تشتغل مثل الغربية بالعلوم والآداب والفنون الجميلة والتجارة والصناعة” ([11]).

وانطلاقًا من ذلك أثار قاسم أمين إشكالية الصدام بين هذه التعاليم الأوروبية التي يجب على المجتمع العربي والإسلامي تبنيها لمواجهة التخلف وتأسيس الإصلاح، لا سيمَّا إصلاح حال المرأة خصوصًا، وبين النسق القيمي والأخلاقي لهذه المجتمعات ذات المرجعية الدينية، لقى قاسم أمين تهكمًا كبيرًا، وثارت ضده حملة شعواء ربما انطوت على ادعاءه باتباع النموذج الغربي في قضايا المرأة بالتحديد، وفَق ما أقره “طلعت حرب” بقوله مُنطلقًا من أسس إسلامية دينية –إن جاز الوصف- “إن قاسم أمين استرسل في القول –مفتتتنًا ومُولعًا بالحضارة الغربية- حتى قال إنه لا تكون التربية إلا بدفع الحجاب والاختلاط، وبوجوب الاقتداء بالمرأة الأوروبية في جميع أدوارها” ([12]).

وفي حين انطلق قاسم أمين فيما يخص قضايا المرأة نحو دمج مفاهيم الإسلام في الحداثة الأوروبية، فإن رشيد رضا قد أدرك ما وقع فيه قاسم أمين فنحا باتجاه تطويع مفاهيم الحداثة الأوروبية للمرجعية الإسلامية وانطلق من حصن التراث الديني، مؤكدًا أن الدين هو روح التهذيب والآداب في البشر، وأن التمسك به في إطار تربية النساء سوف يُحيل بالضرورة إلى إصلاح حالهن وتغير وضعهن فيقول: “إن الدين لا بد وأن يكون هو أساس تربية البنات، لتمَّ لهن تهذيب الأخلاق، وكن مصدر لمحاسن الأخلاق” ([13])، بل ذهب إلى تأكيد أن الدين الإسلامي قد منح المرأة حقوقًا لم تكن لها قبل ذلك، مُحررًا لها من اعتقادات الجاهلية فيقول: كان بعض البشر من الإفرنج وغيرهم يَعُدون المرأة من الحيوان الأعجم أو من الشياطين لا من نوع الإنسان، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم أمثال قول الله تعالى: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى” (الحجرات: 13)” ([14]).

وفي كتابه “نداء للجنس اللطيف، حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام” يبدأ رشيد رضا بتأكيده مساواة الرجال والنساء في الخلق والطبيعة الإنسانية فيقول: “كانت أول القضايا العامة التي أرست قواعدها سورة النساء، قضية المساواة بين الرجل والمرأة في الإنسانية، قال تعالى: “يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة..”، ومعنى قوله من نفس واحدة، أي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة، وجعل من جنسها زوجًا إنسانًا يساويها في الإنسانية، وهذه الإنسانية هي مناط الوحدة بين البشرية” ([15]).

ويتبع المساواة في الإنسانية مساواة في كافة الحقوق والأعمال، ويعدد رشيد رضا مظاهر هذه المساواة في تفسيره للآيات القرآنية المعنية بهذا الشأن، فمساواة في الكرامة والتفضيل على أساس التقوى ومساواة في النصرة والولاية ومساواة في التكليف والثواب والعقاب والمساواة في إقامة الحدود إلخ.

وإجمالًا يُلخص الشيخ رضا المساواة بين الرجل والمرأة فيقول: “فهما متماثلان في الحقوق والأعمال، كما أنهما متماثلان في الذات والإحساس والشعور والعقل، أي أن كلًّا منهما بشرٌ تام، له عقل يتفكَّر في مصالحه، وقلب يُحب ما يلائمه ويُسر به، ويكره ما لا يلائمه وينفر منه، فليس من العدل أن يتحكم أحد الصنفين بالآخر ويتخذه عبدًا يستذله ويستخدمه في مصالحه، ولا سيَّمَا بعد عقد الزوجية والدخول في الحياة المشتركة التي لا تكون سعيدة إلا باحترام كل من الزوجين بالآخر، والقيام بحقوقه” ([16]).

ولعل ما يَظهر بجلاء هو حدود ميله إلى العالم الحديث وفي الوقت ذاته مقدار تأصل جذوره في التقليد -وفق ألبرت حوراني- هو ما تَعَلَّق بشأن بعض القضايا المُثارة مثل الحجاب وتعدد الزوجات، فبخصوص مسألة الحجاب فقد لعبت هذه المسألة دورًا كبيرًا في تاريخ نضال الحركة النسائية من أجل التحرر، وقد افتتحت المسألة السيدة “هدى شعرواي” التي نزعت الحجاب عن وجهها عند عودتها من مؤتمر نسائي بروما عام 1923، ثم انتشر الأمر وصار عاديًا في المدن الرئيسة ([17])، إلى جانب إسهامات “قاسم أمين” في هذا الشأن الذي أقر بالتخلي عن الحجاب التقليدي سواء المرتبط بزي النساء وهو “النقاب” أو بتحجب النساء عن الفضاء الاجتماعي العام.

فلم يكن في وسع السيد رشيد رضا أن يتجاهل ما آلت إليه هذه الأوضاع، فيُفسر الآيات المعنية بهذا الشأن وهي الآيات المعروفة من سورة النور: “وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ”  فيقول: “وكل ما استحدثه الناس في حجب النساء فهو من باب سد الذريعة لا من أصول الشريعة، فقد أجمع المسلمون على شريعة صلاة النساء في المساجد، مكشوفات الوجوه والكفين… وكن يسافرن مع الرجال إلى الجهاد، ويخدمن الجرحى، ويسقينهم الماء، وقد قاتلت النساء مع الرجال في واقعة اليرموك، وكن يخدمن الضيوف، ويقاضين الرجال إلى الخلفاء والحكام…” ([18]).

وفيما يخص مسألة تعدد الزوجات فهو لم يخرج فيما ذهب إليه عن أراء سائر المفسرين القدامى، وهو الإباحة المُقيدة فيقول: “إن الإسلام يُبيح تعدد الزوجات ولم يندب إليه، أنه لم يحرمه تحريمًا قطعيًا لا هوادة فيه لما في طبيعة الرجال وعاداتهم الراسخة بالوراثة في جميع أنحاء العالم، من عدم اقتصارهم في الغالب على التمتع بامرأة واحدة، ومن حاجة بعضهم إلى النسل في حال عُقم المرأة أو كبر سِنِّها أو وجود علة أخرى مانعة الحمل، ولهذا وذاك تركه مباحًا إلا أنه قيده بالعدد وشرط العدالة الذي يتقي به ضرره، ويرجى به نفعه إذا التزم فاعله جميع أحكام الإسلام وآدابه في معاملة النساء” ([19]).

وإذا كان للواقع الاجتماعي المرتبط في تشريع الآيات بُعدًا مفقودًا في خطاب الشيخ رضا المتعلق بقضايا المرأة الاجتماعية مثل تعدد الزوجات، فإنه حاضرٌ وبقوة في خطاب معاصره المُفكر التونسي “الطاهر الحداد”، الذي يرى أن الأحكام الدينية المُشرَّعة عن المرأة ليست أحكامًا نهائية، بل هي أحكام نابعة من وضعية المجتمع التي أُنزلت فيه، وهو مجتمع كانت أحوال المرأة فيه أقرب إلى وضع العبودية منه إلى أي وضع آخر، فيقول: “في الحقيقة إن الإسلام لم يُعطنا حُكمًا جازمًا عن جوهر المرأة في ذاتها، ذلك الحكم الذي لا يُمكن أن يتناوله الزمن وأطواره بالتغيير، وليس في نصوصه ما هو صريح في هذا المعنى، إنما الذي يوجد أنه أبان عن ضعف المرأة وتأخرها في الحياة تقريرًا للحالة الواقعة، ففرض كفالتها على الرجال مع أحكام أخرى بُنيت على هذا الاعتبار، وقد علل الفقهاء نقص ميراثها عن الرجل بكفالته لها، ولا شيء يجعلنا نعتقد خلود هذه الحالة دون تغيير، على أننا نجد الإسلام نفسه قد تجاوز هذه الحالة التي وجدها أمامه في كثير من أحكامه اعتبارًا بضرورة تبدلها مع الزمن، فقرر للمرأة حريتها المدنية في وجوه الاكتساب وتنمية المال بالتجارة وغيرها من التصرفات، وحقق لها وصف الذمة فتُعامِل وتُعامَل مما يدفعها إلى أعمال لم تعهدها، وليس فيها في ذلك العصر من أمارات الاستعداد لها ما يطمئن على نجاحها” ([20]).

الحرية الدينية

تتجلَّى سلفية رضا الإصلاحية فيما يتعلق بقضية الحرية الدينية “فنراه يُقلع عن النظرة التقليدية القائلة بأنه من الواجب قتل المرتد من المسلمين، مُميزًا بين المرتد الذي يثور ضد الإسلام ويُمثل بذلك خطرًا على الأمه والمرتد الذي يترك الإسلام بهدوء وبصفة شخصية فقط، فيقول إن الأول يجب أن يُقتل وأما الثاني فلا، وتُظهر طريقة تبريره بهذا القول المبادئ المُسيرة لتفكيره، فهو يعترف أولًا، بأن وجوب قتل المرتد يُؤيده إجماع الفقهاء التام، لكنه لا يتوقف عند هذا الإجماع، بل يتعداه إلى التساؤل إذا كان هذا الإجماع مرتكزًا على نصٍّ صريحٍ من القرآن، ليجد أنه لا يُوجد نصٌّ في القرآن يُوجب قتل كل مرتد، بل العكس، وجدَ نصًّا يُحرم كلَّ إكراه في الدين، ليستنتج أن ذلك الإجماع إنما هو مخالف لمبادئ الإسلام، ومن ثمَّ يحب رفضه” ([21]).

وعلى غرار الشيخ رضا في مسألة الحرية الدينية وحكم المرتد، مضى الشيخ (عبد المتعال الصعيدي) أحد رواد الإصلاح والنهضة في القرن العشرين، في كتابه “الحرية الدينية في الإسلام” ([22])، بالتأكيد أن حرية الاعتقاد (مُطلقة) مُسقطًا حُكم الرِدَّة المَعني بأن -“المرتد عن الإسلام يُستتاب أولًا ثم يُقتل”- مُقرًّا خلافًا لذلك بأن “المرتد يُستتاب أبدًا ولا يُقتل”، يبدأ عبد المتعال الصعيدي كتابه أولًا بتأكيد أهمية التجديد والاجتهاد الذي هو من السُنن التي فَطر الله عليها العقل، وصَرَّح بأن الهدف الذي يرمى إليه من نشر هذا الكتاب هو إثبات أن الحرية الدينية مكفولة شرعًا، وهى شرط من شروط الإيمان فيقول: “أتيت فيه باجتهاد ديني خطير، إذ أثبتُ أن الحرية الدينية في الإسلام عامة، في دعوة غير المسلم الذي لم تبلغه دعوة الإسلام، وفي دعوة من بلغته واستجاب له ثم ارتدّ عنه”([23]).

فالحرية الدينية كما يراها الشيخ الصعيدي: “هي أن يكون للإنسان الحق في اختيار ما يُؤديه إليه اجتهاده في الدين، فلا يكون لغيره حق في إكراهه على ما يعتقده بوسيلة من وسائل الإكراه، وإنما يكون له حق دعوته إليه بالإقناع بدليل العقل أو بالترغيب في ثواب الآخرة والتخويف من عقابها، وهذا لا يكون إلا بعد إقامة الدليل على وجود إلهٍ قادرٍ عالمٍ يبعث رسلًا يَدُلُّون الناس على الخير، وبهذا يدخل في الحرية الدينية: حرية الدعوة إلى العقيدة وحرية تبليغ رسالته تعالى للناس، ولا تقتصر على حرية اعتقاد المرء في نفسه، لأن من يرى رأيًا فيه خير للناس في دنياهم وأخراهم له الحق في دعوتهم إليه، بل يكون آثمًا إذا كتمه، ولم يعمل لنشره، فإن كان خيرًا أجابوه وإن كان شرًا دَلُّوه على ما فيه من شر، دليلًا بدليل، وإقناعًا بإقناع، من غير سعي في فتنة أو حربًا بين الناس، تعمل لنشر العداوة وتفريق الكلمة، وإذا كنا قد أعطينا الحق في حرية الاعتقاد وحرية الدعوة وحرية التبليغ، فإننا نُحرم عليه اللجوء في دعوته إلى وسائل الإكراه، بل الاقتصار على وسيلة الإقناع، ومع ذلك نُعطيه حق الدفاع عن عقيدته، لأن حق الدفاع عن العقيدة كحق الدفاع عن النفس، بل قد يكون أوجب من الدفاع عن النفس” ([24]).

ثم أسهب الصعيدي بتفنيد الأدلة الشرعية المؤسِسَّة لوجوب قتل المرتد وأهمها “الإجماع”، فبيَّن ضعف الاستناد إلى الإجماع في قتل المرتد وذلك لأسباب: أن الإجماع لم يُتَّفق على حجيته، والصحابة اختلف بعضهم على بعض، فالفرد من الصحابة كان يشذُّ على إجماعهم، والمتأخرين من العلماء أغلقوا باب الإجماع على أصحاب المذاهب الأربعة، ودعوى الإجماع في حكم المرتد مضطربة كل الاضطراب، فكيف لنا أن نُسلم بهذا الكلام، ونرضى لأنفسنا هذا الجمود” ([25]).

الانقلاب على الإصلاح والتأسيس الوهابي

هكذا بدأ رشيد رضا، مُصلحًا دينيًا معنيًا بالشأن العام وسؤال النهضة والإصلاح، ففتح باب الاجتهاد في التعامل مع النصوص الدينية، فخالف الأصول التقليدية ونقد الإجماع المُؤسِس لبعض القضايا مثل “وجوب قتل المرتد”، وأقرَّ بوجوب الأخذ بالمصلحة إعمالًا بنظرية الطوفي، المُقرة بتقديم المصلحة على النصوص الدينية، وضمن نظرة عقلانية متحررة من التقليد في التعامل مع القضايا الدينية -ففيما يختص بمسألة الجهاد ضد غير المسلمين- “فإنه يُقر بوجوبه، حرصًا على تعيين الحدود التي يكون فيها مشروعًا، فيميز بين الحرب التي تستهدف نشر الإسلام، والحرب التي تتوخى الدفاع عنه، فيقول: إن الثاني مشروعٌ دومًا، أما الأول فليس مشروعًا إلا إذا تَعذَّر انتشار الإسلام سِلميًا، أو إذا كان لا يُسمح للمسلمين بالعيش وفقًا لشريعتهم، ويستنتج من هذا اللجوء إلى القوة لإكراه أهل الكتاب على اعتناق الإسلام، إنما هو مناقض لمبدأ حرية الإيمان عينه” كذلك “معالجته لبعض نواحي الحياة الاقتصادية تنمُّ عن تحرره من التقليد تحررًا قويًا، فالشريعة الإسلامية تحرم الربى، لكنه رأى أن الإسلام اليوم أمام خطر لم يجابهه يوم كانت الشريعة في إبان تكوينها، هو خطر تَوغُّل الرأسمالية الغربية وسيطرتها الاقتصادية، لذلك التجأ إلى مبدأ الضرورة الذي يقول بأن الضرورات تبيح المحظورات، والذي قد يحمل المسلمين على الانحراف عن التفسير التقليدي للشريعة وعلى بناء حياتهم الاقتصادية على الأسس التي بَنَت عليها الأمم الغربية اقتصادياتها” ([26]).

ومن ثمَّ كان رشيد رضا “يُؤيد مفاهيم العقلانية والتقدم، التي لم تكن السَّمة المُميزة للحركة الوهابية، وكان أستاذه “محمد عبده” قد انتقد بالفعل الوهابية وروحها الدينية التي تُعارض الأهداف الفكرية والاجتماعية للحداثة الإسلامية، فمع أن الوهابيين أعلنوا منذ البداية عن نيتهم في نقض غبار التقليد، فقد قال محمد عبده إن الأمر انتهى بهم إلى أن أصبحوا أضيق عقولًا وأكثر إزعاجًا من أصحاب التقليد الأعمى، ووفقًا لما قاله لم يكونوا أصدقاء للعلم والحضارة، كيف أمكن إذًا أن يُصبح رشيد رضا من أكبر مؤيديهم؟” ([27]). وقبل الخوض في بيان ذلك علينا الوقوف أولًا على السلفية الوهابية كيف نشأت؟ وما هي أهم أدبياتها التأسيسية ومرجعياتها الدينية؟

السلفيةُ الوهَّابِيَّةُ والتأسيسُ الأولُ

ربما لا نستطيع قراءة الوهابية خارج سيرة مؤسِسَّها (محمد بن عبد الوهاب)، هذا العربي النجدي، الذي سَطَّرَ مذهبًا كوَّنَ أعتى الأصوليات الدينية في منتصف القرن الثامن عشر، وظلَّ حاضرًا وبقوة إلى الآن.

نشأ محمد بن عبد الوهاب (1115ه-1703م) وفق ما ذكر تلميذه المؤرخ والفقيه المعروف “حسين بن أبي بكر بن غنام”، في بلدة تُسمى (العيينة) في نَجد، وتعلم دروسه الأولى بها على رجال الدين من الحنابلة، فقرأ فقه ابن حنبل والتفسير والحديث، على عادة القرون الوسطى في تلقي المعرفة وتحصيلها وفي نوعها، بالإضافة إلى ذلك اطلع على كتب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية ([28]).

وقد رحل إلى مكة والمدينة ليُتم تعليمه ثم طَوَّفَ في كثير من بلاد العالم الإسلامي (إلى البصرة وبغداد وإلى سوريا وأصفهان)، وبهذه الرحلة الطويلة ضم معرفة تجريبية واقعية عن الإسلام والمذاهب الإسلامية وأثرها في توجيه المسلمين، إلى تلك المعرفة النظرية التي وقف عليها من المصادر السابقة، وهو في الارتحال شأنه شأن أستاذه ابن تيمية من قبل ([29]).

بعد نهاية رحلته العلمية عاد ابن عبد الوهاب إلى العَيينة، وبدأ في نشر دعوته القائمة على فكرة “التوحيد” أي مبدأ توحيد الألوهية في العقيدة الإسلامية للقضاء على كل مظاهر التبرك والتوسل بالنبي وآل البيت والأولياء الصالحين لدى المسلمين، وما يتصل بذلك من بناء الأضرحة والقباب والمساجد فوق قبورهم.

فأصبح عمله المركزي -وفق ما صَرَّحَ “ابن غانم” اتخاذ الحَزم والشدة في العودة إلى العقيدة الإسلامية الطاهرة كما كان في عهد النبـي (عليه الصلاة والسلام) والسلف الصالح، ونبذُ الشرك ومحاربتهُ بكُلِّ الوسائل الحازمة، لذلك أفتى بهدم الأضرحة وكل ما كان يُقدَّس، لما اعتقده بأن هذه الممارسات التي وصفها بالشرك قد اخترقت الجزيرة العربية نفسها من تقديس القبُور والأضرحة والأشجار والأحجار والتَبَرُّك بها وذبح القرابين على أعتابها.

ميثاق الدرعية: تحالف الأيديولوجية الدينية/السياسية

أثارت دعاوى وفتاوى ابن عبد الوهاب حَنَق بعض القبائل، فهاجموه وطُردَ من “العيينة”، فخرج ابن عبد الوهاب إلى “الدرعية” التي كانت في ذلك الوقت تحت حكم «محمد بن سعود»، وهناك جرى التحالف بين ابن عبد الوهاب وابن سعود، فعقد الرجلين ميثاق سُمي “ميثاق الدرعية”، نصه “ابن غانم” في “تاريخ نجد” بقوله: “أراد ابن سعود أن يكون بينه وبين صاحب الدعوة عهدًا وميثاقًا، فقال له: يا شيخ إن هذا دين الله ورسوله الذي لا شك فيه، وأبشر بالنصرة لك ولما أمرت به والجهاد لمن خالف التوحيد، ولكن أريد أن أشرط عليك شرطين اثنين: الأول، نحن إذا قمنا بنصرتك والجهاد في سبيل الله وفتح الله لنا ولك البلدان، أخاف أن ترحل عنا وتستبدل بنا غيرنا، الثاني، إن لي على الدرعية قانونًا آخذه منهم في وقت الثمار، وأخاف أن تقول لا تأخذ منهم شيئًا. أجاب الشيخ: أيها الأمير أما الأول فابسط يدك الدم بالدم والهدم بالهدم، وأما الثاني فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات، فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير منها”.

ووفق هذا الميثاق فقد رأى حاكم الدرعية ابن سعود من هذا التحالف فرصة ذهبية كي يتشبث بحكمه من طريق هذا الفكر المُتنامي، ويكون مِعْوَلًا لكسر كل من يقف أمام طموحاته، وبذلك اجتمعت لديه مع قوة القبيلة، القوة العقدية التي تستطيع أن تُروض الآخر، أو تُزيحه عن طريقها باستخدام ورقة الانحراف عن شرع الله! وذلك من طريق تنظير ابن عبد الوهاب لعقيدتي (الجهاد والتكفير)، وكذلك من طريق تنصيب ابن عبد الوهاب لابن سعود وذريته من بعده للإمامة وخلافة المسلمين، فيذكر المؤرخ الوهابي “عثمان بن بشر” في كتابه “عنوان المجد في تاريخ نجد” ما قاله ابن عبد الوهاب لحليفه “أرجو أن تكون إمامًا يجتمع عليه المسلمون وذريتك من بعدك”.

“تعاهد الرجلان على الدفاع عن الدين الصحيح ومحاربة البدع ونشر الدعوة في شبه جزيرة العرب باللسان عند من يقبلها، وبالسيف عند من لم يقبلها، وإذ ذاك دخلت الدعوة في دور خطير: هو اجتماع السيف واللسان” ([30]).

فيذكر “ابن بشر” في كتابه “عنوان المجد في تاريخ نجد” الحروب والغزوات التي خاضاها الشيخين معًا فارضين الجهاد واستحلال رقاب كل من لم يعتنق الوهابية، فوسَّعوا في الجزيرة العربية وهجموا على القبائل المجاورة، وذلك عبر الحروب الأهلية التي شنُّوها عليهم وأرغموهم على تبنِّي العقيدة الوهابية، ومن هنا نجد أن بعض الدارسين رأوا أن ابن عبد الوهاب كان مؤسسًا وحاكمًا مشاركًا في الدولة السعودية الأولى.

ويشير الباحث والمفكر التونسي “حمادي الرديسي” في كتابه “ميثاق نجد”، إلى أن هذا الميثاق “يُعدُّ أول ميثاق صريح بين رجل السياسة ورجل الدين”، ووفق الرديسي سيبدو هذا الميثاق بمكانة اللبنة الأولى في تأسيس الوهابية بوصفها عقيدة وأيديولوجيا دينية سوف يُكتب لها السرمدية من جهة، وتأسيس الدولة السعودية بوصفها أيديولوجيا سياسية من جهة أخرى، لذا يجوز أن يُطلق عليها ميثاق القوة والأيديولوجيا الدينية/السياسية.

الجذور التراثية والمرجعيات الدينية (ثنائية التوحيد/التكفير)

سَطَرَ ابن عبد الوهاب في كتابه “التوحيد” أهم الأفكار والقضايا التي قامت عليها الوهابية، ويشير الدكتور “أحمد أمين” في كتابه “زعماء الإصلاح في العصر الحديث” إلى أن مسألة التوحيد من أهم المسائل التي شغلت فكر ابن عبد الوهاب فيقول: “وأهم مسألة شغلت ذهنه في درسه ورحلاته مسألة التوحيد التي هي عماد الإسلام، والتي تبلورت في «لا إله إلا الله»، فلا أصنام ولا أوثان ولا عبادة آباء وأجداد ولا أحبار ولا نحو ذلك، ومن أجل هذا سَمَّى هو وأتباعه أنفسهم «بالموحدين»، أما اسم الوهابية فهو اسم أطلقه عليهم خصومهم واستعمله الأوروبيون، ثم جرى على الألسن”.

ربط ابن عبد الوهاب تصوره لعلم التوحيد بالواقع الاجتماعي والسياسي لمجتمع الجزيرة العربية آنذاك، والذي كان يراهُ غارقًا في الشرك والبدع من طريق زيارة القبور والتبرك بالأولياء، ففتح بابًا واسعًا لتكفير الناس وإخراج كل من يُخالف فهمه لمسألة التوحيد من دائرة الإسلام فيقول: “من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم كفر إجماعًا” ([31]).

فيذكر ابن بشر في “عنوان نجد” قول ابن عبد الوهاب عن التوحيد مخاطبًا ابن سعود فيقول: “هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم، فمن عمل بها ونصرها مَلِكَ البلاد والعباد، وأنت ترى نجدًا كلها وأقطارها أطبقت على الشرك، والجهل والفرقة”.

ثم أسس عقيدة الجهاد وجعلها فرض عين، يُحارب الناس بالسيف بدعوى إرجاع المسلمين إلى إيمانهم الأول، فجعل الجهاد وفق قوله في كتابه “التوحيد” “ذُروة سنام الإسلام، وإن الجنة تحت ظلال السيوف”.

وبهذا التأسيس عَبَّرت الوهابية عن ذاتها بأقصى ما يمكن من العنف، بوصفها الضد الديني للإسلام السائد، آنذاك، في نجد والحجاز، الذي رأت فيه وفي ممارسته لشعائر الإسلام، عودة إلى الكفر والشرك والجاهلية، ونقضًا للإسلام الأول؛ الإسلام الصحيح الطاهر في زمن الرسول والصحابة.

ويُقر “حمادي الرديسي” في كتابه “ميثاق نجد” أنه “منذ أن تَمَوقَعت الوهابية ضمن أهل السنة والجماعة، بادرت إلى تكفير الحاضنة الشعبية الأولى في نجد، وأعلنت الحرب على أهل القصيم، وعلى خلفيَّة طائفية واضحة ومعلنة نشأت الأدبيات الأولى للوهابية في شكل خطب ومؤلَّفات خلعت عليها شكل الأيديولوجيا القائمة، على قائمة لا أوّل لها ولا آخر من الأوامر والنواهي تشتمل على كلِّ مناحي الحياة، بما في ذلك طريقة استخدام الكلام، وموجَّهة ليس إلى أهل نجد فحسب، وإنّما إلى المسلمين قاطبةً”، مُشيرًا إلى أن الوهابية قد قامت على أربعة مبادئ وهما: “التوحيد والفرائض والمحظورات والجهاد”.

أما عن الجذور التراثية والمرجعيات الأساسية للفكر الوهابي، فقد تبلورت في استعادة الأدبيات العقدية والفقهية للفقيه الحنبلي “ابن تيمية” بدءًا من مسألة التوحيد -التي سطرها وناقشها ابن تيمية وأفرد لها ثلاث مجلدات كبرى في مجموعة فتاويه المطبوعة- وخصوصًا “فقه الجهاد” الذي عّدَّهُ ابن تيمية بمنزلة عبادة أعظم من العبادات فيقول في “مجموع فتاويه” “هو (أي الجهاد) أفضل من الحج والعمرة، ومن الصلاة التطوع والصوم التطوع حتى قال النبي (ص) “رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروةُ سنامه الجهاد”.

ويسردُ “الشيخ محمد أبو زهرة” مُجمل الأمور التي استمدتها الوهابية من ابن تيمية وزادوا عليها أمورًا أكثر تشددًا فيقول: “لم يضف الوهابيون في الحقيقة شيئًا على ما قاله ابن تيمية، ولكنهم كانوا أنشط في العمل من ابن تيمية، وحققوا أمورًا لم يتعرض لها وخلاصة تلك الأمور هي:

1- لم يكتف الوهابيون بما قاله ابن تيمية عن قصر العبادة على ما أقره الإسلام في القرآن والسنة، بل رأوا الأمور العادية خارج منطقة الإسلام، فحرموا التدخين مثلًا وتشددوا في تحريمه، والوهابي العامي يرى المدخن كالمشرك، وفي هذا هم أشبه بالخوارج الذين يرون كل عاص كافرًا.

2- لم يكتف الوهابيون بالدعوة المجردة، بل حاربوا مخالفيهم بحجة أنهم يحاربون البدع.

3- كان الوهابيون إذا ما استولوا على قرية أو مدينة هدموا ما فيها من الأضرحة والقبور، فأطلق عليهم بعض الكتاب الأوروبيين صفة “هادمي المعابد”، وكانوا يهدمون أيضا المساجد المُلحقة بالقبور.

4- بعد أن استولوا على الحجاز هدموا قبور الصحابة وساووها بالأرض، ولم يبق منها اليوم سوى بعض الآثار.

5- وَسَّعَ الوهابيون مفهوم “البدعة” توسيعًا عجيبًا، حتى أنهم رأوا أن إسدال الستار على الروضة المحمدية الشريفة بدعة ومنعوا تجديد تلك الأستار.

الحق أن الوهابيين قد أحيوا آراء ابن تيمية وسعوا في تحقيقها بكل شجاعة، ولكنهم وسعوا معنى البدعة ورأوا أن ما لا علاقة له بالعبادة بدعة، مع أن البدعة هي ما لا أساس له في الدين مُطلقَا، والأمر الآخر هو أن العلماء الوهابيين يعتقدون أن أفكارهم وآراءهم هي الصحيحة، وآراء غيرهم هي البعيدة عن الصواب” ([32]).

وإجمالًا يذكر الدكتور “محمد البهي” في كتابه “الفكر الإسلامي في تطوره” أسس الدعوة الوهابية -مع نقدها وتفنيدها- ويرجعها إلى ثلاثة أنواع:

أولًا، فيما يتصلُ “بالأصول” وهي العقيدة، فإنها تدعو إلى توكيد “التوحيد” ونفي الشرك، فبناء القبور على وجه الأرض وزيارتها هي شرك على الحقيقة، وهنا في هذه المبالغة يكمن عامل “الفرقة” بينهم وبين بقية المسلمين. فبينما هم يرون أنفسهم موحدين أو أهل توحيد، يرون غيرهم ممن لا يسلك سبيلهم في المبالغة مُشركين.

تُنادي هذه الحركة باتباع مذهب السلف في صفات الله، وهو المذهب المعروف بالتفويض في كيفية اتصافه بها، وبذلك لا ترى رأي المعتزلة القائلين بأنها عين الذات وليست غير الذات، كما لا يرون رأي الأشاعرة القائلين بأنها ليست غيرًا وليست عينًا.

ثانيًا: فيما يتصلُ بالفروع وهي الفقه نرى، أن فقه الحركة الوهابية يتبع مذهب ابن حنبل بعامة، وأن تقصر الحجية في مصادر التشريع على القرآن والسنة الصحيحة وحدهما، أما الإجماع فيتوقف على وجود شاهد له من القرآن أو السنة، على نحو ما معروف لابن تيمية من رغبته في قصره على إجماع مجتهدي الصحابة، وتُنكر هذه الحركة غير المذاهب السنية الأربعة، مثل مذهب الشيعة ومذهب داوود الظاهري.

ثالثًا، فيما يتصل بموقفها السلبي ضد الاتجاهات الإسلامية المذهبية والفكرية الأخرى فإنها تُحارب الفلاسفة على نحو ما حاربهم ابن تيميه وتلميذه البن القيم الجوزية، وتحارب الشيعة للاعتقاد “بعصمة الإمام” والقول “بالتقية، والوسيلة”، والوسيلة هنا اتخاذ الإمام واسطة، وتحارب المتصوفة المتأخرة لقولها بالاتحاد والحلول وبرفع التكاليف، بناء على فهمها الخاص “أي فهم المتصوفة” للقرآن من أن له ظاهرٌ وباطنٌ ([33]).

فكان هدف السلفية الوهابية هو الكشف عن البدع والقضاء عليها من أجل العقيدة السلفية، لا من أجل النهضة والتقدم الحضاري، وكثيرًا ما كانوا يتجاهلون أهمية العلوم الحديثة ويحاربون الأفكار الحداثية.

رشيد رضا والتأسيس الثاني للسلفية الوهابية

إذا كان محمد بن عبد الوهاب واضع بذور السلفية الوهابية، فإن رشيد رضا بانقلابه على السلفية الإصلاحية، ودعمه للوهابية كان بمكانة الراعي والحافظ على هذه البذور إلى أن نمت وترعرعت وتطورت واتسعت رقعتها، فلولا رشيد رضا لانكمشت الوهابية وانحصرت في بيئتها ومكانها الأصيل.

في أثناء العقود التي أعقبت وفاة محمد عبده 1905، أدى ازدياد التدخل الأوروبي في الشرق الأوسط إلى إحساس بإلحاح الموقف بين الإصلاحيين الإسلاميين، ومع سقوط الإمبراطورية العثمانية وانتصار الكمالية العلمانية في تركيا وإلغاء الخلافة عام 1924 وصعود الحركات العلمانية في محاولة لمحاكاة نموذج أتاتورك في تركيا، تغيرت بوصلة ورؤية رضا الإصلاحية وتمحورت حول حفظ الهُوية الإسلامية، فأصبح أكثر محافظةً فيما يتعلق بالغرب، وسوف يُكرس جُهوده لمعركة الهُوية بشقيها الثقافي والسياسي، وذلك من طريق الدعوة والتنظير إلى صياغة كيان سياسي إسلامي أممي جامع ([34]).

وربما تمثَّل هذا الكيان السياسي الإسلامي الجامع لدى رشيد رضا في الدولة السعودية الوليدة، وقائدها “عبد العزيز آل سعود”، وإلى جانب الظروف السالفة الذكر، كانت هناك إحدى التداعيات التي جعلت رشيد رضا يقدم دعمه الكامل للسعوديين الوهابيين، وهو بسبب إعلان “الشريف حسين” نفسه خليفة للمسلمين بعد يومين من إلغاء أتاتورك للخلافة في مارس 1924، وقد كان كلٌّ من الشريف حسين في الحجاز وعبد العزيز آل سعود في مكة يتنافسان على السيطرة على شبه الجزيرة العربية، ومع إعجاب رشيد رضا الكبير بعبد العزيز وتدينه وتنديده بالشريف حسين لانحيازه واعتماده على دولة استعمارية (بريطانيا) من أجل البقاء في السلطة، فادَّعى رشيد رضا أن الشريف حسين في إلحادٍ بظلم في عدد من النواحي منها: أنه كان يحكم بأهوائه وكان يمنع خُصومه النجديين من الحج وكان يفرض ضرائب خارجة عن الإسلام على السكان والمقيمين والحجَّاج، وعلى العكس من ذلك تمامًا كان عبد العزيز يُمثل كلَّ ما يتوقعه رشيد رضا من الحاكم المسلم، فكانت زعامته القيادية والتزامه القوي بالإسلام -وفق رشيد رضا– هو بالضبط ما يحتاجه العالم الإسلامي بعد العثمانيين.

وما أن اتفق أنَّ عبد العزيز بدأ في هجماته على الحجاز في سبتمبر 1924، لم يكن أن يجد رضا أخبارًا أفضل من هذه لقد وجد بطله وسوف يدعمه تدعيمًا مخلصًا، ومنذ هذه اللحظة أصبح رشيد رضا من أكبر أنصار عبد العزيز وأكثرهم تأثيرًا وإخلاصًا ([35]).

وإذا كان رشيد رضا قد وَجَّهَ دعمه الكامل للدولة السعودية، التي ستكون أفضل أمل لديه لعودة المجد الإسلامي، فإنه بالضرورة سوف يدعم الوهابيين أصحاب السلطة الشرعية، وذلك من طريق عدة جوانب:

أولًا، دفع الانتقادات الموجه للوهابيين وفهمهم المتطرف والمُتَصَلب للإسلام، فقد مَثَّلت مُغالاة الوهابيون وتشددهم انزعاج المسلمين في جميع أنحاء العالم، “فمع تقدم الفتوحات السعودية، أصبح رضا يتلقى عددًا متزايدًا من الرسائل من قراء “المنار”، الذين كانوا قلقين من الوهابيين وسيطرتهم على المدينتين المقدستين مكة والمدينة، ففي إحدى الحالات كتب رجلٌ يسأل عمَّا إذا كان الوهابيون سيهدمون الحجرة وقبر النبي -صلى الله عليه وسلم- والقبة الخضراء فوقه”، وفي عام 1924 في أثناء المرحلة الأولى لغزو الحجاز استولى الوهابيون على مدينة الطائف ونهبوها وقتلوا المئات من سكانها، ورغم ذلك لم يستطع رشيد رضا أن يُدين جنود عبد العزيز، وقال إنه يقع مثل ذلك في كل حرب، وذكَّر قُرَّاءه بأن هذا النوع من الأخطاء قد وقع قبلهم من خير جنود البرية وهم الصحابة رضى الله عنهم ([36]).

ومضى رشيد رضا يُؤصل للسلفية الوهابية ويُعلي من شأن مؤسِسَّها (محمد بن عبد الوهاب) بقوله: “لم يخل قرن من القرون التي كثر فيها البدع من علماء ربانيين، يجددون لهذه الأمة أمر دينها بالدعوة التعليم وحسن القدوة، وعدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المُبطلين وتأويل الجاهلين… ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي من هؤلاء العدول المجددين، قام يدعو إلى تجريد التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله خاتم النبيين (صلى الله عليه وسلم)، وترك البدع والمعاصي وإقامة شرائع الإسلام المتروكة وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة” ([37]).

ثانيًا، نشر جميع الكتب التي تحتفي بالحركة الوهابية، فكان رضا راضيًا بإتاحة الأدبيات الوهابية لقُرَّائه، بغض النظر عن أصل تلك الأدبيات ومؤلفها أو السبب التي كُتبت لأجله في المقام الأول.

ثالثًا: سَهَّل سفر بعض تلاميذه المقربين إلى الحجاز، وفي معظم الحالات كان يقدمهم إلى الملك عبد العزيز أو يُوصيه بهم خيرًا، وكان الملك يُعينهم بعد ذلك في مناصب قيادية في المؤسَّسات الدينية والتعليمية في مكة والمدينة ([38]).

رابعًا: مركزية ابن تيمية وتأثر رشيد رضا به في مرحلته الفكرية الثانية، بعد أن كان من متبنيًا خطابات العقلانية، المتمثلة في تفسير فخر الدين الرازي -على سبيل المثال- وخطابات المصلحة العامة متمثلة في نجم الدين الطوفي والإمام الشاطبي، ومما قاله عن كتب ابن تيمية وكتب تلميذه ابن القيم كذلك، “إنها لا نظير لها فيما نعرفه من كتب المسلمين في مجموع مزاياها”، وأنه لم يجد في كتب أحد من علماء هذه الملة من أحاط بما أحاط به ابن تيمية من حفظ النصوص وأقوال الناس من المحدثين والمتكلمين والفلاسفة والمبتدعة… والوقوف على أدلتهم وتحقيقها وتحرير الحق الذي كان عليه سلف الأمة، وأن ابن تيمية اطلع على ما لم يطلع عليه الأئمة الأربعة كلهم، كونه أتى بعدهم، وأن ما رجحه هو الحق في الغالب ([39]).

بهذا أضحى رشيد رضا الناطق الرسمي باسم السلفية الوهابية مُدشنًا لما سوف يُطلق عليه بعد ذلك (الإسلام السياسي) على يد تلميذه المخلص (حسن البنا)، مُجهضًا مشروع الإصلاح والنهضة، فقد مَثَّل رشيد رضا أحد العوامل المهمة التي أدت إلى تراجع المشروع الإصلاحي، بنحو ما أقر “عبد الإله بلقزيز” بقوله: “إن العقلانية الإصلاحية التي حملت مع الطهطاوي والتونسي والأفغاني، وعبده، والكواكبي، والمرصفي، مشروعًا ثقافيًا لا سابق له منذ الحقبة الأندلسية، سرعان ما ستشهدُ عدًّا عكسيًا سينتهي إلى إجهاض مشروعها قبل أن يُكمل قرنًا على انطلاقه، وثمة ثلاثة عناصر على الأقل تُفسر إجهاضها:

ومن أهم هذه العوامل هي، انقلاب العقلانية الإصلاحية على نفسها في لحظة من تاريخها المتأخر، خصوصًا لدى جيلها الأخير، فمحمد رشيد رضا الذي تتلمذ على محمد عبده وانتهت إليه أفكاره الإصلاحية الإسلامية، سرعان ما سيرتد عن تراثها العقلاني، خصوصًا فيما اتصل بالمسألة السياسية، وهي جوهر خطاب الإصلاحية الإسلامية، وفيما كانت هذه الإصلاحية تدافع عن الدولة الوطنية الحديثة بوصفها السبيل إلى تحقيق الترقي (الطهطاوي، والتونسي)، وتوجه ألذع نقد للاستبداد السياسي والديني (الأفغاني، والكواكبي)، وتدافع عن الحرية والعدل السياسي في وجه السلطان والنظام التمثيلي النيابي، الذي دافع عنه عبده، للعودة مجددًا مع رشيد رضا إلى موضوع الخلافة وفقه السياسة الشرعية في عشرينيات القرن العشرين، مُدمرًا كل تراث العقلانية الإصلاحية في هذا الباب” ([40]).

وبذلك سوف تكون “مسألة الخلافة” التي أعادها رضا مجددًا إلى العصر الحديث، الأجندة الأساسية في مشروع الإسلام السياسي بدءًا من تلميذه “حسن البنا” مرورًا بالمودودي وسيد قطب إلى أيمن الظواهري وأبو بكر البغدادي وغيرهم، وهذا ما سوف نحاول الوقوف عليه في المقال القادم يتبع

 

قائمة الحواشي والمراجع:

[1]) انظر، محمد الحداد، الإصلاح الديني في أعمال المعاصرين. وأيضًا شارل سان برو، حركة الإصلاح في التراث الإسلامي، ترجمة: أسامة نبيل، المركز القومي للترجمة، ص123- 127.

([2]) انظر رشيد رضا، مجلة المنار، عدد 9، ص357.

([3]) انظر، رشيد رضا، محاورات المصلح والمقلد، ص126. وألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، دار النهار للنشر، بيروت.

([4]) هو نجم الدين الطوفي (ت 716 هـ)، فقيه عاش في القرن السابع وأوائل القرن الثامن، وهو من كبار فقهاء المذهب الحنبلي في عصره وصاحب كتب كثيرة في مجالات معرفيّة متنوّعة مثل التفسير والحديث والجدل، أمّا مؤلّفاته في أصول الفقه فأكثرها مختصرات وشروح مثل “مختصر الحاصل” لتاج الدين الآرموي (ت 656 هـ) و”مختصر المحصول” لفخر الدين الرازي، غير أنّ أهمّ ما وصلنا من الطوفي هو كتابه “رسالة في رعاية المصلحة”، والذي أبان فيه الطوفي خلافًا للحنابلة “ان المصلحة العامة مقدمة على النصوص كافة سواء ظنية أو حتى قطعية -مثل القرآن والمتواتر من السنة-، وعلى الإجماع كذلك، بمعنى أنّ العلماء إذا أجمعوا على أمر ما بنص، وكان مخالفًا للمصلحة في بعض وجوهه قُدمت المصلحة. وقد بينَّ وجه تقديم المصلحة على النصوص، من طريق أن النصوص قابلة للنسخ والتخصص وعدم قبول المصلحة لهما.

[5]) رشيد رضا، مجلة المنار، ج9، ص721.

([6]) انظر، رشيد رضا، مجلة المنار، عدد 10، ص234، وأيضًا، ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ص283.

([7]) رضوان السيد، رشيد رضا وقضية المرأة في العالم الإسلامي منذ نصف قرن، مجلة العربي، عدد 349.

([8])  فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام، ص 465.

[9]) رضوان السيد، رشيد رضا وقضية المرأة في العالم الإسلامي، سبق ذكره.

([10]) قاسم أمين، تحرير المرأة، الهيئة المصرية للكتاب، ص33.

([11]) قاسم أمين، تحرير المرأة، الهيئة المصرية للكتاب، ص33.

 ([12]) طلعت حرب، فصل الخطاب في المرأة والحجاب، ص5.

([13]) رشيد رضا، مقالة الحياة الزوجية، تربية المرأة والحجاب لطلعت حرب، المنار، القاهرة، 1905م، ص 166.

[14]) رشيد رضا، الوحي المحمدي، دار الكتب العلمية، بيروت، ص235.

[15]) رشيد رضا، نداء للجنس اللطيف. حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام.

[16]) انظر، تفسير المنار، ج2، ص298.

[17]) رضوان السيد، رشيد رضا وقضية المرأة في العالم الإسلامي، مجلة العربي، سبق ذكره.

[18]) انظر، تفسير المنار، سبق ذكره.

[19]) انظر، تفسير المنار.

[20]) الطاهر الحداد، امرأتنا في الشريعة والمجتمع، الدار التونسية للنشر، ص31، وانظر أيضًا، نصر أبو زيد، دوائر الخوف، ص67، 68.

[21]) ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ص284، 285.

[22]) كان هذا الكتاب بالأساس مناظرة بين الشيخ عبد المتعال الصعيدي والشيخ عيسى منون، أثبت فيها الأول أن أصول الشريعة الإسلامية لم تكن قط مناهضة للحرية الإنسانية ولا معادية لحرية العقيدة، في حين تبنى الثاني النظرة التقليدية المحافظة المقرة بوجوب قتل المرتد، وقد صدر الكتاب لأول مرة عام 1955.

[23]) عبد المتعال الصعيدي: الحرية الدينية في الإسلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 2012م، ص 9.

[24]) عبد المتعال الصعيدي، الحرية الدينية، ص14.

[25]) عبد المتعال الصعيدي، الحرية الدينية، سبق ذكره.

[26]) انظر، حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ص285.

[27]) هنري لوزيير، صناعة السلفية: الإصلاح الإسلامي في القرن العشرين، ترجمة: أسامة عباس، عمرو بسيوني، ابن النديم للنشر والتوزيع، ص181.

[28]) انظر، حسين بن أبي بكر بن غنام، تاريخ نجد، وأيضا محمد البهي، الفكر الإسلامي في تطوره، مكتبة وهبة، القاهرة، ص70، 71.

[29]) انظر، محمد البهي، الفكر الإسلامي في تطوره، ص73، وأيضا، ابن غانم، تاريخ نجد.

[30]) محمد فتحي عثمان، السلفية في المجتمعات المعاصرة، كلية العلوم الاجتماعية، جامعة الامام محمد بن سعود، الرياض، ص32.

[31]) أدونيس وخالدة سعيد، الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، من سلسلة “ديوان النهضة”، دار العلم للملايين، بيروت، ص60.

[32]) همايون همتي، الوهابية نقد وتحليل، المكتبة التخصصية للرد على الوهابية، ص63، 64.

[33]) محمد البهي، الفكر الإسلامي في تطوره، ص80، 81.

[34]) انظر بتصرف، هنري لوزيير، صناعة السلفية الإصلاح الإسلامي في القرن العشرين، ص181، وأيضا، كرم الحيفاوي، دراسة بعنوان: رشيد رضا بين التراث والحداثة، مركز المجدد للبحوث والدراسات.

[35]) انظر بتصرف، هنري لوزيير، صناعة السلفية، الإصلاح الإسلامي في القرن العشرين، سبق ذكره، ص180-183، وأيضا، وجيه كوثراني، مختارات سياسية من مجلة المنار.

[36]) صناعة السلفية، الإصلاح الإسلامي في القرن العشرين، ص185.

[37]) رشيد رضا، صيانة الإنسان.

[38]) صناعة السلفية، الإصلاح الإسلامي في القرن العشرين، ص191.

[39]) انظر رشيد رضا، مجلة المنار، عدد 23، 28.

[40]) انظر، عبد الإله بلقزيز، العرب والحداثة، ص92.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete