يُعدّ عبد الإله بلقزيز أحد أهمّ روّاد دراسة الاجتماع السياسي العربي، حيث هيمن هذا الموضوع على أبحاثه وله فيه قائمةٌ طولةٌ من الأعمال القيّمة، من أهمّها: “المسألة الوطنية الفلسطينية” و”الخطاب الإصلاحي في المغرب” و”نهاية الداعية” و”زمن الانتفاضة” و”في الديمقراطية والمجتمع المدني” و”الإسلام والسياسة” و”الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر”. ناهيك عن ثلاثة كتب أصدرها سنة 2020 في سياق دعوته إلى بناء اجتماعٍ سياسي حديثٍ، قوامه الدولة الوطنية وممارسة سياسية حديثة، وهي: “في الدولة” و”نقد السياسية” و”الجماعة السياسية والمواطنة”. تُعدّ أعمال بلقزيز مرجعًا أساسيًا للباحثين في مجال الاجتماع السياسي العربي، فهو يُقدّم تحليلاتٍ عميقةً لمختلف الظواهر والتحديات التي تواجه هذا المجال، ويُقترح حلولًا عمليةً لبناء مجتمعٍ سياسي عربيٍّ حديثٍ.
إننا نزعم أن طيف الاجتماع السياسي العربي لم يبارح وعيَ عبد الإله بلقزيز، حتى وهو يكتب في التراث أو في فلسفة الدين، أو في تأريخه للفكر العربي الحداثي من خلال مشروعه العرب والحداثة، الذي ختمه بالجزء الرابع نقد الثقافة الغربية (2017)، وقدّم قبله أجزاءً ثلاثة: من الإصلاح إلى النهضة (الجزء الأول) (2007) ومن النهضة إلى الحداثة (الجزء الثاني) (2009) و نقد التراث (الجزء الثالث) (2014). ورغم أن هذا العمل (=المشروع بأجزائه الأربع) جاء في حلّة تأريخ للفكر العربي الحديث والمعاصر، إلّا أنه لم يكن خلواً من حديث صريحٍ عن المجتمعات العربية الإسلامية وحاجتها إلى الدولة الوطنية خاصة في جزئه الثاني “من النهضة إلى الحداثة”، بل إن بلقزيز، حتى وهو ينتر بعضاً من رواياته الأدبية، لم يقطع صلاته بالسياسة وبمشكلاتها في الوطن العربي الإسلامي. لقد مثّل هذا المفكر العربي ــ بالفعل ــ ذلك المثقف العضوي المحايث لقضايا أمّته، المنشغل بأسباب تخلّف بلدانها عن التاريخ المتشوِّف إلى التقدّم والحداثة من مداخله الثقافية والسياسية.
توسّل عبد الإله بلقزيز سبيلين للكشف عن معضلات الاجتماع العربي المعاصر وعجزه عن تحديث نفسه؛ أولا: سبيل البحث في الأمس البعيد عن ثقلِ المواريث ورواسب الماضي الحاضر في وعي ولاوعي الفاعل الاجتماعي والسياسي العربي. وثانيا: سبيل ثانية تُمحّص العِلَلَ الراهنة لمعضلات هذا الاجتماع السياسي، البرانية منها والجوانية. ولم يفته، وهو يُشَخّص حال امتناع الدولة الوطنية عن التحقق في أوطاننا العربية، التنبيه إلى أنّ المشكلة لا تقع ــ حصراً ــ في مجال السلطة السياسيّة والجماعة الموالية لها، بل تعود، أيضاً، إلى أمراض الأحزاب السياسية المعارضة قبل الموالية، من ذلك ما عرضه في ورقته التي عنونها بـ: “المعارضة والسلطة في الوطن العربي: أزمة المعارضة السياسية العربية (2001)”، أو في كتابه الأخير: “الجماعات السياسية والمواطنة” (2020).
يتبين إذن، وبجلاء، أن البحث في الاجتماع السياسي العربي، في فكر الأستاذ عبد الإله بلقزيز، هو نبش في كلّ ما كتب في الفكر والفلسفة والسياسة، وهي مهمّة تجبرنا ــ بالنّظر إلى حدود هذه العمل- على تقديم عيّنة من هذه الأعمال، في محاولة لرسم الملامح التي حملت المعالم البارزة للخطاب السياسي لعبد الإله بلقزيز. لذلك اخترنا الاشتغال على محاور ثلاثة من عمل الرجل. تتحدد مهمة المحور الأول: في تشخيص أعطاب الاجتماعي السياسي العربي، التي حالت، وتحول، دون تأسيس هذا الاجتماع على قواعد حديثة؛ المحور الثاني: الاجتماع السياسي العربي في الفكر الإسلامي المعاصر، الذي يبحث مساهمة بلقزيز في تفكيك المشروع المقاوم لدولة حديثة في العالم العربي الإسلامي، من خلال بحث فكرة الدولة عند الإسلاميين وكيف تسهم، إلى جانب عوامل أخرى، في مقاومة الانتقال إلى الحداثة السياسية؛ أما المحور الثالث: الحل في الدولة الوطنية الحديثة، فينقلنا إلى آفاق الخروج من معضلات اجتماعنا السياسي، وهي (=الآفاق) لن تخرج عن فكرة الدولة، التي ما فتئ الأستاذ بلقزيز يُصرّ على الحاجة إليها ويحذّر من التأخّر في تشيدها.
أولاً: الاجتماع السياسي العربي المعاصر وأعطابه
قبل الخوض في البحث عن حلولٍ لمعضلات الاجتماع السياسي، في بلداننا العربية، لا بد من فحص مكامن الخلل وكشف موطِن الداء. وتستلزم عملية التشخيص الحذرَ من الاكتفاء بالأعراض الظاهرة وحسبانها عوامل رئيسة فاعلة في أمراض الدولة والمجتمع؛ لذلك لابد من النفاذ إلى عمق المشكلة، وإلى الجراثيم الأولى المسؤولة عن صياغة واقعنا السياسي العربي الموسوم ــ في أقل نعوته ــ بالتخلف عن التاريخ. هكذا، تنبه بلقزيز إلى أن أسباب تخلفنا ليست اقتصادية أو اجتماعية صرفة ــ فهذه مجرد لواحق لتلك ــ، بل إنها ( أي الأسباب) كامنةٌ في حمولتنا الثقافية الثقيلة، في تقاليدنا وما ورثناه من معتقدات باتت عصيةً على التطوير أو التجاوز. وقد استغرق تشخيص أعطاب الاجتماع السياسي العربي، من بلقزيز، نصيباً مهماً من أعماله، غير أن انتباهه كان مشدوداً إلى ما سماه مواريث الماضي، دون أن يُطوّح بالعوامل الناجمة من واقع الاجتماع السياسي اليوم.
قد يقول بعض القائلين إنّ التجربة السياسية العربية فتيّة، لا تُدرِك كمالها إلّا بعد حين، تماماً كما كانت عليه حال دول الغرب؛ حيث أخذ مخاض ميلاد ونضج الدولة الحديثة ردحاً من الزمن طويلٌ. يفسّر هذا الرأي تأخّرَ الدولة بعامل الزمن، غير أن بلقزيز يردّ على هذا الزعم بأنّ مجتمعاتٍ عديدة، ترسخت في وعيها السياسي فكرة الدولة وشيدت عمران اجتماعها السياسي على قواعد حديثة؛ إذْ استهلك نضج الدولة، في بلدان أمريكا الشمالية والجنوبية، زمنا يماثل ذاك الذي استغرقته تجربة دولتنا العربية. علينا إذن أن نسلك سبلاً أخرى، كما يدعو بلقزيز، إن أردنا كشف الأسباب الكامنة خلف تخلفنا عن ركب السياسة الحديثة.
هكذا انصرف عبد الإله بلقزيز إلى البحث في أسس الاجتماع السياسي العربي الإسلامي ــ بدل البحث في حاضره وراهنه ــ مقلّباً في عوامل ضعف الدولة وهشاشة مجالها السياسيّ، ليخلص إلى أن لثقل مواريث الماضي آثاراً عميقة متجدّدة، في واقعنا السياسي المعاصر، ووطأةً شديدة على وعينا الجمعي. يعني هذا الكلام أن الدولة لم تبدأ مع لحظة الاستعمار، ولم تنطلق من الصفر، بل إن تاريخها، في العالم العربي الإسلامي، أكبر من ذلك بكثير ويتجاوز اللحظة الكولونيالية بقرون. ولأنها (أي الدولة العربية) قديمة فهي لم تستطع إحداث القطيعة اللازمة مع تاريخها ومع موروثها القديم من أجل ولوج حقبة جديدة، هي حقبة الحداثة.
من أثقال الاجتماع العربي الإسلامي المنحدرة من ماضيه، مواريث اجتماعية يقصد بلقزيز بها: “جملة المواريث التي كانت تنتَظم الاجتماع الأهلي العربي طيلة عهود من التاريخ متطاولة، واستمرّ وجودها ومفعولها في المجتمعات العربية حتى بعد قيام الدولة الحديثة وانطلاق عملية التحديث الاقتصادي والاجتماعي في البلدان العربية”[1]. تعايشت هذ البنى الاجتماعية والسياسية التقليدية إلى جانب البنى الحديثة، جنباً إلى جنبٍ، تعايشاً هجيناً ــ أو قل متناقضاً ــ في الدولة الواحدة: “بين التقاليد السلطانية والدولة الحديثة، بين حكم الفرد الواحد ونظام المؤسّسات، بين نظام الحزب الواحد والتعدّدية السياسية الشكليّة، بين احتكار السلطة ووجود البرلمان، بين الحزب والقبيلة والطائفة في جسم سياسي واحد […]. المتناقضات كلها “متجانسة” أو، على الأقل، متعايشة: المجتمع الطبيعي والمجتمع المدني الحديث، الجماعوية والفردانية، الانقسام العمودي والانقسامات اللأفقية، روابط القرابة وروابط العمل والمصالح، قيم البداوة وقيم المدينة…”[2].
ظلّت العصبية عنصرا من عناصر ذاك الموروث الثقيل، الذي أخفقت الدولة العربية في صهر مكوناته الدينية والطائفية والقبلية والعشائرية في مكوّن واحدٍ، هو الدولة المدنية، وفشلت فشلاً ذريعاً في استبدال الانتماءات إلى البنى التقليدية بالانتماء إلى المواطنة. وهذه ــ كما رآها بلقزيز ــ وظيفة الدولة المعطلّة، بحيث إن عطالتها ليس مَرَدّها إلى ثقل علاقات الاجتماع الأهلي والعصبوي الراسخة في وعي المجتمع، بل إلى كون: “الدولة ذاتها ــ بتركيبتها ونظام اشتغالها ــ تعطّلها. وهي تفعل ذلك من طريق إعادة إنتاج مفعول المواريث الاجتماعية فيها، وتصمّم نفسها على مقتضى توازنات الاجتماع الأهلي بدعوى حاجة الدولة إلى تمثيل النسيج الاجتماعي بأطيافه كافة”[3].
لئن كان للاجتماع السياسي العربي ما يعيق حداثته بالأمس فإنه لم يعدم أسباباً راهنة فاقمت من معضلاته وعقدت عملية تقدمه.
يشهد الاجتماع السياسي العربي، كما سلفنا، ــ فضلاً عن ثقل موروثه من تراثه الثقافي والاجتماعي والسياسي ــ أعطاباً من إنتاج واقعه الراهن؛ منها ــ على سبيل المثال لا الحصر ــ الخلط الشنيع بين السّلطة والدولة، مشكلة الشرعية، أمراض المعارضة، الصلة الملتبسة بالديمقراطية…إلخ، وكلّها ــ وغيرها ــ يعوق انتقالاً سليماً من اجتماع سياسيّ تقليديّ، تحكمه العصبية، إلى دولة وطنيّة حديثة. وبالنظر إلى تعدّد هذه المشكلات وتفرعها، فإن الحديث فيها هنا وجب حصره في: التباس الصلة بين السّلطة والدولة في الوعي العربيّ، وأزمة الشرعية، وأزمة الديمقراطية في الوعي العربي.
تلتبس الصلة بين السلطة والدولة، في الوعي العربي المعاصر، ويتمظهر هذا الالتباس في عدم القدرة على التمييز بين الدولة والسلطة؛ وهذه واحدة من الآفات السياسية الكبرى، التي تُهدّد كيان الدولة في وجوده؛ لأنّ اختزال الدولة في السّلطة يجعل منها طرفاً في الصراع على الحكم؛ فتُمسي كلّ معارضةٍ للسّلطة معارضةً للدولة ولبنيانها. ولا تخفى نتائج ذلك على المجتمع والدولة على السواء جراء تداعيات اختزالٍ خطير كهذا؛ إذ تهبط الدولة، بموجب هذا التصور، من تعاليها وسموها، على الأفراد والجماعات والمؤسسات كافّة، إلى حلبةِ الصراع والتوظيف السياسيّ والاستهداف؛ فتصير معارضةُ للسّلطة معارضةً للدولة ولمؤسّساتها[4].
لم تسلم لا المعارضة والموالاة من شراك هذا الالتباس في العلاقة بين السلطة والدولة. فنظم الحكم العربية، على اختلافها، تُماهي بينها وبين الدولة، وتحسب كل صيحة ناقدة أو معارضة عليها (الدولة)، وتوظف أدوات الدولة وأجهزتها لكبت كلّ صوت معارضٍ لسلطتها بحجة تهديد أمن الدولة واستقرارها، إلى حدٍّ صارت معه الدولة تعني رئيس الدولة أو الحكومة أو الحزب الحاكم. في مقابل هذا، تبلور موقف معارضٌ لم يعد يرى من سبيل إلى إسقاط السلطة الحاكمة غير تغيير الدولة وإسقاط مؤسساتها، بتعلة أن المؤسسات تلك مؤسسات السلطة لا الدولة. والشواهد على فداحة هذا الخلط الفظيع ماثلة في تاريخنا المعاصر لم يكن أولها تفكيك الدولة في العراق وليس آخرها تداعيات ما سمي “ربيعاً عربياً” على الدولة والمجتمع.
ليس في مُكن أيّ نظامٍ سياسيٍّ أن ينهضَ ويستَتِبّ له “الأمر” من دون الشرعية؛ إذ لا يُساس الناس، كما هو معلومٌ ــ بالقوة المادية وحدها، بل أيضاً ــ وخاصة ــ بالإيديولوجيا؛ فهي ما يمنح أفراد الجماعة السياسة مسوّغ تفويضِ السلطة طوعاً ــ أو الخضوع لها كرهاً ــ وهي ما يُضفي الشرعية على احتكار نظام سياسيّ للسلطة. لكنها، في اجتماعنا العربيّ، لا تقوم ــ كما في الديمقراطية الحديثة ــ على الشرعية الدستورية والتمثيلية الحديثة، بل مبناها ــ وعلى النقيض من ذلك ــ على مداميك تقليدية: على العصبويّة القبائليّة أو العشائريّة الطائفيّة، والغالب عليها سمتها الدينيّة. وهي (أي الشرعية)، عند بلقزيز، أصنافٌ ثلاثة:
- شرعية تقليدية: مبناها على الدين. ومظهرها قيام حكمٍ بمرجعية الدين أو نسب شريف لرمز ديني أو ولاء لطائفة دينية أو قبيلة أو طافية أو عائلية.
- الشرعية الثورية: تقوم عليها أنظمة عربية قبضت على السلطة من طريق “الثورة”، أو قل ــ كما قال بلقزيز ــ باسم الثورة. مستندة على ما تراه منجزاتها الاجتماعية، ومتوسلةً خطاباً إيديولوجيّاً كثيفاً يرى في الثورة السبيل الوحيد للتقدم.
- الشرعية الدستورية: هي نمطٌ ثالثٌ من الشرعية، تتأسّس بمقتضاه شرعية النظام على أساس الدستور، الذي يضمن التداول على السلطة عن طريق الانتخابات. وهي شرعية تدعيها ملكيّات كما تدعيها جمهوريّات، غير أنها على السواء (ملكيات وجمهوريات) نظمٌ لا تملك، في نظر بلقزيز، من الدستورية إلّا الاسم.
لا يعني هنا تمييز بلقزيز بين الشرعيات الثلاث، في الاجتماع العربي، انقطاع الصلات بين هاته الشرعيات؛ إذ يلفت الانتباه إلى تعايش الشرعية الدستورية إلى جانب الشرعية الثورية، والنظام التقليدي إلى جانب المؤسسات الحديثة، وهذا ما يميز نظم الحكم العربية.
حدث، في نظر بلقزيز، وعيٌ بالديمقراطية لدى النخب العربية الحاكمة، لكنه كان وعياً شقيّاً؛ إذ بعد أن طغى على صلة العرب بالديمقراطية موقفُ التوجُّس والريبة منها، في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي (فترة القبض على السلطة بالغلبة والاستيلاء المتوسِّل بالقوة)، انتقل وعي تلك النخب إلى الرهان عليها (الديمقراطية)، بحسبانها حاجةً بنيوية تاريخية. لكن هذا الوعي الشقيّ بحاجة اجتماعنا العربي الإسلامي إلى حيويّة الديمقراطية، لم يُحفِّزه إلى ذلك طلبٌ داخليّ، برأي بلقزيز، بقدر ما أنه جاء من إملاءات خارجية؛ “فبعد فترة كانت [=الدولة] مضطرةً فيها ــ من أجل الحصول على قروضٍ أو تأجيل التّسديد ــ إلى فتح ملفّ الاختيارات الاقتصاديّة، والاستجابة قسراً إلى ‘توصيات’ ‘صندوق النّقد الدولي’ و’البنك العالمي’ ــ وسواهما، من خلال تفكيك القطاع العامّ وخوصَصَة مؤسّساتها الاقتصاديّة، وتحرير الأسعار، ورفعِ الدّعم عن الموادِّ الأساسيّة، ووقف الاستثمار…إلخ، وها هي الآن تضطرّ ــ للأسباب نفسها ــ إلى فتح ملفّ اختياراتها السياسيّة، على رأسها تحقيق نوعٍ من الانفتاح الديمقراطيّ”[5].
وإذا كان هذا موقف السلطة من الديمقراطية فإن موقف النخب السياسية منها لم يكن بأفضل حال. إن التصور السائد عن الديمقراطية، في عالمنا العربي، يغلبُ عليه، برأي بلقزيز، الاختزال السياسويّ؛ أي إسقاط الأبعاد الاجتماعية والثقافية والاقتصادية من التداول في مسألة الديمقراطية وحصرها في “التداول” الدوري على تولي مناصب تهمّ سياسة الشأن العام.
كثيراً ما يعزى تعثر الديمقراطية، في اجتماعنا السياسي العربي، برأي بلقزيز، إلى أعطاب الممارسة الديمقراطية ــ كالسطو على نتائج الانتخابات من طرف السلطة، أو تهميش السلطة المنتخبة والاستبداد بالحكم…إلخ، لكن لهذه العثرة أسباباً عميقة، بحسبه، تتجاوز هذه الأعراض إلى العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية: “إن الديمقراطيّة تحتاجُ إلى بنيةٍ تحتيّةٍ للتحقق: إلى ثورةٍ ثقافيَّةٍ وإنتاجية ــ وهذا عين ما حصلَ في مركزها الأوروبيّ ــ ودون ذلك، ستظلّ مشروعاً مُستحيلاً”[6].
ثانياً: الاجتماع السياسي العربي في الفكر الإسلامي المعاصر
عديدة هي الأعمال التي كرّسها عبد الإله بلقزيز لبحث مشكلة اشتباك الديني والسياسي في وعي وواقع الاجتماعي العربي المعاصر، أشرنا إلى بعضها أعلاه. عديدة إلى الحدّ الذي يجعلنا نؤكد أنّ جلّ حديثه في السياسة وفِكرها لا يخلو من طرقٍ، صريح أو ضمني، لمسألة جدليّة الديني والسياسي في اجتماعنا العربي. لذلك انتخبنا وحداً من بين كتبه في الموضوع: الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر[7]، الذي يُفصح عن عامل مهم ما فتئ يولد وعياً عربيا مقاوماً لتأسيس اجتماعٍ سياسيّ على قواعد الحداثة.
كان للتراث الديني، الإسلامي تحديداً، وقعه على الراهن السياسيّ العربي المعاصر، بما ولّده من مشكلاتٍ جعلت من قيام اجتماع سياسي على أسُسٍ حديثةٍ، أمراً مستعصياً. لذلك كان من المفيد النّبش في تمثّل الوعي الإسلاميّ، على مستوى النخب ــ للسياسية عموماً ولفكرة الدولة الوطنية تحديداً. وهذه هي المهمّة، التي نذر بلقزيز كتابه هذا لدراستها.
بسط بلقزيز، من خلال “الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر”، خطاب الإسلاميين الحديث والمعاصر، في مسألة الدولة، منذ “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” للطهطاوي إلى “السياسة الشرعية” ليوسف القرضاوي، من دون أن يغفل ما قدّمه الفكر الإسلامي الشيعي في هذا الموضوع. وهذه مغامرة أفصح فيها بلقزيز عن اطلاعٍ واسعٍ موسوعيّ على الأديبات الإسلامية ومقالاتهم في السياسية والدولة تحديدا، وأبان عن قدرة عالية على التحليل والنقد. ليخلص إلى أنّ خطابات الإسلاميين، الحديثة منها والمعاصرة، لم ولا تخرج عن مجموعتين: خطاباتٌ إصلاحيةٌ وخطابات إحيائية (صحوية)، أكان ذلك في مذهب السنة أم في مذهب الشيعة، والخطاب ذاك (الإسلامي) انحدر من نهضوية إصلاحيةٍ إلى دعوة إحيائية صحوية رجعية. تلك هي الأطروحة الأساس لكتاب الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر.
ثانياً: الخطاب الإصلاحي في الاجتماع السياسي
دَشّن الخطاب ــ أو المقالة كما يَسِمها بلقزيز ــ الإصلاحي القول في الدولة، مع النهضوية الإسلامية، وعياً بالدولة وبمتطلباتها الحديثة، ولم تقتصر هذه الفكرة الإصلاحية على السنة (الطهطاوي ومحمد عبدة وجمال الدين الأفغاني…)، بل شهدت عليها الأدبيات الإسلامية الشيعية (النائيني مثلاً)؛ إذ لم يتخذ النهضويون الإسلاميون لهم مهمّة إحياء تراث مضى أو بعث حضارة من سُبات، بل كانت رسالتهم الإصلاح السياسي والاجتماعي والفكري[8].
لقد أمكن للفكر الإسلامي الإصلاحي إن يستنير، وينتج دعوةً إلى التقدم والخروج بالاجتماع السياسي إلى ضفة الحداثة، بفضل صدمة اللقاء مع الغرب[9]؛ فخرجت بذلك أفضل الأدبيات الإسلامية في الدولة، التي لم يُضاهيها ما كَتبه الإسلاميون في الحقبة المعاصرة. عرض بلقزيز المقالة الإسلامية الإصلاحية في الدولة، بعد مطالعة مكتبة عريضة حوت أمهات ما كُتب في هذا المجال، ليُقدم إسهامات رواد الجيل الأول والجيل الثاني من الإصلاحيين، من رفعة رافع الطهطاوي إلى ابن باديس، معرجاً على خير الدين التونسي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني والكوكبي، مبرزاً قولهم الإصلاحي في الدولة، واقفاً عند رأيهم في الخلافة واستبداد الحاكم.
وكما ميز الأستاذ بلقزيز، في الفكر السياسي السني، بين مقالةٍ إصلاحية، في الدولة، ومقالة إحيائية، كذلك فعل مع الفكر السياسي الشيعي؛ حيث فرّق بين مقالةٍ شيعيّة إصلاحية، أخرجت هذا الفكر من الارتهان لعقيدة الانتظار (انتظار عودة الإمام الغائب) إلى ضرورة الدولة، ومقالةٍ شيعية إحيائيّة ارتدّت على فكرة الإصلاح هاته، وأعادت الإمام المنتظر في ثوب وليّ الفقه، لتتوارى معها فكرة الدولة الحديثة لصالح الدولة الفقهاء.
قدّم النائيني نموذجاً إصلاحيّاً شيعيّاً مثل انعطافةً كبرى، نقلت الشيعة من جمود انتظارية الإمام إلى رحابة الدولة الحديثة. يقول بلقزيز في هذا: “لا يخامرنا شكٌ أن رسالة النائيني: “تنبيه الأمة وتنزيه الملة”، تمثّل ثورةً فكريّةً في سياق تاريخ الفقه الشيعيّ، ثورة أعادت النظر في جملة الثوابت، التي رسا عليها ذلك الفقه، وأدخلت إلى منظومته مفاهيم سياسية جديدة: الدستور (أو المشروطة)، مجلس الشورى، نواب الشعب، المسؤولية أمام الشعب، المواطنة، السُّلطة الشرعيّة الحديثة، القانون…إلخ”[10]. هكذا أخرجت رسالة النائيني المذهب الشيعيّ من مأزقه في عصر الغيبة، وأخرجت معه الفقهاء برمتهم من الغيبة[11].
ثالثاً: الخطاب الاسلامي الإحيائي في الدولة
حصل انقلاب، في تقدير بلقزيز، في الوعي بالدولة، عند السنة كما عند الشيعة، انتقلت بموجبه الأدبيات الإسلامية (في المذهبين) من الدعوة الإصلاحية إلى رسالة صحوية إحيائية منكفئة إلى تراثٍ مضى يتضمّن ــ كما تعتقد تلك الدعوةــ سرّ خلاص الاجتماع السياسي الإسلامي من أزماته. وبرز، في المذهبين الشيعي والسني على السواء، غلاة طوّحوا بفكرة الإصلاح واستعاضوا عنها بآداب سلطانية وسياسة شرعية. وهذا ما أفصح عنه، مثلاً، رشيد رضا وحسن البنا (عند السنة) وآية الله الخامنئي (عند الشيعية).
وفي مقارنته بين الخطابين السني والشيعي، يرى بلقزيز أن الخلافة لم تكن أصلاً من أصول الدين عند السنة كما هي عند الشيعة؛ حيث يقول الشيعة بالتعيين في الإمامة مقابل الشورى عند السنة. لكن هذه المُحدّدات ستنقلب، لدى الفريقين، بانفتاح الشيعة على الشورى والقبول بقواعد الاختيار عبر آليات التصويت والتشاور، وسيرورة الإمامة (الخلافة) أصلاً من أصول الدين عند السنة. وهذا ما فتح الباب أمام القول بدولة ثيوقراطية إطاراً لتحقيق “مفهوم الإسلام” للحكم[12].
مثّل رشيد رضا المقالة الإحيائية السنية من خلال فكرة الخلافة، بعد أن صارت تولية الإمام واجباً لا يقوم الدين إلّا عليه. بذلك يكون رشيد رضا قد بلغ، عند بلقزيز، درجة التأسيس، في الوعي الإسلامي المعاصر، لفكرة الدولة الإسلامية، التي سيستكملها البنّا وحركته “الإخوان المسلمين”[13]. كان البنا في طليعة التأسيس لخروج الدولة والخلافة السياسية الأولى للأمة من فروع الدين لتصبح أصلاً من أصوله، لتلتقي المقالة السنية مع نظيرتها الشيعية، وتخرج الدولة، في الوعي الإسلامي المعاصر، من طابعها المدني إلى دولة إسلامية تطبق الشريعة، قبل أن يستفحل الانعطاف، مع سيد قطب إلى دولة ثيوقراطية يحكم فيها الله. مثل هذا الخطاب عبارة عن مقاومةٍ، هي الأقوى، في وجه كل حركة إصلاحية تدعو إلى الانتقال بالاجتماع السياسي الإسلامي إلى ركب التاريخ.
إلى جانب الإحيائية السنية، بريادة رشيد رضا وحسن البنا، برزت، في المذهب الشيعي، إحيائية مثلت رِدّة ــ هي الأخرى ــ عن التراث الإصلاحي للنائيني، قادها الخميني؛ فإذا كانت الإمامة، عند الشيعة، بمزلة النبوة ــ أوقل امتدادًا لها ــ فإنّ الإحيائية الشيعية ستجعلها (الإمامة) نبوّة مُستأنفة، كما يقول بلقزيز، وستطورها إلى ولاية للفقيه، ترفع هذا الأخير إلى مثابة الإمام المعصوم، بعد أن ابتدع الفكر السياسي الشيعي المعاصر نظرية عصمة الوليّ الفقيه، ليشيد نظاماً سياسياً ثيوقراطياً مقدساً.
نصل مع بلقزيز، بعد قراءته لموضوعة الدولة عند الإسلاميين المعاصرين، إلى الخلاصة التالية: كلما انفتح الفكر الإسلامي على رياح التنوير الآتية من الغرب ومن تجربة الحداثة السياسية هناك، كلما نال هذا الفكر حظّه من التوفيق في تقديم نموذج إصلاحيّ يمكنه إسعاف أعطاب اجتماعنا السياسي العربي والإسلامي؛ وكلّما رجع الفكر ذاك إلى تاريخ مضى، باحثاً فيه عن أجوبة لمشكلات الاجتماع السياسي المعاصرة، كلّما زاد انفصام ذلك الفكر عن التاريخ ونأى عن ركب بناء الدولة الحديثة.
رابعاً: الخَلاصُ في الدولة الحديثة
عديدة هي كتابات بلقزيز في الدولة ــ ألمحنا إلى بعضها أعلاه ــ ويمثّل كتاب “الدولة والمجتمع: جدليات التوحد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر” واحدا من تلك الأعمال التي سعى بلقزيز، في متنها، إلى تحليل جدلية الدولة والمجتمع في الاجتماع السياسي العربي في الفكر والواقع، وكَشْفِ تداعيات تلك الجدلية على تماسك أو تفكّك المجتمعات العربية. كما اجتهد، من خلال هذا الكتاب، في تقديم بديلٍ نظريّ وآخر عمليّ عن “الأنموذج-المثال” الذي ينبغي أن تكون عليه الدولة (دولة وطنية حديثة)، ويكون عليه المجتمع (مجتمعاً مدنياً حديثاً).
ليس للاجتماع العربي من سبيل، إن هو أراد إدراك برّ الحداثة السياسية ودخول تاريخها، غير تشييد دولته الحديثة. هي اليوم، في نظر بلقزيز[14]، حاجته الماسة ووسيلته المثلى في الآن عينه؛ الفرد جوهر الدولة وعلّة قيامها، تضمنُ حقوقه وتعمل على رفاهه؛ كلّ فردٍ، في هذه الدولة، له المكانة والحقوق عينها التي لأفراد المجتمع كافة؛ كلّ الناس سواسية أمام القانون، مساواة ترتفع بهم عن الانتماءات التقليدية (الدينية أو الاجتماعي…) القاضمة من رصيد مواطنتهم[15]. والفرد، في المقابل، يرتقي إلى مثابة المواطن، مهمّته المساهمةُ في تنظيم الشأن العام وتدبيره، مثله في ذلك مثل أقرانه المواطنين المتمتعين بالقيمة السياسية نفسها، بصرف النظر عن التمايزات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بينهم. هم اليوم أفرادٌ من المجتمع المدني، المتعالي على العصبيات التقليدية، والفاعل في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية.
يقول العروي: “الدولة سابقة على التساؤلات حول الدولة”، ويضيف: “أدلوجة الدولة سابقة على نظرية الدولة”[16]؛ لأن وجود الأفراد والجماعات رهن بوجود الدولة[17]. لكنها، في الوطن العربي، موضوع نقدٍ لا ينقطع، من قبل الخاصة (=النخب) والعامّة. وهو (أي النقد)، في تقدير بلقزيز، إما بناءٌ: نقد الدولة من أجلها؛ وقد يكون هداماً: نقد الدولة من أجل نقضها. يتجه النقد الأول إلى كشف وجوه فساد أجهزتها، وإخفاق مشاريعها في التحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية السياسية، وفشلها في الإجابة عن سؤال الحريات العامة والحقوق الاجتماعية، وهذا نقد لم يجانب الصواب. أما النقد الثاني فهو النقد الليبيرالي، يحمل على الدولة تدخلها في الحياة العامّة والخاصّة، ويدعو إلى إفساح المجال أمام الأفراد دون قيود لتحقيق مصالحهم الخاصة، وتقزيم دور الدولة إلى أضيق الحدود الممكنة. وهذا نقدٌ في غير محله، عند بلقزيز، يُفضلُ أنانيّة فرديّة على مصلحة عامّة. هكذا تمسي الدولة بين نقدين متناقصين: تُعاتب الدولة لعدم تدخلها لفرض واقعٍ اجتماعي يحظى فيه الجميع بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية؛ وتُلامُ لتدخلها في الاقتصاد والتضييق على الحريات الفردية. لم تسلم الدولة ــ يُضيف بلقزيز ــ من نقد القوميين، ولا الإسلاميين ولا الماركسيين. يرفع القوميون عنها الشرعية؛ لأنها، في عيونهم، اجتزاءٌ للدولة القومية العربية الكبرى وتكريسٌ للقسمة الكولونيالية. ويطعن الإسلاميون في عجزها عن الحكم بالشريعة الإسلامية ويحملون عليها اغتصابها لنظام الخلافة؛ ويحسبها الماركسيون دولةَ نخبة توَظَّف ضد المجتمع. ولم يحد عن هاته الفئات من النقاد غير الليبيراليين؛ لأنها دولة وافقت هواهم ومشروعهم، “فـظلّت صورتهم [= الليبيراليين] في وعي القوميين صورة قوىً قطريّة معادية للوحدة، وفي وعي الإسلاميين صورة قوى علمانية مناهضة لمرجعية الإسلام، وفي وعي الماركسيين صورة قوىً برجوازية مستغلة معادية لحقوق الشعب”[18].
كيف تُبنى لحمة الاجتماع السياسي في الدولة لتفادي مخاطر الاقتتال الداخليّ والتفكّك المجتمعيّ، في ظلّ تنوعها الطائفي والمذهبي والإثني؟ لعل الجواب عن هذا السؤال يوجد على رأس مهام الدولة، بل مبرّر وجودها. والجواب هنا لا يخرج عن وجهين من التوحيد: توحيد قسري وتوحيد دامج.
على الدولة العربية، إن هي أرادت درء ويلات الانقسام الاجتماعي، أن تَصرف نظرها عن ما سماه بلقزيز التوحيد النّابذ، قاصداً به مشاريع التوحيد القسرية للمجتمع تحت سقف طائفة عصبوية، طبقة تقدمية، أو نحبة عسكرية. هذا الخيار من التوحيد جعل “مجتمعاتنا العربية زاخرة بكلّ أنواع المتفجرات الاجتماعية والسياسية المزروعة في نسيج علاقاتها الداخلية والجاهزة للتفجير”[19].
تمة خيارٌ توحيديٌ مبناه على التنمية والديمقراطية، وهو السبيل الأسلم المختصرة لتشييد دولة متماسكة مكوناتها الاجتماعية ومنسجمة حساسياتها الثقافية، وهذا توحيد جاذب؛ لأن عملية التوحيد سيرورة دمجٍ وصهرٍ اجتماعية وثقافية شاقة: “لا يتخلى المرء بيُسرٍ عن روابطه الطبيعية ــ الأسرية والقبلية ــ إلّا متى تولّدت مصالح جديدة تربطه بأنساقٍ اجتماعيَّةٍ أعلى من البنى الطَّبيعيَّة وأبعد مدًى من المصالح التي تنشأُ في كنف تلك الرّوابط الطَّبيعيَّة”[20].
تنأى فكرة المجتمع المدني، في الدولة الحديثة، عن المجتمع الأهليّ الغالبِ على الوعي العربي المعاصر؛ حيث ــ وكما لاحظ بلقزيز ــ الخلطُ شنيعٌ بين المفهومين في الوعي السياسي العربي، لدى العامة وبعض المثقفين، خاصة في الشرق. ويردّ بلقزيز هذه المُماهاة بين المفهومين إلى أن المجتمع الأهلي قد يُبدي نوعاً من المقاومة تجاه السطلة السياسية، غير أن هذا تضامنٌ منكفئٌ على ذاته يعيد إنتاج علاقات السلطة ويقاوم كلّ تغيير، على النقيض من المجتمع المدني، الذي يقوم على علاقات مؤسساتية ديمقراطية.
ما فتئ بلقزيز، في سياق حديثه عن المجتمع المدني، يحذّر من سوء تمثل العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني؛ صلة الدولة الحديثة بالمجتمع المدني، ليست كصلة الدولة التقليدية به؛ لا تقوم تلك الصلة، في الدولة الحديثة، على القطيعة والانفصال والصراع، كما لا تقوم على السيطرة والاستحواذ والابتلاع؛ إذِ المجتمع المدني، في اجتماعٍ سياسي حداثي كما يراه بلقزيز، لا غَناء له عن الدولة وليس في وُسعه القيام على أنقاضها؛ والدولة، في المقابل، لا تملك أن تكون حديثة حين تنفي المجتمع المدني. نخلص إذن، مع بلقزيز، إلى أن فرضية القطيعة بين الدولة والمجتمع المدني، فرضية عقيمة: إن تحقيق اجتماع سياسيّ حديث، عن طريق بناء الدولة الحديثة، يستلزم تفكيك المجتمع الأهلي التقليدي وإرساء علاقاتٍ مدنيةٍ مدارها على المواطنة، كما تستوجب عملية إحلال مجتمع مدنيّ جديدٍ محلّ ذاك الأهلي التقليدي تنشئةً اجتماعيةً وثقافيةً تصنعُ أفراداً قادرين على نسج خيوطِ اجتماعٍ سياسيّ مبناه على قيم الديمقراطية والتداول الحقيقي على السلطة والاحتكام إلى القانون وحماية حقوق الإنسان وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهذه (التنشئة) عملية طويلة ومركبة لا يمكن إلّا للدولة أن تنجزها.
المراجع:
[1] عبد الإله بلقزيز، الدولة والسلطة والشرعية (بيروت: منتدى المعارف، 2013)، ص. 124-125.
[2] المصدر نفسه، ص. 126.
[3] المصدر نفسه، ص. 126.
[4] المصدر نفسه، ص. 12.
[5] عبد الإله بلقزيز، في الديمقراطية والمجتمع المدني: مراثي الواقع مدائح الأسطورة (الدار البيضاء: إفريقيا الشرق، 2001)، ، ص. 94.
[6] المصدر نفسه، ص. 100. (التشديد من المصدر).
[7] عبد الإله بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، ط. 2 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2004).
[8] المصدر نفسه، ص. 24.
[9] انظر في هذا الشأن الأجزاء الأربعة لمشروع عبد الإله بلقزيز العرب والحداثة: عبد الإله بلقزيز، العرب والحداثة (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2008، 2009، 2014، 2015).
[10] عبد الإله بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، سبق ذكره، ص. 77.
[11] المصدر نفسه، ص. 79.
[12] المصدر نفسه، ص. 14.
[13] المصدر نفسه.
[14] عبد الإله بلقزيز، الدولة والمجتمع: جدليات التوحيد والانقسام (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر،2008)، ص. 16.
[15] المصدر نفسه، ص. 21.
[16] عبد الله العروي، مفهوم الدولة، ط. 10 (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2014)، ص. 6.
[17] عبد الإله بلقزيز، الدولة والمجتمع: جدليات التوحيد والانقسام، سبق ذكره، ص. 102.
[18] عبد الإله بلقزيز، الدولة والمجتمع، سبق ذكره، ص. 109.
[19] المصدر نفسه، ص. 120.
[20] المصدر نفسه، ص. 124.