تكوين
تتشكل المنظومة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للأمم حول الناس الذين يعرفون بعضهم بعضا ويفكرون معا لإدارة وتحسين حياتهم، وعلى نحو مؤسس فإن اجتماع الأمم أو معرفة الناس بعضهم بعضا يستمد من أطفال ورجال ونساء يعيشون معا على نحو يومي ومألوف في المدارس والأسواق والمرافق والأندية، وبكلمة فإن ذلك كله “المشي”
فالسلام المنشئ للمدن والقرى يتجلى في قدرة الناس على مشي الهوينى، أو في عبارة أخرى قدرتهم على أداء حياتهم وأعمالهم في سلام وطمأنينة. إن مشي الهوينى يؤسس منظومة الحضارة الإنسانية وقيمها، إذ يعني بالضرورة السلام والثقة والتواضع المنشئ للاحترام والتعاون المتبادل بين الناس.
يمكن تتبع قصة حياة القرى والمدن في مشهدها الراسخ اليومي على مدى القرون، ينهض أهلها في الصباح الباكر يمضون إلى مزارعهم ثم يعودون في المساء، محملين ما يجدونه من ثمار الحقل أو مما تنبته الأرض متاعا لهم ولأنعامهم، وفي المساء يتجمعون صيفا تحت ظل شجرة وشتاء في الديوان أو في بيت أحدهم الذي يكون عادة ملك القرية (كان مختار القرية يسمى ملك، ومازال يسمى باللفظ نفسه في أفغانستان) يتحدثون في شؤونهم ويستمعون إلى القصص، وفي مراحل من الوفرة يكون للقرية معلم هو في الوقت نفسه رجل الدين والطبيب والمرشد الزراعي، يروي في المساء قصصا وأخبارا ومواعظ، ويكون عادة مساعد الملك ويتولى مسائله الكتابية والحسابية.
المتوالية تنشأ كما هو شأن الإنسان في التاريخ والجغرافيا في تحسين الحياة، والبحث عن المعنى والجدوى، والسؤال عن الحياة والعالم، أو بكلمة “المعرفة” البحث عن المعرفة التي تحسن حياته وتجيب على اهتمامه بالعالم وبحثه عن المعنى والجدوى.
المعرفة تحتاج إلى وفرة في الوقت والموارد، فليطور أدواته ويحل المشكلات التي تعترضه في الزراعة والري، يحتاج أن يتعلم وأن يدفع للحرفيين والبياطرة الذين يساعدون في تطوير عمله ومنتجاته، ويقدمون له الدواء والخبرة والأدوات، ويصلحون له ما يتلف منها، أو للعمال والمساعدين من المزارعين والحراثين والرعاة والحصادين. هؤلاء يجب أن يجدوا من الوفرة ما يغنيهم عن العمل في الزراعة وتدبير قوتهم أو ما يشجعهم على العمل مع المزارعين والحرفيين ومساعدتهم. تتشكل الطبقات الاجتماعية والاقتصادية، وتتشكل المهن والحرف الفنية وأصحابها وطبقاتها ومصالحها أيضا.
في البحث عن المعنى والجدوى ظهر المعلمون والكهنة والرواة والدراويش والفلاسفة، وفي مواجهة متطلبات الحياة وتحدياتها نشأت التشكلات الاجتماعية والتعاونية للعمل الجماعي وتنظيمه، فكان المجتمع، والقضاة والقادة الاجتماعيون، وفي صياغة القواعد والأعراف الاجتماعية وتطوير التنظيم الاجتماعي تشكلت الموسيقى والفنون والألعاب، والعادات والتقاليد والاعراف والقيم. لكن كيف يؤثر مشي الهوينى في تشكيل واتجاه الحرف والمهن والطبقات والموسيقى والفنون والقيم والأعراف؟ كيف يؤثر على الموارد والأعمال نفسها؟ كيف يؤثر في تصميم الطرق والبيوت والمرافق وقنوات الري وأدوات الزراعة والأدوات الموسيقية؟
يجب أن تكون المسافة لا تحتاج إلى أكثر من نصف ساعة (في حدود ألفي متر) فلا يعقل أن يمضي نهاره في المشي. هكذا تتشكل حدود القرى والأحياء والمسافات للمزارع في دوائر ومساحات من الأرض يحددها الزمن اللازم لرحلة مشي الهوينى، فيتوزع الناس في سلاسل من القرى ومدينة أو مركز ينتظمها.
في سلوكه وعلاقاته بمن حوله والآخرين يجب أن يظل المزارع قادرا على مشي الهوينى، ليس مطلوبا من أحد، ولا يتكبر على أحد، يحتاج أن يجعل الناس يحترمونه أو لا يؤذونه، لا تتفق المفاجآت والطوارئ مع مشي الهوينى، يجب أن يكون كل شيء متوقعا ومحسوبا، أو أن يكون قادرا على مواجهة ما يمكن أن يحدث، في الخريف إذا لم يعد طعام، وفي الشتاء يحين يحل البرد مع الجوع، وفي الصيف حين تغمره الوفرة من غير عمل كثير، وفي الربيع حيث يجب العمل الكثير المتواصل. يمضي الربيع في عمل طويل، لا يفوت لحظة للتزود والاستعداد والاستفادة من عطايا الطبيعة ومنحها، وفي الصيف عمل كثيف جماعي لجني المحصول وتخزينه وتسويقه، ثم فترة من الأفراح والليالي الملاح، ففي ذروة الموسم تعقد الصفقات والزيجات، البيع والشراء في المدينة، بما في ذلك من دهشة وترفيه وفضول! يبيع المحصول ويشتري القماش والمناديل والحلي والشاي والسكر والحلويات ويعكفون على تصنيع الطعام المخزن، المجففات والمملحات والمخللات والمحلّيات، والنبيذ والزيت والملح، واللبنة والجميد والجبنة والسمن والقاورما (اللحم يطبخ ويخزن تحت طبقة من الدهون في جرار من الفخار) وصيانة البيوت وترميمها وجمع الحطب وإعداده وتخزينه للشتاء والطهو، ثم بيات شتوي ليس سوى عمل قليل. قد ينتقل إلى أمكنة أكثر دفئا، وفي مراحل متقدمة صارت البيوت والقرى تصمم وتعد لتكون أكثر دفئا وقدرة على مواجهة البرد والشتاء!، الطوابق الأرضية والاقبية في البيوت والكهوف والمغاور العميقة الدافئة والمجهزة بالطعام والماء، ويجعلها الكانون والشراب والسمر دافئة مؤنسة.
هذا يجعله فضوليا، وإن كان يتظاهر باللامبالاة، يكون للمعلم ورجل الدين (الخطيب والكاهن) دور كبير ليزوده بالمعرفة التي تكسر عزلته ووحدته الصعبة المملة، يزوده بما يحتاج إليه في حياته ومستقبله، يحيب سؤاله الملح الدائم عن الحياة والكون والأسرار والألغاز الكثيرة المحيطة وأخبار العالم المجاور والمحيط والبعيد. يشغل نفسه بالسؤال، لكنه يكتفي بما يحصل عليه من إجابات من المعلم أو الخطيب او الكاهن أو الزوار القادمين والعابرين والرواة والضيوف في المجالس، وتستعاد القصص والإجابات ثم ترتب في الرحلة الإيقاعية المنتظمة يوما بعد يوم ،وسنة بعد سنة وقرنا بعد قرن، منتظمة هادئة متكررة راسخة، يصعب تغييرها أو مراجعتها، تصلح للطمأنينة والعلاج والعمل والقلق لما بعد الحياة. تظل حاضرة جاهزة لاستخدامها أو استرجاعها كلما دعت الحاجة لذلك، ليس ثمة مجال للبحث عنها أو اختراعها، لا مجال لغير المتوقع أو لما هو استثنائي، يجب أن يكون كل شيء واضحا جاهزا ومتوقعا ومنتظما مثل رحلة مشي الهوينى نفسها في الصباح والمساء!
القانون والعادات والتقاليد والأعراف والقيم المتشكلة حول مشي الهوينى تكون واضحة ومحددة، كل شيء محسوب ومعدّ بإيقاع ووضوح رحلة الهوينى نفسها، ليس فيها استثناء أو ما هو غير متوقع، يتبعها الفلاح بانتظام وخضوع، يؤدي واجباته الدينية والقانونية، ويدفع الضرائب، ويلتزم العادات والتقاليد والأعراف والقيم برضا والتزام حرفي واضح، لكنه يرتبك أمام أي حالة استثنائية أو غير متوقعة، لا يتقبل فكرة دينية أو قانونية أو عادة طارئة أو غير معروفة له من قبل، أو لم يتلق بشأنها توضيحا أو تحذيرا من قبل المرجعيات المحددة والمختصة، العمدة او المعلم او الكاهن أو العراف أو البيطري أو كبير العائلة. ليس لديه موقف خاص، يرفض الإضافة أو الحذف في أي شيء، سواء في الدين او القانون أو الثقافة الاجتماعية الناظمة لحياته وإيقاعها. يقاوم أي تعديل في الأفكار والالتزامات والسلوك مهما كان ضئيلا أو هامشيا أو مفيدا وإبداعيا، لا يقاوم في شيء النظام السائد، ويقاوم بشدة أي تغيير أو خروج عليه بلا تأمل أو تفكير في فائدة وأهمية التغيير او أضرار وعواقب الخضوع والالتزام.
لقد انتظمت أنفاسه ودقات قلبه وإيقاع خطواته، وعاداته اليومية الفردية المنتظمة حول مشي الهويني من غير تعديل مهما كان وعلى مدى آلاف السنين، الاستيقاظ في موعد محدد، الطقوس الدينية والإفطار والذهاب إلى العمل والغداء والعشاء والسهر والنوم، لا يمكن مخالفتها أو تغييرها لأي سبب وتحت أي ظرف. إذا جاء موعد الطعام يجب أن يوضع الطعام ويتناوله، لا يقبل ذلك تأجيلا أو استثناء، وفي ذلك يرتب ويحدد عمله ومواعيده وتوقيت حياته وعلاقاته.
هكذا نشأت منظومة العدل والأمن والشجاعة والكرم والأسواق والموارد، لكنها منظومة لا تحميها تشكيلات متفرغة ومنظمة من المقاتلين، ليس سوى أعداد من الحراس والفرسان تسندهم عند الحاجة قوات أكثر تتجمع على عجل من أشخاص هم مشغولون أساسا في حياتهم اليومية.
وهنا تنشأ معادلة دقيقة وتوازن صعب بين الموارد والوفرة والقوة والمصالح، وبرغم تعقيداته ومتوالياته، فإنها محكومة بذاكرة مشي الهوينى. الذاكرة هي الضمان الوحيد لهذه المنظومة؛ أن تتذكر أنك تمشي الهوينى، لا تستطيع الهرب، كيف لا يهاجمك الأعداء والجائعون واللصوص والغرباء؟ كيف ترد الأعداء والحاسدين؟ يقول الشاعر نعمان بياليك في قصة شعرية رمزية عندما هاجم مقاتلون القرية، وقالوا له أهرب، فقال: مثلي لا يستطيع الهرب، بقري علمني أن أمشي الهوينى.
هكذا يمكن ببساطة وصف تشكيل نشأة وتخطيط المدن والقرى بأنه مشي الإنسان من بيته إلى عمله وعودته إلى البيت في أمان وسهولة وزمن معقول. الأحياء في المدن هي المحيط الحيوي من المساكن والمدارس والحدائق والأسواق والمكتبات والخدمات الأساسية في فضاء من المشي على القدمين في حدود عشر دقائق، فالتجربة الإنسانية في المدن أن الإنسان يفكر في المشي تلقائيا إذا كان يحتاج من خمس إلى عشر دقائق، وهي مسافة تقدر في المشي المتوسط من400 – 800 متر.
المدينة إذن أو الحي أن يكون في مقدور الأطفال أن يذهبوا إلى مدارسهم مشيا على الأقدام ويعودوا إلى بيوتهم في أمان وفي مدة زمنية لا تتجاوز عشر دقائق. إن عشر دقائق من المشي في الحي تعني إمكانية تخطيط حي أو بلدة أو مدينة صغيرة يقيم فيها عشرون ألف إنسان. عشر دقائق من المشي تساوي ثمانمائة متر تقريبا. وهذا يعني إمكانية مساحة تساوي مليونين ونصف مليون متر مربع، بافتراض أن الحي مساحة أو دائرة نصف قطرها 800 متر، وإذا خصص للفرد في المدينة فضاء قدره مائة متر مربع، فنتحدث عن 20 إلى 25 ألف نسمة في مقدورهم أن يذهبوا إلى المدارس والأسواق والمرافق الرئيسية واليومية (مثل الحديقة والسوق والمعبد والمكتبة والنادي، ومحطة النقل العام) ويعودوا إلى بيوتهم مشيا على الأقدام، وإذا لم يكن عمل المقيم في الحي نفسه يجب أن يكون محطة للنقل العام تمكنه من الوصول في حدود عشرين إلى ثلاثين دقيقة. وهكذا يمكن تخيل تشكيل وتخطيط القرى والمراكز والأسواق والخدمات التي تنتظمها.
لنتخيل أن إدارات المدن قررت تخطيط الأحياء والمدن والمرافق على أساس أن يمشي الأطفال إلى مدارسهم ويعودون إليها، وأن يمشي البالغون إلى أعمالهم ويعودون أو على الأقل أن يمشوا إلى محطة النقل العام التي تمكنهم من الوصول إلى أعمالهم.
نتحدث عن أرصفة آمنة وملائمة للمشي لا تقتحمها سيارات، وأحياء وشوارع وطرق وممرات تمكن جميع الناس بمن فيهم الأطفال وكبار السن و المعوقين من المشي في أمان، ومدرسة في كل حي. سوف تختفي مصالح وأساليب حياة تشكلت بعيدا عن هذه الحقيقة البسيطة، ففي الأردن يذهب كل يوم إلى المدارس مليونا طالب وتلميذ ويعودون إلى بيوتهم، معظمهم يستخدمون وسائل النقل العام أو الخاصة، وهي عملية لوجستية معقدة تنطوى على جهود هائلة وهدر كبير في الطاقة والأوقات، وتتسبب في الزحام والتلوث والتوثر وحوادث المرور، كما نشأت مصالح وطبقات قائمة على هذه العلاقة غير الصحية بين الإنسان والمكان! لنتخيل الوفر الممكن تحقيقه في الوقت والمال والطاقة والبيئة والهدوء عندما تقوم الحياة اليومية والأساسية على المشي.
ينشأ التكوين الاجتماعي حول هذه المنظومة فالقيادات الاجتماعية التي تنشط أو تظهر تلقائيا حول الخدمات البلدية والأساسية والأسواق والتجارة والأعمال والأنشطة الثقافية والاجتماعية في الحي أو البلدة أو المدنية تكون هي نواة القيادات المركزية في التشريع والنقابات والاتحادات التجارية والرياضية ومنظمات المجتمع المدني.
نتحدث بطبيعة الحال عن قيادات اجتماعية جديدة، معلمين ومهندسين وأطباء ومحامين ونواب وأعيان ووزراء جدد، وأسواق جديدة وسلع ومنتجات جديدة. سوف تتبخر كثير من الاسواق والوكالات التجارية القائمة على أسلوب حياة مختلف، وبطبيعة الحال تنشأ صراعات وتفاعلات جديدة وقواعد جديدة للتنافس والتداول.
لنتخيل متوالية التشكلات الاجتماعية التي تنشأ حول المشي، ففي مشي الأطفال معا إلى المدارس تنشأ الصداقات والفرق الرياضية والثقافية، والمعرفة الدائمة والراسخة للناس ببعضهم بعضا، ويمكن بذلك بناء شراكات في الحياة والأسر والعمل قائمة على معرفة قوية وعميقة للناس ببعضهم بعض، وسوف يكون في مقدور أهل الحي معرفة بعضهم بعضا والحوار والجدل في شؤون حياتهم كالتعليم والصحة والخدمات والثقافة والترفيه، وترشيد الانتخابات البلدية والنقابية والنيابية لتكون قائمة على معرفة وتجربة حقيقية مع المرشحين والتيارات، وتنشأ بتلقائية قيادات اجتماعية معروفة جيدا للناس من خلال دورها الاجتماعي والثقافي.
وعندما يكبر الاطفال الذين نشأوا في الحي نفسه أو في المحيط الذي يعرفونه ويعرف بعضهم بعضا فيه تتشكل خبرات اجتماعية متراكمة وراسخة ومعروفة أيضا.
يمكن أيضا تفعيل وترشيد الإنفاق والعمل العام الموجه للفقراء والمحتاجين والمرضى والمعوقين وكبار السن، لأن المعرفة العملية واليومية بالناس تمكن الإدارة الاجتماعية على مستوى المدينة والحكومة المركزية من توجيه الإنفاق والعمل وجهة صحيحة وعادلة، ومن المعروف في الأردن أنه يجري إنفاق مبالغ كبيرة من الميزانيات العامة والتبرعات والمنح الدولية لأجل مواجهة الفقر لكن نسبة الإنجاز الحقيقي والفائدة لا تستحق أكثر من 20 في المائة من الأموال التي أنفقت بالفعل، إذ يذهب معظمها بعيدا عن الاحتياجات والأولويات الحقيقية بسبب غياب المعرفة والإحاطة وإمكانية الفساد والتضليل في العمل، فيظل الفقراء فقراء وتتشأ طبقة طفيلية من أثرياء العمل الاجتماعي الوهمي.
إن السياسة والاجتماع هي الناس الذين يعرفون بعضهم بعضا ويفكرون معا لإدارة وتحسين حياتهم، وإن معرفة الناس بعضهم هي أطفال ورجال ونساء يعيشون معا على نحو يومي ومألوف في المدارس والأسواق والمرافق والأندية، وبكلمة فإن ذلك كله “المشي”
لم يعد مبالغة القول إن المدن تشكل مدخل الإصلاح الشامل وبناء مجتمعات التسامح ومواجهة التعصب التطرف والكراهية، وهي أيضا مدخل تعزيز وتمكين الطبقة الوسطى.
بعد اكتساب دعوات حماية البيئة ومواجهة التلوث مصداقية عليا، وتحولها إلى أولوية عالمية كما في قمة كوبنهاغن ومؤتمرات وقمم عالمية كثيرة، أصبحت العودة إلى أسلوب حياة الطبقة الوسطى وإتاحة المجال له له للانتشار، أو على الأقل عدم تعميم أسلوب الحياة المكلف والمحتاج إلى تدخل إضافي من الطاقة والتقنيات أولوية قصوى، ففي مواجهة التلوث وانبعاث ثاني أكسيد الكربون، والعمل على الاحتفاظ بموارد المياه وأحواضها والأراضي الزراعية، وبناء عادات صحية وغذائية سليمة منسجمة مع البيئة يكون الحديث بطبيعة الحال عن العودة إلى أسلوب الطبقة الوسطى في الحياة وتعزيزها وتمكينها لتقود أو تضبط عملية الإصلاح والتوازن بين البيئة والحياة الأفضل.
في توظيف المعرفة لأجل التقدم وإصلاح المدن يعود الاعتبار إلى الفنون والمهارات والمعارف التي تجعل الحياة والمدن ملائمة من غير موارد إضافية، فيكون “التصميم” أكثر من الموارد والتقنيات أحد موارد الدول والمجتمعات لبناء المدن والأحياء والبيوت وتصميمها وفق أهداف وأفكار واحتياجات بالغة الضرورة وفي الوقت نفسه من غير تكاليف إضافية، وهنا يجب النظر إلى “التصميم” باعتباره فلسفة تعبر عن الثقافة والتاريخ والأشواق الروحية والاحتياجات المادية والاستفادة من الطبيعة المحيطة في البناء والحياة، ومراعاة الطبيعة الجغرافية والمناخية، مراعاة الأهداف والأغراض التي تقوم من أجلها البيوت والمدن والأحياء والطرق والتجمعات والمصالح والأعمال.
هل تصلح البيوت والمدن والبلدات والأحياء والطرق والمرافق التي تقام وتخطط في بلادنا للحياة الإنسانية المعاصرة؟ هل يمكن الحصول على عمارة أفضل من غير تكاليف إضافية؟ هل يمكن تحسينها من غير تدخلات مكلفة ومرهقة؟ ربما يكون السؤال الأكثر إيلاما من ذلك كله هو هل تضر أم تفيد أنظمة البناء وتخطيط المدن والطرق بالبيئة والزراعة ومصادر المياه وأسلوب الحياة؟ اليوم وقد أصبحت البيئة والمياه والزراعة تحديا رئيسيا ومصيريا تؤثر على كل قراراتنا وأسلوب حياتنا، وقد أصبح تفسير التطرف والجريمة مرتبطا بأسلوب الحياة وتصميم المدن ومرافقها، فإننا بحاجة كبيرة إلى مراجعة أنظمة التخطيط العمراني والاجتماعي المتبعة.
لم يعد ذلك الموضوع ترفيا تنشغل به فئة من الناس من دون غيرهم، ولا موضوعا متخصصا يخص فئة من المهندسين والمتخصصين، لكنه وإن كان يحتاج إلى خبرة وتعلم أصبح ثقافة عامة ضرورية لكل مواطن. لا أعني بالقول إنه ثقافة عامة أنه موضوع سهل يمكن فهمه واستيعابه وتعلمه مثل القضايا العامة والأحداث اليومية على سبيل المثال، لكني أعني ضرورة أن ينشغل بتعلمه وفهمه كل مواطن وألا يظل شأنا متخصصا بفئة من الناس. لقد أصبحت كثير من القضايا المهنية والمتخصصة شأنا عاما، مثل البيئة والعمارة والصحة والاقتصاد والغذاء والتعليم والإعلام والدين، وهذا يقتضي بالضرورة منظومة من التعلم الذاتي والمستمر على نحو مضن وربما مملّ، لكن لا مناص من الخروج من حالة التلقي السهلة والاعتماد فقط على وسائل الإعلام في المعرفة والتخطيط والتفكير، ففاقد الشيء لا يعطيه!
ثمة عشوائية اجتماعية وثقافية وعامة في السكن والإقامة والبناء لا تلتفت إليها الأنظمة الفنية والتقنية في التخطيط، لكنها في نتائجها وتبعاتها تضر بمنظومة الحياة والموارد والأنظمة الاجتماعية والثقافية المشكلة لحياة أفضل والمنشئة كما يفترض للتقدم والإبداع، فيفترض أن تختار مواقع البيوت وتخطط الأحياء والبلدات والمدن على النحو الذي يحمي الموارد الطبيعية والمياه والأراضي الزراعية والأودية والسيول وأحواضها، فتجنب هذه المناطق كل أشكال البناء والطرق والاعتداء عليها والإضرار بها، وتصمم الطرق على النحو الذي يمنح الحي الهدوء والخصوصية، وتتيح للأطفال والمعوقين وراكبي الدراجات والراغبين في المشي القدرة على التحرك والمسير بأمان وسهولة، وأن يخصص لكل حي أو بلدة أسواق ونواد ومدارس وحدائق ومكتبات وساحات وملاعب يمكن الوصول إليها مشيا على الأقدام، بحيث يكون المشي على الأقدام أو بالدراجات الهوائية وسيلة انتقال سائدة في الذهاب إلى العمل والسوق وأماكن العبادة والنوادي والساحات والملاعب والحدائق، ويستطيع الأطفال والكبار المقيمون في الحي التجمع والالتقاء على نحو تلقائي ومتواصل وبسهولة في السوق والنادي والمدارس والملاعب والساحات، وبذلك فإن أسلوب الإقامة والحياة يتيح على نحو تلقائي وفرا هائلا في الطاقة والموارد يحمي من التلوث ويقلل من الاعتماد على الطاقة، ويحمي الموارد المتاحة، ويتيح التجمع والتفكير والعمل المشترك.
ليست وحشية المدن وقسوتها قدرا حتميا، أو أسلوبا تلقائيا للحياة فيها، بل العكس هو الصحيح، فالمدن تكون عادة دافئة رحيمة، وغالبا ما تكون العشوائية والوحشة والاغتراب في المدن مردها إلى عجز الناس وإدارات المدن عن توفير وتهيئة أساليب للحياة والإقامة والعلاقات ملائمة للمدينة، كيف يمكن الجمع بين الفردانية في المدن والتعاون والدفء في العلاقة؟ كيف يمكن بناء الانتماء والمشاركة وفي الوقت نفسه تشكيل الخصوصية والعزلة الإيجابية الضرورية للمدن وسكانها؟ لا بأس بالقول إن الروابط والعادات الريفية لا تلائم المدن، بل تحولها إلى مصدر للهدر والضغوط النفسية والاجتماعية، فالروابط القرابية ترهق الأوقات والعادات والأعمال. الأصل في العلاقة المدينية أنها تقوم على الجوار والصداقة، وأن يكون محتوى تجمع الناس ولقائهم قائما على الثقافة والفنون أكثر من النميمة والمسلسلات التلفزيونية الخاوية. غياب مصادر النميمة في المدن يجعل مؤسسات العمل ساحة للفضول والتطفل؛ ما يضر بالعلاقات الاجتماعية ومستوى العمل والإنتاج، لكن النظر إلى أساليب الحياة التي ترتقي بها وتجملها أو تبادل الخبرات والمعارف يجعل من التجمعات العفوية أو لحضور الأفلام والأمسيات الفنية والثقافية والمسرحيات مصدرا لحياة ثرية وجميلة.
يتيح التعايش التلقائي والمتواصل فرصا للتشكل الاجتماعي والثقافي للناس والتجمع على أساس مصالحهم وأولوياتهم، من قبيل التعليم في مدرسة الحي التي يدرس فيها أطفالهم، والخدمات الأساسية، والمباريات الرياضية والترويح في النادي المحلي الخاص بالحي أو البلدة، والانتخابات المحلية والنيابية التي تجري، والتنسيق والمشاركة مع السلطات والشركات لأجل رفع مستوى جودة الخدمات التي تقدمها الشركات والمؤسسات، ومواجهة المشكلات والتحديات والاحتياجات الاجتماعية والصحية، مثل رعاية الأطفال والكبار وذوي الاحتياجات الخاصة والفقراء والمرضى، والاستهلاك، والجرائم والإدمان، أو توفير الاحتياجات الأساسية بأفضل مستوى وأقل تكلفة مثل الماء والكهرباء، والخدمات الصحية والاجتماعية.
يمكن بمستوى أكثر تقدما لكنه ممكن من العمل المؤسسي المجتمعي تشكيل جمعيات ومنظمات للمجتمع المدني تعنى بقضايا كثيرة جدا ومفصلة من أساليب الحياة وتطويرها، مثل حماية المستهلك، حمايته على نحو أكثر تفصيلا من الاستهلاك العام، مثل جمعيات أكثر تخصصا وخبرة في حماية عملاء البنوك، والمستفيدين من خدمات الكهرباء والاتصالات والتأمين، وإدارة المخلفات والنفايات وتدويرها، وتطوير العلاقة بين المواد المستخدمة في البناء والاستخدام المنزلي والصحة والراحة، وتطوير العلاقة بين تصميم المبنى وأسلوب الحياة، الذي يمنح السلام والتسامح، والهدوء، الخصوصية، والانكفاء، والجمال، والعمل والتعليم في البيت، والفردية، هكذا فإن الناس في المدينة قادرون على التجمع وفق منظومة من المبادرات والأعمال التي تجعل لحياتهم معنى وتمنحهم أيضا الانتماء والمشاركة، والتقدم أيضا.
يمكن بسهولة تقدير حجم الأزمة التي تواجه مدننا بملاحظة الجرائم التي نقرأ عنها في الإعلام على نحو ملفت ومتكرر، وبرغم كثافة ما كتـب في ذم السلوك غير الاجتماعي والتطرف، وفي التحذير والدعوة للمواجهة، فإنه يصعب ملاحظة اهتمام جاد وحقيقي في مراجـعة أسلوب الحياة وتشكل المدن وتنظيمها في بلادنا، وما بينها وبين الجرائم والضغوط والانحراف والمشكلات الكثيرة الأخرى المعقدة.
ذلك بالرغم من أنها جرائم بالإضافة إلى حالات وظواهر أخرى كثيرة مثل حوادث المرور وثقافة القيادة والسلوك وأنماط العنف وغياب التسامح في السلوك والحياة وحالات متزايدة من التفكك الأسري وعمالة الأطفال يسهل ربطها بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافة وأساليب الحياة المتشكلة حولها والمتناقضة مع التشكل المفترض للمدن وسكانها، وما تؤدي إليه من ضغوط وخواء في الثقافة والفنون يجعل من المدن المزدحمة والمتباينة تباينا شديدا في الفقر والغنى مستودعا للأزمات المتفاعلة والمتصاعدة والتي تهدد بالانفجار في أية لحظة وعلى نحو غير متوقع، فتكاد تكون معظم جرائم القتل يرتكبها أشخاص لا سابقة لهم بالإجرام ويبدون أشخاصا عاديين أسوياء، وهي ظاهرة تبدو في خطورتها وتكرارها تقتضي نوعا جديدا من الأمن الوطني الاجتماعي، والتخطيط الاجتماعي والثقافي الذي يواجه العشوائية القائمة، وأخطر ما فيها أنها غير متوقعة، لا نعرف متى وأين وكيف تحدث، علاجها لا يندرج فقط في الإجراءات الأمنية والقانونية.
بالطبع فإني لا أبرر الجرائم والأزمات، لكن يبدو واضحا اليوم أن الضغوط النفسية والاجتماعية تدفع الناس إلى حالة من العنف والغضب تجعلهم غير مدركين لعواقب تصرفاتهم وأفعالهم، وغير قادرين أيضا على ضبط أنفسهم وسلوكهم.
ما أسعى إليه هو دعوة للاهتمام بالعنف المستشري والمستفحل في بيوتنا ومدارسنا وأحيائنا وطرقنا ومؤسساتنا وأحلامنا، ولاشعورنا. هذا الحقل الأخير (اللاشعور) هو أخطر حقول العنف التي تصنع الجريمة والانحراف والتوتر والهدر والشعور بالشقاء وتدفع إلى الإدمان والهروب وضعف الإنتاجية والسلوك غير الاجتماعي.
ما ينشر في وسائل الإعلام حول الجرائم والأزمات يكفي لبناء تصور عن تشكلها وتطورها، بدءا بالتطلعات التي تفوق مستوى القدرة الاقتصادية، والتحولات الاجتماعية السريعة لدرجة تتحدى قدرة الناس على استيعابها، والتهميش الاجتماعي والاقتصادي، وعجز الأطر الاجتماعية والمهنية إن وجدت مثل النقابات والأحياء وروابط القرابة والصداقة والزمالة عن تشكيل الناس ومساعدتهم، وبالتالي عجز الناس أفرادا وأسرا ومجتمعات وتجمعات سكانية ومهنية عن عيش حياتهم كما يجب أن يعيشوها.
لم يعد أسلوب الحياة ترفا أو اهتماما متخصصا أو نخبويا، لكنه ضرورة يجب أن تكون أولوية للمدن والأسر والمدارس والنقابات والبلديات والأندية، وأن تفكر كيف تساهم في تكييف حياة الناس وعلاقاتهم ومساعدتهم في مواجهة الضغوط والتحولات ومساعدة الأفراد على توسعة وتطوير خياراتهم ومواجهة مشكلاتهم ومتطلباتهم، وتنشئة الأجيال في الأسر والمدارس والمجتمعات على قيم الفردية والحرية والمشاركة والانتماء والاعتماد على الذات وامتلاك مهارات الحياة وتعلمها أيضا.
المدن تنشئ أنساقا معقدة من المرافق والمصالح والعلاقات، لكن مخططي المدن يغفلون التخطيط الاجتماعي والثقافي الذي يجب أن يصاحب تخطيط المدن، فالمجتمعات التي خطط لها قسرا بلا مشورة أو عفوية الأسواقُ والأعمال وأنماط الإقامة والسكن واللباس والطعام والذوق والعمل وأسلوب الحياة؛ لم تمنح أي خيار في تنظيم نفسها على النحو الذي يمكنها من إدارة احتياجاتها الأساسية والتخطيط لها والرقابة عليها بفعالية، ولم يترك لها فرص التكيف العفوي والتلقائي لتنظيم نفسها وحمايتها، لكنها تعرضت لعمليات تنميط وتشكيل مقصودة.
هذه الأزمات والأعراض، مثل الجريمة والتفكك الأسري والغياب الطويل عن البيت والضغوط والتوتر والكلفة المرتفعة للمعيشة والترفيه وصعوبة إقامة حياة طبيعية للأطفال والأسر والأفراد ليست قدرا حتميا في المدينة، بل العكس هو الصحيح، فالمدن قادرة على أن تكون أكثر دفئا وتقليدية من الريف. الفرق بين الريف والبادية أن نمط المعيشة يتيح تكيفا اجتماعيا وثقافيا تلقائيا من غير تخطيط، ولكنه في المدينة لا يحصل تلقائيا، بل يحتاج إلى تخطيط مسبق. هنا تنشأ الأزمة في التكيف ومواجهة المتطلبات الجديدة وتداعياتها.
المجتمعات تلجأ لحماية نفسها ومواجهة التهديد والضآلة والخوف وإغواء المدينة وتطلعاتها إلى حيل شتى، أكثرها سهولة هو استحضار الروابط والأدوات الريفية في العلاقات والثقافة والقيم ومحاولة تطبيقها، لكن ذلك يزيد الأزمة، لأنها أدوات ليست مستقلة بذاتها وليست أفكارا مجردة، إنما مرتبطة بأساليب الإنتاج والحماية والملكية في الريف، فلا يمكن تنفيذ سلطة الكبار على صغار يعيشون في عالم آخر يقدم أفكارا ومعطيات مختلفة تماما عما تلقاه الكبار، ولا يمكن إجبار الزوجة المستقلة في عملها ودخلها أو الأبناء الذين يعملون ويعيشون مستقلين على نمط من السلوك والثقافة لا يريدونه ولم يتعرفوا عليه ابتداء، ففي العمل والمدارس والجامعات وشبكة الانترنت تتشكل معارف وعلاقات وأفكار لا علاقة للوالدين والمجتمعات بها.
السؤال هو كيف ننشئ منظومة اجتماعية وثقافية مدينية خاصة بالمدن؛ تحمي المجتمع وتمنح الأفراد الرضا والاندماج؟
رسالة المجتمع ودوره في المدينة أكثر تعقيدا، فالمجتمع في المدينة يفترض أن ينشئ الفردانية والخصوصية، وهي رسالة تبدو مناقضة لرسالة المجتمع الذي يسعى لدمج الفرد فيه، كيف يكون الفرد جزءا من المجتمع مندمجا فيه وينتمي إليه وكيف يحافظ على فردانيته وخصوصيته في الوقت نفسه؟ كيف يحمي المجتمع نفسه وأهدافه وتقاليده ويضمن الحريات الفردية والشخصية والاستقلالية التي بدونها تنهار المدن وتتحول إلى ساحات للضغوط والقلق والتفكك الأسري والاكتئاب والشقاء والشجارات والإدمان والهروب من البيوت وعمالة الأطفال واستغلالهم والطلاق والنزاع؟
هكذا فإن المجتمع نفسه مطلوب منه أن ينشئ منظومة من التقاليد والسلوك الفردي، وهو مطلب ضروري يكاد يكون الضمانة الوحيدة للتمدن، لكنه بسبب تناقضه مع طبيعة المجتمع يحتاج إلى وعي وتخطيط مسبق، كيف ينشأ الأطفال في منظومة الأسرة والمدرسة وفي كل وعاء للتنشئة والحياة على قيم احترام الخصوصية والفردية، واحترام الفضاء المشترك في المدينة في الجيرة والأحياء والطرق والشوارع ومكان العمل يحميه من التلوث والضجيج؟
الفكرة برغم أنها تبدو مناقضة لاتجاه المجتمع ونزعته إلى إلغاء الفردية والخصوصية تبدو ممكنة التطبيق أيضا بدليل المجتمعات القائمة في كثير من دول العالم والتي تنشئ أفرادا يتمتعون بالفردية والخصوصية. هذا الإيمان بالفردية والخصوصية والتمسك بها كان وراءه مجتمع مؤمن بها وينشئ أفراده على هذه القيم، وأسر تنشئ أطفالها على الخصوصية وتمتنع عن التدخل في مسائلهم، وتترك لهم اختيار أفكارهم ومساراتهم وطريقة حياتهم، ولا تتدخل باتجاهاتهم الفكرية والاجتماعية.