الشيخ حسن العطار: ملامح من السيرة… الجزء الأول

(1)

قد يبدو أن الكثير من الكتب التي أرخت للفكر المصري الحديث (بل والفكر العربي الإسلامي كله) قد مرت مرورًا سريعا على الشيخ حسن العطار (1766-1835)، واعتبرت أن البداية الحقيقية لحركة الفكر المصري (والعربي) الحديث كانت من خلال تلميذه العظيم رفاعة الطهطاوي (1801-1873) الرائد النهضوي بغير منازع،

لكن في ظني لم يكن ممكنًا البدءُ في قراءة ما قام به رفاعة الطهطاوي، ودراسته وبحثه، وما حفره عميقًا في مجرى الفكر المصري والعربي الحديث، وعرضه بتفاصيله من دون الوقوف عند محطة الشيخ حسن العطار “التأسيسية” التي كانت إرهاصًا قويا بضرورة “التحديث” و”النهضة” و”الإصلاح”،

وكذلك باعتباره (أي الشيخ حسن العطار) “مقدمة تأسيسية” -إذا جاز التعبير- في كتاب “التجديد” الذي خطه “المجددون” و”المصلحون” من أبناء الفكر المصري الحديث، ولعله هو الجد “الروحي” الحقيقي للإمام المصلح المجدد -فيما بعد- الأستاذ الإمام محمد عبده (1849-1905) أحد أهم أعمدة النهضة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر..

 

إن الشيخ العطار هو الذي أطلق الصيحة المدوية في زمنه (أواخر القرن الثامن عشر، ومطالع القرن التاسع عشر): “إن بلادنا لا بد أن تتغيرَ أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها”.

ستتردد هذه المقولة منذ أطلقها الشيخ حسن العطار؛ في طول البلاد وعرضها، بل لا أبالغ لو قلت إنها أصبحت شعارًا وأيقونة للباحثين عن التجديد والنهوض والانطلاق نحو آفاق المعرفة والمدنية والحضارة والتقدم، في كل مكان، وفي أرجاء العالم العربي والإسلامي على السواء.

ومثلما كانت تجربة علي بك الكبير بروفة أولى -إنْ جاز التعبير أيضًا- لمشروع محمد علي الكبير في محاولة الاستقلال عن الباب العالي بالآستانة، وتأسيس دولة حديثة، فإنني أظن أن الشيخ حسن العطار كان البذرة الأولى (أو البروفة الأولى إذا جاز التعبير!) لمشروع الإمام المصلح المجدد الشيخ محمد عبده.

نعم إن الشيخ حسن العطار هو إمام المجددين في الأزهر الشريف بلا منازع، وامتد أثره إلى خارج الأزهر الشريف إلا أن البذرة التي غرسها قد أثمرت -رغم الصعاب والمعوقات والتحديات- في ظهور رفاعة الطهطاوي (وتلاميذه)، ومن بعدهم، محمد عبده، وأمين الخولي، وعبد المتعال الصعيدي، وآخرون، كانوا بلا منازع أئمة التجديد والإصلاح في الأزهر الشريف، ما دعا أحدَ هؤلاء -وقد وعى أهمية هذا التيار وضرورته- إلى إفراد كتابٍ كامل يؤرخ فيه لجهود هؤلاء المصلحين المجددين[1].

 

(2)

والشيخ حسن العطار من المخضرمين الذين عاشوا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؛ باعتباره باكورة السلالة النهضوية “التجديدية” التي انطلقت من المؤسسة الأزهرية العريقة، وهي التي سيخرج منها رفاعة الطهطاوي، والشيخ محمد عبده، وصولًا إلى طه حسين، وجيله التنويري العظيم (هل نقول الأعظم؟!)

كان الشيخ العطار شاعرًا وكاتبًا ترك من القصائد المتفرقات والأبيات القصار ما يشهد بشاعريته‏،‏ كما ترك كتابًا في الإنشاء يضم ما كتبه من نماذج يستهدي بها الكتاب في المخاطبات‏،‏ والرسائل الإخوانية‏،‏ والخطب‏،‏ والإجازات العلمية‏،‏ والكتابة الديوانية‏،‏ وحتى الوثائق والصكوك‏!‏

والعطار هو أول من حقَّق في العصر الحديث (ديوان ابن سهل الأندلسي‏)،‏ وكان من أصحاب التعليقات المفيدة النافعة على هوامش الكتب والمخطوطات التي قرأها، ومن يراجع نسخة كتاب (الأغاني) التي كانت له سيجد عديد التعليقات المنسوبة للشيخ على هوامش صفحاته، وكذلك على صفحات كتاب المقريزي (المقفى الكبير)، وغير ذلك كثير.

وبرغم ذلك كله فقد استلفت انتباه بعض الباحثين المعاصرين، وجود ما يسميه فجوات في الدراسات المعاصرة، فبالرغم من “الاهتمام العام بالإصلاح والمصلحين، لماذا لم يتساءل أحد حول (عن) العطار المصلح المعروف، كيف أصبح مصلحا؟”.

لقد تم تهميش العطار تهميشا شبه كامل في كل الروايات القياسية عن النهضة (الصحوة الثقافية الحديثة) في القرنين التاسع والعشرين، كما يرى أحد أبرز من توفروا على درس الشيخ العطار، رغم الاهتمام البحثي (الكبير) بالإصلاح والمصلحين[2].

 

سنحاول في هذا المقال -والذي يليه- أن نكثف الملامح الرئيسية في سيرة الشيخ العطار وأن نبرز المحطات الرئيسية فيها، والعوامل المؤثرة التي شكلته وشكلت مزاجه العام بالشكل الذي قاده -في النهاية- ليكون رأس الحربة في البحث عن التجديد وفكر الإصلاح والنهضة..

 

وقد ارتأيتُ في عرض ملامح من سيرة الشيخ حسن العطار أن أقسمها إلى مراحل ثلاثة؛ وبيانها كالتالي:

 

  • المرحلة الأولى؛ من الميلاد حتى جلاء الحملة الفرنسية (1766-1801).
  • المرحلة الثانية، من جلاء الحملة إلى عودة الشيخ من سفراته ورحلاته المتعددة (1802-1815)
  • المرحلة الثالثة والأخيرة؛ من اتصاله بدولة محمد علي وحتى وفاته (1815-1835)

 

 

المرحلة الأولى (1766-1801)

 

تتفق المصادر على أن الشيخ حسن العطار‏،‏ من “المخضرمين” الذين عاشوا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وشهدوا عصرين أو عهدين متباينين في نظم الحكم والإدارة، والمناخ الفكري، وأساليب التعليم. فقد عاصر الشيخ العطار آخر حكم العثمانيين/ المماليك، وعاصر الحملة الفرنسية، وشهد دولة محمد علي في أوج ازدهارها قبل أن تتكالب عليها الدول الاستعمارية، وتحجمها بموجب اتفاقية 1840.

 

يورد أحمد تيمور باشا في ترجمته للشيخ حسن العطار اسمه بالكامل؛ فيقول:

هو العلَّامة شيخ الإسلام حسن بن محمد محمود العطَّار المصري، المولود بالقاهرة في حدود سنة 1180ﻫ/ 1766م (وبعض المراجع تـُرجِّحُ أن ولادته كانت بعد هذا التاريخ بعامين، لكننا أخذنا بالمتواتر في المراجع التي ترجمت للشيخ أو أرَّخت له أو عرضت لجانب أو أكثر من سيرته)،

وقد نشأ بها في رعاية والده الشيخ محمد كتن، سُمع من أهله أنه مغربي الأصل، قَدِم بعضُ أسلافه مصرَ واستوطنوها، وكان والدُه عطَّارًا صغيرًا له إلمامٌ بالعلم. وكان في أول أمره يستصحبه إلى الدكان، ويستخدمه في صغار شئونه، ويُعلِّمه البيع والشراء، ولشدة ذكائه وحدَّة فطنته كان يميل إلى التعليم والتحصيل، وتأخذه الغيرةُ عند رؤية أترابه يتردَّدون إلى المكاتب، فكان يختلف إلى الجامع الأزهر لحفظ القرآن الكريم.

ولمَّا رأى والدُه فيه هذه الرغبةَ إلى التعلُّم، ورأى أنه صاحب عقل موهوب، ساعده حتى أتمَّ حفْظ القرآن في مدة يسيرة، ثم أقبل على طلب العلم، وانكب على التعلم، حتى عُـدَّ من نابغي عصره، وشيوخ الأزهر العظام،

وجدَّ في التحصيل أيما جد على كبار المشايخ آنذاك؛ كالشيخ محمد الأمير، والشَّيخ محمد الصَّبَّان (وهما من كبار العلماء المجددين في ذلك الوقت) وغيرهما،

ولا شك في أنه خلال تلك الفترة أيضًا قد تعلم الكثير من شيخه العلامة مرتضى الزبيدي صاحب «تاج العروس»، حتى بلغ من العلوم في زمنٍ قليل ما هيَّأه للتدريس، وزادت رغبتُه في التزوُّد بكثير من العلوم المختلفة فعكف على دراستها حتى أتقنها[3].

 

وأجازه أساتذته بالأزهر للتدريس والفتوى بعد زمن قصير لما كان يتمتع به من حافظة قوية، وبصرٍ حاد يستطيع القراءة على ضوء القمر أو الشموع، كما كان كثير الاستعارة للكتب والاستيعاب لها والتعليق عليها بهوامش بخط يده؛ مثل كتاب: «تقويم البلدان في الجغرافيا» لإسماعيل أبي الفداء، وكتاب «طبقات الأطباء» وغيرها.

وتفيد المصادر بأن العطار أصبح شيخًا ومعلمًا بالأزهر منذ أواخر القرن الثامن عشر، بين عامَي 1799 و1802، وأنه ذكر ذلك في حاشيته المشهورة على «شرح الأزهرية في علم النحو» للشيخ خالد.

وكانت له حلقة بالأزهر تغصُّ بالطلاب، وكان العلماء يتكاثرون على حلقته ليستمعوا، وذلك لتحرره الفكري وبعده عن الجمود، ودعوته الجديدة إلى الأخذ بالعلوم الحديثة “العصرية” مع الاهتمام بالعلوم القديمة، وأنه امتلك براعة فائقة في دراسة النحو، عندما انتقد ما كتبه المتأخرون الذين كانوا استمرارًا للسلف، وعلى الأخص كتابات خالد الأزهري، الذي رأى فيه العطار جامعًا للمادة وناقدًا غير نزيه خلط بين مصادره خلطًا واضحًا ينم عن عدم وعيه بالاختلافات الفكرية.

ولم تكن حاشية العطار على «شرح الأزهرية» مجرد نقد لخالد الأزهري، بل كانت نقدًا لأستاذه محمد الأمير كذلك، حيث نقد العطار الكتب التي كان أستاذه قد امتدحها. وعمومًا فإن نظرة العطار الناقدة في كتاباته المبكرة كانت أقرب إلى الصحوة، حيث بدأ يعيد تقييم ما كتبه الجيل السابق وينتقد إصراره على استخدام لغة الماضي دون سواها[4].

وقد أبدى العطار اهتمامًا واضحًا بتنظيم أساليب تدريس النحو، وتطويرها، باعتباره النحو علمًا عقلانيًّا، وبدا هذا واضحًا في أعماله في هذا المجال، حتى كان لكتاباته تأثيرها في الأجيال التالية. وبعد عودته إلى مصر عام 1815 هجر الأساليب العتيقة للتدريس والكتابة في النحو، التي كانت تميز كتابات القرن الثامن عشر، والتي مارسها هو نفسه في مطلع شبابه. وكان كتابه «مجموعة في علم التصريف» من أوائل مطبوعات مطبعة بولاق، فقد صدر عام 1825 متضمنًا مختارات لعددٍ من الكتابات الكلاسيكية في النحو بعد أن عالجها بطريقة جديدة وعصرية، مما جعله من طليعة كُتاب النحو في عصره[5].

 

وقد كان العطار يدرِّس لطلابه في الأزهر كتاب «فقه اللغة» للثعالبي‏،‏ و«مقامات الحريري‏»[6]،‏ ويشرحها‏،‏ ويعلق عليها‏،‏ وكان يقرأ معهم “المعلقات” مع «شرح الزوزني» فضلًا عن أنه كان شاعرًا أيضًا‏،‏ ومن أعذب ما يقرأ الإنسانُ له مراثيه في زوجته‏،‏ وهي عاطفة تدل على مدى ما بلغه مثقفو ذلك العصر من رهافة وتحضر‏ وإحساس راق..

 

في عام 1798 جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر، ودكت مدافع نابليون قلاع الإسكندرية وحصونها، ومنها إلى القاهرة، وكان الشيخ حسن العطار في الثانية والثلاثين من عمره. وقد هرب الشيخ العطار ومعه ثلة من الأزهريين إلى أسيوط‏ في صعيد مصر، واستقر بها ما يقرب من عامين.

وفي أسيوط‏، عانى الفقر والاضطراب وشهد مرض الطاعون الذي اجتاح مصر عام 1800. وفي رسالةٍ كتبها إلى صديقه المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي، وصف فيها الطاعون وأعراضه وآراءه في مقاومته، وهذه الرسالة تدلنا على أنه كانت له معرفة بالطب قبل اتصاله بعلماء الحملة الفرنسية الذين اتصل بهم بعد عودته إلى القاهرة[7].

 

اتصاله بعلماء الحملة الفرنسية

وقبل جلاء الحملة الفرنسية وخروجها من مصر، عاد الشيخ العطار إلى القاهرة، أو بعبارة [8]بعض من ترجموا للشيخ “ثم عاد إليها إبَّان احتلالهم الممقوت، فقرَّبوه منهم، واتصل بعلمائهم، فأفادهم وأفاد منهم، وكان يتنبَّأ لمصر بتقدُّم عمراني وثقافي”.

فلما استقرت الأحوال بالشيخ حسن العطار عاد إلى القاهرة، وفي ذلك يقول علي مبارك باشا: “واتصل بناس من الفرنساوية، فكان يستفيد منهم الفنون المستعملة في بلادهم، ويفيدهم اللغة العربية، ويقول: إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها، ويتعجب بما وصلت إليه تلك الأمة من المعارف والعلوم، وكثرة كتبهم، وتحريرها، وتقريبها لطريق الاستفادة”[9].

ولعل اتصاله بعلماء الحملة الفرنسية في تلك الفترة، وما تعلمه على أيديهم، كان وراء تصريحه بأن مجيء الحملة الفرنسية “يعد مكسبا علميًا وبركة، لأنها فتحت أعين العلماء على حقائق خفية”، وقد عرَّضه هذا التصريح -فيما يبدو- للاضطهاد بعد ذهاب الحملة الفرنسية عام 1801، واضطره إلى السفر خارج مصر والارتحال والتغرب لسنوات طالت حتى تعدت العشر.

وكان الشيخ العطار يدرِّس لهم اللغة العربية، وقد أطلعوه على كتبهم وآرائهم وتجاربهم العلمية، ولا سيما كتب العلوم الرياضية والأدبية، والآلات الفلكية والهندسية، على أن ذلك لم يشغله عن التدريس في الأزهر، إذ كان يقوم بتدريس (شرح الأزهرية في علم النحو) للشيخ خالد.

 

لم يكن مجيء الحملة الفرنسية فارقا ومفصليا في حياة الشيخ العطار وحده، بل كانت كذلك فارقة ومؤثرة في عقول أقرانه، وخاصةً عقول هؤلاء الأقطاب الثلاثة (الجبرتي، والخشاب، والعطار)، وبهرتهم علوم الفرنسيس وأثرت في فن كلٍّ منهم، فكانت “كتابة الجبرتي في تاريخه -بعد الحملة- أدق وأكثر نقدًا لسير الحوادث ورجالها مما كانت عليه قبل الحملة، كما أصبح شعر الخشاب أرق حاشيةً وأسلس أسلوبًا”[10].

 

ويقدم الدكتور أحمد زكريا الشلق قراءة تفسيرية “نفسية” -إذا جاز التعبير- لأثر الحملة الفرنسية في نفس وروح الشيخ العطار، فعلى الرغم من قِصر الفترة التي اختلط فيها بالفرنسيين (1799-1801)، فإنها كانت “ذات تأثير مهم في حياته، نظرًا إلى ما اطلع عليه عندهم من منجزات الحضارة الحديثة. وتفيد المصادر أنه أفرط في الاختلاط بهم، منبهرًا ومأخوذًا. وعندما تنبه إلى ما سوف يجره عليه ذلك من مآخذ باعتبارهم أعداء البلاد والملة، قرر ألا يذهب بعيدًا في علاقاته الاجتماعية معهم، وكتب في سيرته الذاتية المتناثرة عن مسلكه، الذي فسره بموجة من التحرر النفسي مرَّ بها بعد فترة الصعيد.

وقد كتب مقامة شهيرة في الفرنسيين، وعلاقته بهم، اعترف فيها بانجذابه إليهم، ووصفهم بأنهم قوم مسالمون، لا يشددون الوطأة إلا على من حاربهم، وعَبَّر عن إعجابه بحبهم للفلسفة «وحرصهم على اقتناء كتبها، وإعمال الفكرة فيها والروية». ومن الملاحظ أن نظرته إليهم كانت نظرة إنسانية، وأنه انساق وراء مشاعره الشخصية بعد أن «حثُّوه على الملازمة عندهم، ولكنه رفض حتى لا يتعرض لسهام الملامة والعداوة والاحتقار من بني قومه»”[11].

 

وفي ظل اضطراب الأوضاع في مصر، وانتشار الفوضى خلال الفترة التي أعقبت رحيل الفرنسيين بعد فشل مشروعهم الاستعماري، آثر الشيخ حسن العطار الرحيل في رحلةٍ علمية يمكن وصفها بالطويلة إلى كل من إسطنبول ودمشق، وقد روى لطلابه في دمشق أن الحواشي التي جمعها على «شرح الأزهرية في علم النحو» كان قد جمعها وقت تدريسه لذلك الكتاب في الأزهر، وأنه عندما شرع في نقلها من المسودة «دهم مصر ما دهمها من حادثة الفرنسيين الكفرة فخرجتُ من مصر فارًّا إلى البلاد الرومية، مستصحبًا للمسودة وغيرها من بعض كتبي». ويعقب الدكتور الشلق على هذا النص بقوله “ولم يتضح لنا ما الذي يعنيه بهذه الحادثة، فالفرنسيون كانوا قد رحلوا عن مصر نهائيًّا في أكتوبر 1801، وكان العطار قد رحل إلى إسطنبول عام 1802”[12].

 

وقد فسر «بيتر جران» هروب العطار من مصر بأنه عندما انتهى الاحتلال الفرنسي، وجد العطار نفسه معرضًا للشبهة، مما أجبره على الفرار، وأضاف إلى ذلك عدم اتزان شخصيته، كعامل آخر من عوامل رحيله، وأنه ربما لم يجد مصدرًا ثابتًا للرعاية في المستقبل.

لكن المسألة، فيما يرى الدكتور الشلق، كانت أبسط من ذلك بكثير، وتتصل باضطراب الأوضاع، وقلق العطار وعدم قدرته على مواجهة الأوضاع الجديدة في ظل الفوضى التي عمَّت مصر عقب رحيل الفرنسيين، واستمرت حتى تولى محمد علي. ومن هنا كان إيثاره السلامة والرحيل لطلب العلم في تركيا، حيث سيجد الأمان المفقود، وشخصيات مرموقة تعاونه وتدعمه، ومناخًا علميًّا ومؤسسات ومكتبات عامة تتيح له فرصة دراسة العلوم العقلية التي كانت ضعيفة في الأزهر.

ولذلك يمكن التأكيد على أنه كان يبحث عن حرية البحث والدراسة، خاصة في العلوم العقلية التي قضى بالفعل نحو ثماني سنوات يدرسها في تركيا، أعقبها بخمس سنوات أخرى في دمشق التي رحل إليها برفقة صديق سوري كان معه في إسطنبول. وفي دمشق وجد مكانًا ملائمًا لدراساته وتحقيق آماله وتطلعاته، ووجد نفسه حرًّا في دراسة الشعر الأندلسي الذي أحبه، ودرس أيضًا كتابات ابن عربي[13].

المرحلة الثانية (1802-1815)

 

مثلت الفترة (من 1802 إلى 1815) الفترة التي تغرَّب فيها الشيخ عن مصر، وتعددت أسفاره وارتحالاته، وهي فترة اختمار ونضج قبل عودته إلى مصر، واستقراره نهائيا بها، وقد أمضى قرابة أربعة عشر عاما في ارتحال وانتقال بين تركيا والشام (سوريا وفلسطين)، يمكث بهذا البلد بعض الوقت، ثم ينتقل إلى بلد آخر، بحسب دواعي الانتقال، وهي في الأغلب للدراسة والبحث، والتدريس والقراءة والتأليف، ولحسن الحظ فقد جلَّى الشيخ حسن العطار بعض غوامض هذه المرحلة الطويلة نسبيا في حياته ببعض ما كتب في مقدمة حاشية له سنعرض لها في موضعها.

ففي سنة ‏1802‏ غادر الشيخ العطار مصر إلى إسطنبول (تركيا) عن طريق دمياط‏.‏ وبعد عامين كان يزور الإسكندرونة بالشام، وبعد ست سنوات (1810) زار دمشق لدراسة التصوف بالتحديد بحثًا عن تراث محيي الدين بن عربي فيها‏.‏ وفي العام التالي (1811)، رحل إلى فلسطين وزار القدس‏.‏

ولمدة أربع سنوات، حاول استكمال أعماله في الطب‏،‏ وأنجز مقالاته في علم الكلام‏، وتفاسيره في أدب البحث‏،‏ وألقت دراساته في تلك الفترة الضوء على أزمة العقائد الصوفية في مقابل الحركة الإصلاحية في أصول الدين‏.‏ وهذه الفترة التي درس فيها العطار في كلٍّ من تركيا وسوريا‏،‏ كانت تمثل استعداده للمهام التي سيتحمل مسئوليتها عقب عودته إلى مصر‏.

 

وفي سنواته الأولى التي أمضاها في إسطنبول، توطدت صلاته برجال الدين الرسميين عندما كان يدرس ويكتب في أصول الدين، ثم لم يلبث أن اشتغل بدراسة علم الهندسة التقليدية، ووضع نتائج دراساته فيها وفي علم الفلك في أحد مؤلفاته. وبعد فترة غادر إسطنبول إلى الإسكندرونة، حيث أقام بها بين عامَي 1806 و1807، وهناك أنجز كتابًا في النحو. وعندما زار ساحل البحر الأسود وأزمير، شرع يبدي اهتمامًا جديًّا بدراسة الطب، التي كان يهفو إليها في صدر شبابه، ولكنها لم تتيسر له حينذاك. ولذلك آثر العودة إلى إسطنبول عام 1808، ليستمر في دراسة الطب حتى رحيله إلى دمشق عام 1810. وقد أخذ في دراسة مستوى متقدم من الطب على أيدي الأطباء الأوروبيين، خاصة في علم التشريح، وأشاد بنشاط هؤلاء الأطباء في مستشفيات إسطنبول، وكان خلال دراسته هذه يقيم في منزل كبير الأطباء، «الحكيمباشي»[14].

وقد تمكن الشيخ العطار من تأليف عمله الرئيسي في الطب عام 1814 «راحة الأبدان في نزهة الأذهان»، وتحدث فيه عن أهمية غرفة التشريح، «التشريحخانة»، وخلص إلى أن هذا علم لا يمكن متابعته بجدية إلا بالنظر والمشاهدة، وأن ما يعرفه الإنسان بالأدلة المنطقية لا يكفي.

وفي تركيا درس الفقه، وصادق مجموعة من المصلحين منهم الملا أحمد قاسم أفندي، ومحمد عطا الله، وربما يكون قد اقتنع بمعارضتهم للتنازل عن السلطة للأجانب، والخروج على التقاليد الوطنية في الإصلاح، التي أرساها السلطان سليم الثالث، وقد تبنى العطار هذا الاتجاه الإصلاحي نفسه عندما عاد إلى مصر، وعمل في خدمة محمد علي ونظامه.

وعمومًا، فقد غادر إسطنبول إلى دمشق مع أحد خلصائه السوريين ليستزيد من الحرية في طلب الدراسة والعلم، وهناك أقام في إحدى المدارس «الحنفية»، وألف كتابًا في «أدب البحث» أو الجدل، وجعل يدرس الطب والتشريح، وكان من بين طلابه شيخ أصبح عميدًا لأطباء سوريا، فقد كان يمنح الإجازات في الطب لبعض تلاميذه، ومع أنه كان يدرِّس في حدود الإطار الشامل لطب ابن سينا، إلا أنه لم يكن يلتزم بآرائه، وإنما يعلِّم ما استفاده من الطب الحديث[15].

 

وتذكر المصادر التي أرخت للشيخ العطار أنه حينما اضطر إلى مغـادرة البلاد إلى تركيا، وجد أن لعلماء الأتراك اهتمامٌ كبير برسالة له اسمها “الرسالة الولدية”، وقد ألَّف عليها “حاشية”، وأنه حينما ذهب إلى دمشق قام بتدريسها هناك في المدرسة البدرية. وكان العطار قد ابتدأ في كتابة هذه الحاشية في أثناء وجوده بدمشق عام 1225هـ/ 1810م، وانتهى منها في العام التالي.

وقد أمدتنا هذه الحاشية (المشار إليها) ببعض المعلومات المهمة عن رحلته الطويلة التي استغرقت عشر سنوات، والتي زار فيها تركيا وبلاد الشام، فهو قد ذهب إلى دمشق عام 1225هـ/ 1810م- بعد أن قضى سبع سنوات كاملة في تركيا،

ثم ذهب إلى القدس في شعبان 1225هـ/ سبتمبر 1815م، ومكث فيها بضعة أشهر، ثم قفل راجعًا إلى دمشق في شهر ربيع الثاني 1226هـ/ إبريل 1811م. وأنه كان يدرس في أثناء إقامته بدمشق بالمدرسة البدرية. وقد أشار إلى ذلك في آخر الحاشية، فقال: «وقد شرعت في كتابتها عند تعرضي لإقراء المتن لبعض الطلبة، حيث استقريت بأرض دمشق الشام بعد عودتي من البلاد الرومية، وكان ابتداء كتابتي فيها أواخر شهر ربيع الثاني سنة 1225هـ، فكتبت إلى أثناء التقسيم ثم عرض لي التوجه إلى بيت المقدس، فتركت ما كتبته منها بدمشق الشام، وتوجهت لزيارة القدس في السادس عشر من شعبان في التاريخ المذكور، ودورت في تلك البلاد، ثم رجعت لدمشق الشام في ربيع الثاني عام 1226هـ فأخذت في تكميلها… حتى كان إتمامها ليلة الرابع عشر من شعبان، وهو يوم الثلاثاء، وأنا بمدرسة البدرية في الساعة الخامسة من الليلة المذكورة»[16].

 

وتعكس هذه الحاشية ما كان يعانيه العطار في أثناء غربته وبعده عن مصر من آلام، فيقول في افتتاحية الكتاب: «ثم إنك أيها الناظر في هذه الحاشية إذا رأيت فيها خللًا أو فسادًا فلا تبادر باللوم والاعتراض، فإني كتبتها والذهن كليل، والخاطر عليل، بما دهمني من حوادث الاغتراب، والتفجع بمفارقة الأحباب». ثم يعود ويقول في آخر الكتاب: «ثم على من نظر في هذه العجالة إذا رأى خللًا يصلحه، فإني سودتها مع تشتيت البال وتغير الأحوال بما دهمني من خطوب الزمان وفرقة الأحباب والخلان، حيث فجعني الدهر بمفارقة الإلف والمألوف، وتشتتي في البلاد وأقطع كل طريق مخوف»[17].

 

ولا غرو أن تفتح رحلة العطار الطويلة أمامه آفاق إنتاج علمي وثقافي جديد، بعد استئنافه على نحو أو آخر الاحتكاك بالأوروبيين العاملين في خدمة الدولة العثمانية، ثم انخراطه في حياة علمية مختلفة في إسطنبول تتصل بالاتجاهات الجديدة في الغرب، خاصة في مجال العلوم العقلية، وقد أثارته أيضًا دراسة الطب، وما وصل إليه، فتعلم منه، وكتب فيه وفي غيره[18].

كما زار كثيرًا من الأقطار العربية لإلقاء محاضرات ودروس في شتى العلوم والفنون التي أخذ من كل منها بحظ وافر، حيث إنه لم يقنع بالعلوم الدينية فقط، بل نهل من كل العلوم العصرية الحديثة؛ مثل: الفلك والهندسة والطب والتشريح ورصد النجوم وعمل المزاول الليلية والنهارية والإسطرلابية، ويفيدنا بعض المصادر بأنه قد أجاد بعض اللغات غير العربية؛ مثل: الألبانية، والتركية، وربما بعض الفرنسية.

 

المصادر والمراجع:

[1]– هو الشيخ عبد المتعال الصعيدي في كتابه المهم «تاريخ إصلاح الأزهر».

[2]– بيتر جران، الاستشراق هيمنة مستمرة: المؤرخون الأنجلو-أمريكيون ومصر الحديثة، ترجمة سحر توفيق، مراجعة عاصم الدسوقي، المركز القومي للترجمة 3467 (القاهرة: 2023): 116.

[3]– أحمد تيمور، أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث (وندسور، المملكة المتحدة: مؤسسة هنداوي، 2019): 17. وقد نوه أحمد تيمور في كتابه بأنه قد عثر على ترجمةٍ أخرى له (أي الشيخ حسن العطار) بهذا العنوان، بقلم الأديب الكبير الأستاذ سامي بدراوي، نشرها في «المجلة» التي تصدر في القاهرة، وذكر في هامشه بنصه “فأثبتناها بنصها”، انظر: المرجع السابق: 22.

[4]– أحمد زكريا الشلق، من النهضة إلى الاستنارة، ص 23.

[5]– المرجع السابق: 33-34.

[6]– يوضح الدكتور أحمد زكريا الشلق أن العلماء في تلك الفترة (أي الربع الأخير من القرن الثامن عشر والربع الأول من القرن العشرين) قد كتبوا عددًا كبيرًا من الأعمال في فروع اللغة، فحققت البلاغة نهضة مثيرة للإعجاب، وتزايد الاهتمام بالأدب وإحيائه، ليعاون علم الحديث، فبُعِثَت «مقامات الحريري» درسًا وشرحًا، وقاد ذلك إلى دراسة مصادرها، وشُغِف الأدباء بتقليدها كشكلٍ متميز للنثر الأدبي في نهاية القرن الثامن عشر، حتى تطورت “المقامة” نحو شكلٍ من أشكال الرواية. راجع: أحمد زكريا الشلق: من النهضة إلى الاستنارة، ص 16-17.

[7]– جمال الدين الشيال، مرجع سابق، ص 28.

[8]– تيمور، أعلام الفكر الإسلامي: 17.

[9]– النص لعلى مبارك في (الخطط التوفيقية)، انظر: علي مبارك، الجزء الرابع من الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة 3، نقلًا عن جمال الدين الشيال، المرجع نفسه، ص 29.

[10]– جمال الدين الشيال، المرجع نفسه، ص 30.

[11]– “مقامة الأديب الرئيس الشيخ حسن العطار في الفرنسيس”، نقلًا عن أحمد زكريا الشلق، النهضة والاستنارة، ص 24-25.

[12]– أحمد زكريا الشلق، من النهضة إلى الاستنارة، ص 25.

[13]– المرجع السابق.

[14]– المرجع السابق: 26.

[15]– محمد عبد الغني حسن، حسن العطار، ط. 2، نوابغ الفكر العربي 40 (القاهرة: دار المعارف، [1993]): 34-35.

[16]– عبد الله العزباوي، الفكر المصري في القرن الثامن عشر: بين الجمود والتجديد. إعادة قراءة للتاريخ المصري. سلسلة التاريخ، الجانب الآخر 8. القاهرة: دار الشروق، 2006.، ص 74.

[17]– المرجع السابق.

[18]– أحمد زكريا الشلق، من النهضة إلى الاستنارة، ص 32.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete