الشخصية المحمدية-حل اللغز المقدس: محنة كتاب عربي

تكوين

يختلف مفهوم المثقف في الحضارة العربية عن مفهومه الحديث الذي يعود إلى مصطلح (الإنتلجانسيا) وارتباطه بما عُرف (قضية دريفوس)، فقد ارتبط بمفهوم المحنة منذ التكونات الأولى للثقافة العربية، فأول ما امتحنت فيه الأمة مثقفيها هو ما عُرف بـ (محنة خلق القرآن)، لتتوالى المحن الفكرية بعد ذلك، وهو ما دفع الفيلسوف محمد عابد الجابري ليؤرخ للثقافة العربية من طريق مفهوم المحنة في كتابه (المثقفون في الحضارة العربيةمحنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد).

وكأن المحنة هي الشكل الوحيد لعلاقة المثقف بالسلطة، لهذا سعت الأنظمة الحاكمة في إخضاع المثقف لخطبها وعده جزءًا من جهازها الإداري، وإلا فإن مصيره السجن أو النفي أو القتل. وهو ما دفع كثيرًا من المثقفين إلى إخفاء آرائهم أو توريتها أو تأليف الكتب بأسماء مُستعارة كما حدث مع (إخوان الصفا) الذين لم نعرف إلى الآن هُويتهم الحقيقية. ويبدو ان دوام الحال -في الثقافة العربية- ليس من المحال، ففي شهر ديسمبر 2021 في معرض بغداد الدولي للكتاب صودر كتاب (الشخصية المحمدية)، وهو كتاب للشاعر العراقي المعروف معروف عبد الغني الرصافي (تـ 1945م).

يُمثل هذا الكتاب حكاية أخرى من حكايات محنة المثقف العربي وقد انكشف أمامه مصيره، فهل لنا أن نتخيل ماذا سوف يحل بالرصافي لو أنه نشر كتابه حال الانتهاء من تأليفه عام 1933م؟ وكأن لسان حاله يقول: أيها المثقفون من يُجاهر بآرائه يكون كمن حفر قبره في يده، وكلما ازداد نقدًا وتفحصًا وتحليلًا ازدادت الحفرة عمقًا. لهذا حُكم الرصافي مُرغما على كتابه بالسجن.

لم تكن الحرية الفكرية في عصر من العصور -في عالمنا العربي- مضمونة العواقب أبدًا، وما منحته السلطة باتحادها السياسي والديني للمثقف هي فتات حرية، وسرعان ما يسحب حتى هذا الفتات من أمامه تبعًا لحاجتها لخدماته، وخير مثال هو علاقة المأمون والواثق بالمعتزلة، الذين نَكل بهم المتوكل لصالح أهل الحديث وأحمد بن حنبل. لقد قتل الواثق بسيفه أحمد بن نصر لأجل قوله بعدم خلق القرآن وصلبه وترك جثته، حتى أنزلها ابنه المتوكل ليبدأ هو الآخر رحلة جديدة من القتل والتنكيل معاكسة لرحلة أبيه. يقول المؤرخ العربي الشهير اليعقوبي “نهى المتوكل الناس عن الكلام في القرآن… وكتب إلى الآفاق كُتبًا ينهى عن المناظرة والجدل”. ويضيف ابن الجوزي في كتابه (مناقب الإمام أحمد) “عام 234 هجرية أشخص المتوكل الفقهاء والمحدثين، وأمرهم أن يجلسوا للناس وأن يحدثوهم بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية، وأن يحدثوا في الرؤية، فجلس عثمان بن أبي شيبة في مدينة المنصور، ووُضع له منبرًا واجتمع الناس عليه نحو ثلاثين ألفا، وجلس أبو بكر بن أبي شيبة في مسجد الرصافة واجتمع عليه نحو ثلاثين ألفا”.

أما القادر بالله فقد أخذ بنفسه القيام بدور المثقف، كي يُركز السلطة إليه ويزيد من قبضته عليها ويصبح ما يقوله عقائديًا قانونًا يُحاسب عليه المخالف، وقد عُرف هذا الكتاب تاريخيًا باسم “البيان القادري“، يقول الخطيب في كتابه (تاريخ بغداد– ج4، 206) “صنف القادر بالله كتابًا في الأصول ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث وأورد فيه فضائل عمر بن عبد العزيز وإكفار المعتزلة القائلين بخلق القرآن وكان يقرأ بجامع المهدي ويحضر الناس لسماعه”.

ويكاد الذي يسمعنا نتحدث عن هؤلاء الخلفاء يتصور أن الوضع تغير، لكن الذي يحدث في عالمنا العربي للمثقفين من الكتاب والمؤلفين والمدونين وما يصدر بحقهم من أحكام عقابية من الدولة على الرغم من أن تسمية هكذا قضايا (قضايا الرأي)، لكن الوصف القانوني يضعها ضمن تشريعيات خطيرة مثل: جريمة (ازدراء الأديان) أو (الارتداد) أو (التطاول على الله والرسول) أو (الإساءة إلى الرموز الدينية). هذه المواد هي نفسها التي نكبت ابن رشد ونفته، وقتلت الحلاج وصلبته، واعدمت محمود محمد طه، وفرقت بين أبو زيد وزوجه وهجَّرته. يقول الجابري “ما تزال الوضعية في خطوطها العامة كما كانت بالأمس، معتزلة وأهل سنة، أشبه ما تكون بعلاقة المثقفين بالسلطة اليوم: سلفيين أصوليين وعصريين حداثيين، أما جوهر هذه العلاقة فهي، الأمس واليوم، التناوب على خدمة سيطرة الدولة وهيمنتها”.

إقرأ أيضا: أين تكمن أزمة المثقف العربي؟

لقد عَرف التاريخ العربي طوال مراحله نمطًا من التعامل البراغماتي مع المثقف، وظلت العلاقة بين المثقف والحكومات علاقة تابع بمتبوع، حاكم بمحكوم. سلطة ليس لها هدفٌ إلا إخضاع المثقف لخطابها، فمتى تحتاجه تريده مُدافعًا عنها ضد (أعداء الأمة) و(أعداء الدين) و(أعداء الوطن)، ومتى ينتهي دوره تُخرسه وتستبعده إلى عزلته إن كان مِزاج تلك السلطة رائقًا، أما وإن كان (المتآمرون) قد عكَّروا مزاجها فإن عقوبة هذا المثقف ستكون قاسية جدًا.

وبعد كل هذا هل يحق لنا أن نسأل الرصافي: لماذا حكمت على كتابك بالحبس الطويل؟ وهو القائل:

أنا اليوم في هذه الحياة على شفا        أشاهد منها مرقدي في المقابر

يمكن أن نضيف إلى محنة الكاتب مصطلحًا جديدًا هو محنة الكتاب. فبعض الكتب هي كمؤلفيها تعاني المحن والنكبات، والتاريخ يُخبرنا أن بعضَ الكتب حُكم عليها بالحرق وأخرى بالتكفير وكتب صدرت بحقها أحكام بالسجن. كتاب الرصافي هذا قضى سبعين سنة من حياته في سجن، حتى أننا نستطيع أن نقدر حجم الاضرار (المعرفية) التي لحقت به وقد خرج شيخًا بعد أن طبعته دار الجمل سنة 2002.

يعود تاريخ تأليف الكتاب وكما جاء في مقدمته إلى سنة 1933م، فقد غادر الرصافي العاصمة بغداد إلى مدينة الفلوجة بعيدًا عن أعين الناس الذين يسهل انقيادهم للإضرار به أو قتله حتى، وبعيدًا عن الحكومة التي كانت بينه وبينها مشاكل كثيرة وهو الشخصية التي عُرفت بمواقفها الوطنية، وبعيدًا عن عيون رجال الدين المُتربصين دائمًا (بالمخالفين).

لهذا حرص الرصافي على عدم نشره وإنما نسخهُ عدد محدود جدًا من أصدقائه الثقات مثل: السياسي العراقي كامل الجادرجي ومصطفى علي ومحمد السنوي. في أثناء هجوم القوات الإنكليزية على العراق اضطر الرصافي إلى مغادرة الفلوجة وإيداع الكتاب إلى أحد معارفه والرجوع إلى بغداد، لكن وبعد موت الرصافي ورغم أن النسخة الأصلية أودعت (المجمع العلمي العراقي) ووصلت نسخة إلى مكتبة جامعة هارفرد إلا أن الكتاب لم يُنشر حتى عام 2002م. وقبل ذلك كان بعض المسئولين في الحكومة البعث في عهد الرئيس صدام حسين يصورون نسخًا منه ويبيعونها سرًا بأسعار باهظة، لهذا كنا نجد ظهور كتاب (الشخصية المحمدية) في قائمة مراجع عدد من الكتب قبل عام طباعته 2002.

وبعد كل هذه الرحلة التي كادت أن تودي بالكتاب نجا بأعجوبة ليواجَه بعاصفة من التكفير والسباب والتشكيك وتعرضت أجزاء منه إلى السطو من بعض المؤلفين. ففي عام 2006 اجتمع خمسة مؤلفين للرد على كتاب الرصافي فأصدروا كتاب بعنوان (الرصافي من رحلة المغالطة إلى الإلحاد) وكتاب (بين الإيمان والإلحاد رحلة لم تنتهي). وتزايد عدد الردود بين تشكيكية وتكفيرية، وأنه جزء من مؤامرة المستشرقين على تاريخ الأمة العربية والدين الاسلامي، فكتاب الرصافي ما هو إلا كتاب نولدكه (تاريخ القرآن) متنكرًا بزي عربي. من طريق الاطلاع على كتب الردود هذه لاحظنا أن أغلبها اعتمد على بعض الأخطاء الفنية التي لحقت بنسخة الكتاب مثل ورود أسماء كتب صدرت بعد وفاة الرصافي، وغياب اسم محقق الكتاب، وأن المقدمة ذُيلت بعام انتهاء تأليف الكتاب 1933م في حين أن الرصافي وكما تُشير بعض الكتب التي أرخت سيرته أنه في هذا التاريخ ذهب لتوهِ إلى مدينة الفلوجة.

نشرت صحيفة (فيمروز) الإيرانية التي تصدر في لندن مقالًا تفصيليًا عن نسبة كتاب علي دشتي (وهو شخصية سياسية ودبلوماسية وأدبية إيرانية معروفة) المُعنون (23 عامًا في السيرة النبوية) بأنه ترجمة تلخيصية لكتاب الرصافي الضخم، خاصة وأن دشتي قد عاش فترة من حياته في العراق وكانت له علاقات ببعض المسئولين العراقيين، كذلك كانت الطبعات الأولى من كتاب (23 عامًا في السيرة النبوية) صدرت دون أن يُكتب عليها اسم المؤلف، وأن دشتي أوصى كالرصافي بعدم طباعة الكتاب إلا بعد وفاته، ليصدر أول مرة عام 1985م في لندن. يقول الكاتب العراقي رشيد الخيون في مقالة بعنوان (علي دشتي ترجم بتصرف كتاب الرصافي الشخصية المحمدية ولم يؤلفه) يشير فيها الخيون إلى أن دشتي لم يقصد السرقة بقدر ما قصد الترجمة… بتصرف.

وإلى الآن يبدو أن رحلة كتاب (الشخصية المحمدية) لم تنتهِ، التي يبدو أن الثقافة العربية حكمت عليها أن تكون رحلة مأسوية، فالكتب يمكن أن تدفع الثمن كالكتاب، وأحيانًا أكثر منهم. الثمن الباهظ الذي دفعه كتاب (الشخصية المحمدية) أنه قُطع من سياقه الطبيعي وهو أن يتفاعل مثله مثل الكتب التي كتبها رواد النهضة العربية المُسهمة بفتح أفاق جديدة من التفكير والتأسيس لمرجعية معرفية غير المرجعية التراثية الوحيدة التي تحكم فضاء التفكير العربي، فيسعى الفهم السلفي للهيمنة في فضاء التفكير العربي. أهمية وجود مثل هذه الكتب أنها تُؤسس لفهم مغاير يُسهم في إيقاف تمدد السرديات الأُحادية عن العالم أن تتمدد خارج حدودها، فرجال الدين وبدل أن يقتنعوا بحدود مؤسستهم نراهم فرضوا سرديتهم على المؤسسات الاجتماعية كافة بدءًا من الحكومة إلى الجامعة إلى المدرسة إلى الأسرة الصغيرة، ولم يبقوا إلا أجزاءً صغيرة من الفضاء العمومي العربي لا تكفي المثقف أن يتنفس فيها هواءَ الحرية.

يقول مالك بن نبي “إن المُشكل الرئيس الذي يُواجه العالم الاسلامي هو مشكلة الحضارة، وكيف تدخل الشعوب الإسلامية في دورة حضارية جديدة، وكيف تعود الشعوب الاسلامية التي خرجت من حَلبة التاريخ إلى دورة حضارية جديدة”. أما أركون فيرى أن الأصول الفقهية الإسلامية التي حملت العقل الاسلامي إلى أطوار حضارية عالمية توقفت بعد القرون الثلاث من بداية الإسلام وأصبح العقل الإسلامي أسيرَ النص الديني وما ثبت من قواعد الاستنباط وفقًا للمذاهب الفقهية المعروفة. وليس بعيدًا عنها ما توصل إليه الجابري في طرحه بشأن الاسهام الكبير للحضارة الإسلامية وهو الفقه، كما كانت الفلسفة هي المبادرة المعرفية التي قدمها اليونان إلى العالم، وكما تقدم أوروبا العلم الآن إلى العالم.

وبالعودة إلى كتاب الرصافي فنلاحظ أن الرصافي قد اتبع المنهجَ العقليَ في تحليل مواضيع السيرة ولم يخالف ما يصل إليه المنهج من نتائج منطقية مهما ابتعدت عما قرَّ في أذهان الناس وأصبح دوغما أو مِخيالًا تاريخيًا. فنحن نعرف أن أولى مبادئ المنهج العقلي كما صاغه فلاسفة: كانت وديكارت واسبينوزا ولايبنتز ترى العقل أو المبادئ المنطقية مصدرًا وحيدًا للمعرفة. وتُعرف العقلانية بأنها الفلسفة التي يكون العقل فيها منهجَ بلوغ الحقيقة فكرًا واستنباطًا، ليس حسيًا أو تجريبيًا. وعلى هذا الأساس المنطقي حاول الرصافي قراءة أهم نص مركزي في الثقافة العربية (فقد اتفق اغلب الكتاب أن العقل العربي أعطى السيرة أهمية تفوق حتى النص القرآني) لهذا رفض جميع الأحداث الخارقة وغير المعقولة التي اعتقد المتدينون بمصداقيتها وأهميتها جاعلين منها عماد حياة النبي: تكليم الحجر وانشقاق القمر ومسير الشجر وكلام بعض الحيوانات… يقول الرصافي أن أفعالًا كهذه تعني أن لا دور للنبي ولا فضل له في توحيد العرب وبناء الأمة، هذا وأن الاعتقاد بمثل هذه الافكار يتنافى والمبدأ القرآني المهم (ولن تجد لسنة الله تبديلا) و(ولن تجد لسنة الله تحويلا)، وسنة الله هي النواميس التي تسير عليها الطبيعة التي استنبطها العقل البشري بوصفها مبادئَ منطقيةً يقيس بها الأمور والحوادث.

لهذا فقد قرأ الرصافي مفهومًا: الوحي والنبوة والخلافة والصلاة والحج…. قراءةً تحليليةً وتاريخيةً بعيدًا عما قام من أسيجة دوغمائية حول هذه المفاهيم التي لا تزال تُشعل الحروب بين المسلمين أنفسهم قبل حروبهم ضد الآخرين، وهو بهذا أعلن الحرب على أصحاب القراءات الأحادية من سلفيي السنة والشيعة وضد المعصومية الفكرية التي اغتنمها هؤلاء من جهل الجمهور العربي المسلم ليؤسسوا سلطتهم المادية والرمزية. وقد اثبتت موجات العنف والإرهاب التي ضربت العالم العربي في الآونة الأخيرة أن تَفَرُّدَ هذه السلطة بالهيمنة الفكرية والمعرفية هي المسؤول الأول عن تلك الضربات.

لهذا يمكن القول إن كتاب الرصافي يشتمل على مستويات قراءة متعددة منها التاريخي الاجتماعي الذي حلل فكرة النبوة ضمن محيطها الثقافي في الجزيرة العربية وضمن سياق الأديان التوحيدية التي كانت سائدة، ومنها ما هو سيكولوجي اعتمد فيه الرصافي على تحليل شخصية النبي وما تمتاز به من إمكانات وصفات: الذكاء والحزم وسرعة اتخاذ القرار والبلاغة وقوة الذاكرة، مما جعل النبي الشخص الوحيد في الجزيرة العربية القادر على استنهاض همم القبائل والقيام بنهضة عربية دينية اجتماعية أنتجت لنا (أمة)، وتلك كانت أول مرة يكون فيها العرب أمة.

 

 

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete