تكوين
“هيهات! ضاق اللفظُ، واتسع المعنى، وانخرق المرادُ، وتاه الوهمُ، وحارَ العقلُ، وغابَ الشاهدُ في الغائب، وحضرَ الغائبُ في الشاهد، وتنكّرت العين منظورًا بها ومنظورًا إليها ومنظورًا فيها. فكيف يمكنُ البيانُ عن قصّة هذا إشكالها؟”
أبو حيّان التوحيدي- الإشارات الإلهيّة
يتناول هذا المقال اللقاء الصوفيّ الفلسفيّ فكرًا وحياة واجتماعًا، ويعرض لذلك من خلال إثارته لبعض الأسئلة، محاولًا الإجابة عليها، مستندًا إلى ثراء المدوّنة التراثيّة الإسلاميّة، وإلى حضور التصوّف والفلسفة في تجارب كثير من الدارسين والمؤمنين بالفكر الصوفيّ العرفانيّ، وبصورة خاصّة خارج بلاد الإسلام. مستدعيًا من تراث علماء الإسلام تجربة أديب الفلاسفة الصوفيّ أبي حيّان التوحيديّ. كما يطرح المقال سؤالًا حول نهوض التصوّف والعرفان بديلًا للمذاهب الإسلاميّة.
تقف هذا المقال بين مساحتين (الفكر والحياة) لأنّنا كما ما هو ملاحظ نعيش بين تاريخين: تاريخ فكر ونظر، وتاريخ حياة وعمل. المسافة بينهما شاسعة، فلا يتجسّد تاريخ الأفكار في حياتنا إلّا من خلال صور غير مجمع عليها. ونعطي مثالًا على ذلك: لقد سجّل تاريخ الفكر العلميّ تقدّمًا في الأفكار النظريّة والعمليّة فيما يتعلّق بالعلوم التقنية والطبيعيّة، وكتب غير واحد من المفكرين المعاصرين عن مساهمة المسلمين في تقدّم أوروبا وأثرهم في نهضتها وتجدّد حياتها. والحال أنّ المسلمين اليوم يفصلهم الكثير عن مثل ذلك التقدّم. فأغلب الإنتاج العلميّ وتجلّياته أمسى دورنا فيه كمسلمين دور المستهلك والناقد لا المساهم والفاعل اللهمّ إلّا بشكل فرديّ نادر في بلاد الغرب.
ما هو الفكر الصوفي؟
نقرأ في تاريخ النظر العقليّ عن حوارٍ مستمرّ بين الفرق الكلاميّة وأهل الأديان، ويكتب المسيحيّ في ظلّ الخلافة الإسلاميّة، ناقدًا للفكر الإسلاميّ، مسائلًا إيّاه، بنبرة فيها الكثير من الجرأة، مثلما فعل القديس يوحنّا الدمشقيّ في ظل العصر الأمويّ، فاعتبر أنّ الإسلام مجرّد بدعة نسطوريّة مصنّفًا إيّاه ضمن الهرطقات المائة التي كتب عنها. دوّن يوحنّا فيما بعد محاورته الجدليّة “النزاع بين النصارى والسراكنة”([1]) أو “المناظرة بين ساركانيّ ومسيحيّ”، معلّمًا أبناء الديانة المسيحيّة طريقة الجدل مع المسلمين([2]).
يرى بعض الباحثين أنّ هذا اللون من ألوان التسامح والحوار نادر التمثّل في البلاد الإسلاميّة. إذ نشاهد اليوم ما يحدث لأيّ باحثٍ أراد أن يسائل الفكر الإسلاميّ من داخله أو من خارجه، تصدر الأحكام بتكفيره أو سجنه، وتعتبر تساؤلاته وبحثه ازدراءً للدين! ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يدعو غير المسلم أحدًا إلى ديانته، في وقت يتاح للمسلم أن يبشّر بدينه ويمارس طقوسه في ظلّ الدولة الحديثة! إنّ مجرد الحديث عن هذه الصورة يعد اقترافًا لخطيئة أو دخولاً في الشبهات!
صورتان مختلفتان يحياهما المسلم المعاصر، صورة التاريخ المشرق، وصورة الواقع المغاير، تعلّق على هاتين الصورتين سعاد الحكيم قائلة: “نلتفت إلى العالم الغربيّ كما يتبدّى لنا في مساره الفكريّ والحياتيّ، فنجد علاقة جدلية بين رؤاه الفكريّة وبين مجريات حياته، يتولّد الفكر من الحياة ويولد بدوره حياة جديدة. ونلتفت إلى عالمنا كما يتبدّى لنا في مساره وراهنيّته فنجد كأننا أمام تاريخين لا تاريخ واحد مندمج؛ تاريخ فكريّ وتاريخ حياتيّ، ومحاولات متكررة لدمج التاريخيّن”([3]).
هاتان الصورتان تجعلنا نتساءل هل التصوّف والفلسفة ينتميان إلى مرتبتين منطقيّتين مختلفتين؟ هل صحيح أنّ الغزاليّ الصوفيّ أطلق رصاصة الرحمة على الفلسفة كما يقول الأب فريد جبر ([4])؟ هل يصحّ أن يكون كتاب تهافت الفلاسفة قرار إدانة للفلسفة وليس نقدًا محايدًا؟ هل التصوّف والفلسفة في خصومة دائمة؟ هل عرف الفكر الإسلاميّ هذه الخصومة القطعيّة فلا يوجد صوفيّ جمع بين علومه التي أتقنها ودرسها علم الفلسفة وهي من أمّهات العلوم؟ هل الإنسان حواسٌ وإدراك حسيّ وعقل مجرّد فحسب؟ أليس للقلبِ – كما يقول العارفون وأصحاب القلوب- أو لقوّة أخرى في الإنسان دورٌ في مساعدته على تجاوز وتيرة حياته العاديّة إلى أحوالٍ لا يجد لها تفسيرًا أحيانًا بالمنطق المعهود؟ أليس يقومُ فينا مدٌّ روحانيّ لا تقيّده الحواس ولا المادة ولا يصدمه مكان ولا يحدّه زمان؟ ألسنا نشعر بذلك في أعماقنا فتحضرنا أحوال غريبة أو نستحضرها أحيانًا؟
هذه الأسئلة تحفّزنا على التعرّف على اللقاء الصوفيّ الفلسفيّ، على عكس ما هو شائع من الخصومة المعلنة بين التصوّف بمنطقه الذوقيّ والفلسفة بمنطقها العقليّ.
لماذا نعادي علمًا من العلوم أو نهجر كتابًا من الكتب أو نتعصب لمذهبٍ من المذاهب؟ إنّ قرونًا طوالا تفصل بيننا وجماعة فلسفيّة وُجدت في ظلّ الحضارة الإسلاميّة، وساهمت في العلوم بمجموعة من الرسائل والكتابات، رفضتْ أنْ يكون سلوكها معاداة علمٍ من العلوم، كما رفضتْ أن تحدّها وتسجنها مذهبيّة بعينها، وإن صُنّفت كتاباتها فيما بعد ضمن أدبيّات المذهب الإسماعيليّ، أشير هنا إلى جماعة إخوان الصفا وخلّان الوفا كما اشتهروا في الكتابات العربيّة([5]).
إنّ الإيمان بالفصل بين العلوم التي نشأت في رحاب الحضارة الإسلاميّة قصورٌ يصيب المتديّن المتعصّب لمذهبه وتياره، فلم تعد الأجيال المعاصرة تنظر إليه بعين الرضا أو تقبله كما يفعل غيرهم. فأصبح المسلم اليوم يمجّ هذه العصبيّة ويعلن رفضه لها، وتتمثّل صور هذا الرفض على النحو الآتي:
- إقبال مسلم اليوم على مطالعة الأدبيّات المخالفة لمذهبيّته الموروثة.
- مخالطة المخالفين مذهبيًّا والتعرّف على ما لديهم من أفكار وآراء حُجبت عنه في السابق بحكم التربية والتعليم.
- الانفتاح على الدراسات الغربيّة الحديثة التي ينصبّ عملها على قراءة وتحليل (تراث الإسلام)، وتتناول جميع الفرق والمذاهب من دون استبعاد لأحدها، مهما بدا قول الفرقة غريبًا أو غير مقبولٍ لدى المؤسسات الدينيّة الرسميّة.
- النقل والتعريب لكثير من المؤلفات والبحوث والمقالات التي تتناول الأفكار الإسلاميّة، ولا تخطئ العين اهتمامَ القرّاء العرب بما يُترجم من دراسات أو روايات أو أدبيات تُعنى بالإسلام أو بالأقطار الإسلاميّة وتاريخ أهلها.
- تُوفّر وسائل الاتصال والإعلام اليوم موادّ علميّة من شأنها محو الحُجب الكثيفة والحدود الوهميّة التي ظلّت تفصل بين أبناء الجسد الواحد سنين عددا.
مكّنت الصور السابقة المسلم المعاصر أن يتجاوز المذهبيّة، وجعلت بعضهم ينجذب إلى الحياة الروحيّة في الإسلام، غيرَ متقيّد بأيّة طريقة من الطرق، بل راح يبحث عن المعنى الصوفيّ في حياة النبيّ قارئًا لسيرته من منطلق إنسانيّ أو وجوديّ([6])، متجاوزًا لكثيرٍ من مشكلات التاريخ الزائفة، كالخلاف بين الصحابة، وحروب الفرق والحكام، واعيًا بأنّ دوره اليوم المساهمة في بناء الإنسان، دون الانشغال بمشكلات غير مشكلات عصره، لذا رأى أنّ عليه ألاّ يأخذ من الميراث السابق إلّا بقدر ما يخدم بناءه الجديد.
الإسلامُ، الوجهُ الآخر
من هنا فإنّ كثيرين ممن انجذبوا إلى الإسلام والتحقوا به لم يتقيّدوا بلون معين من المذهبيّات الضيّقة، كما لم ينشغلوا بالفروق بين الأديان، فأبوابهم للولوج إلى عوالم الإسلام كانت تستلهم معارفها من الفلسفة والآداب والفنون، ويمكن أن نضرب أمثلة على ذلك بفريد الدين العطّار وسنائي وروزبهان البقليّ وابن العربيّ وجلال الدين الروميّ وغيرهم كثير من العارفين والسُّلاك.
ويحضرني مثالان يمكن أن يتابع القارئ أعمالهما بعد انتسابهما إلى الإسلام، المثال الأول: إيفا دوفيتري ميروفيتش Eva Devitray-Meyerovitch ([7]) التي تعرّفت على الإسلام من خلال كتابات محمّد إقبال، وسرعان ما انفتح لها باب آخر عبر أعمال إقبال، وبصورة خاصة كتابيه جاويد نامه (رسالة الخلود) وكتابه بيام مشرق (رسالة المشرق) اكتشفت إيفا الإسلام الروحانيّ المتجسّد في أعمال جلال الدين الروميّ، ولأنّ تكوينها العلميّ بالأساس فلسفيّ فقد جمعت بين الفلسفة والتصوّف وظهر ذلك في رسالتها العلميّة التي كانت مشروع عمر طويل. وقد سردت إيفا جزءًا من رحلتها مع الفلسفة والتصوّف في كتابها الإسلام، الوجه الآخر (L’Islam, l’autre visage)([8])، تقفنا على مساحة الجمع بين هذين الحقلين وتجسّدهما في شخص واحدٍ.
المثال الثاني: إيريك جوفروا (Eric Geoffroy) الذي التحق بالإسلام في سنّ مبكّرة، وأصبح اليوم من أشهر الكتّاب الفرنسيّين المتخصّصين في التصوّف الإسلاميّ، جمع في كتاباته بين مجالي المعرفة (الفلسفة والتصوّف) و(الفكر والحياة) داعيًا إلى تصوّف جديد يتجاوز الحدود الضيقة، مستفيدًا من كافة المدارس الفكرية المعاصرة. ويحاول إيريك جوفروا جاهدًا تقديم نموذج مغاير لما هو منتشر عن الإسلام في الغرب، فيكتب في فرنسا عن تجديد الفكر الإسلاميّ من خلال التجارب الصوفيّة، راصدًا واقع الطرق الصوفيّة في مصر وسوريا، مسلطًا الضوء على تجارب النساء الصوفيّة في العالم الإسلاميّ- كما يظهر جليًّا في مؤلّفه الأخير الله بصيغة المؤنّث. ويقترح كثيرًا من الحلول للخروج من مأزق الإسلام الجهاديّ، معتمدًا في ذلك على قراءة عصريّة للتراث الإسلاميّ، ومستعينًا بكتابات المصلحين والمجدّدين من صوفيّة الإسلام ومفكّريه، على اختلاف مشاربهم([9]).
ما معنى التصوف في الفلسفة؟
في محاضرة بمكتبة الإسكندرية بدا غريبًا بالنسبة للحضور أن يقول المحاضر: إنّ المستشرق جولد تسيهر يتحدّث عن الإسلام بشكل إيجابيّ، فقد ورثنا عن أساتذة الجامعات المصريّة أنّ هذا المستشرق يهوديّ حاقدٌ على الإسلام! قرأتُ وقتها نصًّا من مذكرات جولد تسيهر التي تُرجمت عن الألمانيّة ونُشرت في مصر. كان ملخّص النصّ أنّ الإسلام خير معبّر عن فكرة التوحيد، وأثبتُ هنا كلمته: “شغل الإسلام تفكيري كلّية، وكان إيماني بالتوحيد سببًا في ميلي إليه، فأطلقتُ على فكرتي عن التوحيد (الإسلام). فالتوحيد عندي هو الإسلام. ولم أكن كاذبًا حين قلتُ إنني أعتقد في نبوة محمّد، ويشهد على ذلك نسخة القرآن التي أحتفظ بها؛ إذ تبيّنُ مدى اهتمامي بالإسلام. وقد انتظر أساتذتي (شيوخي) جدّيًا اللحظة التي أُعلنُ فيها إسلامي”.
على مدار صفحات المذكّرات التي تزيد عن خمسمائة صفحة([10]) لم يتحدّث جولد تسيهر عن الإسلام إلا بشكل إيجابيّ، ورغم كونه يهوديّا إلّا أنّه فصل بين ديانته والفكرة الاستعماريّة الحديثة.
كانت فكرتي التي أردت أن تصل إلى الجمهور أنّ الوراثة والتقليد أمرٌ مذموم وأنّ الأحكام التي نحملها عن غيرنا ليست في أغلبها صحيحة. إضافة إلى أنّنا نتعرّف على الآخر من خلال ما يُلقى إلينا من معلومات موجّهة لا من خلال بحثنا الخاصّ، ممّا يجعل معارفنا منقوصة. يخاطب مولانا جلال الدين الروميّ مريديه قائلا: “إلى متى تظلّ الكمامة على عينيك، ولو رفعت هذه الكمامة لافتتن المصنوع بالصانع هيامًا ووجدًا. ليست كلّ عين جديرة بأن ترفع عنها هذه الكمامة، ولا تكن كالسفهاء الأجلاف ولا تنظر بعيونهم، وكُنْ مستقلًّا فى نظرتك وفى سمعك، كُنْ صاحب رأي ودعك من آراء الآخرين، وكُنْ صاحب عقل ودعك من التقليد”([11]).Top of Form
ومما يقوله العامريّ الفيلسوف عن التقليد في كتابه النسك العقليّ والتصوّف الملّي: “كما أن المتديّن يفتتح تديّنه بدرجة التقليد، ثم يترقّى رويدًا رويدًا إلى معلوة التحقيق ومهما اقتصر من تديّنه على هذه الرتبة كان مذمومًا، وإن لم يجد منه في البداءة محيصًا، كذا الحال في اللذة والكرامة والثروة والرئاسة”([12]).إنّ لوجهة النظر المكوّنة عبر التجربة والبحث لذّة لا تضاهيها لذة، ومن عرف ألم الاستنارة وثمارها لن يركن إلى التقليد.
إنّ من موروثاتنا الخاطئة أنّ الفيلسوف والصوفيّ في خصومة دائمة، ولا يمكن لهما أن يتّحدا أو يجتمعا في جسد واحدٍ، بُنيت هذا الفكرة اعتمادًا على كون التصوّف يعني في أغلب الأحيان الدروشة وينحو نحو مخاصمة العقل، لذا فانتشار التصوّف اليوم يعدّ انتكاسة إسلاميّة، فأغلب النماذج التي يتحدث عنها الغرب لا تلقى قبولًا عند التيارات الدينيّة الأكثر انتشارًا في المنطقة العربيّة، إضافة إلى كون بعض صوفيّة الطرق تدعم السلطات المحلّية والعالمية، فمن الصعب أن نتحدث عن تصوّف فاعل وخادم لنهضة لأمّة الإسلاميّة، ومن خلال هذه المقدمات تنطلق أغلب التقارير والكتابات المناهضة للتصوّف.
أضف إلى ذلك أنّ المشتغلين بتدريس الفلسفة في بلادنا العربيّة يلتقون مع التيارات الدينيّة في هذه الأحكام، وإن اختلفت النوازع والأسباب، إلّا أن النتيجة واحدة. فلا تزال بعض البحوث تناقش فكرة “تحريم الفلسفة” وتجريم المشتغلين بها. ولا تزال بعض التيارات تتخاصم في المغرب والمشرق حول أهمية فكر أبي حامد الغزاليّ وخصمه ابن رشد، على الرغم من تجاوز الدراسات لهذه الموضوعات القديمة.
ويمكننا أن نقدّم في هذا المقال نموذجًا للقاء الصوفيّ الفلسفيّ في تراثنا الإسلاميّ، مجسّدًا في أبي حيّان التوحيديّ.
أبو حيّان التوحيديّ ومجتمع القرن الرابع الهجريّ
قبل أكثر من خمسين عامًا سجّلت الأستاذة القديرة وداد القاضي أطروحتها لنيل شهادة الماجستير في الأدب العربيّ في الجامعة الأميركيّة في بيروت، وتحديدًا في عام 1969 عن أبي حيّان التوحيديّ، إلّا أنّ هذه الأطروحة ظلّت محجوبة عن القارئ العربيّ ما يقارب نصف القرن، حتّى صحّ منها العزمُ على إخراجها إلى النور، استجابة لإلحاح عددٍ من زملائها، وعلى رأسهم بلال الأرفه لي الذي رأى أنّ موضوع الأطروحة لم يتطرّق إليه الباحثون بعد، ولذلك فإنّ فائدتها ما زالت على ما كانت عليه منذ أن طرحت فكرتها وناقشتها في الجامعة الأميركية في بيروت.
تدينُ وداد القاضي بالفضل للعلّامة المغربيّ محمّد بن تاويت الطنجيّ، الذي أعانها على استكمال بعض جوانب بحثها، وتشيد بروحه العلميّة النبيلة، فقد وفّر لها من المواد المخطوطة والمطبوعة ما أعانها على المضيّ قدمًا في بحثها عن التوحيديّ ومجتمع القرن الرابع الهجريّ. لم يكن هذا غريبًا على الطنجيّ فقد اعتبره إحسان عبّاس ركنًا من الأركان التي كان يلوذ بها مطمئنًا إلى علمه وإنسانيّته، ففي أعمال الندوة التكريميّة للعلّامة الطنجيّ التي عُقدت في مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة وصفه عبّاس قائلا: “كان نموذجًا في الكرم في تعامله معي، ومع غيري من أبناء البلاد العربيّة الذين يؤمّون إستانبول، لم أطلب مخطوطًا منه إلاّ زوّدني منه أو بميكروفيلم، ولم يتأخر عن مساعدة أي زائر عربيّ فيما يريد الوصول إليه”([13]).
إقرأ أيضاً: العشق الصوفي ورحلة البحث عن المعنى
خطر لوداد القاضي بعد أن أعادت قراءة أطروحتها عن التوحيديّ أن تحذف فصلها الأوّل المخصص لسيرة التوحيديّ وشخصيته، لأنّ الدراسات التوحيديّة قد تجاوزته، غير أنّها عدلت عن هذه الفكرة كون الفصل السيريّ مختصرًا وفيه بعض المعلومات المتعلّقة بموضوع أطروحتها وحسنًا فعلت! فالإطلالة على هذا الفصل تقفنا أمام شخصية التوحيديّ الثريّة بتركيز ووضوح يندر أن نجده اليوم رغم وفرة المعلومات وسهولة الحصول عليها.
نعرفُ من خلال كمّ المعلومات التوثيقيّة الواردة في المتن والحواشي كيف ارتحل التوحيديّ من بلدٍ إلى بلد، ونشاهد مع المؤلفة صورًا للتوحيديّ في بخارى وأذربيجان وبغداد ومكّة وأصفهان وشيراز، ويأخذنا الانبهار كثيرًا كيف التقى التوحيديّ بعلماء الكلام وشاركهم المناظرات والجدل، وكيف روى أحاديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكيف استطاع أن يجمع بين الفقه والتصوّف والحديث واللغة والمنطق والفلسفة والاجتماع؟! وإذا كانت الرحلة العلميّة قد أثمرت هذا الكمّ من التصانيف التوحيديّة فكيف هو إثمار الرحلة الصوفيّة في حياة التوحيديّ؟ وما هو أثر لقائه بجماعة الصوفيّة في وقت مبّكر من حياته وفي أثناء صراعه من أجل لقمة العيش، التي خاب سعيه في تحصيلها عبر وسائل اتصاله بالساسة والنافذين في أغلب البلدان التي ارتحل إليها!
نتساءل مع وداد القاضي كيف لمن قضى عمره في الوراقة أن يقوم بإحراق كتبه وتبييض صحائفه من عجائب الأقاويل ونوادر الحادثات التي سجّلها بعد رحلة دامت أعوامًا طوالا؟ كيف استطاع رغم كلّ العثرات أنّ يحافظ على إيمانه بالله الغفور الرحيم؟ هل ساعدته الرحلة الصوفيّة على ذلك؟ هل استفاد من صحبة السالكين والتعلّم منهم([14])؟
لماذا أحرق أبو حيان التوحيدي كتبه؟
في عام 353 من الهجرة حجّ أبو حيّان التوحيديّ إلى بيت الله الحرام ماشيًا، وفي مكّة تعرّف على مجموعة من الصوفيّة وصفهم في كتابه الإشارات الإلهيّة قائلا: (كانت صفحات وجوههم مبّشرة بالخير المطلوب، ومقادر حركاتهم ناطقةٌ بالحقّ الذي هو آخر ما يُكدّ له ويُسعى إليه، وشواهد ألسنتهم ناصحةً لكلّ سامع). ذكرت بعض هؤلاء الصوفيّة الأستاذة القاضي وترجمت لهم في كتابها، وقد ذكر حجّ التوحيدي ماشيًا غير واحدٍ ممن اهتموا بترجمته، إلّا أننا نقرأ في كتب التراجم أنّ أبا حيان كتاب كتابًا بعنوان الحجّ العقليّ إذا ضاق الفضاء إلى الحجّ الشرعيّ. يبدو هذا العنوان هائلًا من حيث صورة لفظه ومعناه، فلا يكاد يُصدّق مسلم اليوم أنّ كتابًا تراثيًا يحمل هذا العنوان من رجل حجّ إلى بيت الله ماشيًا!
وبعد الاطلاع عليه -أي على العنوان- لا نستغرب لماذا اتُّهم التوحيديّ بالزندقة؟! هكذا يقول محمّد أركون في كتابه نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيديّة. ففي رأي التوحيديّ أنّ المسلم إذا لم يكن يمتلك المقدرة المادية على آداء الحجّ بإمكانه أن يحجّ وهو في بيته. كيف؟ عن طريق الروح والفكر والعقل([15]).
إنّ أغلب من كتبوا عن التوحيديّ في اللغة العربيّة لم يشر واحد منهم إلى وجود نسخة من هذا الكتاب، وآخر ما نطالعه عن التوحيديّ ومؤلفاته المخطوطة والمطبوعة للأستاذ أيمن فؤاد سيد والأستاذة زينب الخضيريّ يؤكّد أنّ كتاب الحجّ العقليّ مفقود([16])،ولعل نقلًا يتيمًا من كتاب التوحيديّ هو ما يتردد على ألسنة الكتّاب منذ زمن بعيد.
كان الأب هنري لامنس وماسنيون، من أوائل من التفتوا إلى كتاب الحجّ العقليّ وصلته بأفكار الحلّاج. وقد دقّق فيما بعد في شأن تلك الصلة جعفر الكنسوسيّ في تعليقه على إشارات أبي حيّان الإلهيّة، ويعدّ بحثه من البحوث المهمّة في هذا الموضوع، كما التفت بنسالم حميش إلى هذه المسألة في بحثه عن التوحيديّ المنشور في العدد الخاص بالتوحيديّ في مجلّة فصول المصريّة. يقول أبو حيّان في نصٍّ ذي نفس حلّاجي بديع: “لولا لزومي حدّي في العبوديّة وتلطّفي في تصفّح الربوبيّة لتمطّيتُ على جوانب أسرار ليس لأحدٍ من البشر عنها خبرٌ ولا أثرٌ، لكن ما أصنعُ والرقيبُ يقظان يُحصي أنفاسي، والعدو متكئ في ناحية يهيئ أمراسي ويزلزل أركاني. خُذْ حديثه جملة فتفصيله باهظٌ، وافتح بالعنوان فمفضوضه موحشٌ”([17]).
التوحيديّ والتصوّف
“لولا أنّ الله أمرنا بحفظ هذه النفوس له لجعلنا على ذروة كلّ جبلٍ منها قطعة”! روى التوحيديّ هذه الكلمة، التي تعبّر عن مراحل عدّة في حياته، واحتفى التوحيديّ بكثير من أقوال الصوفيّة، وأشاد بتجارب المتحقّقين منهم. وفيما تركّز الأستاذة وداد القاضي على أغراض عدّة مما اهتمّ به التوحيديّ لم تخصص جزءًا من كتاباتها عن الجانب الصوفيّ عند أبي حيّان رغم معرفتها الدقيقة بعوالم التوحيديّ، فالمقدّمة التي كتبتها لتحقيقها لكتاب الإشارات الإلهيّة رغم وجازتها أفضل بكثير مما كُتب عن تصوّف التوحيديّ في الدرس العربيّ المعاصر، فكم يودّ القارئ عند مطالعته لمقدمة الإشارات ألّا ينتهي حديثها عن الجانب الصوفيّ لأبي حيّان. نظرًا لتوثيقها ودقّتها في التعامل مع الموضوع، ففيما ينفي أكثر من باحث عربيّ كون التوحيديّ متصوّفا في قسط من حياته، متجاهلًا أغلب المعلومات التي يذكرها هو نفسه في الإمتاع والمؤانسة، والمقابسات، والبصائر والذخائر، وفي الإشارات الإلهيّة، لم تفعل ذلك الأستاذة القاضي، ومن خلال عملها يمكننا أن نتتبع الملامح الصوفيّة للتوحيديّ.
تتحدّد صلة أبي حيّان التوحيديّ بالتصوّف على صعيدين: الصعيد المسلكيّ، وفي كتبه أخبار كثيرة عن علاقاته بالمتصوّفة ومعايشتهم لهم وانتحاله زيّهم، وعن آرائه في تفاوت إخلاصهم في الانصراف عن الدنيا ومغرياتها. وعلى الصعيد النظريّ، وهو متصلٌ بعلم التصوّف، يأتي فهم أبي حيّان لمعنى التصوّف من أنّه “اسمٌ يجمع أنواعًا من الإشارة وضروبًا من العبارة وجملته التذلل للحقّ بالتعزّز على الخلق”، وأنّه علمٌ “يدور بين إشارات إلهيّة وعبارات وهميّة”. التصوّف عند أبي حيّان التوحيديّ «فعلٌ أكبر من اسمه وحقيقته أشدّ من رسمه»([18]) نظرًا لما عاينه من اهتداء الصوفيّة إلى كثير من المبادئ الروحيّة الساميّة التي يمكن أن تحقّق للإنسان مبتغاه في علاقته مع الله ومع خلقه.
يشير التوحيديّ إلى أعلام التصوّف بإجلال وتقدير قائلا: “وبعد أن تخصّ هؤلاء فاعمم بأجمل تحيّةٍ سائر ذوي الفضل من الصوفيّة، فأنّهم ملوك الدنيا وسادة الآخرة”. وهو يناديهم في رسائله بـ “يا سادتي” و “يا أحبائي”. ويتذكّر أيامه الجميلة معهم، ويتحسّر على مضيّها ويتشوّق إليها، ويشكو سوء حاله وهو بعيد عنهم. ومن أجل ذلك يستعطفهم عليه، مذكّرًا إياهم بأنّ جزءًا مما يقاسيه إنّما هو بسبب حبّه لهم ودعوته الناس إليهم، ويرجو أن يكونوا شفعاءه عند الله.
وكثيرًا ما بسط التوحيديّ وفصّل كلامه على طريقة الصوفيّة، سواء في مناجاته أو شرحه لبعض الآيات القرآنيّة، ومن ذلك ما يقوله في الإشارات الإلهيّة: “يا هذا، قد أصبحت في قبضة العزّ، تجري عليك تصاريف القدرة وأحكام المشيئة، بين أستار سابغة من النعمة، وأكنان ظليلة بالرأفة والرحمة، فلا تتعرّض لتغيّرها عليك فإنّه قد أبان في تنزيله ذلك، حين قال: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد:11]”.
شاهد أيضاً: إطلالة على الدّرس الصوفيّ في مصر
” اللهم إنّي أشكو إليك سوانح نفسي، وفلتاتِ ضجري، وقوارصَ لساني، وسيّئاتِ عملي، وخوادعَ أملي، فكنْ لي نصيرًا وبي رحيمًا، فلا قوّة لي إلّا بك، ولا توفيقَ إلّا منك، ولا منالَ إلا على يدك، قلّبني بين ما تحب وترضى، وقرّبني من حياضك الممدودة، ورياضكَ الممطورة، واسقني بكأس الرضا سلوة عن الدنيا، وامحُ أثرها من صدري، واجعل نازل قضاياك قرينًا لصبري، وأحْيِني في طاعتك ناضرَ الوجه، صريحَ اللُّبِّ، مرجوًّا مأمونَ الغوائل، ثمّ اقبضني إلى مقام الصادقين، واحشرني في حزبك، ألا إنّ حِزبَ الله هم الغالبون؛ وصلِّ على أمين خلقكَ، وحاملِ وَحْيك، الواسطةِ بينك وبين عبادك، ما لمَعَ بارقٌ، وذرّ شارقٌ، إنّك على ذلك أقدرُ القادرين وأجودُ الجائدين”([19]).
المواجع:
([1]) السراكنة “Saracen” تُستخدم اللفظة للدلالة على العرب والمسلمين باعتبارهم كفارًا، أولئك الذين أبعدتهم سارة باحتقار، وقد استخدمه يوحنّا الدمشقيّ بغرض العيب في الآخر، ويعتبره بعضهم مصطلحًا مشتقًا من اسم “سارة” أو هو مأخوذ عن العربيّة “الشرقيين” راجع أليكسي جورافسكي، الإسلام والمسيحيّة، ترجمة خلف محمّد الجراد، (الكويت: المجلس الوطنيّ، 1996)، 71. وطارق منصور، المسلمون في الفكر المسيحيّ العصر الوسيط، (القاهرة: مصر العربيّة للنشر والتوزيع، 2008)، 19.
([2]) راجع نبيه أمين فارس، دراسات عربيّة، (بيروت: دار العلم للملايين، 1957)، 29.
([3])راجع: وقائع ندوة الفلسفة والتصوّف بمناسبة اليوم العالميّ للفلسفة، (بيروت: اللجنة الوطنية اللبنانيّة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، 2006)، 29.
([4])راجع عبد الرزّاق قسّوم، أبو حامد الغزاليّ: الفيلسوف رغم أنفه، أشغال الندوة الدوليّة الغزاليّ اليوم، لماذا؟ (تونس: المجمع التونسيّ للعلوم والآداب والفنون،2011)، 1: 47.
([5])راجع مقالًا قيّمًا يعرض لرسائل هذه الجماعة، سعيد زايد، رسائل إخوان الصفا، تراث الإنسانيّة، مج 7،ع 2، (القاهرة: الهيئة المصريّة العامة للتأليف والنشر، 1969)، 341 – 355.
([6]) راجع في هذا المعنى عبد الرحمن بدوي، تاريخ التصوّف الإسلاميّ، (الكويت: وكالة المطبوعات، 1975)، 27، 107-126.
([7]) للتعرّف على رحلة إيفا مع التصوّف الإسلاميّ راجع خالد محمّد عبده، إيفا دوفيتري ميروفيتش وحضور الروميّ في الثقافة المغربيّة، ضمن رباعيّات مولانا جلال الدين الروميّ، ترجمة عائشة موماد، (بيروت :دار مداد، 2016)، 5-14.
([8]): يمكن الرجوع إلى الترجمة العربيّة التي أنجزتها الكاتبة الجزائرية ويزة فلاز ونشرتها تحت عنوان: امرأة في قلب الصوفيّة، ضمن منشورات وثائق المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ وعلم الإنسان، في السلسلة الجديدة، عدد 15، عام 1999.
([9]): راجع له على سبيل المثال كتابه المستقبل الروحانيّ للإسلام، ترجمة أسامة نبيل، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2016). وقارن عرضًا للكتاب في مجلّة المستقبل العربيّ، مج39، ع452، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة،2016)، 179 – 184.
([10]): راجع يوميات إيجناس جولد تسيهر، ترجمة محمّد عوني عبد الرؤوف، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، القاهرة 2016)، 155. وقارن في هذا السياق أيضًا بحث بثينة الجلاصيّ، علاقة الفكر العربيّ الإسلاميّ بعلوم الأوائل من “منظور استشراقيّ” جولد تزيهر نموذجًا، المؤتمر الدولي حول المستشرقون والدراسات العربيّة والإسلاميّة، جامعة المنيا، كلية دار العلوم – رابطة الجامعات الإسلاميّة، 2006، 2: 545- 561.
([11]):راجع مثنوي جلال الدين الروميّ، ترجمة إبراهيم الدسوقي شتا، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 1996)، 6.
([12]):نقل سحبان خليفات في دراسته مختارات مسكويه والتوحيديّ من كتاب النسك العقليّ والتصوّف الملّيّ، ونشرها في رسائل العامريّ وشذراته الفلسفيّة، (عمان: منشورات الجامعة الأردنيّة، 1987)، 476-487.
([13]):راجع مقالة إحسان عبّاس المنشورة بعنوان: محمّد بن تاويت الطنجيّ، ضمن أعمال الندوة التكريميّة التذكاريّة للعلّامة محمّد بن تاويت الطنجيّ، نشرة مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة، 1997، 55 – 57.
([14])راجع وداد القاضي، مجتمع القرن الرابع في مؤلفات أبي حيان التوحيديّ، دار المشرق بيروت، 2019، ص ص20-25.
([15])راجع محمّد أركون، نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيديّة، (بيروت: دار الساقي، 2011)،25-26.
([16])راجع زينب الخضيريّ، أبو حيّان التوحيديّ والبحث عن السعادة، مجلة فصول، مج 15، ع 1، (القاهرة: الهيئة المصريّة العامة للكتاب، 1996)، 36-51. وجعفر الكنسوسيّ تعليقات على كتاب الإشارات الإلهيّة، العدد نفسه، ص 84-93. وأحمد بولوط، مخطوطات التوحيديّ في المكتبات التركيّة، 283-287.
([17])راجع: الإشارات الإلهية لأبي حيّان التوحيديّ، تحقيق وداد القاضي، (بيروت: دار الثقافة، 1982)، 374.
([18])راجع: الإشارات الإلهية لأبي حيّان التوحيدي، تحقيق وداد القاضي، 4. وقارن: وداد القاضي، مجتمع القرن الرابع في مؤلفات أبي حيان التوحيدي، (بيروت: دار المشرق، 2019)، 40 -44. عندما قرأت كتاب الأستاذة وداد القاضي وجدت أن أفكارًا عديدة تستحق التوقف عندها ودراستها بشكل مستقلّ. خذ مثالًا على ذلك تناول الكتّاب العرب لمسألة زندقة التوحيديّ وكفره، فتناول هذه النقطة عندهم يقتصر على إعلان كفره أو الدفاع عنه، دون قراءة مجمل أعماله وتناولها في سياق مجتمع القرن الرابع الذي عاش فيه التوحيديّ. وكذلك الأمر في مسألة حرق التوحيديّ لكتبه. والأمر الذي توقّفت عنده هو تناول ثلاثة من الباحثين الكبار تصوّف التوحيديّ، نذكر منهم محمّد عمارة، ويوسف زيدان، اتفق كلاهما رغم اختلاف مشربهما على كون التوحيديّ لم يكن صوفيًّا! وكلاهما ساق كثيرًا من الأقوال التي تدعم وجهة نظره. وخصّص أحد الدارسين دراسة مستقلة لتصوّف التوحيديّ اعتمد فيها على قراءة الإشارات الإلهيّة. إلّا أن المسألة تستحق أن يتمّ تناولها بشكل أوسع من ذلك. فحياة التوحيديّ من البداية حتّى النهاية فيها من التصوف الكثير، وكتابات التوحيديّ التي وصلتنا، وما قيل عنها في كتب التراجم والطبقات تساعد على ذلك. ورغم تمكّن القاضي من الإلمام بتراث التوحيديّ وتراث الفرق الإسلامية إلّا أنّها اكتفت بوضع بذرة لدرس المسألة. سواء في مقدّمتها لكتاب الإشارات الإلهية أو في كتابها عن مجتمع التوحيديّ.
إنّ بحوث وداد القاضي في العلوم الإسلاميّة والتي جمع أغلبها بلال الأرفه لي في كتاب بعنوان الرؤيا والعبارة تقفنا على نموذج أضحى نادرًا في بلداننا العربيّة، شبيه بنماذج المستشرقين القدامى، فأن يتخصّص باحث في دراسة عالم ويوقف حياته على سبر أغوار ما فُتح له من عوالم عبر هذا الشخص لم يعد أمرًا مألوفًا في أيامنا. فالباحث يكتب في كافة أمور الحياة ليعلن للناس عن وجوده وعبقريته! لذا لا يبقى شيء مما كتبه ولا يثبت بضعة أيام.
([19])راجع: البصائر والذخائر لأبي حيّان التوحيديّ، تحقيق وداد القاضي، (بيروت: دار صادر، 1988)، 9: 7-8.