السُّنة العلمية وتطور العلوم عند رشدي راشد

 تكوين

 تمهيد

يهتم تاريخ العلوم بمحاولة الإجابة عن عديد من الإشكاليات المرتبطة بمسيرة العلوم عبر التاريخ، نشأتها وتطورها وقيمة المعرفة العلمية وعلاقة العلوم بمختلف الأطر السياسية والاقتصادية والفكرية للمجتمعات. ولعل الإشكالية التي نالت الاهتمام الأكبر من مؤرخي العلم في السياق الغربي، هي المتعلقة بآليات تطور المعرفة العلمية، والعوامل التي تسمح بظهور النظريات العلمية الجديدة وإحداث الانقلابات المعرفية، وفي هذا الصدد ظهرت عديدٌ من التفسيرات الرائدة في هذا السياق التي انقسمت -كما يعلم المختصون- بين:

  • النظرية الاتصالية أو التراكمية التي ترى أن المعارف العلمية شبيهة ببناء يُشيَّد تدريجيًا عبر الزمن، وقد مَثلت هذه النظرية المدرسة الوضعية أحسن تمثيل.
  • والنظرية الانفصالية التي ترى أن المعارف العلمية الجديدة تقوم على أنقاض المعارف القديمة، أي أن هناك عملية هدم تسبق البناء، وقد مَثَّلَ هذا الاتجاه غاستون باشلار (1884-1962) الذي فسر تطور العلوم في النصف الأول من القرن العشرين وفق آلية تقوم تحطيم العوائق الإبستيمولوجية التي تتضمنها المعارف العلمية وإحداث قطائع إبستمولوجية تسمح بانبثاق نظريات جديدة، كما ظهر في النصف الثاني من القرن العشرين تفسير الفيزيائي الأمريكي توماس كوهن (1922-1996) لتطور العلوم وفقًا لتغيير الباراديغمات ((Paradigmes، وغير ذلك من التفسيرات التي حفل بها الفكر الغربي خصوصًا بعد منتصف القرن العشرين.

الإشكالية

إذا كان مؤرخو العلم الغربيين يناقشون ويبحثون في الآليات التي تساعد على تفسير  تطور العلوم وكيفية ظهور النظريات الجديدة، فإننا لو تحولنا إلى السياق العربي الإسلامي، سنجد أننا نعاني غيابَ هذا المبحث الفلسفي بصورة موجعة، كما أننا نعاني غيابَ البحث العلمي الذي يسمح بظهور النظريات العلمية الجديدة بصورة أكثر إيلامًا، لذلك تكون الإشكالية التي تواجه الباحث في هذا السياق هي إشكالية أسباب توقف العلوم وعجز مجتمعاتنا عن ولوج عالم إنتاج المعرفة العلمية الجديرة باللحظة الراهنة، أي المعرفة التي تُضاهي المعارف التي يُنتجها غيرنا من المجتمعات المتقدمة، نقول توقف للعلوم لأن الجميع يعلم أن الحضارة العربية الإسلامية قد كانت في أثناء فترة الازدهار من تاريخها (القرون الهجرية الخمسة الأولى) في قمة التطور العلمي في المستوى العالمي، ولكن الذي حدث بعد فترة هو أفول ذلك الجانب المشرق وتوقف الإنتاج العلمي.

هذه الإشكالية تُعيدنا إلى استحضار السؤال الذي طرحه الأمير شكيب أرسلان (1869-1946) في بداءة القرن العشرين، وعَنون به كتابه الشهير “لماذا تأخر المسلون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟[1]، وهو في الحقيقة سؤال يكاد يؤطر كل الفكر العربي المعاصر، ذلك أن جُل ما كُتب بعده يندرج ضمن محاولة الإجابة عنه، فهو سؤال عام، ولكنه يُضمر أسئلة جزئية كثيرة؛ أسئلة التخلف والتأخر والركود، والنهوض والتقدم… ومن بين الأسئلة التي تقبع في جوف هذا السؤال الكبير، سؤال التأخر العلمي للمجتمعات العربية الإسلامية مقارنة بالمجتمعات الأخرى شرقًا وغربًا.

وضمن محاولات الإجابة عن هذا السؤال المهم، يُمكن موضعة الأعمال التي أنجزها وما يزال، مؤرخ العلم المصري رشدي راشد (1936- ) الذي يسعى في أعماله في تفكيك هذا السؤال والكشف عن عوائق التأخر والركود ونقد الوضع الراهن للبحث العلمي في السياقات العربية الإسلامية، ثم اقتراح بعض الآليات الكفيلة بإحداث التغيير الإيجابي المنشود، لا سيما حديثه عن السُّنة العلمية التي تسمح بهذا التغيير، فماذا يُقصد بهذا المصطلح؟ وما هي الآليات التي يراها قادرة على بعث البحث العلمي الرصين في مجتمعاتنا؟

أولًا، مفهوم السُّنة العلمية

استفاد رشدي راشد كثيرًا من الرؤى الغربية المختلفة التي ميزت القرن العشرين عن تاريخ العلوم وفلسفتها، وحاول نقل عديدٍ من الجوانب الإشكالية من هذا المجال وتطبيقها في السياق العربي الإسلامي، من طريق البحوث الكثيرة التي أنجزها في التراث العلمي وراهن العلوم في مجتمعاتنا، منطلقًا من فكرة محورية تُعد الخيط الناظم لمختلف أعماله، وهي الإيمان الراسخ بالعقلانيات المتعددة الممكنة، والتي تُعد وفق الدارسين إسهامًا أصيلًا وجديدًا في تناول التراث العلمي العربي، والهدف من هذه الفكرة المحورية هو إعادة كتابة تاريخ العلوم بعيدًا عن فكرة المعجزة التي تبناها كثيرٌ من مؤرخي العلم الغربيين، سواء تعلق الأمر بالمعجزة اليونانية أو المعجزة الأوروبية الحديثة[2].

فإعادة كتابة تاريخ العلوم وفقًا لمفهوم العقلانيات المُمكنة تُخرجنا في السجن الذي تفرضه النظرة المتكئة على المركزية الغربية، والتي تُصور هذا التاريخ على أن العلم القديم بدأ في أوروبا بالمعجزة اليونانية، والعلم الحديث هو وليد المعجزة الأوروبية، أما باقي العالم فإسهاماته إما أن تكون تقليدًا للعلم الغربي أو بسيطة ولا يُعتد بها ضمن هذا التاريخ، من جهة أخرى يبتعد رشدي راشد عن تلك المماحكات الجدالية المتعلقة بسبق حضارة معينة في اكتشاف فكرة أو نظرية علمية مقارنة بالحضارات الأخرى، وقد صرح في أحد أعماله قائلًا:

“لدي مناعة منذ البداءة ضد فيروس البحث عن الأسبقية”[3].

بإبطال فكرة المعجزة وإثبات أن لا شيء ينتج من العدم ثم عدم الاكتراث بفكرة الأسبقية، يصبح تاريخ العلوم مثل سلسلة من الحلقات والتراكمات التي تضيفها كل حضارة سائدة في حقبة زمنية معينة لما وصل إليها من معارف ونظريات، ومن هذه المنطلقات اتجه راشد لتفسير تطور العلوم وفقًا لما أسماه بالسُّنة/السُّنن العلمية·، وهو مصطلح يقترب كثيرا من مفهوم “الأطر الاجتماعية للمعرفة” (Les cadres sociaux de la connaissance)  الذي وظفه جورج غورفيتش (1894-1965) في منتصف القرن العشرين، وقُصد به مختلف المؤسسات والقوانين الاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية المتدخلة في توجيه البحوث العلمية وتحديد قيمتها لدى الطبقات الاجتماعية، ومن وجهة نظر راشد علينا “الوصل بين العلم بوصفه نشاطًا عقليًا والمجتمع بوصفه بنيةً تحتية مؤسساتية منتجة له، وهذه البنى الاجتماعية والمؤسساتية هي التي نفسر بها ازدهار العلم وتطوره وركوده ولا نفسره بالبنى الذهنية والمفهومية وحدها[4].

ومعنى ذلك أن تفسير ظهور النظريات العلمية الجديدة في مجال علمي معين لن يكون دقيقًا إذا اقتصر على البنية الداخلية لذلك المجال العلمي فقط، إنما هناك عوامل أو أطر اجتماعية محيطة توفر الجو الملائم الذي يسمح بظهور تلك النظريات، هذه الأطر هي التي تكون مضمون السُّنة العلمية أو التقليد العلمي، وتشمل القوانين والمؤسسات والوضعية التي يكون عليها العلم في مجتمع معين، وهذه السُّنة قد تكون مدعمة للنشاط العلمي ومحفزة للعلماء كما قد تكون عكس ذلك، أي مُثَبِّطة للجهود العلمية ولا تسمح بتطور المعارف، كما أنها تتطور وتتغير وفق المعطيات التي تطرأ على ذلك المجتمع، وقد تنتهي وتضمحل تمامًا لتحل محلها سنن أخرى.

ثانيًا، أهمية السُّنة العلمية

يؤكد تاريخ العلوم في أمثلة كثيرة أن نشأة العلم وتطوره في أي مجتمع في حاجة إلى ظهور معطيات معينة في شكل قوانين جديدة أو مؤسسات أو سياسات…  فظهور العلم الحديث في أوروبا لم يكن ممكنًا لولا ظهور معطيات اجتماعية وسياسية وفكرية ودينية جديدة في أوروبا:

  • كالإصلاح الديني (1516-1517)
  • الحركة الإنسانية
  • التحول إلى الرأسمالية
  • اكتشاف المطبعة (1440)
  • إنشاء أكاديميات العلوم منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر،

بالإضافة إلى العوامل الداخلية أي المرتبطة ببنية للعلم:

  • كالثورة الكوبرنيكية
  • التحول المنهجي الذي نظّر له فرانسيس بيكون (1561-1626 ورينيه ديكارت (1596-1650)…

بالطريقة نفسها إذا أردنا تفسير تطور العلوم في الحضارة العربية الإسلامية منذ القرن الثامن، فعلينا كما يقول راشد:

“البحث في الظروف الاجتماعية التي نشأ فيها العلم العربي، أعني المجتمع الذي انبثق فيه بمشافيه ومراصده ومساجده ومدارسه، فكيف يُمكننا فهم هذا العلم إذا غابت عن بالنا المدينة الإسلامية ومؤسساتها ووظيفة العلم فيها وأهميته ودوره”[5].

فقد اجتمعت عوامل عديدة أسهمت تدريجيًا في خلق التقاليد العلمية في الحاضرة الإسلامية، لا سيما دعم الخلفاء للمترجمين والعلماء وإنشاء المؤسسات العلمية وتوفير كل ما من شأنه مساعدة العلماء على المضي قدما في أبحاثهم بكل حرية، ففي بيت الحكمة ببغداد مثلًا “كانت هناك مكتبة عظيمة يعمل فيها حفظة يساعدون العلماء يوجهونهم ويزودونهم بالأقلام وبالورق وغيرها… وكان ثمة كثيرٌ من المؤسسات من هذا القبيل في العالم العربي الإسلامي في ذلك العصر”[6]، وبفضل هذه المؤسسات ظهر الخوارزمي وأمثاله وأبدعوا في مختلف المجالات العلمية.

إقرأ أيضًا: العلم وأبعاده الحضارية والثقافية: دراسة في مفهوم العلم عند الفيزيائي المصري علي مصطفى مُشَرفة

تتجلى أهمية السُّنة العلمية من وجهة نظر راشد في كونها تسمح بانبثاق المجتمع العلمي الذي يُعد شرطًا أساسيًا للتطور العلمي، ذلك أن “مجموعة من العلماء مهما كان عددها ومهما كان عدد المؤسسات التي يوجدون فيها لا تُمثل بالضرورة مدينة علمية ولا حتى مجتمعًا علميًا (…) إن المجتمع العلمي يكون موجودًا عندما توجد تقاليد وطنية في البحث العلمي تمهد لهذا المجتمع العلمي وتقدم له الخصائص التي تميزه”[7]، يضيف راشد في موضع آخر مؤكدًا أهمية السُّنة العلمية قائلًا: “الإبداعات الفردية تبقى غير مفهومة مهما بدت ثورية، إن لم يقع إدراجها داخل السُّنة التي شهدت ولادتها، السُّنة بالمعنى العام والعادي الذي يتميز بعدم عزل العمل العلمي عن الجماعة التي ينتسب إليها العالم الذي بادر بتصوره”[8]. ومعنى هذا أن تطور العلم في مجتمع معين لا تصنعه الاجتهادات أو البحوث الفردية مهما كانت نتائجها باهرة، إنما تصنعه التقاليد الراسخة في المجتمع التي ترفع منزلة العلم والعلماء في ذلك المجتمع وتوفر لهم أسباب الاجتهاد والإبداع.

هذا التصور يساعدنا كثيرًا في فهم توقف التطور العلمي في الحضارة العربية الإسلامية بعد القرن الخامس عشر، فالعلم لم يتوقف نتيجة غياب الاجتهادات الفردية أو عدم وجود علماء كبار في البلدان الإسلامية، إنما توقف نتيجة أفول السُّنة العلمية وتحول اهتمامات رجال السياسة والنخب المسيرة للمجتمعات نحو أمور غير علمية، بعبارة أخرى بدأ العلم يفقد منزلته تدريجيًا مقابل مجالات أخرى، ذلك ما يوضحه راشد بقوله: “انطلاقًا من القرن الخامس عشر بدأت السلطات في البلاد الإسلامية تُقلص تقلصًا مطردًا من تمويل العلوم (…) ففي ذلك العصر تراجعت مكانة العلوم في المجتمع، وتراجع دعم الأشخاص الذين يقومون بهذا العمل أقصد بعبارة حديثة: تراجعت تعبئة الموارد، المجتمع أصبح يغلب عليه الطابع البيروقراطي والعسكري، إن اجتماع هذين العاملين وترابطهما هو الذي أنتج ما يُمكن أن نسميه التقهقر في ذلك المجال”[9]. وقد تجلى هذا التقهقر العلمي في العصر العثماني من طريق فتور الإنتاج العلمي، وغلبة الشروح والحواشي على التصنيف والإبداع، وانقطاع التواصل بين العلماء بسبب غياب المؤسسات العلمية أو تحولها لأدوار أخرى غير علمية.

ثالثًا، راهن العلوم في البلدان العربية الإسلامية

منذ القرن الخامس عشر تراجعت منزلة العلم والعلماء وغابت المحفزات المادية والمعنوية، واندثرت المؤسسات العلمية، لا سيما فيما تعلق بالعلوم العقلية، فتلاشت السُّنة العلمية التي كانت مساعدة على التطور العلمي لتخلفها سُّنة أو سنن أخرى مثبطة للبحث العملي، ذلك أن من خصائص السُّنة العلمية أن تتطور وتتغير وقد تنتهي وتزول، لتحل محلها سنن أخرى، وهو الذي حدث وما يزال مستمرًا إلى يومنا هذا، فرغم المحاولات العديدة من حكام بعض الدول العربية الإسلامية منذ القرن الخامس (خاصة محمد علي في مصر) إلا أن العلم لم تقم له قائمة في هذه البلدان، على الرغم من توفر الكفاءات والطاقات البشرية.

إقرأ أيضًا: المشهد الثقافي المصري

وهكذا نعود إلى السؤال الأكثر أهمية، وهو المتعلق بالراهن والمستقبل، راهن البحث العلمي في العالم العربي الإسلامي ومستقبله، وآليات إعادة بعث السُّنة العلمية المساعدة على تطوير العلوم، حول هذا السؤال المهم، يبدأ رشدي راشد من نقد الوضع الحالي، مفترضًا أننا بعيدون عن التقاليد العلمية المعمول بها في البلدان المتطورة، وقد عبر عن هذا الوضع في إحدى حواراته بأن: “اللوحة قاتمة جدا”، كما أجاب صحفيًا سأله عن الوضع العلمي في مصر بقوله: “صفر زائد صفر يساوي صفر”[10]. وطبعا ما يُقال على مصر يصدق على كل بلداننا دون استثناء.

من أسباب هذه النظرة التشاؤمية، تركيز البحث العلمي في بلداننا على النماذج المستوردة، لا سيما في المنظومات التعليمية وبرامج التكوين التي يُقلَّدُ النماذج الغربية بصورة كلية دون مراعاة للخصوصيات الثقافية والاجتماعية، إضافة إلى ما نلاحظه في استقطاب عديدٍ من الدول لفروع مراكز بحث وجامعات أجنبية كبرى (الأمريكية والفرنسية والألمانية واليابانية…) وتوطينها في هذه البلدان، وهو توجه يراه راشد غير مُجدٍ، فماذا أضاف وجود الجامعات الأمريكية أو غيرها في بعض الدول العربية لمجتمعات هذه الدول من الناحية العلمية؟ هل أسهمت في تطوير العلوم؟  هل ساعدت على تغيير نظرة المجتمع للعلم؟…

نطرح هذه الأسئلة لأن البحث العلمي الحقيقي ليس سلعة يُمكن استيرادها وينتهي الأمر، إنما هو ثمرة نضج داخلي طويل، وقد أجاب راشد محاوره عن سؤال يتعلق بالتجربة الإيرانية قائلًا:

“إنهم هضموا أو استوردوا العلم والتكنولوجيا! إن العلم لا يُبنى بهذه الطريقة”[11].

طبعًا من المؤكد أن النهوض بالبحث العلمي لا يكون من العدم، الاستفادة من الآخرين ضرورية، وهو ما لا ينكره راشد الذي يقول:

“أن تزرع محليًا أشياءً نجحت في الخارج، هذا أمر طبيعي، يحدث في كل مكان، لكن استنساخ نموذج ونقله، كلا، هذا لا يمكن أن يعمل”[12].

ويعطينا مثالًا عن التجارب الناجحة، وهو التجربة اليابانية:

“ففي اليابان يأخذون النماذج ويكيفونها محليًا، فهم يزرعونها ويعتنون بها وينجزون أشياء يابانية، وهذا مختلف تماما (عن) النماذج التي نجدها حاليًا في دول الخليج العربي أو بعض البلدان النامية”[13]

وهو المثال نفسه الذي قدمه شكيب أرسلان في كتابه المذكور آنفًا، حين قال:

“أفلا ترى أن اليابان إلى حد عام 1868كانوا أمة مثل سائر الأمم الشرقية الباقية على حالتها القديمة، فلما أرادوا اللحاق بالأمم العزيزة تعلموا علوم الأوروبيين، وصنعوا صناعتهم، واتسق لهم ذلك في خمسين عامًا (…) لقد ترقَّت اليابان كما ترقَّت أوروبة، أي ضمن دائرة قوميتهم ولسانهم وآدابهم وحريتهم ودينهم وشعائرهم وكل شيء لهم… إن مُلاك الأمر هو الإرادة، فمتى وجدت الإرادة وجد الشيء المراد”[14].

إذا كان أرسلان اشترط الإرادة والعزيمة كأساس للتطور، فإن راشد يشترط الحرية، إذ لا يمكن تحقيق التقدم العلمي في ظل الاستبداد والرقابة على العلماء، يقول: “يجب أن تُبنى الأشياء من الداخل ولا يُمكن القيام بذلك ووراء كل عالم شرطي! ذلك مستحيل”[15]،  كما يدعو راشد إلى ضرورة خلق قنوات فاعلة للتواصل بين العلماء فيما بينهم، والتواصل مع المؤسسات الاقتصادية العامة والخاصة، التي تبحث عن نتائج البحوث العلمية للاستفادة منها، كأن تُنشأ جمعيات علمية عربية للتعارف بين العلماء وتبادل الخبرات والاطلاع على أحدث البحوث العلمية، من منطلق أن البحوث العلمية في العالم المتقدم أصبحت بحوثا جماعية تُنجز من فرق بحثية متعددة التخصصات الدقيقة، وتتم بدعم كبير من مؤسسات عامة وخاصة، تكون في حاجة إلى نتائج تلك البحوث، والملاحظ في بلداننا أن المؤسسة العلمية تكاد تكون معزولة عن باقي المؤسسات، ولا أحد يلتفت لنتائج البحوث التي تنجز داخلها، ناهيك عن غياب الدعم الضروري لتطوير تلك البحوث، وفي بعض الأحيان لا تكون المؤسسة العلمية معزولة فحسب، وإنما محاصرة من المؤسسة السياسية أو الدينية، وهو ما يؤثر حتمًا على مردود الباحثين ويشلُّ من مُضِيِّهِم قُدُمًا في بحوثهم، لذلك فتطوير البحث العلمي يتطلب وجود الإرادة السياسية لدعمه بالدرجة الأولى، ثم العمل لخلق هذا التواصل الفعال والشراكة المُثمرة القائمة على تبادل المنافع بين مختلف المؤسسات وهذا ما يولد تدريجيًا مفهوم المجتمع العلمي الذي يسمح بإعادة بعث المنزلة الرفيعة للعلم في المجتمع، وبعث الثقة في البحوث العلمية لدى المجتمع، ومن ثمَّ خلق السُّنة العلمية التي تسمح بتحريك الأوضاع نحو الأفضل.

إقرأ أيضًا: مستقبل الفلسفة في مصر: عن أي فلسفة نتحدث؟

خاتمة

بعد هذه الوقفة القصيرة مع موقف راشد من إشكالية تطور العلوم، والتعرف على المفهوم الذي اقترحه لتفسير تطور المعرفة العلمية، ألا وهو مفهوم السُّنة العلمية، يُمكننا القول إن هذا المفهوم يكتسي أهمية كبيرة وذلك لأنه يساعد على فهم أعمق للظاهرة العلمية، من طريق التعرف على الظروف المحيطة بها التي تسبح بانبثاقها، فهو مفهوم يُعيد القيمة إلى دور المجتمع والمؤسسة بعامة في تطوير المعرفة العلمية، وعلى الرغم من أن العمل العلمي يقوم به شخص معين أو مجموعة من الأشخاص، إلا أن ذلك العمل لم يكن ليوجد لولا توفر ظروف اجتماعية وسياسية وأفق فكري سمح بالبحث وتحقيق ذلك العمل.

يساعدنا استحضار مفهوم السُّنة العلمية على فهم أدق لأسباب التوقف الذي قد يصيب المعرفة العلمية في مجتمع ما، مثلما حدث في المجتمع الإسلامي بعد القرن الخامس عشر، فالتوقف لا يتعلق بعدم وجود علماء ولا بعدم قدرتهم على تقديم الآراء والبحوث الجديدة، إنما الأمر يتعلق بتغير أصاب منظومة كاملة تتداخل فيها العوامل السياسية والفكرية والدينية والاقتصادية، لتكون سُّنة جديدة غير مساعدة على تطوير المعرفة العلمية، لأن العلم لم يعد ذا أهمية كبيرة ضمن هذه السُّنة الجديدة، التي تكون مساعدة على تطور جوانب أخرى.

عمل راشد طيلة عقود لإعادة بناء التراث العلمي العربي بتحقيق النصوص العربية وترجمتها ودراستها وتحليلها، وهدفه الأسمى هو كشف التقاليد العلمية التي ينتمي إليها هذا التراث وإبراز منزلتها ضمن تاريخ العلوم ودخولها ضمن شبكة علاقات التأثير والتأثر مع تقاليد أخرى سبقتها وتقاليد لحقت بها، ومن المُجحِف أو التعسف عدم الاهتمام -كما يجب- بهذه الحقبة من تاريخ العلوم بعامة، فمثلما نحتاج إلى معرفة التراث العلمي اليوناني حتى نفهم التراث العلمي العربي الإسلامي، لا يُمكن فهم ما حدث في أوروبا دون أن نأخذ في الحسبان العلم العربي.

رغم أن مفهوم السُّنة العلمية الذي اقترحه راشد قد يطرح إشكاليات عديدة تتعلق بشروط نشأة هذه السُّنة وعوامل تغيرها وأسباب أفولها وكذا فعاليتها والعناصر المتحكمة فيها… إلا أنه يبقى مفهومًا مساعدًا على تقديم تفسير جديد لتطور العلوم، تفسير يستفيد كثيرًا من التفسيرات الغربية المتداولة (غاستون باشلار، توماس كوهن، كارل بوبر…) ولكنه يبقى متميزًا عنها بخاصة في الهدف والاستراتيجية.

 

الإحالات

[1]  شكيب أرسلان: لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟ الطبعة الأولى للكتاب صدرت عام 1930.

[2] ديدي غازانيادو: محادثة مع رشدي راشد، ت: يوسف بن عثمان، منظمة المجتمع العلمي العربي- مؤسسة الريان للدراسات والبحوث، 2025. يقول هذا الباحث المحاور لرشدي راشد: ” اجتهد رشدي راشد في بيان تهافت سردية سائدة في تاريخ العلوم تنكر الإسهام العلمي العربي، إما لجهل تاريخي أو تجاهل أيديولوجي” المقدمة ص 10.

[3]  رشدي راشد: في تاريخ العلوم، ت: حاتم الزغل، تونس: بيت الحكمة-كرسي اليونيسكو للفلسفة، 2005، ص128.

  • لا علاقة لمفهوم السنة العلمية بالسنة النبوية الشريفة ولا بالمذهب السني في الفقه، إنما “السنة” هنا هي ترجمة للكلمة الفرنسية: Tradition وكان يمكن ترجمتها بالتقليد أو التقاليد العلمية، وقد استخدمت كلمة “سنة” في الأدبيات العربية المعاصرة كترجمة كلمة تراث في أعمال محمد أركون، كما تبناها نصر حامد أبو زيد في بعض أعماله، بدلا من كلمة تراث، لاعتبارات كثيرة.

[4]  ديدي غازانيادو: محادثة مع رشدي راشد، ص 16.

[5] رشدي راشد: دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2011، ص 41.

[6]  ديدي غازانيادو: مرجع سابق، ص 71.

[7]  رشدي راشد: دراسات في تاريخ العلوم، ص 434.

[8] المرجع نفسه، ص 16. يقول رشدي راشد في نفس السياق: “كان العم أحد أبعاد المدينة الإسلامية، كان العلم موجودا في كل مكان، في المراصد، في الجوامع، وفي المستشفيات وفي المحاكم وفي الممارسة الاجتماعية على حدد سواء..” انظر: محاورة مع رشدي راشد، ص 60.

[9] ديدي غازانيادو: مرجع سابق، ص ص 62-63.

[10] المرجع نفسه، ص 108.

[11] نفسه، ص 108

[12]  نفسه، ص 123.

[13] نفسه، الصفحة نفسها.

[14]  شكيب أرسلان: مرجع سابق، ص 45.

[15]  ديدي غازانيادو: مرجع سابق، ص 122.

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete