السَّلَفِيَّةُ: النَّشْأةُ والتَّطورُ التاَرِيخي…من الإِصلاحِ الإسلامي إلى النُّسَخِ (الرَّجْعِية)  الجزء الأول: السلفية الإصلاحية 

تكوين

اكتسبَ مصطلحُ السَّلفيّةِ -بوصفها ظاهرةً فكريةً إسلاميةً معاصرةً- أهميةً ثَقَافِيةً وسياسيّةً مثيرةً للدَّهشة، وعلى الرغم من رواج المصطلح إلا أنه قد أثار التباسًا بين الباحثين، فهناك من يرى أنها تمثيلًا عن “السلف الصالح” الذين يُمثلون الأجيال الثلاثة الأولى من المسلمين، في حين يرى آخرون أن من الخطأ الفادح النظر إلى السلفية بوصفها مُمثلة للسلف الصالح بتنوعه في الرؤى واختلافه واجتهاده المتوقف على النزعة العقلية وتأويل النصوص.

وضمن نظرة شمولية للتقسيم السالف ذهب بعض الباحثين إلى الإقرار بأن بدء الظاهرة السلفية كان على صورة حركة إصلاحية حداثية في الإسلام تزعمها “رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده وغيرهم من رواد الإصلاح”، للدلالة على نهجهم في فهم الإسلام وَفق النصوص التأسيسية (القرآن والسنة) وطبقًا لنموذج السلف الصالح المبني على النزعة العقلية في فهم النصوص، ثم انتقال السلفية إلى نسخة أكثرُ محافظة مع استمرار جوهرها الحداثي، وصولًا إلى النُّسخِ الرَّجعِية ([1]).

وسوف نحاول في هذه المقالة وما تلاها الوقوف على الظاهرة السلفية ونشأتها وجذورها وتطورها التاريخي، وأهم المرجعيات التي تستند إليها في صياغة مناهجها وأفكارها الدينية والسياسية، وانقساماتها بين سلفية إصلاحية حداثية وسلفية وهابية نجدية وسلفية حركية مسُيَّسة، وسلفية جهادية.

السلفية بوصفها حركةً إصلاحيةً نهضويةً:

انطلقت الدعوات المُطالبة بالإصلاح الديني الإسلامي في أثناء القرن التاسع عشر وَفق ظروف تاريخية مُلِحة، أهمها اجتياح الاستعمار الأوروبي للبلاد الإسلامية إلى جانب أوضاع التخلف والاستبداد، وتهاوي الحالة الاجتماعية في المنطقة العربية الإسلامية، ما يجعلها قاصرة على مجابهة الاحتياجات المعاصرة، وقد أدرك رواد الفكر الإصلاحي أنَّ الحل الذي سوف يُخلص المسلمين من انحطاطهم يكمن في إصلاح الديني الإسلامي، الذي سيكون إرهاصًا إلى تحقيق سائر أنواع الإصلاح الأخرى (السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية).

وذلك على غرار النهضة الأوربية التي انطلقت من الإصلاح الديني، فقد أثبتت وقائع التاريخ أنَّ “الثورة الاقتصادية التي قادتها الطبقة الجديدة الرأسمالية في أوروبا وانتهت بها إلى إنجاز الثورة الصناعية الأولى في بريطانيا أساسًا، وإلحاق الهزيمة الاقتصادية الكبرى بالإقطاعية وطبقة الملاك، وأن الثورة السياسية التي انجزتها البرجوازية -وكانت ذُروتها الثورة الفرنسية عام 1789- والتي ألحقت الهزيمة التاريخية بنظم الحكم الملكي المطلق، إنما حصلت بتأثير (حركة الإصلاح الديني)، التي أطاحت بنظام الإكليروس الكنسي، بل إن الثورة الفكرية العظمى التي أنجبت الفكر الليبرالي ونشأ منها (عصر الأنوار) ما كان لها أن ترى النور إلا في سياق النتائج التي ولَّدتها حركة الإصلاح الديني”([2]).

فذهب رُوَّاد الإصلاح إلى الإقرار بأن المطلوب في الإسلام ليس أكثر من تحقيق ثورة دينية، مِثلَ تلك التي قادها في أوروبا لوثر وكالفن، فقد قال الأفغاني: “لا بد من حركة دينية. إننا لو تأملنا في سبب انقلاب حالة أوروبا من الهمجية إلى المدينة نراه لا يتعدَّى الحركة الدينية التي قام بها لوثر وتمت على يده”، وكتب محمد عبده: “قام في المسيحية مصلحون يرون إرجاع الدين إلى أصل الكتب المقدسة ويبيحون للعامة أن ينظروا فيها ويفهموها، وقد رفعوا تلك السيطرة عن الضمائر والعقول. ومن عهد ظهور الإصلاح والرجوع إلى أصول الدين الأولى بزغت شمس العلم بالغرب وبسط للعلم بساط التسامح”([3]).

وبناءً على ذلك كان هاجس الفكر الإسلامي الحديث ورواد الحركة الإصلاحية التفكير في قضايا الأزمة التي ألمَّت بالأمة العربية والإسلامية، والدفاع عن الإسلام ومحاولة تخليصه من التفسيرات التقليدية والنزوع إلى إبراز القيم الأساسية فيه وتأكيد أنه في جوهره دين العقل والإصلاح الدائم، فانصبَّ اهتمامهم على محاولة “التوفيق بين الإسلام والعقل والعودة إلى الإسلام الصافي العتيق وإلى القرآن كونه مصدرَ التشريع، فضلًا عن تطوير قدرة التشريع الإسلامي على الاستجابة للظروف المعاصرة، وقد دعا المصلحون في هذا السياق إلى التخلي عن الموروث الفقهي الذي خلفته المذاهب على امتداد قرون كثيرة، وإلى النَّهل مباشرة من مَعِين نصوص الشرع”([4]).

إقرأ أيضاً: دليل التصوف السلفي: كتاب منازل السائرين للهروي

وانطلاقًا من هذه المقاربة راح بعض الباحثين أمثال “محمد قاسم زمان” في كتابه “الفكر الإسلامي الحديث في عصر راديكالي”، والباحث “شارل شان” في كتابه” حركة الإصلاح في التراث الإسلامي”، و”محمد عابد الجابري” في كتابه” المشروع النهضوي العربي” وغيرهم، للتأكيد أن من ضمن المعاني التي تُشير إليها “السلفية” في لفظها المعاصر هي رفض سلطة المذاهب الفقهية في القرون الوسطى والإصرار على التعامل المباشر مع نصوص الوحي بوصفها مصدرًا لسائر القواعد، وهو المعني به مفهوم “السلفية الإصلاحية”، أو “الحركات النهضوية السلفية” وفق تعبير الجابري.

فلفظة “السلفية”، اُستخدمت في القرن التاسع عشر وبداءة القرن العشرين، للدلالة على فهم الإسلام وفق النصوص التأسيسية (القرآن والسنة)، وطبقًا لنموذج السلف الصالح في مقابل الفهم المُشوه للإسلام في أثناء قرون من الجدالات الفقهية والعقدية والصوفية ([5]).

ويُشيرُ “علال الفاسي”، أنَّ السَّلَفِيَّةَ الإصلاحية لا تتمثَّلُ في تكرار ممارسات السلف، وأن تفعل كلَّ شيءٍ كما فعلوه، ولكن في التفكير كما فكَّروا، أي بمواجهة التحديات الدينية والاجتماعية والسياسية بعقل مفتوح. ([6])

ومما أقر به الفاسي يجدر الإشارة إلى أنَّ “الوهابية” ظهرت في القرن الثامن عشر، بوصفها حركةً إصلاحيةً، ولكنها إصلاحية تقليدية _وَفق تعبير نصر أبو زيد_ قائمة على زعم بسيط يرى ضرورة العودة إلى أصول الإسلام والاقتداء بالسلف الصالح دون نقد أو إعادة نظر، أو سلفية عقدية -تدعو للاعتقاد الحنبلي وعدم الابتداع- وَفق ما أقره هنري لوزيير- وذلك خلافًا للسلفية الحداثية، وسوف نتناول السلفية الوهابية بالتفصيل في المقال القادم.

إذًا فلعل الفارق بين السلفية الإصلاحية الحداثية وغيرها مما اندرج ضمن السلفية التقليدية الرجعية هي في كيفية التعامل مع تراث السَّلف، فكانت السلفية التقليدية تتبني منهجية شاملة تعتمد على الاعتراف بسلطة السلف وتوجيهم في كل الأمور الدينية، وكانوا لا يثقون بعامة في أي طريق من النظر العقلي في النصوص، فكان تعبير مذهب السلف لديهم -رمزًا على النقلية والتقليدية- أما الإصلاحية جعلوا من السَّلف نموذجًا للتوفيق بين العَقْل والوَحْي مظلَّة شاملة للعقلانية.

وضمن هذا السياق يؤكد “شارل سان برو”، أن العودة إلى الأصول والاقتداء بالسَّلف الصالح من المبادئ المؤسِسَّة لمذهب إصلاحي أطلق عليه اسم السلفية -السلفية الحقيقية- وفي هذا الصدد من الملاحظ أن الإشارة إلى السلف تستند إلى أن المسلمين الأوائل اجتهدوا في تلبية الضروريات، انطلاقًا من الأصول (القرآن والسنة) التي يفهمونها فهمًا جيدًا، ومن ثم فإن الاقتداء بالسلف تتعارض كلية مع “السلفية” المزعومة التي تتوجه نحو التقليد الكاريكاتوري للماضي والذي تدعوا إليه بعض الجماعات المحافظة المعاصرة، والتي تتناقض في الواقع مع السلفية الحقيقية ([7]).

ووفقًا لشارل برو يُلخص “محمد عبده” أهداف السلفية الإصلاحية فيما يلي:

-تحرير الفكر من قيود التقليد.

-فهم الدين كما يفهمه السلف قبل ظهور الاختلافات.

-العودة من طريق الحصول على العلم الديني الحقيقي من الأصول الأولى (القرآن والسنة).

-وزن العلم الديني بميزان العقل الإنساني الذي خلقه الله كي يمنع الغلو أو الغش في الدين. ([8]).

وفي بيان الإستراتيجية التي سارت فيها -الحركات النهضوية السلفية في العالم الإسلامي- يستدل الجابري بمقالة -تُعبر تعبيًرا كاملًا -وفق وصفه- عن محتوى السلفية الحداثية- بعنوان: “ماضي الأمة وحاضرها وعلاج عللها” كتبها الأفغاني بقلم محمد عبده، وذُكرت في مجلة “العروة الوثقى”، مشيرًا إلى أهم ما جاءت به المقالة وهو الإجابة عن سؤال التخلف والانحطاط والضعف التي آلت إليه الأمة العربية الإسلامية حتى أصبحت طمعًا للطامعين، وتجيب المقالة “أن سبب الضعف والمرض هما انحراف الأمة عن أصول دينها الذي به نهضت في الماضي وبفضله سادت على الأمم، فعلاجها الناجع إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها والأخذ بأحكامه على ما كان عليه في بدايته وإرشاد العامة بمواعظه الوافية بتطهير القلوب وتهذيب الأخلاق وإيقاد نار الغيرة وجمع الكلمة وبيع الأرواح لشرف الأمة”([9]).

فكانت أهم غايات الفكر السلفي الإصلاحي هو أن يُظهر إمكان التوفيق بين الإسلام -منتقيًا منه ما يتماشى- والفكر الحديث، أو بتعبير الجابري “إحياء ما يُعبر عنه (بالوجوه المشرقة من تراثنا)، بالعودة إلى سيرة السلف الصالح أو باستلهام العصور الزاهرة من تاريخنا”([10]).

“فالطهطاوي وخير الدين التونسي مثلًا اشتغلا لمحاكاة التجربة السياسية الحديثة في أوروبا، وقد أتاحت الصورة التي نقلاها عن الغرب أن تصير هناك وجهة نظر نقدية للوضع السياسي المُزرى في العالم الإسلامي، والأفغاني وَجَّه دعوته في مقاومة الاستعمار الخارجي، أما الكواكبي فقد تصدى لمظاهر الفساد والاستبداد الداخلي، فقد كان مدركًا للطبيعة البالغة الاستبدادية لنظام الخلافة العثمانية، في حين طرح محمد عبده مشروعًا إسلاميًا كاملًا للإصلاح تضمن بالأساس إصلاحات اجتماعية ثقافية فكرية ([11]). فجاء الإصلاح على وجهين: الإصلاح السياسي، والإصلاح الفكري.

السلفية الإصلاحية السياسية:

بدأت أولى الموضوعات المرتبطة بالإصلاح السياسي مع الطهطاوي وخير الدين التونسي، اللذين اعتنيا بالمسألة كبير عناية ([12])، فعارضا نظام الحكم المطلق الاستبدادي وضرورة أن يُستبدل به نظام مقيد بالشرع والقانون والعدل، فقامت إصلاحاتهما السياسية على عدة مبادئ أساسية منها:

– نظرية العدل السياسية.

– تقييد سلطات الحاكم

– استعادة نظام الشورى في الإسلام.

فقد وعى الطهطاوي بحدة واقعة انهيار الحضارة الإسلامية، ورأى بأم عينه الهُوة التي باتت تفصل بين أمته وأمة الإفرنج التي اطلع على حياتها وتقدمها في فرنسا، والمشكلة التي أرقته وراح يبحث لها عن حل كانت، كيف السبيل إلى التقدم والتمدن؟ ([13])

ويجيب الطهطاوي عن ذلك بقوله: “للتمدن أصلان: معنوي، وهو التمدن في الأخلاق والعوائد والآداب، يعني التمدن في الدين والشريعة، وبهذا القسم قوام الملة المُتمدنة التي تُسمى باسم دينها وجنسها لتتميز عن غيرها، والقسم الآخر: تمدن مادي وهو التقدم في المنافع العمومية، ومداره على العمل وصناعة اليد”([14]).

ومن ذلك لم تكن أفكار الطهطاوي عن التمدن والإصلاح مجرد ترديد للأفكار التي تعرّف عليها في باريس، بل كانت مزجًا بين الموروث التقليدي الإسلامي مُتمثًلا في التمدن المعنوي في الدين والشريعة والفكر الغربي المُكتَسب وهو التقدم في المنافع العمومية.

وعلى غرار ذلك جاءت إصلاحاته السياسية، فلم تكن أفكار الطهطاوي عن الدولة انعكاسًا للأفكار التي تلقنها في باريس، بل كانت الفكرة الإسلامية المأثورة فهو يحاول النظر إلى الأسس النظرية للفكر السياسي الأوروبي في ضوء الإسلام، فيرى أن الحكومة ضرورية للمجتمع ولا حياة له من دونها، والنظام السياسي يقوم على «قوة حاكمة» ترعى مصالح الأمة وتدرأ عنها المفاسد، و«قوة محكومة» تتمتع بالحرية والمساواة ولها حق المشاركة في «المنافع العمومية»، فهو هنا يرى الحكومة والناس طرفين يقوم عليهما المجتمع لكلٍّ وظائفه ومجاله، فالناس ليسوا مِلكًا للحكومة، ولكنهم أحرار لهم حق التمتع بخيرات بلادهم. ([15])

وقد دشنَّ الطهطاوي “نظرية العدل السياسية” فالحرية المؤسِسَّة للقوانين الأوروبية هي عنده تعادل في الشريعة مفهوم العدل والمساواة فيقول: وما يسمونه بالحرية ويرغبون فيه هو ما يطلق عليه عندنا العدل والإنصاف. وذلك لأن معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين كي لا يجور الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المحكمة والمعتبرة”([16]) فكان يعتقد أن النظام البرلماني الحديث ليس سوى بعث لنظام الشورى الذي كان قائمًا في فجر الإسلام ([17]).

وتتجلَّى نظرية العدل السياسية لدى الطهطاوي في بيان العلاقة بين الحاكم والرعية التي يجب أن “تقوم على الحقوق والواجبات. فللحاكم على الناس حق الطاعة، غير أنه يجب — في مقابل ذلك — أن يؤدي واجباته تجاههم، ومن ثم يجب على الرعية أن يعرفوا الشريعة حق المعرفة لحماية حقوقهم، كما عليهم أن يعرفوا القوانين المدنية والإجراءات الحكومية، أما واجب الحكومة فيمثُل في إقامة العدل وتحقيق المساواة والحرية وحماية أرواح الناس وممتلكاتهم وفقًا للشريعة، فيجب على الحاكم التزام أحكام الشريعة في كل ما اتصل بشئون الناس ([18]).

فللحاكم السلطة التنفيذية المطلقة، إلا أن ممارسته إياها يجب أن يحد منها احترامه للشريعة ولحراسها، فكان ينظر إلى السلطة السياسية نظرة التفكير الإسلامي، مستشهدًا في إثبات كل مسألة بالنبي والصحابة ([19]).

كتاب أقوام المسالك

أما مشروع خير الدين التونسي كما هو بَيَّنَ في مقدمة كتابه “أقوام المسالك”، فقد تصدى لثلاث مشاكل أساسية قدم لها حلولًا تلائمها: مشكلة تقدم أوروبا وضرورة الأخذ عنها. مشكلة نظام الحكم المطلق الاستبدادي وضرورة أن يستبدل به نظام مُقيد بالشرع والقانون والعدل، مشكلة التخلف والانهيار العمراني وضرورة الخروج منه ببناء نظام عصري تكون فيه الحرية شرطًا لازدهار الاقتصاد والعمران ([20]).

ولا يتيسر التقدم في المعارف والعمران، -وَفق التونسي- دون إجراء تنظيمات سياسية مؤسسة على دُعامتي العدل والحرية اللذين هما أصلان في شريعتنا، ولا يخفي أنهما مُلاك القوة والاستقامة في جميع الممالك. ([21])

وفي المنوال نفسه أكد التونسي أن التقدم التي وصلت إليه ممالك أوروبا تأسس على العدل السياسي فيقول: “إن الحالة الراهنة في ممالك أوروبا لم تكن ثابتة لها من قديم الزمان، ولا يتوهم أن أهلها وصلوا إلى ما وصلوا إليه بمزيد خصب أو اعتدال في أقاليمهم، ولا أن ذلك من آثار ديانتهم، إنما بلغوا تلك الغايات والتقدم في العلوم والصناعات بالتنظيمات المؤسسة على العدل السياسي”([22]).

إنَّ العدل في نظر التونسي هو الأساس السليم للدولة وما ضمانته الوحيدة سوى تقييد سلطة الحاكم وذلك على وجهين: أولًا بالشريعة، مُنزلة كانت أم طبيعية (القانون العقلي)، وآخرًا بالمشورة. أما الذين يجب على الحاكم استشارتهم فهم العلماء وهؤلاء يجب أن يكون بوسعهم مصارحته بحرية وهديه إلى الصراط المستقيم ([23])، وعلى هذا النحو يقول: “لقد تَكفلت الشريعة الإسلامية بمصالح الدارين: الدنيا والآخرة، وجعلت من التنظيم الدنيوي، أساسًا متينًا لاستقامة نظام الدين، فإن الموكول إليهم أمر ذلك علماء الإسلام ورجال السياسة، قد غفلوا عن واجباتهم. أما علماء الدين، ممن أوكلت لأمانتهم مراعاة أحوال الوقت في تنزيل الأحكام، فقد أعرضوا عن استكشاف الحوادث الداخلية، وظلت أذهانهم عن معرفة الحوادث الخارجية خالية، فلا هم نظروا فيما يجري داخل بنيان الأمة والجماعة من خطوب وتطورات، ولا هم تتبعوا ما يجد وما يحدث خارج حدود الأمة…، أما رجال السياسة فهم أحد اثنين: إما جاهل بهذا الذي يحدث، وإما متجاهل له رغبةً منه في “إطلاق الرئاسة”، أي في الاستبداد بالسلطة والحكم حكمًا مطلقًا غير مقيد، إن مناط القصد تذكير العلماء بما يعينهم على معرفة ما يجب اعتباره من حوادث الأيام، وإيقاظ الغافلين من رجال السياسة، ببيان ما ينبغي أن تكون عليه التصرفات الداخلية والخارجية”([24]).

إنَّ تفطن الطهطاوي والتونسي بمبادئ الدولة الحديثة في أوروبا وعلى رأسها مبدأ العدل ووجود القانون الذي يُقيد من سلطات الحاكم، ويُنظم علاقة الحاكم بالمحكوم ويجعلهم متساوين أمام القانون، جعلهم يرون أن أساس العدل هو الجوهر الذي ميز الدولة الحديثة في أوروبا)[25](. وأنَّ هذا العدل هو مناط الشريعة الإسلامية، فلا تعارض بين ما وصل إليه الغرب في مجال القانون والتشريع ومبادئ الفقه الإسلامي، على نحو ما أقره الطهطاوي بقوله: “فمما يُسمى عندنا بأصول الفقه الإسلامي يُسمى عندهم بالحقوق الطبيعية أو النواميس الفطرية، وما نُسميه بفروع الفقه يُسمى عندهم بالحقوق أو الأحكام المدنية، وما نُسميه بالعدل والإحسان يعبرون عنه بالحرية والمساواة ([26]).

وبهذا يكون كُلًا من الطهطاوي والتونسي قد ألمحا إلى إمكان تبني الأمة العربية الإسلامية لنظام ديمقراطي ليبرالي -إن جاز التعبير- دون المساس بالمبادئ الدينية التي حملتها الشريعة الإسلامية.

السلفية الإصلاحية الفكرية:

في حين انصب اهتمام الطهطاوي والتونسي في السعي في تحقيق الحداثة والإصلاح بمحاذاة الدول الأوروبية الحديثة، في سياق الانبهار والاعتراف بقيم الحضارة الغربية، فقرؤوا الفكر الليبرالي والعلوم الغربية وانفتحوا عليها واعتمدوها ناهلين منها ما شاءُوا أن ينهلوا ([27])، وَفق الشريعة الإسلامية فإنَّ جمال الدين الأفغاني الذي كان مهمومًا، -شأنه شأن الطهطاوي والتونسي وكل رواد النهضة- بتحديات الواقع العربي الإسلامي، ومدى التخلف والفوات الذي وصل إليه، نراه يُقلع عن اتجاه هذين الإصلاحيين في تحقيق النهضة المنشودة، مناهضًا الفكر الغربي ومنددًا بالاستعمار.

فيعترض الأفغاني اعتراضًا جوهريًا على المدارس الحديثة التي توافق النمط الأوروبي، فيقول -بنحو ما جاء في العُروة الوثقى-: إنه بقطع النظر عن كل ما ذُكر فإن العلوم الأوروبية الحديثة بعيدة عن الأمة، فهي لا تعرف كيف بذرت بذورها وكيف نبتت واستوت وأينعت وأثمرت، ولا وقوف لها على الغاية التي قُصدت، وإذًا فالنتيجة المرتقبة هي أن ناقلي العلوم الأوروبية، مع ما عرفوه من ضعف الأمة التي ينتمون إليها ومن قوة الأمة التي ينقلون عنها، يكونون من أمتهم كخليط غريب لا يزيد طباعها إلا فسادًا”، ثم يصف ناقلي العلوم الأوروبية بأنهم” مخازن الدسائس، شؤمًا على أبناء أمتهم، يذلونهم ويحقرون أمرهم، ويصير أولئك المقلدين طلائع لجيوش الغالبين” ([28]).

وراح يؤكد أن علاج الأمة وسبيل نهضتها إنما يكون برجوعها إلى أصول دينها الذي به نهضت في الماضي وبفضله سادت على الأمم، “كان الأفغاني يرى أن الإسلام على وفاق مع المبادئ التي توصَّل إليها التفكير العلمي، فهو في الواقع الدين الذي يدعو إليه العقل، فبمجرد أن يحدث الإصلاح، كان الإسلام سيتمكن من لعب دوره الرئيس المُتمثل في التوجيه الأخلاقي مثل أي دين آخر، وهذا ما أثبته تراثه، فقد ازدهرت العلوم العقلانية، وقد كانت إسلامية وعربية بحق”([29]).

فالقضية الأساسية لديه لم تكن التساؤل عن كيفية جعل البلدان الإسلامية قوية وناجحة، بقدر ما كان التساؤل عن كيفية إقناع المسلمين بأن عليهم أن يفهموا دينهم الفهم الصحيح، وأن يعيشوا وفقًا لتعاليمه. فلو أنهم فعلوا، لغدت بلادهم قوية حتمًا”([30]).

نجحت دعوة جمال الدين الأفغاني في تكوين نخبة من العلماء عَدُلَت عن منهجه السياسي والديني “الثوري”، إلى منهج الإصلاح التدريجي في مجالات الدين والسياسة والثقافة، وكان على رأس هؤلاء جميعًا الشيخ محمد عبده ([31]).

انطلق تفكير محمد عبده كما انطلق تفكير سابقيه من قضية الانحطاط والحاجة إلى الإصلاح، فأقر في البداءة أن القوانين الأوربية الحديثة -خصوصًا القوانين الفرنسية- لا يُمكن تطبيقها داخل المجتمع المصري، “إذ أن القوانين المزروعة في غير أرضها لا تُؤتي الثمر نفسه، لا بل قد تفسده، فالقوانين المُستوردة من أوروبا ليست على الإطلاق قوانين حقيقية، إذ لا أحد يفهمها، وإذًا لا يمكنه أن يحترمها أو يخضع لها. ومن هنا أوشكت مصر أن تصبح بلدًا دون قوانين”([32]).

فكان هدف محمد عبده سد الثغرة القائمة في المجتمع الإسلامي بُغية تقوية جذوره الخلقية، ولبلوغ هذا الهدف رسم طريقًا واحدًا، وهو الاعتراف بالحاجة إلى التغيير وربط هذا التغيير بمبادئ الإسلام، فالتغيير ليس مما يُجيزه الإسلام فحسب، بل إنما هو من مستلزماته الضرورية إذا ما فُهم على حقيقته، وأن الإسلام يمكنه أن يكون المبدأ الصالح للتغيير والرقابة السليمة عليه”([33]).

وفي سياق سجالي دفاعي عن الإسلام الذي اتُهم أنه السبب الرئيس في حالة التأخر التي يعانيها المسلمين([34])، كانت المهمة التي اضطلع بها محمد عبده ذات شقين: أولًا، تحديد ماهية الإسلام الحقيقية، آخرًا، بيان أسباب الانحطاط الحقيقي.

ولتحديد ماهية الإسلام الحقيقية أكد الإمام أن جوهر الإسلام قائم على مبدأ التوحيد” أي “توحيد الله”، وقد مثلَّ التوحيد لدى محمد عبده:

-حربًا على التقليد واختلاعًا لأصوله الراسخة في المدارك ونسفًا لما كان له من دعائم وأركان في عقائد الأمم.

-إيقاظ العقل من سباته وتخليصه من “سدنة هياكل الوهم”، أي تحريره من سلطة الآباء والأجداد ومن سلطة أرباب الأديان خاصة.

-رد الكثرة إلى الوحدة والتنابذ والفُرقة والتخالف إلى الاتحاد والألفة والتجمع، وهذا يصح في رد العقائد إلى دين الله الواحد، كما يصح في رد مظاهر الفرقة الاجتماعية إلى الوحدة والتضامن

-وبكلمة، يتم للإنسان بمقتضى التوحيد، أمران عظيمان هما استقلال الإرادة، واستقلال الرأي والفكر ([35]).

أما بخصوص الانحطاط والجمود فقد رده الإمام إلى:

-الجمود في اللغة، فقد تبلورت في قِصَرِ المُحصلين تحصيلهم على فهم كلام من قبلهم، إذ ليس للمتأخر إلا أن يأخذ بما قال المتقدم، وهذه الحالة أدت إلى اهمال علوم السلف، فضلًا عن التَنَكُّبِ على جمود القدماء.

-الجمود في الشريعة، فقد ضُيَّق على أهلها بعد سعة وتسامح، وسُهِّلَ الخروج عنها لصعوبة فهم عبارات الفقهاء فضلًا عن تشددهم واختلافهم في مذاهبهم، فبعد أن كان العقل هو ينبوع اليقين وأصل مبادئ الإيمان صار النقل هو الأصل في ذلك ([36]).

ويواصل الإمام تأكيده بأن الانحطاط إذًا لا يرجع إلى العقيدة الإسلامية نفسها وإنما إلى انقلاب الصورة الأصلية لهذه العقيدة، أو بتعبير آخر: هو يرجع إلى توقف هذه العقيدة بسبب من توقف فاعلية أهلها أنفسهم ([37]).

فالأصول الجوهرية المؤسِسِّة للعقيدة الإسلامية لا يمكن إلا أن تكون حافزًا على التمدن والتقدم، كما كان الحال في بداءات الإسلام حين كانت المُعتقدات سليمة، ويُعددها الإمام -أي أصول العقيدة الإسلامية- في عدة نقاط منها:

-تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض.

-الاعتبار بالوقائع التاريخية والطبيعية الوضعية من أجل استنباط سنن الكون وقوانينه، والإفادة منها في حياة المؤمنين الزمنية.

-قلب السلطة الدينية من أسسها يمحو آثار كل عبودية لغير الله.

-مودة الإسلام للمخالفين في العقيدة.

-الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، بل وتقديم صحة الحياة على صحة الدين.

كل ذلك لا يمكن إلا أن يكون باعثًا على السعي في تحصيل أقصى أطوار الرقي والكمال، وهذا ما أفضت إليه هذه الأصول في حياة المسلمين التاريخية، حين انطلق هؤلاء في الآفاق ينشرون الإيمان ويُشجعون على تحصيل العلوم الأدبية والعقلية والكونية ([38]).

أما فيما يخص إصلاحات الإمام محمد عبده السياسية، فإنه لم يكن بعيدًا عن المجال السياسي -على وجه التحديد من الناحية النظرية- فقد تَصدى الإمام لفكرة “السلطة الدينية”، ويقرر أن السلطة التي أقرها الشرعُ هي “سلطة مدنية” فيقول: “ليس في الإسلام سلطة دينية، سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر، وهي سلطة خَوَّلها الله لأدنى المسلمين يُقرع بها أنف أعلاهم. كما خَوَّلها لأعلاهم بتنازل بها ادناهم…، يقولون: إن لم يكن للخليفة ذلك السلطان الديني أفلا يكون للقاضي؟ أو للمفتي؟ أو لشيخ الإسلام؟ وأقول: إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتحرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية”([39]).

وإجمالًا فقد عالج محمد عبده عدة مواضيع اجتماعية وثقافية عملية من منظور إسلامي عقلاني، وأنشأ برنامجًا لإصلاح التعليم العالي الإسلامي وتطبيق الشريعة، وكذلك سعى في تطبيق هذه التغييرات العملية عام 1892، بإصلاحات مزمعة للتعليم عمومًا والأزهر خصوصًا، وكانت جهوده لإصلاح الأزهر في بعض النواحي مُوفقة إلى حد ما، لكن نظرًا إلى المقاومة الشديدة من جانب العلماء التقليديين لذلك، فقد بدأ يُولي الإصلاح الفكري اهتمامًا أكبر، وقد برهنت كل أعماله على ثقته في كل من “العقل” و”الدين”. ([40])

السلفية الإصلاحية وإعادة تفسير القرآن:

لقد جرت إصلاحات عبده في محاولة التوفيق بين الإسلام (التراث) والحداثة على القرآن، فقد دفعته -إعادة دراسة التراث الإسلامي- إلى فتح باب الاجتهاد على مِصْرَاعيه، لا سيمَّا وأن هناك “أمورًا لم يرشد لها القرآن أو الحديث بوضوح، إما لأن نص القرآن فيها غير صريح، أو لأن هناك شكًا في صحة الحديث الخاص بها، أو لأن القرآن والحديث اكتفيا بإيراد مبدأ عام حولها دون إيراد حكم خاص بها، أو لصمت القرآن والحديث عنها، فعلى العقل في مثل هذه الحالات أن يقوم بدور المفسر، وهكذا يصبح الاجتهاد الفردي ليس جائزًا، بل ضرورة جوهرية أيضَا”([41]).

ولعل أول ما بدأ به الشيخ في تعامله مع القرآن إقراره بضرورة التمييز بين النصوص الدينية التأسيسية (القرآن والسنة)، وبين نظيراتها التراثية من (فقه وتفسير وعلوم دينية أخرى) تقليدية، ويتجلَّى ذلك في تفسيره بعض الآيات الخاصة بوضعية المرأة، فمن طريق تعريفه للزواج يتناول قضية أساسية مفاداها أن الفقهاء هم الذين عملوا لاحتقار المرأة وإهدار حقوقها وجعلها في منزلة وضيعة وجعل الزواج مجرد عقد غايته أن يتمتع الرجل بجسد المرأة، لا سيمَّا توصل إلى ذلك من طريق مقارنته بين تعريف القرآن للزواج وتعريف الفقهاء له، فيقر بأن الفقهاء يعرفون الزواج على أنه “عقد يملك به الرجل بِضْعَ المرأة، وما وجدت فيها كلمة واحدة تشير إلى أن بين الزوج والزوجة شيئاً آخر غير التمتع بقضاء الشهوة الجسدانية…، وقد رأيت في القرآن الشريف كلامًا ينطبق على الزواج ويصح أن يكون تعريفاً له، ولا أعلم أن شريعة من شرائع الأمم التي وصلت إلى أقصى درجات التمدن جاءت بأحسن منه، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(الروم:21)([42]).

ثم تناول مفهوم القرآن بوصفه “نصًّا” باستفاضة في كتابه “تفسير المنار”، بالتأكيد ضمنًا على تكوينه الأدبي، ثم بالربط بين أسلوب رسالته التي جاءت بين القرن السابع الميلادي والمستوى الفكري للذهن العربي آنذاك، وهكذا كان لزامًا فهم أي شيء بدا غير عقلاني أو مخالفًا للمنطق والعلم في القرآن على أنه يعكس الرؤية العربية للعالم في ذلك الأوان، فيجب تفسير كل الآيات التي تشير إلى الخرافات على غرار السحر والحسد على أنها تعبير عن المعتقدات العربية، علاوة على ذلك، تأتي الصور الجمالية الأدبية (على غرار المجاز والمثل) في تفسير المنار بوصفها أساسًا لتفسير عقلاني لكل الأفعال والأحداث الخارقة المذكورة في القرآن([43]).

ولعل مثالاً على ذلك فقد فسر الإمام القصص القرآني تفسيرًا عقلانيًا وذلك بوضع القرآن في سياقه الاجتماعي آنذاك نازعًا عنه الطابع الأسطوري ومبينًا ما وراءه من مقاصد أخلاقية دينية وَفق الموعظة الحسنة والهداية العامة للبشر، فيقول في تفسيره لقصة الخلق -على سبيل المثال- مؤكدًا أن القرآن لم يُسهب في بيان كيفية الخلق وذلك “ببيان موضع العبرة في خلق آدم واستعداد الكون لأن يتكمل به، وكونه قد أُعطي استعدادا في العلم والعمل لا نهاية لهما ليظهر حكم الله ويُقيم سننه في الأرض فيكون خليفة له، قاصدًا عدم التطرق لبيان كيفية الخلق “أي خلق آدم وحواء كذلك”، للفت النظر إلى ما وراء القصة من عبرة وموعظة، تنحصر بالأساس في تأكيد طاعة الله وعدم معصيته، وما يترتب عليهما من ثواب وعقاب، إذ تنطوي القصة كلها كما وردت في القرآن في بيان كيف نال آدم عقاب ربه بعد أن عصاه واتبع الشيطان”([44]).

ومن ذلك يتضح منهجية الإمام في تعامله مع القرآن من عدة أوجه:

-التعامل المباشر مع النصوص التأسيسية للإسلام (القرآن والسنة)، وضرورة التمييز بينها وبين النصوص التراثية، بفرضية تاريخية هذه الأخيرة.

-فرضُ الاجتهاد العقلاني في التعامل مع النصوص الدينية لتوسيع دائرة الأحكام الشرعية القائمة وتكييفها مع النوازل المستجدة.

-وضع النصوص الدينية في سياقها الاجتماعي فعلى المفسر -وَفق ما أقر الشيخ- “أن يُفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزوله ومعرفة أحوال البشر، فقد أنزل الله هذا الكتاب وجعله آخر الكتب، وبين فيه ما لم يُبينه في غيره، بَيَّن فيه كثيرًا من أحوال الخلق وطبائعهم والسنن الإلهية في البشر، قصَّ علينا أحسن القصص عن الأمم وسيرها الموافقة لسنته فيها، فلا بُد للناظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم، ومناشئ اختلاف أحوالهم من قوة وضعف وعز وذل وعلم وجهل وإيمان وكفر”([45]).

-تفسير القرآن وفق مبادئه الجوهرية وهي هداية الناس وإسعادهم، فيقول الشيخ يجب “العلم بوجه هداية البشر كلهم بالقرآن، فيجب على المفسر القائم بهذا الفرض الكِفائي أن يعلم ما كان عليه الناس في عصر النبوة من العرب وغيرهم، لأن القرآن ينادي بأن الناس كلهم كانوا في شقاء وضلال، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بُعث به لهدايتهم وإسعادهم([46]).

لم تكن جهود الإمام عبده هي الوحيدة فيما يخص إعادة تفسير القرآن وَفق النظرة الحداثية، فكان “السير الهندي سيد أحمد خان” (1817-1898) أول محدثٍ هندي يُقدم في تفسيره للقرآن أفكارًا جديدة لم تكن معلومة في عصره، ففي البداءة رأى من الحتمي تحرير القرآن من التفاسير التقليدية القديمة، فقد كان أغلب ما قدمه المفسرون القدامى -من وجهة نظره- استنباطات من شريعة وعلم كلام ومواعظ خرجوا بها من القرآن، ولا شك أن جزءًا لا يُستهان به من هذه التفاسير القديمة بلا قيمة ومليءٌ بأحاديث نبوية ضعيفة وموضوعة، أو يَتَضمن قصصًا عارية من الصحة مُقتبسة من اليهود، لذلك رأى أنه من الضروري تحرير مجال التفسير القرآني من التراث، لتحل محله مبادئ “العقل” و”الطبيعة”، فقد اقترح أن يكون القرآن قائمًا بذاته، يحتاج فقط إلى إعمال عقل مُخلص ومستنير لفهمه([47]).

وقد نهج السيد أحمد خان في تفسيره للقرآن الكريم على تطبيق آياته على أساس طبيعي، مما يُناقض تمامًا القول بالمعجزات وخوارق العادات، أي حاول أن ينزع النزعة الخرافية عن القرآن وتعاليمه، وفي شرحه لآيات القتال أضعف من فرضية “الجهاد” في الوقت الحاضر، كما أنه في الآيات الأخرى الخاصة بـ “أهل الكتاب”، دعا إلى ما أسماه “إنسانية الأديان” أي المعنى الإنساني العام الذي تدعو الأديان السماوية على اعتباره وحفظه، وبجانب تفسيره للقرآن -الذي لاقى معارضة قوية، نتيجة تأويله الراديكالي لبعض الآيات القرآنية كتب مقالًا شرح فيه مبادئ التفسير تحت عنوان “تحرير فعل أصول التفسير”، أعلن فيه أن الطبيعة هي عمل الله وأن القرآن هو كلام الله وأنه لا تعارض بينهما([48]).

إلى جانب ذلك فقد اتخذ موقفًا نقديًا من الأحاديث وأقرَّ أن مبادئ التفسير يجب ألا تعتمد على الحديث، لأن هذا من شانه أن يُهدد السمة الأبدية والعالمية للقرآن، فهو يرى أن معجزة القرآن الكبرى هي عالميته التي تُتيح لكل جيل أن يعثر فيه على المعنى المناسب لوضعه على الرغم من النمو المستمر للبشرية، أما التفسير القائم على الحديث فهو غالبًا ما يَقْصُرُ معاني القرآن على موقف تاريخي معيَّن([49]).

وقد كان أحمد خان متأثرًا إلى حد كبير بـ (شاه ولي الله الدهلوي) الذي مَهَّدَ إلى السلفية الإصلاحية في بلاد الهند، فقد نجح شاه ولي الله في انتقاد البناء الكلاسيكي للشريعة، فرفض التقليد وهو التقييد بآراء علماء المذاهب الفقهية ودعي إلى الاجتهاد، وقد شدَّد على أهمية روح (مبادئ) الشريعة، وقابليه تطبيقها في كل زمان ومكان، لا شكلها (أحكامها) الذي يتكونُ ويُصاغ وفق الظروف المُستجدة، وقد أحيا مبدأ (المصلحة) من المذهب المالكي([50]).

علال الفاسي والسلفية الوطنية:

يأتي أهمية ذكر علال الفاسي أحد رواد الفكر الإصلاحي في القرن العشرين، إذ يُؤرخ له بأنهُ أول من حرَّر مفهوم السلفية الحداثية في المغرب([51])، انطلق الفاسي كغيره من الرواد من الإقرار بمُسلمة أنَّ الإسلام مُتوافق مع جميع جوانب الحداثة الغربية تقريبًا، لا بُعدها التكنولوجي فحسب، إلى جانب النزعة العقلية التي رسمت تُوجهاته الإصلاحية في تعامله مع التراث الإسلامي، “فكانت كتابات الفاسي مثًلا مليئة بالإشارات على العقلانية والإنسانية والديمقراطية وحرية الدين ورفض تعدُّد الزوجات وحق المرأة في التصويت والترشح للمناصب، وهكذا لم يكن يرى غضاضة في التعاون مع العلمانيين ولا مع النشطاء الذين تعلموا في فرنسا”([52]).

بيد أن ما يختلف فيه الفاسي وأنصار السلفية الحداثية من المغاربة أنهم لم يتبنوا فكرة القومية الإسلامية ذات البعد الديني الأوحد، “لقد كانوا وطنيين قُطْرِيين: فقد نظروا إلى أمتهم بوصفها أمةً مغربيةً تحديدًا وأنها إلى حد ما ذات تعدُّدية دينية، فقد كتب الفاسي في أوائل الخمسينيات “إن الوطنية الصحيحة لا تَرى الناس بناءً على ما بينهم من فوارق الجنس واللغة والدين، وإنما تراهم وفق ما يُمكن من الاتحاد بين نموذجهم الشخصي والوطن الذي يعيشون فيه، فلم تكن مقاربة الفاسي وزملائه للنضال ضد الاستعمار منطلقة من منظور قومي إسلامي، فالفكرة القائلة بأنه “حيثما وجدت المبادئ الإسلامية كان الوطن، لم يكن لها صدى لديهم”([53]).

ومن إعجابه الشديد بسلفية الفاسي النهضوية الحداثية، يؤكد -الجابري- أن الفاسي قد تجاوز إصلاحات كل رواد النهضة لا سيمَّا -على وجه التحديد- إصلاحات الأفغاني وعبده، متجنبًا الأخطاء السياسية التي أبرزها الجابري في أفكار هذين الإصلاحيين سواء من توظيف براغماتي للدين لصالح السياسة على طريقة الأفغاني، أو من اللجوء إلى المهادنة السياسية أملًا في إزالة العوائق أمام الدعوة على طريقة محمد عبده، أو من تشكيك في الحريات الديمقراطية وجدوى الحياة النيابية أو التحفظ والحذر من اقتباس أفكار الحداثة الأوروبية، كل هذه الجوانب السلبية في دعوة عبده والأفغاني، قد بقيت في المشرق ولم تنتقل مع الدعوة السلفية النهضوية إلى المغرب([54]).

فسلفية الفاسي الوطنية الإصلاحية تستمد قانونها من الشريعة الإسلامية وفي نفس الأمر، تأخذ بقيم الحداثة ووسائل التحديث، المتمثلة في قيم الديمقراطية والحياة النيابة الدستورية وهذا ما رفضه عبده والأفغاني بالتحديد، علاوة على رفض فكرة قيام (الدولة الدينية)، وعلى هذا النحو يقول الفاسي في كتابه (الحركات الاستقلالية في المغرب العربي) “ترى من الواجب أن لا يبتعد المسلمون عن القانون المستمد من الشريعة، وللوصول إلى ذلك يجب العمل على أن يصبح منظورًا للفقه الإسلامي أصولًا وفروعًا بوصفه مادةً لتشريع مدني عام، ولكن هذه الأشياء لا يُمكن أن تتحقق في الحكومة المسلمة إلا إذا خضع هذا الاجتهاد في التشريع لنواب أكفاء ضمن مجلس تختاره الأمة ويصبحون فيها مكان أهل الحل والعَقْد الأولين، ومعنى هذا أنه لا بُد من اتباع النظام الدستوري المبني على حكم الشعب بواسطة من يختارهم من نوابه الأكفاء، وفوق كل هذا فالسلفية الجديدة ترفض بالطبع فكرة (لا دينية الدولة)، وبذلك تجعل الحكومة الإسلامية حارسًا على الأخلاق والفضيلة في وسط الأمة”.

وقد عاصر الفاسي جيلًا كان أكثر تخصصًا في قضايا الإصلاح المُلحة، فبرز قاسم أمين، ونبوية موسى، ونظيرة زين الدين، وطاهر الحداد، في قضية المرأة، ومصطفى عبد الرازق في قضية العقل والفلسفة، ومحمود أبو زهرة في تجديد الفقه الإسلامي، وعبد المتعال الصعيدي وهو صاحب كتاب (الحرية الدينية في الإسلام) الذي أعلن فيه معارضته لحكم الردَّة، ودافع عن مبدأ (أن المرتد يُستتاب أبدًا ولا يُقتل)، وعبد العزيز جاويش في الحرية الدينية، وعلي عبد الرازق صاحب (الإسلام وأصول الحكم)، ومحمد أحمد خلف الله صاحب (الفن القصصي في القرآن)، واتسمت التوجهات الإصلاحية لهذا الجيل بالراديكالية، لا سيمَّا وقد تطلبت قضايا الأزمنة الجديدة مراجعات تأويلية وتغليبًا للمقاصد على حرفية النص، كما برز كاتبان تجاوزا الدعوات والشعارات على تقديم تنظيرات فلسفية جامعة في هذا التوجه، أحدهما الباكستاني محمد إقبال، والآخر الجزائري مالك بن نبي([55]).

أثارت هذه التوجهات الإصلاحية الراديكالية في القرن العشرين كثيرًا من الاختلافات والاعتراضات، إلى جانب تغير المناخ العام -على الصعيد السياسي بخاصة- وسقوط الخلافة العثمانية أدى إلى تراجع الاهتمام بمشروع الإصلاح الديني (السلفية الإصلاحية)، وظهور السلفية التقليدية ذات التوجهات الأيديولوجيا الدينية والسياسية، والتي يؤرخ لها زعيمها (رشيد رضا)، الذي وللغرابة بدأ سلفيًا إصلاحيًا ثم انقلب على التيار الإصلاحي، وهذا ما سوف نحاول الوقوف عليه في المقالة القادمة، يتبع…

 

قائمة المصادر والمراجع:

[1]) انظر، بتصرف، هنري لوزيير، صناعة السلفية: الإصلاح الإسلامي في القرن العشرين، ترجمة: أسامة عباس، عمرو بسيوني، ابن النديم للنشر والتوزيع.

[2]) عبد الإله بلقزيز، الإسلام والسياسة، المركز الثقافي العربي، ص176، 177.

[3]) محمد الحداد، الإصلاح الديني في أعمال المعاصرين، مجلة المحور.

[4]) فيليسيتاس أوبويس، المصلحة في الفقه الإسلامي المعاصر، دورية نماء، ترجمة: محمد أنيس مورو، العدد 17، ربيع 2022م، وانظر أيضا، عبد الصادق بطني، الفكر الإصلاحي وسؤال الدولة عند رواد النهضة، دورية نماء، العدد 17.

[5]) انظر، كرم الحفيان، رشيد رضا بين التراث والحداثة، مركز المجدد للبحوث والدراسات.

[6]) انظر، هنري لوزيير، صناعة السلفية: الإصلاح الإسلامي في القرن العشرين، ترجمة: أسامة عباس، عمرو بسيوني، ابن النديم للنشر والتوزيع.

[7]) شارل سان برو، حركة الإصلاح في التراث الإسلامي، المركز القومي للترجمة، ترجمة: أسامة نبيل، ص115.

[8]) شان سان برو، نفس المرجع، ص116.

[9]) محمد عابد الجابري، المشروع النهضوي، مركز دراسات الوحدة العربية، ص71، 72.

[10]) محمد عابد الجابري، المشروع النهضوي العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 66.

[11]) انظر، بتصرف، عبد الصادق بطني، الفكر الإصلاحي وسؤال الدولة عند رواد النهضة، دورية نماء، العدد 17. وأيضًا نصر حامد أبو زيد، إصلاح الفكر الإسلامي، مؤسسة هنداوي.

[12]) انظر، عبد الصادق بطني، الفكر الإصلاحي وسؤال الدولة عند رواد النهضة، دورية نماء، العدد 17.

[13]) فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام، ص119.

[14]) رفاعة الطهطاوي، مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية، ص9.

[15]) انظر، رؤوف عباس، تطور الفكر العربي الحديث، مؤسسة هنداوي، ص27، وأيضًا، ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ص96.

[16]) رفاعة رافع الطهطاوي، تخليص الإبريز في تلخيص باريز.

[17]) الجابري، المشروع النهضوي العربي، سبق ذكره.

[18]) رؤوف عباس، تطور الفكر العربي الحديث، مؤسسة هنداوي، ص27.

[19]) ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ص96.

[20]) انظر، فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام، دار الشروق، ص135.

[21]) انظر، خير الدين التونسي، أقوام المسالك على معرفة أحوال الممالك، ص8، 9.

[22]) خير الدين التونسي، أقوام المسالك إلى معرفة أحوال الممالك، ص166.

[23]) ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ص115.

[24]) التونسي، أقوام المسالك، سبق ذكره.

[25](انظر، عبد الصادق بطني، الفكر الإصلاحي وسؤال الدولة عند رواد النهضة، دورية نماء، العدد 17.

[26]) رفاعة رافع الطهطاوي، تخليص الإبريز في تلخيص باريز، سبق ذكره.

[27]) على حد تعبير ألبرت حوراني.

[28] ) جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، العروة الوثقى، دار الكتاب العربي، بيروت.

[29]) نصر أبو زيد، إصلاح الفكر الإسلامي، مؤسسة هنداوي، ص29، 30.

[30]) ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ص142.

[31]) الجابري، المشروع النهضوي العربي، ص79.

[32]) رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده، ج2، ص97.

[33]) انظر، حوراني، نفس المرجع، ص172، 173.

[34]) زعم جابرييل هانتو، السياسي الفرنسي المعاصر لمحمد عبده، أن حالة التأخر التي يعاني منها المسلمون ترتد في نهاية التحليل، إلى العقيدة الإسلامية نفسها. إذ في الوقت الذي أنتجت فيه المسيحية المدنية الحديثة برمتها، لم ينتج الإسلام إلا تقهقرًا وانحطاطًا، وفي رأيه أن العقيدتين الأساسيتين اللتين يمكن أن يعزي إليهما هذا الانحطاط هما على وجه التحديد عقيدة التوحيد الخالص، وعقيدة القدر، أما عقيدة التوحيد، فإنها بتقريرها للقدرة والعظمة اللامتناهتين والعلو المطلق لله، تضع الإنسان في درك الوجود، وتدفعه إلى إغفال شؤون نفسه، وبث القنوط في فؤاده، أما عقيدة القدر فإنها تلغي إرادة الإنسان وتشل فعاليته وترد وجوده إلى العدم” انظر، محمد عبده، الإسلام والرد على منتقديه، ص13، 28، وكذلك فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام، ص208.

[35]) محمد عبده، رسالة التوحيد، دار المعارف، 1971، ص150-155، وانظر، أيضًا، فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام.

[36]) محمد عبده، الإسلام والنصرانية، ص126-144.

[37]) فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام، ص210.

[38]) محمد عبده، الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، ص90- 103.

[39]) محمد عبده، الإسلام بين العلم والمدنية، ضمن الأعمال الكاملة، تحقيق: محمد عمارة، دار الشروق، بيروت، ج3، ص308ن 309.

[40]) نصر أبو زيد، إصلاح الفكر الإسلامي، ص36.

[41]) ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ص182

[42]) محمد عبده، الأعمال الكاملة، مكتبة الأسرة، ت: محمد عمارة، الجزء الخاص بالكتابات الاجتماعية، الطبعة الثانية، 2009/2010، ص70

[43]) انظر، نصر أبو زيد، إصلاح الفكر الإسلامي، ص36.

[44]) انظر، تفسير المنار، ج1، ص234، 235.

[45]) محمد عبده، الأعمال الكاملة، مكتبة الأسرة، ت: محمد عمارة، الجزء الأول في تفسير القرآن، الطبعة الثانية، 2009، 2010م، ص9.

[46]) محمد عبده، الأعمال الكاملة، نفس المرجع، ص10.

[47]) انظر، بتصرف، نصر أبو زيد، إصلاح الفكر الإسلامي، ص32.

[48]) انظر، كريمو محمد، الإصلاح الإسلامي في الهند، وأيضًا، محمد البهي، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي.

[49]) انظر، نصر أبو زيد إصلاح الفكر الإسلامي، ص32.

[50]) انظر، بتصرف، نصر أبو زيد، إصلاح الفكر الإسلامي، ص18 وأيضًا، شارل سان برو، حركة الإصلاح في التراث الإسلامي، ص93.

[51]) انظر، هنري لوزيير، صناعة السلفية: الإصلاح الإسلامي في القرن العشرين، سبق ذكره، ص267.

[52]) انظر، هنري لوزيير، صناعة السلفية، ص267.

[53]) صناعة السلفية، سبق ذكره، ص267.

[54]) انظر، الجابري، المشروع النهضوي العربي، ص81

[55]) انظر، محمد الحداد، الإصلاح الديني في أعمال المعاصرين.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete