الشيخ حسن العطار: ملامح من السيرة…الجزء الثاني

المرحلة الثالثة (1815-1835)

عاد الشيخ حسن العطار إلى مصر في الفترة نفسها، تقريبًا، التي كان محمد علي يفكر ويخطط فيها لوضع أسس بناء دولة حديثة في مصر، قوامها جيش عصري، وتعليم مدني، وثقافة وإدارة حديثتَين، متعامل مع أوروبا ومنفتحًا عليها. ولذلك لم يكن غريبًا أن يُعجب العطار بذلك، وينخرط في مشروعه، لينتقل بثقافة القرن الثامن عشر، بما فيها من بذور نهضةٍ ذاتية، إلى عصر نهضة وإصلاح جديد، قيِّض له أن يساهم فيه بشكلٍ واضح، ليكون همزة وصل بين مرحلتين من مراحل تطوُّر مصر الحديثة ونهضتها[1].

ففي السنة ذاتها التي عاد فيها الشيخ العطار إلى مصر (1815)، كان محمد علي قد بدأ تجاربه لإصلاح الجيش في مصر، أي بعد عشر سنوات من توليه الحكم، وبدأ ذلك بالمتاح، وإن كان ينتمي إلى القديم، ولكنه صار أسلس معه وأبعد عن المقاومة والتآمر،

ثم في سنة 1822 بدأت تجربة تجنيد المصريين، وكان من مشاكل هذا الأمر صعوبة الجمع بين الخدمة العسكرية والتفرغ لها ولتدريباتها وبين بقاء الشباب العامل في القرى لإنجاز مهام الإنتاج الزراعي والحرفي المطلوب.. فضلًا عن التهيب من تجنيد المحكومين، وإدخالهم في جهاز الدولة وهم مندمجون في مجتمعاتهم بممارسة الإنتاج والانتماء الأسري الإقليمي، مما كان غريبًا قبوله بالنسبة للنخبة التي تربت في ظل النظم العثمانية والمملوكية[2].

وحتى أواسط العشرينيات من القرن التاسع عشر، لم يكن العطار على صلةٍ مباشرة بمحمد علي، ولكنه كان صديقًا لإحدى الشخصيات التي تحتل مكانة مرموقة في نظامه، وهو عبد الرحمن سامي باشا، الذي كان قائدًا عسكريًّا، وصار سكرتيرًا خاصًّا لإبراهيم باشا ابن محمد علي. ونتج عن هذه الصداقة توليه مسؤولية تحرير صحيفة «الوقائع المصرية»[3] التي أنشأها محمد علي، وجعلها لسان حال حكومته، والجريدة الرسمية للدولة، وكان العطار يحرر القسم العربي فيها (1828-1830)، وفي تلك الفترة أذاع آراءه الداعية لإدخال العلوم الحديثة وتنقية التراث العربي، وبدأ أيضًا في تلك الفترة كتابه عمله الرئيسي في أصول الدين الذي أنجزه في العام 1831. ثم تولى في العام ذاته (1831) رئاسة مجلس المشورة الذي أسسه محمد علي، حيث جمعت بينه وبين العطار رؤية فكرية مشتركة نتيجة اهتمامهما بالعلم والحكمة وبالتقدم الذي أحرزه الباشا.

وهكذا كان من ثمار صداقة العطار لعبد الرحمن باشا سامي، الذي قدمه إلى محمد علي، أن عُيِّن في أهم وظيفتين تولاهما، وهما رئاسة تحرير «الوقائع المصرية» (1828)، ثم مشيخة الأزهر (1830)[4].

وهكذا كانت عودة الشيخ العطار إلى مصر في 1815 بداية المرحلة الثالثة والأخيرة في سيرة حياته، وقد احتشدت هذه المرحلة بكثيرٍ من أعمال الشيخ، ووافر نشاطه وجهوده التي تركزت بشكلٍ رئيسي في الاشتغال بالتدريس والتأليف والكتابة، ثم امتدت إشعاعات معارفه ودعوته “التجديدية” في كل اتجاه؛ في الأزهر وخارجه، وبين طلابه وتلاميذه، وفي صلته المباشرة برجال دولة محمد علي، وبالباشا نفسه الذي أجلَّ الشيخ وعرف قدره، وكان يستشيره ويطلق يده في النهضة العلمية التي كان يحلم هو بها،

ولم يفوت الشيخ العطار الفرصة، ففتح الأبواب على مصاريعها للعلوم الحديثة، وأشرف على إنشاء المدارس، وتأهيل المدرسين الأكفاء، كما عاد للتدريس في الأزهر، وكوَّن ما يمكن أن نسميه (نواة تيار الإصلاح والتجديد في مصر)؛ إذ تحلقت حوله مجموعة من أنبه وأذكى الطلاب في الأزهر، عرفوا قيمة الشيخ وأجلوه وأدركوا أنهم بإزاء “مثقف” حقيقي، واسع الاطلاع غزير المعارف وافر التجارب والخبرات على كل المستويات الإنسانية والفكرية والعلمية، ساع طوال الوقت إلى اكتساب العلوم والمعارف والنهل منها ما وسعه الجهد، وإلى شيوعها ونشرها في الوقت ذاته، ومن هنا يمكن القول بأن بذرة “التجديد” والإصلاح قد غرست في تربة خصبة طيبة أثمرت بعد ذلك أطيب الثمار وأنضجها.

عن هذه المدرسة التي رادها الشيخ حسن العطار في تلك الفترة، بعد أن ركز جهوده على الإفادة المطلقة مما تعلمه من علماء الحملة الفرنسية، ومن ضرورة ترسيخ العلوم والمعارف الحديثة، وتعلم اللغات، والاتصال بالآخر (الأجنبي/ الغربي) يقول الدكتور جمال الدين الشيال:

“أما الشيخ العطار، فقد انحرف عن علماء عصره، وترك الدراسات الدينية واللغوية جانبًا، وعُنِيَ عنايةً كبيرةً بالدارسات الأدبية، وكوَّن له في هذا الميدان مدرسة جديدة كان من تلاميذها الذين حذوا حذوه: الشيوخ إبراهيم الدسوقي، ومحمد عياد الطنطاوي، ومحمد عمر التونسي، ورفاعة رافع الطهطاوي، وسيكون لهذه النخبة الطيبة جهود محمودة في حياة الترجمة الحافلة في عصر محمد علي”[5].

ولما ذاع صيته اختير شيخًا للأزهر عام 1830 واستمر هكذا حتى وفاته عام 1835 (1250هـ) مخلفًا وراءه كثيرًا من المصنفات والحواشي والرسائل في شتى العلوم والفنون.

وعندما كانت سنة ‏1835‏ توفي‏ الشيخ حسن العطار عن تسعة وستين عاما حافلة بتحصيل العلم والقراءة والبحث وغرس بذور التجديد والإصلاح في الأزهر وخارجه، ونشر العلم والتعليم في عموم البلاد، ومنها إلى أرجاء العالم العربي والإسلامي كله.

ولأنه حدثت مشاحنات بينه كشيخ الأزهر وبعض معاصريه‏،‏ فقد نُهبت مكتبته بعد وفاته‏.‏ ولأنه تصادف أن كان محمد علي في الإسكندرية‏.‏ لذلك تأجل تدخل الوالي للمحافظة على المكتبة الثمينة‏.‏

المؤسف في سيرة حسن العطار هو فقد الكثير من نتاجاته‏،‏ خاصة “الشعر” الذي كان يقوله من وقتٍ لآخر بسبب كثرة تنقلاته وطول اغترابه عن مصر‏، لم يتمكن أحد من العثور على نتاجاته كلها‏.‏ وهو نفس ما جرى لعبد الله النديم في فترة اختفائه في بطن الشعب المصري العظيم،‏ فقد فُقدت كل نصوص النديم التي كتبها وهو مختفٍ. أيضًا فقدت كتابات العطار في سنوات اغترابه عن مصر‏.‏ أعتبر العطار واحدا من أكبر مظاليم مصر‏.‏ ربما بسبب تخمتها من أبنائها الأفذاذ‏.‏

يصفه صديقه الشيخ الجبرتي بقوله:

“إنه شاب جميل الطلعة‏.‏ صافي العينين‏.‏ ينتمي في الأصل إلى شمال إفريقيا، ولكنه يرتدي الملابس المصرية‏.‏ ويتكلم اللهجة المصرية”. وقال عنه أيضًا في تاريخه «عجائب الآثار»:

“إنه قطب الفضلاء، وتاج النبلاء، ذو الذكاء المتوقد، والفهم المسترشد، الناظم الناثر، الملم بالعلوم العقلية والأدبية بحظ وافر”،

وقد امتاز حسن العطار بقراءاته الواسعة العميقة للكتب العربية والمعربة في زمانه، ولم يختص بعلم معين، أو بفن بعينه من الفنون، ولكنه كان حريصًا على الإفادة من كل علم، وكان يطرز الكتب التي يقرؤها بهوامشه وتعليقاته، يقول في ذلك تلميذه الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي:

“كان له مشاركة في كثير من العلوم، حتى في العلوم الجغرافية، فقد وجدتُ بخطه هوامش جليلة على كتاب: «تقويم البلدان» لإسماعيل أبي الفداء سلطان حماة، وللشيخ المذكور هوامش أيضًا وجدتها بأكثر التواريخ وعلى طبقات الأطباء وغيرها، وكان يطلع دائمًا على الكتب المعربة من تواريخ وغيرها، وكان له ولوعٌ شديد بسائر المعارف البشرية”.

بين الشيخ حسن العطار ورفاعة الطهطاوي

عاش الشيخ العطار حتى ولي مشيخة الأزهر في عهد محمد علي، وشهد هذا التغير في الأحوال والمعارف الذي تنبأ به، وخطب في الاحتفال الذي عُقد بمناسبة عقد الامتحانات الأولى لمدرسة الطب، وقد كان الشيخ العطار هو الذي أشار على محمد علي باشا لإرسال البعثات للتعلم في الغرب، ووجه تلميذه النجيب “رفاعة الطهطاوي” بتسجيل كل ما يراه في فرنسا، وكذا فعل مع تلميذه “عياد الطنطاوي” عندما وجهه إلى روسيا، فالعطار كان يؤمن بالتفاعل مع الآخر، والاستفادة من تجاربه، حتى أنك تجده مع بغضه للاحتلال الفرنسي لبلاده لم يقصر في الاتصال بعلمائهم والبحث في سر نهضتهم وقوتهم، فعرف من سر نهضتهم ما لم يعرفه غيره، واطلع على بعض علومهم، وشاهد بعض ابتكاراتهم العلمية والصناعية، وأبدى إعجابه بها، وتمنى أن تكون لبلاده مثل هذه النهضة[6]،

وقد آنس الشيخ العطار في تلميذه الصعيدي ذكاءً ونباهة وانكبابًا على العلم فقربه إليه، وحفه برعايته، وفتح له بيته وقلبه وأذنه، ولما كان العطار ميالًا بطبيعته إلى العلوم العصرية، فقد أودع هذا الميل في نفس تلميذه رفاعة الطهطاوي، مما أهله لأن يتم اختياره للبعثة العلمية في باريس، التي رشحه لها أستاذه العطار، وأوصاه بأن يسجل كل ما تقع عليه عيناه في فرنسا، وأن يستجلب معه كل ما تقع عليه يداه من ذخائر الكتب.

وهو أخيرًا صاحب الفضل على تلميذه رفاعة الطهطاوي، زعيم النهضة العلمية الحديثة، وهو الذي قدمه لمحمد علي ليكون إمام البعثة المصرية إلى فرنسا (سنة 1826)، وهو الذي أشار عليه أن يسجل مشاهداته في هذه البعثة التي أخرجها رفاعة فيما بعد في كتابه الممتع «تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز».

ولإيمان الشيخ العطار الشديد بتعلم اللغات (وقد كان هو نفسه فيما أشارت إليه بعض المصادر والمراجع يجيد إلى جانب العربية بالطبع، التركية والألبانية، وقيل بعض الفرنسية كذلك) فقد غرس هذا الأمر في نفوس تلاميذه وبالأخص في نفس تلميذه النجيب والأثير الشيخ رفاعة الطهطاوي، وشجعه على الترجمة وتأسيس مدرسة الألسن (كلية الألسن حاليًا)،

والأمر الثابت في سيرة هذا الرجل أن رفاعة الطهطاوي بعد عودته من بعثته لفرنسا‏،‏ قد أصبح تلميذًا من تلاميذ حسن العطار‏.‏ واستفاد منه كثيرا‏.‏ وكتب على منوال كتابته‏،‏ وقد أورد عمر الدسوقي في تاريخه للنثر الفني وتطوره، أن الطهطاوي أفاد من مقامه بباريس فائدة أجدت على الأمة العربية جمعاء، إذ عمل جاهدًا على نقل الثقافة الغربية إلى اللغة العربية منذ بدأ يجيد الفرنسية، وهو بعد طالب بباريس، ويبذل الجهود المضنية لتذليل اللغة العربية لمصطلحات العلم الحديث بعد أن أسن ماؤها قرونًا طويلة منذ عصر العباسيين، وينظر إلى ما حوله في المجتمع الفرنسي نظرة المصلح الناقد الذي لا تخلبه الحياة الغربية بخيرها وشرها، ولكن نظر من يريد نفع وطنه، واقتباس المقيد له والمتلائم مع عاداته ودينه وتقاليده، ومن يريد التعرف على أدواء وطنه، والطريق السوي لعلاجها حتى يمضي قدمًا في درج الحضارة والرقي.

ونراه وهو بباريس يعكف على كتابه مذكراته عن رحلته تلك التي سماها “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”.

وكان أستاذه العطار قد أشار عليه بتدوين هذه الرحلة، وتسجيل انطباعاته وآرائه في أثناء مقامه ثمة، ويشير رفاعة في مقدمة هذا الكتاب إلى رغبة أستاذه هذه فيقول:

“إنه مولع بسماع عجائب الأخبار، والاطلاع على عجائب الآثار، وأن ينبه على ما يقع فيه هذه السفرة، وعلى ما يراه، وما يصادفه من الأمور الغريبة والأشياء العجيبة، وأن يقيده ليكون نافعًا في كشف القناع عن محيا هذه البقاع، التي يقال فيها: إنها عرائس الأقطار، وليبقى دليلًا يهتدى به إلى السفر إليها طلاب الأسفار، وخصوصًا وأنه من أول الزمن إلى الآن لم يظهر باللغة العربية على حسب ظني شيء في تاريخ مدينة باريس، كرسي مملكة الفرنسيس، ولا في تعريف أحوالها ولا أحوال أهلها”، والذي يهمنا نحن في هذا الكتاب عدة أمور: أولها موضوعه؛ لأنه جديد في اللغة العربية حيث تعرض لوصف السفر والبحر، والمواني المختلفة التي مرَّ بها، ونظم الحياة في تلك الديار من مأكل وملبس ونوم ونزهة ودرس، ووصف المجتمع الفرنسي وعاداته الحسن منها والرديء، ووصف الحياة السياسية، وما يتمتع به أهل فرنسا من حرية في القول، والكتابة سواء في مجالسهم الخاصة أو في دار النيابة، وعلاقة الحاكم بالمحكومين، ووصف مظاهر الحضارة من حفلات ودور تمثيل، ووسائل ركوب -إلى غير ذلك مما يعد وصفه جديدًا بحق، ولم يكن رفاعة مجرد وصاف، ولكنه لشدة حرصه على منفعة بني وطنه تراه يعلق تعليقات تدل على حصافة، وإيمان عميق بمبادئ، ومثل عليا لا يحيد عنها، وينقد ما يراه من تخلف في وطنه بصراحة بغية التنبيه والإفادة[7].

آثار الشيخ حسن العطار

(وطريقته في التأليف)

لم يترك الشيخ حسن العطار كتبًا أو مؤلفات بالمعنى الذي نفهمه اليوم من “كتب ومؤلفات” كاملة، بل كان أكثرها، على طريقة أهل زمانه، حواشيَ وشروحا وتقارير، ورسائل تتفاوت طولًا وقصرًا على طريقة أهل زمانه، وتعليقاتٍ “نفيسة” على ما يقرأه من كتب، وسنحاول قدر المستطاع تقديم صورة واضحة الملامح لهذه الآثار التي وصلتنا بخطه أو تعليقه أو نقلًا عنه أو إشارة إليه. وفي هذا يقول المؤرخ الدكتور عبد الله العزباوي:

“وهكذا فإن مؤلفات الشيخ حسن العطار لم تخرج عن الشروح والحواشي [والتعليقات على ما يقرأه من كتب]، وبالرغم من ذلك، فإنها كانت تدل على سعَة أفق، وخرج بها عن حيز الجمود والتقليد، حيث نراه يعترض على المؤلفين والشارحين، ويصحح أخطاءهم، ثم يستدرك عليهم ما فاتهم، وهذه أمور لم ندركها في المؤلفات النحوية في مصر في القرن الثامن عشر، إلا عند الصبان[8].

وعلى الرغم من أنه كان، كعلماء زمانه، يكتب الحواشي والشروح والتقارير، بأسلوب قد يصعب فهمه أحيانًا، فإن مصنفاته وكتاباته -سواء أكانت مدرسية أم أصيلة- تمثل مصادر لها قيمتها وأهميتها الكبيرة. فالشكل الذي كان يكتب به هو مجرد أسلوب، والمضمون هو الأهم، فقد أثبتت حواشيه ومقالاته في علم الكلام كيف أنه كان سابقًا لعصره، لا يتفق تفكيره مع الفكر السائد في زمنه، وكشفت أعماله عن عقلٍ يتمتع بدرجة عالية من التنظيم.

وكان علم الكلام هو مجال المثقفين ذوي العقلية الناقدة، في عصر تفردت فيه النظرة الدينية على أمور العلم جميعًا، وفي إطار هذا العلم طرح العطار قضايا تتصل بالثقافة العامة، وحرية الفكر، وبالمشكلات السياسية[9].

سنبدأ أولًا، على وجه الإجمال، بإيراد عناوين المصنفات والمؤلفات التي تركها الشيخ العطار، معتمدين في ذلك على القوائم الكاملة التي أوردتها المصادر والمراجع التي ترجمت للشيخ، وأهمها وأوثقها ما أورده الشيخ حسن العطار نفسه في إجازته التي كتبها للشيخ حسن البيطار “التي ختمها بذكر مصنفاته التي كانت إلى ذلك التاريخ الذي كتب الإجازة فيه، وهو سنة 1815م”[10]، ثم نفصل القول في كلِّ واحدٍ منها، ثانيًا، بحسب ما توفر من معلومات في الكتب والمصادر والمراجع التي عرضت لذلك.

يختتم أحمد تيمور باشا ترجمته للشيخ العطار بإيراد قائمة أعماله، ويرتبها على النحو التالي، فيقول:

“ظلَّ الشيخ حسن مصدرَ إشعاع لمختلف العلوم إلى أن وُلي مشيخة الأزهر عقب وفاة الشيخ محمد الشنواني[11] في سنة 1246ﻫ فزانها وشرَّفها، وظلَّ شيخًا للأزهر إلى أن تُوفي في آخر سنة 1250ﻫ، وترك مؤلفاتٍ قيِّمة، منها ما دوَّنه طيِّب الذكر يوسف سركيس في (معجم المطبوعات العربية) بعد أن ترجَم للشيخ، وهي:

– إنشاء العطار، في المراسلات والمخاطبات، وكتابة الصكوك والشروط مما يحتاج إليه الخاص والعام، وقد طُبِع عدة طبعات، وهو مؤلَّف صغير الحجم كبير الفائدة، يشهد له بدقة الملاحظة وقوة الأسلوب، وفيه الكثير من أشعاره:

– حاشية العطار، على التذهيب للخبيصي، شرح التهذيب، وبهامشها الشرح المذكور وحاشية ابن سعد (منطق)، طُبع ببولاق سنة 1296ﻫ.

– حاشية العطار، على شرح إيساغوجي لأثير الدين الأبهري، وبالهامش الشرح المذكور (منطق) طبع سنة 1311ﻫ.

– حاشية العطار، على جمع الجوامع، ثلاثة أجزاء، طبع مصر.

– حاشيته على متن السمرقندية (بلاغة) طُبع بالدهينة سنة 1288ﻫ.

– حاشيته على شرح الأزهرية للشيخ خالد الأزهري (نحو) طُبع عدة طبعات بمصر.

– حاشيته على شرح المقولات المسمَّى بالجواهر المنتظمات في عقود المقولات كلاهما للشيخ أحمد السجاعي، طُبع بمصر سنة 1282ﻫ.

– منظومة العطار في علم النحو، في مجموع من مهمات الفنون، طبع سنة 1280ﻫ.

وقد زاد المغفور له علي باشا مبارك على ذلك من مؤلفات العطار: رسالة في كيفية العمل بالأسطرلاب والربعين المقنطر والمجيب والبسائط، ورسائل في الرمل والزايرجة والطب والتشريح، وغير ذلك، وذكر أنه كان يرسم بيده المزاول النهارية والليلية[12].

ويعلق الأستاذ محمد عبد الغني حسن في كتابه “حسن العطار”، على ما أورده علي مبارك من عناوين مؤلفات الشيخ العطار بأنَّ “الكتب التي ذكرها علي مبارك في خلال ترجمته للعطار لم يذكرها على سبيل الحصر، بل قال إن له تآليف عديدة منها: (1) حاشية على جمع الجوامع في مجلدين، (2) وحاشية على الأزهرية في النحو (3)، وحاشية على مقولات الشيخ السجاعي، (4) وحاشية على السمرقندية في البلاغة …”[13].

لكنه أضاف بعض العناوين على ما أورده أحمد تيمور، موضحًا “وذكر له المرحوم أحمد تيمور في فهرس الخزانة التيمورية تسعة من الكتب لا تزيد. وليس فيها من زائد عند البيطار وعلي مبارك إلا هذه الكتب:

(1) رسالة في البسملة والحمدلة، (2) إنشاء الشيخ العطار، (3) حاشية العطار على كتاب التذهيب للخبيصي في علم المنطق، (4) حاشية العطار على جمع الجوامع في أصول الفقه لتاج الدين السبكي، (5) منظومة العطار في النحو. ويعلق حسن عبد الغني على العناوين الخمسة الأخيرة بقوله “وواضح أن هذه الكتب الخمسة هي مما ألفه الشيخ حسن العطار بعد عودته من رحلته إلى مصر سنة 1815”[14].

مختتم

أتمنى ألا تكون هذه الرحلة التي اجتهدنا مخلصين في استخلاص ملامح عصر من أهم عصور التحول في تاريخ مصر الحديث، وسيرة مجدد يأتي على رأس “تيار التجديد” الأصيل في هذا العصر، ورصد واستقصاء أهم أفكاره التجديدية، أقول أتمنى ألا تكون الرحلة قد طالت أكثر مما ينبغي، لكننا في الأخير يمكننا القول مع الدكتور زكريا الشلق، إن الشيخ العطار قد عاصر “مرحلة تحوُّل” مهمة وخطيرة في حياة مصر والمصريين، ومثلت كتاباته ونشاطاته العلمية جزءًا من هذا التحول، وعاملًا من عوامله.

وقد بدأت إرهاصات التحول في العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر، في شكل صحوة في العلوم والدراسات الكلاسيكية، وفي ثقافة مصر التقليدية، التي كانت توشك أن تنتقل إلى أعتاب نهضة حديثة تفرضها طبيعة التطور ومعطياته، وإن قطعتها حملة الغزو الفرنسي لتُطْلع مصر قسرًا على نمطٍ من الحضارة الأوروبية الحديثة بشكلٍ مفاجئ، وفي ركاب حملة عسكرية نجحت مصر في التصدي لها وإفساد مشروعها الاستعماري، فتولى أمرها والٍ عثماني طموح، بدأ يأخذ بأسباب النهضة الحديثة، بعد أن أمسك بزمامَي القوة والثروة في قبضته.

شهد العطار ذلك كله، وساهم بكتاباته -في الفقه واللغة بطريقةٍ حديثة- في دفع عجلة الصحوة الكلاسيكية إلى الأمام. ومع فترة الانقطاع خلال الاحتلال الفرنسي، انقطع هو الآخر عن الحياة العلمية والثقافية في القاهرة ليقبع في صعيد مصر، خائفًا شبه محاصر.

وعندما عاد إلى القاهرة راح يستطلع ويستكشف ما عند الغزاة الفرنسيين من بضاعة النهضة الأوروبية الحديثة، بفضول العالِم ورغبته في المعرفة، فتعامل معهم وتقرب منهم. لكنه ما لبث أن تراجع عن ذلك، ليبدأ رحلة علم ومعرفة جديدة خارج الوطن هذه المرة، مبتعدًا عن الفوضى والصراع اللذين أعقبا رحيل الفرنسيين من مصر. فذهب إلى تركيا، ربما ليكون قريبًا من الحضارة الأوروبية. وظل في رحلته هذه نحو ثلاثة عشر عامًا، كان محمد علي خلالها يهدم أسس النظام القديم ويضع أسس نظام جديد «ينهض» بأوضاع مصر في ظل سلطة مركزية قوية[15].

والخلاصة؛ أن الشيخ حسن العطار كان له موقفٌ متكامل من مشكلات مجتمعه الثقافية والفكرية، والتعليمية، والأدبية، والسياسية. وقد حاول أن يُشخِّص هذا الواقع، ويُحدِّد جوانب الضعف فيه، كما نادى بضرورة تغييره ورسَم برنامجَ هذا التغيير، ثم أسهم بدَوره في هذا التغيير، وأخيرًا أنه عهِد بأمانة هذا التغيير ومستقبله إلى تلاميذه، الذين يُعتبر رفاعةُ الطهطاوي نموذجَهم الفذَّ الذي بلغت حركةُ العطار على يديه أوجهًا. وفي كل ما قاله الطهطاوي، وما عمله، تكاد روحُ العطار وشخصيته أن تُلمَس باليد[16].

 

قائمة المصادر والمراجع:

[1]– المرجع السابق.

[2]– طارق البشري، محمد علي ونظام حكمه (القاهرة: دار الشروق، 2018): 36.

[3]– ينفي الدكتور عزباوي في كتابه «الفكر المصري في القرن الثامن عشر» هذا الأمر (أي تولي حسن العطار رئاسة الوقائع المصرية)، ويرى أن هذه الواقعة لا سند لها من وثائق رسمية أو إشارات تثبتها في المصادر ذات الصلة، يقول: “وقد شاع خطأ بين بعض الكتاب أن العطار قد أشرف على تحرير القسم العربي في (الوقائع المصرية) التي أنشأها محمد علي في عام 1828م، وجعلها لسان الدولة والجريدة الرسمية لها، والواقع أن الشيخ حسن العطار لم يتول تحرير الجانب العربي في الوقائع، حيث إن الوثائق الرسمية لم تشر إلى أن العطار قد تولى هذا المنصب، على حين أن هذه الوثائق قد حرصت على ذكر تفاصيل إدارة الوقائع وتحريرها، وهي تفاصيل دون حق الرجل ومكانته كمحرر للغة العربية في الصحيفة الرسمية، وكان أحق بالذكر منها إذا كان قد تولى هذا المنصب حقا، هذا بالإضافة إلى أن العطار شاعر ناثر أديب، على حين أن أسلوب الوقائع يكاد يصل في معظم أعدادها إلى اللغة الدارجة، وهو أسلوبٌ لا يتفق وأسلوب العطار”، انظر: عبد الله العزباوي، الفكر المصري في القرن الثامن عشر: 74.

[4]– المرجع السابق: 25.

[5]– جمال الدين الشيال: ص 30.

[6]– أحمد ربيع الأزهري، “حسن العطار باعث النهضة”، الأهرام 143، العدد 48965 (الأربعاء 8 مايو 2019): 14.

[7]– عمر الدسوقي، نشأة النثر الحديث وتطوره (القاهرة: دار الفكر العربي، القاهرة، 2007): 30-31.

[8]– عبد الله العزباوي، الفكر المصري في القرن الثامن عشر: 53-55.

[9]– بيتر جران، الجذور الإسلامية للرأسمالية: 11-13، نقلًا عن أحمد زكريا الشلق، من النهضة إلى الاستنارة: 20.

[10]– نقلًا عن محمد حسن عبد الغني، حسن العطار (نوابغ الفكر العربي): 84-85.

[11]– الثابت أنه ولي مشيخة الأزهر عقب وفاة الشيخ الدمهوجي، وليس الشيخ محمد الشنواني.

[12]– تيمور، أعلام الفكر الإسلامي: 21

[13]– حسن، حسن العطار: 85.

[14]– المرجع السابق: 85-86.

[15]– أحمد زكريا الشلق، النهضة والاستنارة: 31-32.

[16]– سامي البدراوي، نقلًا عن أحمد تيمور باشا، انظر: تيمور، أعلام الفكر الإسلامي: 29.

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete