السياقان الاجتماعي والثقافي للتحريم

تكوين

﴿قُلۡ تَعَالَوۡا۟ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَیۡكُمۡۖ…﴾

علامات الوقف الموجودة في المصحف إنما هي اجتهاد واصطلاح مَردُّهُ إلى الفهم، وأنَّ الفهم يختلف من قارئٍ إلى آخر، فذاك يتيحُ لنا فرصةَ التعبير عن فهمنا للآية السابقة قل: ﴿قُلۡ تَعَالَوۡا۟ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَیۡكُمۡۖ…﴾ إذْ يختلف المعنى ـــــ أو لنقُل الفهم ـــــ بتحريك العلامة أو افتراضها في حيز لم يُصرِّح به المصحف.

اختلف المفسرون في تعليق “عليكم” فمنهم من يُقدِّر جواب الطلب “تعالَوا” بـ : ” قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ “، ومنهم من يقدِّرُه بـ: “أَتْلُ ماحرَّمَ عليكم ربّكم”، ولكلٍّ حجتُه، ولم يُعللوا تأخير النص لـ “عليكم” طالما أن المعنى يتضحُ أكثر بإيرادها بعد الفعل مباشرةً، وهذا ما أثار عندي فضول البحث، فرأيت أنَّ تأخير “عليكم” يُفيد أنَّ التلاوة أو التحريم يتجاوز أثرُهما المخاطَبين الشهود إلى غير الشهود، بينما لو أنّ النص وضعها الموضع الذي يريده المفسرون بعد الفعل مباشرةً لاقتصر المعنى على المخاطبين الشهود، وهذا جائزٌ لغةً إلا أنه لا يجوزُ تِبعًا لرسوليَّة النص التي تُقدِّم المُحرَّمَ محرَّمًا إلى الأبد والحلال حلالًا إلى الأبد.

لنفترض أن علامة الوقف تلت “ربكم” وصارت الآية “تعالوا أتل ما حرم ربكم” ومن ثم انقطع ما بعد علامة الوقف شكلًا عما قبلها، فنحسب أن عليكم هنا من باب “الإغراء” مثل “عليكم أنفسَكم” لتكون أكثر إقناعا، وتفرَّد “القُرطبيُّ” بهذا في تفسيره، مُحيلًا إلى “ابن الشجري” ولم يستثمر ذلك في تعامله مع الآية قط.

وهكذا تكون “عليكم” بمعنى “الزموا”:

” أَلَّا تُشۡرِكُوا۟ بِهِۦ شَیۡـࣰٔاۖ

وَبِٱلۡوَ ٰ⁠لِدَیۡنِ إِحۡسَـٰنࣰاۖ

وَلَا تَقۡتُلُوۤا۟ أَوۡلَـٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَـٰقࣲ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِیَّاهُمۡۖ

وَلَا تَقۡرَبُوا۟ ٱلۡفَوَ ٰ⁠حِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ

وَلَا تَقۡتُلُوا۟ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِی حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ

وبهذه الصيغة تتحول الأوامر والنواهي المذكورة إلى وصايا وفاقًا لما يُصرِّحُ به النص، وقبل المباشرة في التعامل مع هذه الآيات الكريمات لا بد من الكلام عن السياق الاجتماعي والثقافي الذي تنزلت فيه.

  1. السياق الاجتماعي

ما يستدعي النظر في السياق الاجتماعي إلى هذه الآية إنما هو في مقول القول: “تعالوا… ربكم” فـ “واو” الجماعة و “ميم” ربكم التي لجمع الذكور العقلاء، تُحيلان إلى تخيل المُكنَّى عنهم بوصفهم جماعة، فما هي أبرز سمات اجتماع هذه الجماعة؟ والنص عربيُّ اللُّغة يتطلب مُتلقِّين عربًا على نحو اجتماعيٍّ ما.

طالما أنَّ الفعل “قل” كلامٌ فهذا يعني ـــــــ بشكل أو بآخر ـــــــ أن مجتمع المتلقين معنيون بالكلام أو يحتفون بالكلام، وهذا جانبٌ مهم من القضية، فالأوامر والنواهي التي تكون مضمون القول بالمحرَّم، سوف تقعُ في بيئة اجتماعية تهتم بها رفضًا أو قبولًا تبعًا لفهمها، وأننا عرفنا مقتضى الفعل “تعالَوا” في كونهم يخوضون في الحلال والحرام بما يحيد عن الصراط الذي ينبغي أن يكون فيه مسلكهم، فهذا يعني أنهم مجتمع مضطرب حضاريًا بسبب تلك الحيود، إذا كان شأن المحرمات تقويم السلوك الذي يعود بالاستقامة إلى صالح الرُقيِّ الإنساني وأمانه فردًا وجماعة.

إنَّ مجتمعًا معنيٌّ بالحلال والحرام ويخوضُ فيه، إنما هو مجتمعٌ مهتمٌّ بتنظيم أموره، وحريص على سلامة سلوكه سواء أكان مع الطبيعة أم مع النفس، وسواء أأصاب في تحريمه أم أخطأ.

يمتاز هذا المجتمع بالقدرة على مغالبة اليباس من حوله عندما تموضع في وسط الطريق، فلا يمكنه الإفلات من التأثر بالتنوع ولا يمكنه منع الطموحات أن تنمو وتنمو؛ فالطريق التجاريَّة تعشوشب حوافُّها بالثقافات المتعددة والمتنوعة بتعدد القوافل وتنوعها، وعندما تلتقي تلك القوافل بما حملت في أسواق مكة تلتقي أساليب المأكل والمشرب ومختلف الفنون والملاهي والأشعار والغناء والرقص، فينطبع وعي جمالي فريد، وطموح جمالي تتكون عناصره بالمفردات كما تتكون مواسم البيع والشراء بالخز والزيوت والخمور والعقيق والنضار… وتندفع الحياة بزخمها كله في عروق أم القرى، فإذا شجَرُ خلاف تنفكُّ عُقَدُهُ في دار ندوتهم حيث علية القوم، وإذا شكا أحد الوافدون أو المقيمون ظلمًا فكان حِلْفُ الفُضول مَوئل المظلومين.

أضف إلى ذلك أن مكة كانت مركزًا دينيًا يختلف إليه الحجيج من أربع أنحاء العرب، كل يلبي بواسطة صنمه، ويسترزق الفقير من الموسم عطايا، كما يشهد الثري منافع له، وكل ذلك تحت سقف التَبَتُّلِ والطواف والسعي، يغتسلون بالقربات فيعودون كما ولدتهم أمهاتهم بلا ذنوب، أي ذنوب فهم وثنيون أو مشركون، والمشركون نَجَسْ مُحَبب إليهم، وعَرَبٌ على وثنيتهم لديهم أشهرٌ حرمٌ لا يقتتلون فيها.

سياقٌ اجتماعيٌ مكتظٌّ بالحركة والأفكار يُحرِّمون ما يُؤذيهم ويُحللون ما ينفعهم ويلتزمون حينًا وأحيانًا يستبيحون محرماتهم، حتمًا يحتاجون إلى شِرعَةٍ يعودون إليها كي ينتصفوا، ولتستقيم حياتهم على نهج مستقيم، ولكنَّ الكبر كان يربك خطوهم، فوقع الخطاب في أوساط المجتمع كما يقعُ المطر على الأرض الظمأى، فيُخصبُ التراب ويُنكر فَضلهُ الحَجَرَ.

  1. السياق الثقافي

استهل الآية بالأمر المسند إلى محمَّد (ص) “قلْ” وهذا يدفع مِخيالنا إلى تصوِّر طرفين هما مصدر الأمر وفاعل الأمر، والعلاقة بينهما هي علاقةُ الآمر بالمأمور، ويأتي السؤال هنا ما الذي كان يتعرَّضُ له المأمور في واقعه حتى أصدر الآمرُ هذا الأمرَ له؟ وذاك من باب العنايةِ به وتسديد خطاه، علمًا أن فعل القول بصيغة الأمر، لا يمكن أن يقتصر على فاعله، فالقول ينبغي أن يكون لآخر، فردًا أو جمعًا حتى لا تنتفي رسوليّةُ المأمور، إذًا نحن بصدد البحث عن مقول القول من جهة ومقتضى القول من ثانية، والذي ينصرف القول إليه من ثالثة.

  • أ‌- مقول القول

صرحت به الآية الكريمة بـ : ﴿…تَعَالَوۡا۟ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ﴾ وبالنظر إلى هذه العبارة المُركبة نقعُ على غير ظاهرة أسلوبية، فهي تنطوي أولا على تحويل المأمور بفعل القول إلى آمرٍ بفعلين أحدهما للطلب (تعالوا) والثاني جواب الطلب (أتلُ)، والفعل الأول بالاستنادِ إلى جذره (ع،ل،و) إنما يُخوِّلُ الآمر أن يتموضعَ فوق المأمورين معنويًا، إذ المعنى المجازي للفعل “تـعالوا” هو “أَقبلوا”، والعدول عن اعتماد فعل “الإقبال” في هذا الأمر إلى الفعل “تعالوا” إنما لموضعة الآمر الموضع الذي يليق بإزاء الآخرين، وكذلك لموضعةِ الآخرين موضعة الارتقاء بإقبالهم المُعبَّرِ عنه بـ “تعالوا”، وذاك كون السياق الثقافيِّ من جهةٍ يُسوِّغُ قبولَ الأمرِ إن كان صادرًا ممن هو برتبةٍ عاليةٍ، ولمحمَّد (ص) أن يتبوّأ هذه الرتبةَ كونه تَلقَّى الأمر من الأعلى. ويأتي جواب الطلب فعلًا مسندًا إلى محمد (ص) “أتلُ”، ليأخذ أهميته من وقوعه على (ما حرّمَ ربكم)، وعلة تلك الأهمية في كون ثقافة المتلقين تنطوي على مرجعيّةٍ للحرام والحلال في تصنيف السلوك اليوميِّ، فالمتلقون وفق فهمنا هم من الذين يُحرمون ويُحللون ويزعمون أن ذلك من الله.

  • ب‌- مُقتضى القول

يبدو أن مقتضى القول فيما يخوض به قوم محمَّدٍ بشأن الحلال والحرام، وفي التمسك بمزاعمهم أنها من عند الله، وهذا إنْ دلَّ على شيءٍ إنما يدلُّ على أنَّ هؤلاء الوثنيون عبدة الأصنام كانت لديهم شِرعةٌ يرجعون إليها، وتكونُ العمود الفِقَريَّ لثقافتهم الاجتماعية تضبط عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم وسواها من عناصر البنية السلوكية المتجلية في المظهر الحضاري مثل: المأكل والمشرب والمسكن والمنكح، وكذلك فيما هو أعمق من ذلك في السلوك اليومي الذي يحتاج إلى ضبطٍ أو عقلٍ حتى لا ينهارُ المجتمع على أفراده مثل: العقيدة والعلاقة مع الوالدين والأبناء والعلاقة بين الأفراد والجماعات. فإن استدعى النص محمدًا ليطلب من قومه أن يتعالوا لينصتوا إلى تلاوته ما حرم ربهم، فهذا لن يكون إلا إذا كانت المُحرمات مطروحةً للبحث تحت خلاف بين القوم بخصوص ما يجوز فعله وما لا يجوز، وذاك من كون القرآن في بنيته نصًا تفاعليًا مع الناس يُضيء مفاسدهم ويُعزز محاسنهم ويُملي عليهم ما ينبغي من أجل سلامة حضورهم في الزمان والمكان.

  • ت‌- من ينصرف القول إليهم

إنهم الناس أجمعون وذاك من طريق المخاطبين المعنيين بالفعل “تعالَوا”، وقبل أن ينصرف الذهنُ إلى تخيل إخراج القرآن من تاريخيته بقولنا إنهم الناس أجمعون، أقول بأن الطلب “تعالَوا” مُسندٌ إلى “واو” الجماعة كنايةٌ عن الذين يخوضون في الحلال والحرام تأسيسٌ على شرعتهم التي بزعمهم أنها من عند الله، فيه تأسيس لنشاط ذهني يضبط العلاقة بين القارِّ في الذهن والجديد الوافد إليه، فهذا الفعل بدلالته وصيغته فيه شيءٌ من الوعد بالرفعة والعلوِّ لمن يمتثل إليه، وأن يمتثل عبدة الأصنام الذين يعدلون أصنامهم بالله لهذا الطلب، ففيه مرونةٌ مُتوخَّاةٌ ومَرجوَّة، وإذا كان الأمر كذلك فهذا لن يقف عند قوم محمَّد (ص)، بل يتعدَّاهم إلى كلِّ قوم وفي أي زمن. المسألة ليست في مضمون “ما حرّم ربكم” رغم أهميتها، بل في المنهج الذي أُلقي به الطلب وما يرجوه النص من الخلْق، أمرٌ بالإقبال، ولكن بصيغة الدعوة إلى الارتقاء “تعالَوا”، ما يدلُّ أن الداعية مع المدعوين في سياق ثقافي يتطلب مرجعيةً للسلوك هم يخوضون فيها لتحسين الأداء، وهو من شأنه أن يُعيِّن لهم مبادئها ومسالكها ليرتقوا بأدائهم الحياتي، ومن هنا نمضي إلى التعامل مع النص.

إقرأ أيضاً:  العولمة الثقافية والمواطنة العالمية

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete